French | English | Thai (ภาษาไทย) | Shqipe | Türkçe | Indonesian | Tagalog | اردو | عربي | فارسي
 
 
القائمة البريدية
أدخل بريدك الإلكتروني من أجل الاشتراك معنا في القائمة البريدية
عداد الزوار
المتواجدون الآن على الموقع الرئيسي :

( 6103 )



















شبهات وردود
    أرسل لصديق

إغلاق النافذة

شبهات وردود --> المادة المختارة

إيضاح ما أَشكَل في قصة موسى عليه السلام وملك الموت؟ (3)

 

أضيفت في: 6 - 8 - 2024

عدد الزيارات: 104

المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات

الشبهة: إيضاح ما أَشكَل في قصة موسى عليه السلام وملك الموت؟ (3)

الجواب :

دفع الاعتراضات على هذا الجواب:

وقد اعترض نور الله التّستري الرافضي على هذا الجواب بعد أن نقله عن القاضي عياض فقال: (وفيه ما فيه، أمّا أولًا: فلأنّ عدم إمكان الاستعلام ممنوع، إذ كثيرًا ما تتصوّر الملائكة للأنبياء بصورة غيرهم، ويعلمون بهم. على أنّ في‌ الحديث‌ أنّ ملك الموت لما رجع إلى ربّه -وقال: أرسلتَني إلى عبد لا يريد الموت- قال: ارجع إليه وقل له يضع يده‌ إلخ، وهذا قرينة شعوره بالملك.

وأما ثانيًا: فلأنّه لا وجه للاختبار والامتحان بعد القول بأنَّه فعل الواجب من المدافعة، فافهَم)([46]).

وجواب ما ذكرَه هذا الرافضي من وجوه:

الأول: أن أصحاب هذا الجواب لا يمنعون أن يعَلَم الأنبياء بالملائكة، كما علم النبي صلى الله عليه وسلم بجبريل لما جاء وأخبر الصحابة رضي الله عنهم أنه جاء يعلّمهم دينهم، ولا يمنعون أيضًا إمكانية الاستعلام، بل قد تقدّم في كلام المعلّمي أن موسى عليه السلام كان يمكنه أن يستعلم من ملك الموت عن حاله، لكنه عاجله بالضرب.

الثاني: أنّ ما ذكره من قرينة الشعور بالملك ذكره بعض علماء أهل السنة، ولم يكن ذلك مانعًا من استحسان هذا الجواب، ولذلك قال أبو العبّاس القرطبي -وقد تقدّم كلامه- في استحسان جواب ابن خزيمة: (غير أن هذا اعتُرض عليه بما في الحديث، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله قال: يا رب، أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت!

فلو لم يعرفه موسى وإنما دفَعَه عن نفسه لما صَدَق هذا القول من ملك الموت)([47]).

ولذلك ذهب أبو العباس القرطبي إلى جوابٍ آخر سيأتي بيانه، لكن التستري لم يستوفِ جميع أجوبة أهل السنة على اعتراض الرافضة كابن المطهِّر وغيرهم من أهل البدع على هذا الحديث، فلو سلّمنا تسليمًا جدليًّا ببطلان هذا الجواب برمّته، فثمة أجوبة أخرى عن هذا الإشكال لم يوردها التستريُّ ولم يعترض عليها.

على أن القرينة المذكورة لا تعدو كونها قرينةً تفيد الظنَّ، وليست كافيةً للجزم بأن موسى عليه السلام علم أن هذا الذي جاءه ملك الموت، إذ يجوز أن ملك الموت علم أنه لا يريد الموت من مجرَّد شدة مدافعته له التي انتهت بفقء عينه، دون أن يكون موسى عليه السلام قد علم أن هذا الجائي ملك الموت.

قال ابن الوزير: (فإن قُلتَ: أليس في الحديث أن ملك الموت لما رجع إلى الله قال: يا رب، أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! وهذا يدل على أنه قد أخبره أنه ملك الموت، وأنه قد جاء لقبضه، وأن موسى عليه السلام قد عرفه؟!

والجواب: أن هذا لا يدلّ على معرفة موسى لملك الموت، ويدلّ على ذلك أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى لا يقبض نبيًّا حتى يخيّره، وفي حديث: «حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره»، فلما جاء ملك الموت لقبض روحه عليه السلام من غير تخيير -وعنده لا يقبض حتى يخيَّر- لم يعلم أنه ملك الموت، وشكَّ في ذلك، وظن أن هذا رجل يدَّعي عليه أنه ملك الموت بغير دليل، فقد ذكر العلماء أن الأنبياء لا يجوز لهم تصديق الملك في دعواه أنه ملك إلا بدليل من معجز يظهره، أو علم ضروري يضطره إلى ذلك)([48]).

الثالث: أن كونَ موسى عليه السلام مختبَرًا وممتحنًا في ما أُمر به لا يعكِّر عليه القول بأنه قام بالواجب في المدافعة؛ لأن الاختبار والامتحان هو في مجموع القصة المتضمن لمجيء الملك مرتين، وليس مجيئه من المرة الأولى فحسب -كما تجده صريحًا في كلام ابن حبّان-، وقد ظهر من مجموع القصة إيثار موسى لما عند الله تعالى.

وثمة اعتراض آخر على هذا الجواب نقله الملا علي القاري فقال: (وأنكر الشيخ الشارح -يعني الأكمل- بأن هذا غير صحيح؛ لأن الرجل الداخل لم يقصده بالمحاربة حتى يدفعه عنه، بل دعاه إلى الموت، وبمجرد هذا القول لا يصدر عن مؤمن صالح مثل هذا الفعل، فما ظنّك بموسى عليه الصلاة والسلام؟!)([49]).

والجواب عن هذا الاعتراض: أنه قد تقدّم أن فقء عين ملك الموت هو عقوبة على نظره في الدار بغير إذن صاحبها كما جاءت بذلك شريعتنا، وهذا ليس من باب دفع الصائل الذي يقصد المحاربة فيدفع بالأخفّ فالأخفّ، وقد فرّق ابن تيمية بين النوعين بقوله: (وقد ظن طائفة من العلماء أن هذا من باب دفع الصائل؛ لأن الناظر معتدٍ بنظره فيدفع كما يدفع سائر البغاة، ولو كان الأمر كما قالوا لدفع بالأسهل فالأسهل، ولم يجز قلع عينه ابتداء إذا لم يذهب إلا بذلك. والنصوص تخالف ذلك؛ فإنه أباح أن تخذفه حتى تفقأ عينه قبل أمره بالانصراف، وكذلك قوله: «لو أعلم أنّك تنظرني لطعنت به في عينك»، فجعل نفس النظر مُبيحًا للطعن في العين، ولم يذكُر الأمر له بالانصراف، وهذا يدلّ على أنه من باب المعاقبة له على ذلك حيث جنى هذه الجنايةَ على حُرمة صاحبِ البيت، فله أن يفقأ عينه بالحصى والمدرى)([50]).

وثمة اعتراضٌ أخير ذكره أحد الباحثين على هذا الجواب فقال: (وهذا التوجيه مع جلالة القائلين به([51]) إِلَّا أنَّ سِياج التَكلُّفِ مُحيطٌ به، وذلك من جهة تقدير ما لا يدل عليه النَّصُّ، فأين البرهان المُصحِّح لدعوى تَسوُّر ملك الموت منزل نبي الله موسى عليه السلام بلا استئذان؟!).

والجواب عن ذلك: إن أراد بانتفاء دلالة النصّ عليه أنه لم يرد ذكر دخول الملك بيت موسى عليه السلام بلا إذن منصوصًا في الحديث في شيء من طرقه فمُسلَّم، غير أنه لا يلزم لصحة هذا الجواب أن يرِدَ ذلك نصًّا، إذ يكفي انتفاء ما يدلّ على بطلانه. وإن أراد أن النصّ لا يحتمله فأين دليل ذلك؟

وكونُ ملكِ الموت جاءَ في صورة رجل ودخل بلا استئذانٍ مُمكِنٌ عقلًا وعادةً وشرعًا، وإذا كان كذلك لم يكن ثمة قاطع على بطلان هذا الجواب، وهذا يكفي في الدفع عن الحديث وجواب الطعن فيه أو في رواته، وليس ذلك من التكلُّفِ.

الجواب الثاني: أن موسى عليه السلام عرَف ملك الموت لما جاءه، وإنما غضبَ منه ولطمَه على وجهه لكونه أراد قبض روحه دون تخيير، والأنبياء يخيّرون.

وقد أشار ابن خزيمة إلى هذا المعنى في آخر جوابه المتقدّم فقال: (وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يقبض نبيًّا قط حتى يريَه مقعده من الجنة ويخيره، فلا يجوز أن يؤمر ملك الموت بقبض روحه قبل أن يريَه مقعده من الجنة، وقبل أن يُخيِّره)([52]).

وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: (لم يكن هذا من موسى عليه السلام كراهية في الموت، وإنما كان غضبًا من موسى عليه السلام؛ لسرعة غضبه، وما كان قطُّ غضبُه إلا في الله، لا لمعنى من معاني الدنيا. قال علماؤنا: وإنما غضب هاهنا لأنه كان عنده أن نبيًّا لم يقبض قط حتى يخيَّر، فلما جاء بغير تخيير استنكر ذلك، وأدركته حمية الإلهية.

ألا ترى إلى قول عائشة رضي الله عنها حين سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «اللَّهُمَّ الرَّفِيقُ الأعْلَى»، فعلمت أنه كان حديثه الذي كان يحدّثنا به، تعني قوله: «إنَّ نَبِيًّا لَمْ يُقْبَضْ حَتَّى يُخَيَّرَ».

 وقد روى أبو مُوَيهِبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بليال نزل إليه جبريل عليه السلام، فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْخُلْدِ في الدُنْيَا أوْ بَيْنَ الْمَوْتِ.

وهذا من بلاء الله تعالى الحسَن لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه يخيِّرهم قبل الموت بين البقاء في الدنيا على النعيم والنبوة والملك، وبين لقاء الله تعالى، فلا يؤثرون على الله تعالى شيئًا؛ لعظيم معرفتهم به، وأن لقاءه عن رضوان هو الشرف الأكبر والنعيم الأوفر)([53]).

وقال أبو العبّاس القرطبي بعد أن أورد الجواب الأول والاعتراضَ المتقدِّم عليه دون جواب: (وقد أظهر لي ذو الطَّول والإفضال وجهًا حسنًا يحسِم مادة الإشكال، وهو أن موسى عَرَف ملَك الموت، وأنه جاء ليقبضَ روحه، لكنه جاء مجيءَ الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نصَّ عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى لا يقبض روح نبيّ حتى يخيِّره، فلمَّا جاءه على غير الوجه الذي أعلِم به بادر بشهامته وقوّة نفسه إلى أدب ملك الموت، فلطمه فانفقأت عينه امتحانًا لملك الموت، إذ لم يصرّح له بالتخيير، ومما يدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيَّره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم. وهذا الوجه -إن شاء الله- أحسن ما قيل فيه وأسلم)([54]).

وتعقّبه الحافظ ابن حجر بقوله: (وفيه نظر؛ لأنه يعود أصل السؤال فيُقال: لِمَ ‌أقدم ‌ملكُ ‌الموت على قبض نبيّ الله وأَخلَّ بالشَّرط؟ فيعود الجواب: أن ذلك وقع امتحانًا)([55]).

الجواب الثالث: أن الله تعالى أَذِنَ لموسى عليه السلام بفقءِ عين ملك الموت، وفعل ذلك قاصدًا متعمِّدًا؛ امتحانًا من الله تعالى للمَلَك الملطوم.

وهذا جواب فيه ميل إلى تفسير ما جرى بين موسى وملك الموت عليهما السلام تفسيرًا تعبّديًّا ابتلائيًّا، دون نظرٍ في حكمة أو مصلحة، وهو جواب بعض متكلِّمي الأشاعرة، ولذلك قال المازري: (مال إليه بعض أئمتنا من المتكلِّمين)([56]). ولا يبعد أنه مخرّج على قواعد الأشعرية في نفي الحكمة والتعليل.

فممَّن ذكر هذا الجواب من متكلِّمي الأشعرية: الأستاذ أبو بكر ابن فورك، فقال: (ولو قال قائل: إن ذلك إن كان حقيقة من موسى عليه السلام، وكان إدخال نقص على جارحة الملك بإذنِ الله عز وجل حتى يكون محنة للملطوم وعبادة للَّاطم لم يكن ذلك مُنكَرًا تدفعُه العقول؛ لأن لله عز وجل أن يأمر بما يشاء من ذلك، ويأذن فيما يشاء منه)([57]).

وتبعه القاضي أبو يعلى الحنبلي فقال في كتابه (إبطال التأويلات) الذي هو ردٌّ على كتاب ابن فورك: (اعلم أن هذا حديث صحيحٌ، يُحمل على ظاهره، وأن ذلك الفعل كان من موسى على الحقيقة، وأنَّه إدخالُ نَقْصٍ على جَارحةِ المَلَكِ ليكون محنةً للمَلْطُوم، إباحةً للَّاطم، بأنْ يكون الله عزَّ وجلَّ أَبَاحَه ذلك؛ لأنَّ لله تعالى أنْ يأمرَ بما يشاء من ذلك، ويأذن فيما شاء منه)([58]).

ونقل ابن الجوزي هذا الجواب عن أبي الوفاء ابن عقيل، قال: (قال ابن عقيل: يجوز أن يكون موسى قد أُذِن له في ذلك الفعل بملك الموت، وابتُلي ملكُ المَوت بالصبر عليه، كقصة الخضر مع موسى)([59]).

وقد بيّن أبو العبّاس القرطبي ضعفَ هذا الجواب فقال: (وهذا ليس بجواب، فإنَّه إنما وقع الإشكال في صدور سبب هذا الامتحان من موسى، وكيف يجوز وقوع مثل هذا؟)([60]).

وقال الملا علي القاري أيضًا عن هذا الجواب: (ولا يخفى أنه بعيد)([61]).

الجواب الرابع: أن العين التي فُقِئت هي عين تخييل وليست حقيقيَّة، نقله ابن فورك عن بعض الأشاعرة.

قال ابن فورك: (قال بعض أصحابنا فيه: إنما ينتقل فيه من هذه الأمثلة بتخييلات، وإن اللطمة أذهبت العين التي هي تخييل، وليست بحقيقة)([62]).

وهذا الجواب مردود؛ (فإنَّه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة والأدلة المعقولة)، كما قال أبو العبّاس القرطبي([63]).

ونُسِب هذا القول لأبي محمد ابن قتيبة، ومن تأمَّل كلامه في سياقه -وسيأتي في جواب الإشكال الثاني- علم أنه يقصد بالتمثيل التصوير على الصورة البشرية كما سماه الله تمثيلًا بقوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، لا أنه يقصد ما قصده أصحاب هذا القول.

الجواب الخامس: أن عين ملك الموت التي فُقِئَت هي عين معنويّة، وإنما فقأها بالحُجَّة، وهو قول بعض الأشاعرة أيضًا، ومال له ابن فورك.

قال ابن فورك: (ومنهم من قال: إن معنى قوله: «لطم موسى عليه السلام عين ملك الموت» توسُّع في الكلام، وهو نحو ما يُحكى عن علي رضي الله عنه أنه قال: “أنا فقأت عين الفتنة”، يريد بذلك إلزامَ موسى ملك الموت الحجة حين ردَّه في قبض روحه على حسب ما روي في الخبر.

واعلم أن للعرب في نحو ذلك إستعارات يعرف معانيها ومجاري خطابها فيها المتوسِّع في استقراء كلامهم، والمتبحر في المعرفة بلغاتهم.

فإذا كانت اللطم مستعملة عندهم على أمرين: أحدهما: أن يراد به عين الجارحة وإدخال النقص فيها، والثاني: أن يراد به عين الشيء وذاته، ويُرادُ بالعور: محقُه ومحوُه؛ لم يُنكَر([64]) أن يكون معنى الكلام محمولًا عليه على معنى التوسع.

وقد يقول القائل: عورت عين هذا الأمر إذا ردَّه؛ تشبيهًا لمن أدخل نقصًا على العين التي هي حدقة)([65]).

وقد نقل القاضي أبو يعلى هذين الجوابين -الرابع والخامس- من كتاب ابن فورك وقال: (وقد أثبته قومٌ من المسلمين([66])، وتأوَّلوه على وجهين)([67]). ثم ذكرهما، ولم يتعقبهما بشيء.

ونحن إذا سلَّمنا أن العرب تستعمل اللطمة بالمعنى الذي ذكره ابن فورك، فإننا لا نسلم أن سياق الحديث يتَّفق مع هذا التأويل، بل هو يأباه.

قال قوام السنة الأصبهاني: (وقول من قال: معنى اللطمة: إلزام الحجة غَلَطٌ؛ لأن في الخبر أنه عرج إلى ربه فردَّ عليه عينه، ولا يكون هذا إلا في عين هي حقيقة؛ لأن العين التي ليست بحقيقة لا تحتاجُ إلى ردها.

وقوله اللطمة: إلزام الحجة؛ لو كانت اللطمة إلزامَ الحجة لم يَعُد إلى قبضِ رُوحه؛ لأن الحجة قد لزِمَته في ترك قبض روحه كلما عاد ليقبض روحه)([68]).

وقال المازري: (وهذا أيضًا قد يبعد عن ظاهر هذا اللّفظ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَرَدَّ الله إليه عينَه». وإن قالوا: معناه: ردّ الله إليه حجّته، كان بعيدًا عن مقتضى سياق اللّفظ)([69]).

ولذلك قال أبو العباس القُرطُبيّ بعد ذكر هذين القولين الرابع والخامس: (وهذان القولان لا يُلتَفَت إليهما لظهور فسادهما)([70]).

الجواب السادس: إلزام منِ اعترض على قصّة موسى عليه السلام في فقء عين الملَك بالاعتراض على قصته في إلقاء الألواح وجرّه رأس هارون.

وهذا الجواب جوابٌ إلزامي وليس تقريريًّا، ولا مانع من القول به مع الجواب الأول أو الجواب الثاني التحقيقيَّين، وقد ذكره بعض من أجاب عن هذا الإشكال بالجواب الأول.

قال أبو بكر الكلاباذي: (وهذا الحديث ‌له ‌في ‌كتاب ‌الله ‌نصًّا نظيرُه، قال تعالى في خبر موسى وهارون عليهما السلام: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} إلى قوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150]، وقال: {يَا ابْنَ أُمّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94].

وليس الجرّ إليك بالخشونة والغلظة بأقلَّ من الدفع عنك بالخشونة والغلظة، وهو الصك واللطم… وليس هارون بأدون منزلة من ملك الموت -صلوات الله عليهما-، بل هو أجل قدرًا منه، وأعلى مرتبة، وأبين فضلًا عند أكثر علماء الأمّة من أهل النظر والأثر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نبيّ مرسل، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [المؤمنون: 46].

وهو مع جليل قدره في نبوّته وعلوِّ درجته في رسالته أخو موسى لأبيه وأمه، وأكبر سنًّا منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقّ كبير الإخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده».

فإذا أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه أخذ برأسه ولحيته وجرَّه إليه بعنفٍ وغِلظة حتى استعطفه عليه واعتذر إليه، فقال: {يَا ابْنَ أُمّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]، وقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150]، ولولا ذلك عسى كان يكون منه ما هو أعظم مما صنع به.

ثم لم نجد في الكتاب ما يدلّ على عِتاب الله إياه، ولا على توبَته منه، ولو كان ذلك منه صغيرةً أو زلةً لظهر ذلك نصًّا في الكتاب أو دلالة، كما ذكر الله تعالى زلات الأنبياء -صلوات الله عليهم- ومُعاتَبَته إياهم عليها، وتوبتهم منها إلى الله، ورجوعهم إليه، واستغفارهم إياه، واعترافهم على أنفسهم بالظلم لها.

فلو كان جرُّه أخاه إليه وأخذُه برأسه ولحيته زلةً منه لظهر اعترافه على نفسه وتوبته إلى ربه، أو معاتبة الله إياه، فلما لم يكن دلَّ أنه لم يكن منه معصية ولا زلة.

كذلك صكُّه ملكَ الموت ولطمُه إياه؛ لأنهما عُنفان، أحدهما بالدَّفع عنك، والآخر بالجر إليك كريمين إلى الله تعالى، أحدهما رسُولٌ نبيٌّ، والآخر مَلَكٌ زكيٌّ، وكما لم يرد في الكتاب عتابٌ ولا توبة واعتراف في قصة الملك، فما جاز في الكتاب من التأويل ساغ ذلك في الخبر إن شاء الله)([71]).

وقال ابن الوزير: (فإنَّهُ قد ورد في القرآن العظيم أنَّ موسى أخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وذلك من غير ذنبٍ عَلِمَه من أخيه عليه السلام، ولا دفعِ مَضرَّةٍ خافها على نفسه، وأخوه هارون نبيٌّ كريم بنصّ القرآن وإجماع أهلِ الإسلام، ولا شكّ أن حرمة الأنبياء مثل حرمة الملائكة؛ لأن من استخفّ بنبيّ كفر.

وقد بَطَش مُوسى عليه السلام بأخيه بطشًا شديدًا، ولهذا قال هارون عليه السلام يتلطَّف لموسى ويستعطفه: {ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}، و{لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ}.

فإن قلت: إنما فعل ذلك لأنه ظن أنَّ هارون رضي بما فعل قومه من عبادة العجل.

قلت: هذا العذرُ أقبَحُ من المعتَذَر عنه، فالجرُّ برأسِه عليه السلام أهونُ من الظنِّ فيه أنه رضي بالعجل شريكًا في الربوبية لرب العزِّ جل جلاله)([72]).

وقال الفضل بن روزبهان في جوابه عن اعتراض ابن المطهر الحلّي على هذا الحديث: (الموت بالطبع مكروهٌ للإنسان، وكان موسى عليه السّلام رجُلًا حادًّا كما جاء في الأخبار والآثار، فلمَّا صحّ الحديث وجب أن يُحمَل على كراهتِه للموت. وبعثَتْهُ الحدة على أن لطَم ملك الموت كما أنّه ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه.

وهذا الاعتراضُ واردٌ على ضرب هارون، وكَسْرِ ألواح التوراة التي أعطاه الله تعالى إيَّاها هدى ورحمة.

ويُمكن أن يُقال: كيف يجُوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح وطرح كتاب الله تعالى، وكسر لوحه إهانة لكتاب اللّه؟! وكيف يجوز له ضرب هارون وهو نبيٌّ مرسل؟!

وكلُّ هذه عند أهل الحقّ محمولٌ على ما يعرض البشر من الصّفات البشرية، وليس فيه قدح في ملَكة عصمة الأنبياء، وأمَّا عند ابن المطهر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء.

ولو لم يكن القرآن متواترًا، ونُقل لابن المطهر الحلي أن موسى ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه؛ لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه‌)([73]).

وقد أجاب نور الله التستري الرافضي عن كلام الفضل بن روزبهان بإيراد تأويل ركيك للشريف المرتضى -تابعه فيه الفخر الرازي- لجرِّ موسى لرأس أخيه هارون عليهما السلام، وأن ذلك يجري على عادة العرب في أخذ اللّحية والرأس عند الملاقاة والمشاورة، قال: (فيوجب خروج إمامه فخر الدّين الرّازي وشيخه صاحب المواقف عن أهل الحقّ حيث حملوا ذلك على ما حمله عليه ابن المطهّر -طهّر اللّه رمسه- ممّا لا ينافي طهارة الأنبياء عليهم السّلام. فالعجب أنّ النّواصب يحملون الآيات التي ظاهرها عتابُ الأنبياء عليهم السّلام على ترك الأولى والأفضل على ظواهرها، ويحكمون عليهم بالمعاصي والأخطاء مع دلالة العقل على وجوب تنزيههم عن ذلك، ومع وجود المحامل لظواهر تلك الآيات، ويحملون هذيانات عمر بن الخطاب وكلماته التي ظاهرها منكر ومرتبته أقلّ من مراتب الأنبياء عليهم السّلام بأضعاف لا تحصى على خلاف ظاهرها، ويمنعون من جواز حملها على ظواهرها مع أنّ كلامه لا محمل له، ويتركون العمل بظاهره بغير تأويل واضح وتوجيهٍ بيِّن، وهلّا ساوَوا بينه وبين الأنبياء الذين هم في محلّ التعظيم؟! وما ذاك إلا من قلّة الإنصاف وشدّة العصبية والاعتساف).

وهذا من ضلال هذا الرافضي وجهلِه، فإن أهل السنة يحملون أفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأفعال الصحابة رضوان الله عليهم على المحامل الحسنة، لكنهم لا يحرِّفون الكلم عن مواضعه، ولا يأتون بالتأويلات الركيكة الباردة للآيات، وإن قال بها من تأثر بالرافضة في مسألة العصمة من الأشعرية، فإن ذلك لا يكون حجَّة على عموم أهل السنة الذين لا يغلون في مسألة عصمة الأنبياء.

 كما أن أهل السنة لا يحملون الأضغان على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ينتقم لأمير المؤمنين عُمَرَ رضي الله عنه من شانئيه ومبغضيه.

ويتابع الرافضي ردّه فيقول: (وأما قوله: “ولو لم يكن القرآن مُتواترًا ونقل لابن المطهّر أنّ موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه لكان ينكر هذا” إلخ، فرجمٌ بالغيب ورميٌ في الظلام كما لا يخفى، ومن أين علم أنَّه لم يكن يحمِلُه على ما ذكرناه من المحمل الذي ارتضاه مرتضى الشّيعة؟!)([74]).

وقد طوَّلنا بذكر كلام هذا الرافضي ليُعلم مآخذُ الطاعنين في حديث لطم ملك الموت في النظر في هذه المسألة، وأثر الاختلاف في مسألة عصمة الأنبياء في التعامل مع هذا الحديث.

يقول ابن القيم: (وسمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيميّة رضي الله عنه يقول: انظر إلى موسى -صلواتُ الله وسلامُه عليه- رمى الألواح التي فيها كلامُ الله الذي كتَبه بيده فكسَرها، وجرَّ بلحيةِ نبيٍّ مثلِه ورأسِه وهو هارون، ولطَم عينَ ملَكِ الموت ففقأها، وعاتَب ربَّه ليلةَ الإسراء في محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ورفعِه عليه، وربُّه تبارك وتعالى يحتمل له ذلك كلَّه، ويحبُّه ويكرمه ويدلِّلُه؛ لأنَّه قام لله المقاماتِ العظيمةَ في مقابلةِ أعدى عدوٍّ له، وصدَعَ بأمره، وعالج أمَّةَ القبط وأمَّةَ بني إسرائيل أشدَّ المعالجة؛ فكانت هذه الأمورُ كالشَّعرة في البحر. وانظر إلى يونس بن متّى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى صلى الله عليه وسلم، غاضَبَ ربَّه مرّةً، فأخَذه وسجَنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى صلى الله عليه وسلم)([75]).

فهذا تمام الكلام عن الإشكال الأول وأجوبته، وثمة إشكالات أخرى تتعلَّق بمتن الحديث قد تمهَّد الجواب عنها بما تقدّم، فهذا أوان تخصيصِها بالذكر والردِّ إظهارًا للأمر على جليّته، وإتمامًا للمقصود. ولن يكون البحث فيها طويلًا، وهي:

([46]) «إحقاق الحق وإزهاق الباطل» (2/ 244).

([47]) «المفهم لما أشكل من صحيح مسلم» (6/ 221).

([48]) «العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم» (8/ 370).

([49]) «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (9/ 3649).

([50]) «مجموع الفتاوى» (15/ 380).

([51]) يقال هنا: القائل بهذا الجواب ليس بالضرورة يقول به انبهارًا بجلالة القائلين به، فقد يقول به لقوّته، ولذلك تواردت عليه الأفكار كما تقدّم في موافقة المازري لابن خزيمة ومن تبعه دون اطلاعه على كلامِه.

([52]) نقله ابن بطال في «شرح صحيح البخاري» (3/ 325).

([53]) «القبس في شرح موطأ مالك بن أنس» (ص: 434).

([54]) «المفهم لما أشكل من صحيح مسلم» (6/ 221-222).

([55]) «فتح الباري» (10/ 158).

([56]) «المعلم بفوائد صحيح مسلم» (3/ 231). وقد رجّح المازري الجواب الأول عليه كما تقدّم، ونسب الحافظ في «الفتح» (10/ 158) للنووي هذا القول، مع أن النووي إنما أورد أجوبةَ العلماء نقلًا عن المازري، والمازري إنما ذكر هذا الجواب حكاية عن غيره.

([57]) «تأويل مشكل الحديث وبيانه» (ص: 315).

([58]) «إبطال التأويلات» (ص: 479).

([59]) «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/ 444). وهذا خلاف ما نقله عنه ابن هبيرة في كلامه على هذا الحديث من تخطئته لموسى ولملك الموت. انظر: «الإفصاح عن معاني الصحاح» (6/ 328-329).

([60]) «المفهم لما أشكل من صحيح مسلم» (6/ 221).

([61]) «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (9/ 3649).

([62]) «مشكل الحديث وبيانه» (ص: 314).

([63]) «المفهم لما أشكل من صحيح مسلم» (6/ 221).

([64]) هذا جواب الشرط: (فإذا كانت..).

([65]) «مشكل الحديث وبيانه» (ص: 314).

([66]) يعني بالقوم من المسلمين الذين أثبتوا الحديث وتأولوه: الأشاعرة الذين نقل ابن فورك كلامهم.

([67]) «إبطال التأويلات» (ص: 480).

([68]) «الحجة في بيان المحجة» (2/ 437).

([69]) «المعلم بفوائد مسلم» (3/ 231). ونقله النووي في «شرحه» (15/ 129).

([70]) «المفهم لما أشكل من صحيح مسلم» (6/ 221).

([71]) «بحر الفوائد» (1/ 541-543).

([72]) «العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم» (8/ 369).

([73]) «إحقاق الحق وإزهاق الباطل» (2/ 243).

([74]) «إحقاق الحق وإزهاق الباطل» (2/ 245-247).

([75]) «مدارج السالكين» (1/ 506).

 


سجل تعليقك