الفصل الرابع: في بيان ضلال من ضل في حقيقة الإيمان ومسألة التكفير
كثر الخوض في بيان حقيقة الإيمان ومسألة التكفير وأخذ من لا يريد خيرا بالمسلمين يلقي بذورها المنحرفة بينهم من خلال وجهتين ضالتين ومذهبين باطلين :
أحدهما : في جانب الغلو والإفراط في نصوص الوعيد وهو مذهب الخوارج الذين ضلوا في بيان حقيقة الإيمان فجعلوه بشقيه شيئاً واحداً ، إذا زال بعضه زال جميعه فأنتج هذا مذهبهم الضال : " وهو تكفير مرتكب الكبيرة " .
ومن آثاره : فتح باب التكفير على مصراعيه ، مما يصيب الأمة بالتصدع والانشقاق وهتك حرمات المسلم في دينه وعرضه .
وثانيهما : في جانب التقصير والجفاء والتفريط في فهم نصوص الوعد ، والصدِّ عن نصوص الوعيد وهو مذهب المرجئة الذين ضلوا في بيان حقيقة الإيمان فجعلوه شيئاً واحداً لا يتفاضل وأهله فيه سواء ، وهو : " التصديق بالقلب مجرداً من أعمال القلب والجوارح " وجعلوا الكفر هو " التكذيب بالقلب ، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه " فأنتج هذا مذهبهم الضال : " وهو حصر الكفر بكفر الجحود والتكذيب " المسمى : " كفر الاستحلال " .
ومن آثاره : فتح باب التخلي عن الواجبات والوقوع في المحرمات وتجسير كل فاسق وقاطع طريق على الموبقات مما يؤدِّي إلى الإنسلاخ من الدين وهتك حرمات الإسلام . نعوذ بالله من الخذلان .
كما يلزم عليه عدم تكفير الكفار ، لأنهم في الباطن لا يكذبون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يجحدونها في الظاهر كما قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام/33 ] .
وقال - سبحانه - عن فرعون وقومه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماًَ وعلواً } [ النحل/14 ] .
و لهذا قال إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - " لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة " .
وقال الإمام الزهري - رحمه الله تعالى - : " ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه - يعني : الإرجاء - " رواه ابن بطة في : "الإبانة" .
و قال الأوزاعي - رحمه الله تعالى - : " كان يحيى بن كثير و قتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء " .
و قال شريك القاضي - رحمه الله تعالى - وذكر المرجئة فقال : " هم أخبث قوم , حسبك بالرفض خبثا , و لكن المرجئة يكذبون على الله " .
وقال سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - : " تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري " [ الفتاوى : 7/394 - 395 ]
و عن سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى - : " أن المرجئة يهود أهل القبلة , و صابئة هذه الأمة " [ رواه ابن بطة وغيره ]
* لوازم الإرجاء الباطلة :
و إنما عظمت أقوال السلف في الإرجاء , لجرم آثاره , ولوازمه الباطلة , و قد تتابع علماء السلف على كشف آثاره السيئة على الإسلام و المسلمين .
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - في الرد على المرجئة : " ويلزمه أن يقول : هو مؤمن بإقراره , و إن أقر بالزكاة في الجملة و لم يجد في كل مائتي درهم خمسة : أنه مؤمن , فيلزمه أن يقول : إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه , و صلى للصليب , و أتى الكنائس و البيع , و عمل الكبائر كلها , إلا أنه في ذلك مقر بالله , فيلزمه أن يكون عنده مؤمنا . و هذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم " انتهى .
ثم قال بعده شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : " قلت : هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم , جمع في ذلك جملا يقول غيره بعضها . و هذا الإلزام لا محيد لهم عنه .. " انتهى [ الفتاوى 7/401 ]
ثم إن هذه اللوازم السيئة على قول المرجئة التي ذكرها الإمام أحمد , بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في " الفتاوى : 7/188-190 " .
ثم قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في : " النونية " ناظما لآثار الإرجاء ولوازمه الباطلة هذه :
وكذلك الإرجاء حين تقر بالــ **ـمعبود تصبح كامل الإيمان
فارم المصاحف في الحشوش و خرب الـ ** ـبيت العتيق وجد في العصيان
واقتل إذا ما استطعت كل موحد ** وتمسحن بالقس والصلبان
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا **من عنده جهرا بلا كتمان
وإذا رأيت حجارة فاسجد لها ** بل خر للأصنام و الأوثان
و أقر أن رسوله حقا أتى ** من عنده بالوحي والقرآن
فتكون حقا مؤمنا وجميع ذا ** وزر عليك وليس بالكفران
هذا هو الإرجاء عند غلاتهم ** من كل جهمي أخي شيطان
وقال - رحمه الله تعالى - في : إعلام الموقعين : في بيان تناقض الأَرْئَتِيَّة : " ومن العجب إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان , و أنه مجرد التصديق , والناس فيه سواء , وتكفير من يقول : مُسَيْجِدْ , أو فُقَيْه , أو يصلي بلا وضوء أو يلتذ بآلات الملاهي , ونحو ذلك " انتهى .
وكشف عن آثار الإرجاء ولوازمه الباطلة الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - [ فتح الباري "11/270 . وانظر فيض القدير : 6/159 . و أصله في شرح المشكاة للطيبي : 2/477 ] : " قال الطِّيبي : قال بعض المحققين : وقد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث المبطلة ذريعة إلى طرح التكاليف و إبطال العمل , ظنا أن ترك الشرك كاف !! و هذا يستلزم طي بساط الشريعة و إبطال الحدود , و أن الترغيب في الطاعة و التحذير من المعصية لا تأثير له , بل يقتضي الانخلاع عن الدين , و الانحلال عن قيد الشريعة , و الخروج عن الضبط , والولوج في الخبط , وترك الناس سدى مهملين , وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى , مع أن قوله في بعض طرق الحديث : " أن يعبدوه " يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية , وقوله : " ولا يشركوا به شيئا " يشمل مسمى الشرك الجلي والخفي , فلا راحة للتمسك به في ترك العمل , لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض , فإنها في حكم الحديث الواحد , فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها . وبالله التوفيق " انتهى .
وفي كتاب " صفوة الآثار و المفاهيم " في فوائد قول الله تعالى : { إياك نعبد و إياك نستعين } قال مبينا أن القول بالإرجاء دسيسة يهودية وغاية ماسونية [ 1/187 للشيخ عبدالرحمن الدوسري - رحمه الله تعالى - ] :
" التاسع و الثمانون بعد المائة : تعليم الله لعباده الضراعة إليه بـ { إياك نعبد و إياك نستعين } إعلام صريح بوجوب الصلة بين الإيمان والعمل , وأنه لا يستقيم الإيمان بالله ولا تصح دعواه إلا بتحقيق مقتضيات عبوديته , التي هي العمل بطاعته , وتنفيذ شريعته , وإخلاص القصد لوجهه الكريم , والانشغال بمرضاته , والعمل المتواصل لنصرة دينه , والدفع به إلى الأمام بجميع القوى المطلوبة ؛ ليرتفع بدين الله عن الصورة إلى الحقيقة , وأن المسلم لا يجوز له الإخلال بذلك , ولا لحظة واحدة .
وإن الدعوات لمجرد إيمان خال من العمل هي إفك وخداع وتلبيس , بل هي من دس اليهود على أيدي الجهمية , وفروعها من المرجئة كالماسونية , وغيرهم , إذ متى انفصمت الصلة بين الإيمان والعمل ، فلن نستطيع أن نبني قوة روحية نقدر على نشرها والدفع بمدها في أنحاء المعمورة , بل إذا انفصمت الصلة بين الإيمان و العملفقد المسلم قوته الروحية , وصار وجوده مهددا بالخطر , الذي يزيل شخصيته أو يذيبها في بوتقة غيره , لأنه لا يستطيع أن ينمي قوة روحية يصمد بها أمام أعدائه , فضلا عن أن يزحف بها عليهم " انتهى .
وبالجملة فهذان المذهبان : مذهب الخوارج ومذهب المرجئة , باطلان , مُردِيَان ، أثَّرا ضلالاً في الاعتقاد , وظلما للعباد ، وخرابا للديار , وإشعالا للفتن , ووهاءً في المد الإسلامي , وهتكاً لحرماته وضرورياته , إلى غير ذلك من المفاسد والأضرار التي يجمعها الخروج على ما دلت عليه نصوص الوحيين الشريفين ، والجهل بدلائلها تارة ، وسوء الفهم لها تارة أخرى وتوظيفها في غير ما دلت عليه , وبتر كلام العالِم تارة , والأخذ بمتشابه قوله تارة أخرى .
وقد هدى الله ( جماعة المسلمين ) أهل السنة والجماعة - الذين مَحَّضُوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره - إلى القول الحق , والمذهب العدل , والمعتقد الوسط بين الإفراط والتفريط مما قامت عليه دلائل الكتاب والسنة ، ومضى عليه سلف الأمة من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا , وقد بينه علماء الاسلام في كتب الاعتقاد , وفي ( باب حكم المرتد ) من كتب فقه الشريعة المطهرة , من أن الإيمان : قول باللسان ، واعتقاد بالقلب , وعمل بالجوارح , يزيد بالطاعة , وينقص بالمعصية ولا يزول بها , فجمعوا بين نصوص الوعد والوعيد ونزلوها منزلتها , وأن الكفر يكون بالاعتقاد وبالقول وبالفعل وبالشك وبالترك , وليس محصورا بالتكذيب بالقلب كما تقوله المرجئة , ولا يلزم من زوال بعض الإيمان زوال كله كما تقوله الخوارج .
و أختم هذا الفصل بكلام جامع لابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتاب : " الفوائد " بيَّن فيه آراء من ضل في معرفة حقيقة الإيمان , ثم ختمه ببيان الحق في ذلك , فقال - رحمه الله تعالى - :
" و أما الإيمان : فأكثر الناس أو كلهم يدعونه { و ما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } [ يوسف/103 ] و أكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل , و أما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم معرفة وعلما و إقرارا و محبة , ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه , فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول , وهو إيمان الصديق وحزبه .
وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع , وأنه وحده هو الذي خلق السماوات و الأرض وما بينهما , و هذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم .
و آخرون الإيمان عندهم التكلم بالشهادتين سواء كان معه عمل أو لم يكن , وسواء رافق تصديق القلب أو خالفه .
و آخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السماوات و الأرض و أن محمدا عبده ورسوله , و إن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئا , بل ولو سب الله ورسوله و أتى بكل عظيمة , وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن .
و آخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه , وتكلمه بكلماته وكتبه , وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته و إرادته وحبه وبغضه , وغير ذلك مما وصف به نفسه , ووصف به رسوله , فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كلهوجحده , والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يَرُدُّ بعضهم على بعض , وينقض بعضهم قول بعض , الذين هم كما قال عمر بن الخطاب و الإمام أحمد : مختلفون في الكتاب , مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب .
و آخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول .
و آخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم و أسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان , بل إيمانهم مبني على مقدمتين : إحداهما : أن هذا قول أسلافنا و آبائنا , و الثانية : أن ما قالوه فهو الحق .
و آخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه و إحسان الظن بكل أحد , وتخلية الناس وغفلاتهم .
و آخرون عندهم الإيمان التجرد من الدنيا و علائقها وتفريغ القلب منها و الزهد فيها , فإذا رأوا رجلا هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان و إن كان منسلخا من الإيمان علما وعملا .
و أعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل .
وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الإيمان ولا قاموا به و لا قام بهم , وهم أنواع :
منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان .
ومنهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان .
ومنهم من جعله ما هو شرط فيه و لا يكفي في حصوله .
ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه ويضاده .
ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه .
و الإيمان وراء ذلك كله , وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم علما و التصديق به عقدا و الإقرار به نطقا و الانقياد له محبةوخضوعا , والعمل به باطنا وظاهرا , وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان , وكماله في الحب في الله والبغض في الله , والعطاء لله و المنع لله , و أن يكون الله وحده إلهه ومعبوده , والطريق إليه : تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا , وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله . وبالله التوفيق " انتهى .