|
|
شبهات وردود
أرسل لصديق
إغلاق النافذة
شبهات وردود --> المادة المختارة
إيضاح ما أَشكَل في قصة موسى عليه السلام وملك الموت؟ (4)
أضيفت في: 6 - 8 - 2024
عدد الزيارات: 129
المصدر: | مركز سلف للبحوث والدراسات |
الشبهة: إيضاح ما أَشكَل في قصة موسى عليه السلام وملك الموت؟ (4)
الجواب :
الإشكالُ الثاني: هل الملائكة تعرض لهم العاهات من عمًى أو عوَر؟
فَقْءُ عينِ ملَك الموت لا يدلُّ على حُصول العاهات للملائكةِ، كما استشكله بعض المعاصرين([76])، فقد تقدَّم أن الملَكَ جاء بصورةٍ غيرِ صُورتِه الحقيقيةِ.
قال أبو محمد ابن قتيبة رحمه الله: (والذي نذهب إليه فيه أن ملائكة الله تعالى روحانيون، والروحاني منسوب إلى الروح نسبةَ الخلقة، فكأنَّهُم أرواحٌ لا جثث لهم، فتلحقها الأبصار، ولا عيون لها كعيوننا، ولا أبشار كأبشارنا.
ولسنا نعلم كيف هيَّأهم الله تعالى؛ لأنا لا نعرف من الأشياء إلا ما شاهدنا، وإلا ما رأينا له مثالًا، وكذلك الجن والشياطين والغيلان هي أرواح، ولا نعلم كيفيتها.
وإنما تنتهي في صفاتها إلى حيث ما وصف الله جل وعز لنا، ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعز: {جَاعِلِ ٱلمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِي أَجنِحَةٍ مَّثنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ}، ثم قال: {يَزِيدُ فِي ٱلخَلقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1]، كأنه يزيد في تلك الأجنحة ما يشاء وفي غيرها.
وكانت العرب تدعو الملائكة جِنًّا؛ لأنهم اجتنّوا عن الأبصار كما اجتنت الجن، قال الأعشى يذكر سليمان بن داود عليهما السلام:
وسَخَّر من جِنِّ الملائك تسعةً … قيامًا لديه يعملُون بلا أجْرِ
وقد جعل الله سبحانه للملائكة من الاستطاعة أن تتمثل في صور مختلفة…
ولما تمثَّل ملك الموت لموسى عليه السلام، وهذا ملك الله، وهذا نبي الله، وجاذبه، لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل، وليست حقيقة، وعاد ملَكُ الموتِ عليه السلام إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان، لم ينتَقِص منه شيء)([77]).
وقال الخطابي -وتبِعَهُ البغوي وابن الجوزي رحمهم الله-: (فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاء فيها، دون الصورة الملكية التي هي مجبول الخلقة عليها)([78]).
وقال أبو بكر الكلاباذي: (والفقء إنما حلَّ في الصُّورة لا في الملك؛ لأن بنية الملائكة وخلقتهم ليست من الأشباح والطبائع المختلفة التي تقبل الكسور والفساد، وتحلُّها الآفَات، ويؤثر فيها أفعال المحدَث؛ لأنهم لا ينمُون، ولا يتوالدون، ولا ينامُون، ولا يأكلون، ولا يسأمون، ولا يستحسرون، ولا يفترون، وكل هذه آفَات، والفقء آفة، وهم لا تحلهم الآفَات.
فالآفَةُ التي هي الفقء إنما حل في الصورة التي جاء الملك فيها، لا في عين الملك.
وليس الملائكة كالناس، فإن الإنسانَ إنسانٌ بصورته وخواصه، ولا يكون الإنسانُ إنسانًا بخواصه دون صورته التي هي صورة الناس. فإنه وإن وجدت خواصه في نوع من أنواع الحيوان، ولم توجد صورة الإنسان؛ فليس ذلك النوع إنسانًا حتى يوجد ثلاثة: الإنسان، وصورته، وخواصه.
والملَكُ ملَكٌ بخواصه دون صورتِه؛ لأن صورهم مختلفة وخواصهم واحدة، فمنهم من هو فيهم على صورة الإنسان، ومنهم على صورة الطير، ومنهم على صورة السباع، ومنهم على صورة الأنعام، وكلهم ملائكة، ولهم أجنحة على أعداد متفاوتة، قال الله تعالى: {ٱلحَمدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ جَاعِلِ ٱلمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِي أَجنِحَةٍ مَّثنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ يَزِيدُ فِي ٱلخَلقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1])([79]).
وقال المعلمي: (ووقوع الصّكَّة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس)([80]).
الإشكال الثالث: كيف يقدِر الآدمي أن يفقأَ عينَ ملك الموت؟!
هذا الإشكال مثلَ سابِقِه فرعٌ عن عدَم تصوّر الهيئة التي جاء بها ملك الموت لموسى عليه السلام، فإنما يصحّ هذا الاعتراض لو قلنا: إنه جاءه بغير الصورة البشرية، لكنه جاء على صورة رجل، ومثل كليم الله موسى عليه السلام في قوّته قادرٌ على رجلٌ واحد، فهو قد قتل القبطي من وكزة واحدة، وقوّته في السقي معروفة حتى قالت المرأة لأبيها: {يَٰأَبَتِ ٱستَـٔجِرهُ إِنَّ خَيرَ مَنِ ٱستَـٔجَرتَ ٱلقَوِيُّ ٱلأَمِينُ} [القصص: ٢٦].
وقد شغّب بهذا الإشكال نور الله التستري حيث قال: (ثمّ ليس الكلام في مجرّد نسبة الذنب إلى موسى عليه السّلام، بل في سخافة اعتقادهم أيضًا أنَّ ملك الموت مع تلك القدرة والتأييد من اللّه تعالى يعجز عن مقاومة موسى عليه السّلام في حال مرضه وضعفه، بحيث يُتلِفُ عينَه، ويحتاجُ إلى الشكاية عند ربِّه، إلى غير ذلك من المضحكات التي يتلهَّى بها الصِّبيَان. فتأمل، فإنَّ الفكرَ فِيهم طويل)([81]). وما تقدّم يزيل شناعاته كلها.
الإشكال الرابع: أين شوقُ موسى إلى لقاء الله تعالى؟!
هذا من الإشكالات الشهيرة على هذه القصّة، وقد ذكره ابن المطهّر الحلّي الرافضي، فقال: (فكيف يجوزُ لعاقلٍ أن ينسِبَ موسى مع عظمته وشرَف منزلته وطلبِ قربه من الله تعالى والفوز بمجاورة عالم القُدسِ إلى هذه الكراهة؟!)([82]).
وقال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (إنَّ الحديثَ صحيحُ السند، لكِنَّ متنَهُ يُثير الرِّيبَة؛ إذ يُفيد أن موسى يكرَهُ الموت، ولا يحبّ لقاء الله بعدما انتهى أجله، وهذا المعنى مرفوض بالنسبة إلى الصالحين من عباد الله كما جاء في الحديث الآخر: «من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه»، فكيف بأنبياء الله؟! وكيف بواحد من أولى العزم؟! إن كراهيته للموت بعدما جاء مَلَكُه أمر مستغرب!)([83]).
والجواب: أنَّ الشوقَ إلى لقاءِ الله سبحانه لا يُناقِض كراهية الموت، كما يقول أبو الفرج ابن الجوزي([84]).
ولذلك فإنَّ الله تعالى لما علم ذلك من عباده وكان موسى كريمًا عليه أراد أن تكون حادثة وفاته عليه السلام بالتدريج والتهيئة، كما جاء في هذا الخبر.
قال الإمام الخطّابي رحمه الله حيث يقول: (إنه لما دنا حينُ وفاته -وهو بشرٌ يكرَه الموت طبعًا، ويجدُ ألمه حِسًّا- لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة، ولم يأمر الملك الموكَّل به أن يأخذه قهرًا وقسرًا، لكن أرسله إليه منذرًا بالموت، وأمره بالتعرُّض له على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنَه واستوعر مكانه، فاحتجز منه دفعًا عن نفسه بما كان من صكّه إياه، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاء فيها دون الصورة الملكية التي هي مجبول الخلقة عليها.
ومثل هذه الأمور مما يُعلَّلُ به طِبَاع البشر، وتطيبُ به نفوسُهم في المكروه الذي هو واقعٌ بهم، فإنه لا شيء أشفَى للنَّفسِ من الانتقام ممن يكيدها فيريدها بسوء)([85]).
وكراهية موسى عليه السلام للموت إنما كانت رغبةً في القيام بأوامر الله تعالى، لا حبًّا في الدنيا وملذّاتها وشهواتها، كيف ولما خُيِّر في المرة الثانية اختار جوار الله تعالى؟! ولو كان يريد الدنيا لِذاتها وملذَّاتها لاختار السنوات التي كانت بعدَد ما يمسحه من شعرات الثور، وهي مدة طويلة جدًّا.
يقول ابن هبيرة: (وإنما وجهُ الحديث عندي أنَّ مُوسى عليه السلام كان من الدنيا في دار عبادةٍ وخدمةٍ، فجاء ملك الموت لينقُلَه إلى دار راحة ونعمة، فكرِهَ أن يراهُ الله تعالى مُسرعًا إلى الخلاص من خِدمة ربه، وحمل أعباء الأثقال من مداراة خلقه، طالبًا تعجيل الراحة بالتنعم في دار الخلد بالعطايا السنية، فلطم ملك الموت، فعاد ملك الموت عليه السلام في صورة شاكٍ، فقيل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة.
فلو كان موسى عليه السلام إنما فَرِق من الموت لقَبِلَ ما أنعم به عليه من كثرة السنين، ولكنه قال: من الآن، وأراد: أن موافقتي لاختيار ربي خير من موافقتي لاختيار نفسي)([86]).
ويقول ابن القيم: (فإنه لما جاءه ملك الموت لطمه، ففقأ عينه، ولم يكن ذلك حبًّا منه للدنيا والعيش فيها، ولكن لينفّذ أوامر ربّه، ويقيم دينه، ويجاهد أعداءه، فكأنه قال لملك الموت: أنت عبد مأمور، وأنا عبد مأمور، وأنا في تنفيذ أوامر ربّي وإقامة دينه، فلما عرضت عليه الحياة الطويلة وعلم أن الموت بعدها اختار ما اختار الله له)([87]).
وقد ذكر ابن كثير بعض الأمور التي كان يرجوها موسى عليه السلام، فقال: (وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة، ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق؛ إذ لم يتحقَّق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لأنه كان يرجُو أمورًا كثيرة كان يحبُّ وقوعَهَا في حياته، من خُرُوجه من التيه، ودخولهم الأرض المقدسة، وكان قد سبق في قدر الله أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هارون أخيه)([88]).
والخلاصة:أنَّ جميعَ الإشكالاتِ المُتعلِّقَة بمتن الحديث ناتجةٌ عن قِراءةٍ خاطئةٍ، وأنت إذا نظرْتَ فيه نظَرًا علميًّا مُنصفًا بعيدًا عن الأهواء وجدْتَ أنه لا يدلُّ بحالٍ على مَثلَبةٍ لموسى عليه السلام، وإنما يدلُّ على نقيضِ ذلك من حِرصِه على إقامةِ دِين الله تعالى، كما أنه لا يخالف العقل.
وقد كان من المأمول أن يجدَ المسترشد في كلام المعترضين من المعاصرين على هذا الحديث أجوبةً علميّةً على كلام العلماء المتقدّمين في الذبِّ عنه، غير أن المعترضين آثروا نهج التحقير والاستخفاف([89])، كما فعل مِن قَبلُ المعترضون على هذا الحديث من الملاحدة والجهمية حيث وصفوا المدافعين عن هذا الحديث بالحشوية([90]).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
([76]) «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث» للشيخ محمد الغزالي رحمه الله (ص: 27).
([77]) «تأويل مختلف الحديث» (ص: 356-357).
([78]) «أعلام الحديث» للخطابي (1/ 698)، «شرح السنة» للبغوي (5/ 267)، و«كشف المشكل من حديث الصحيحين» لابن الجوزي (3/ 444).
([79]) «بحر الفوائد» (1/ 544).
([80]) «الأنوار الكاشفة» ضمن «مجموع رسائل المعلمي» (12/ 303).
([81]) «إحقاق الحق وإزهاق الباطل» (2/ 244-245).
([82]) «نهج الحق وكشف الصدق» بواسطة «إحقاق الحق وإزهاق الباطل» (2/ 243).
([83]) «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث» (ص: 27).
([84]) «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/ 444).
([85]) «أعلام الحديث» (1/ 699).
([86]) «الإفصاح عن معاني الصحاح» (6/ 329).
([87]) «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين» (ص: 515).
([88]) «البداية والنهاية» (2/ 223).
([89]) انظر: «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث» (ص: 29)، ورد الشيخ الألباني رحمه الله في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (7/ 827-835).
([90]) انظر: «شرح البخاري» لابن بطال (3/ 322).