![]() |
|
![]() ![]() |
شبهات وردود
أرسل لصديق

إغلاق النافذة
شبهات وردود --> المادة المختارة
دفع شبهات الطاعنين في أبي هريرة رضي الله عنه الجزء (3) “موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إكثار أبي هريرة من الرواية” : 1
أضيفت في: 2 - 11 - 2023
عدد الزيارات: 357
المصدر: | مركز سلف للبحوث والدراسات |
الشبهة: دفع شبهات الطاعنين في أبي هريرة رضي الله عنه الجزء (3) “موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إكثار أبي هريرة من الرواية” : 1
الجواب :
إن موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التشديد من الإكثار من الرواية خشية الوقوع في الزلل والخطأ من المواقف الثابتة عنه التي دلت عليها الروايات الصحيحة.
قال ابن قتيبة: (وكان عمر أيضًا شديدًا على من أكثر الرواية، أو أتى بخبرٍ في الحُكمِ لا شاهدَ لَهُ عليه، وكان يأمُرُهم بأن يُقلُّوا الرواية، يريد بذلك أن لا يتّسع الناس فيها ويدخلها الشوب؛ ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي)([1]).
وقال المعلمي ردًا على ما ادعاه أبو رية من نهي الصحابة عن الرواية: (لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدَّث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها؟! وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين:
الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور الحاجة.
الثاني: ما صرَّح به من إيثار أن لا يشغل الناس -يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة- عن القرآن)([2]).
وقد أكثر الطاعنون في أبي هريرة رضي الله عنه من الاستناد إلى موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبدَوا في ذلك وأعادوا، وفي ذلك يقول أبو رية: (موقف عمر من أبي هريرة من أهمِّ الأدلة التي تكشف عن حقيقة مرويات أبي هريرة، وتضعه في ميزان التقدير)([3])، وهذا ما يقتضي الكلام التفصيلي عن تلك الروايات من جهة ثبوتها، ثم بيان المحامل الصحيحة التي حملها عليها أهل العلم.
ويمكن تقسيم أنواع المرويات عن عمر رضي الله عنه في هذا الباب إلى نوعين:
النوع الأول: مرويات عامة عن عمر رضي الله عنه في مسألة الإكثار من الرواية.
النوع الثاني: مرويات خاصة عن عمر رضي الله عنه في شأن أبي هريرة رضي الله عنه.
وسنتكلم عن هذين النوعين من المرويات بإذن الله.
النوع الأول: مرويات عامة عن عمر رضي الله عنه في مسألة الإكثار من الرواية:
أولًا: حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما:
وقد رواه عنه عددٌ من التابعين:
1- فعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ وَهُوَ يَقُولُ: (إِيَّاكُمْ وَأَحَادِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا حَدِيثًا كَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ أَخَافَ النَّاسَ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)([4]).
2- وعن يونس بن ميسرة بن حلبس: حدثني من سمع معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر -منبر دمشق- يقول: (أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تتحدثون لا محالة، فإن كنتم متحدثين فتحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر بن الخطاب، فإنه كان يخيف الناس في الله)([5]).
3- وعن رجاء بن أبي سلمة، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر أن معاوية نهى أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث إلا حديثًا ذكر على عهد عمر، فأقرَّهُ عمر، إن عمر كان قد أخاف الناس في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم([6]).
وقد بين العلماء معنى هذا النهي، فذكر ابن عدي هذا الخبر في (باب من أنكر منهم كثرة الرواية مخافة الزلة)([7])، و(باب إنكار من أنكر منهم على من أكثر منهم الرواية عنه لئلا يكذب عليه)([8]).
قال القاضي عياض: (نهى عن الإكثار بالأحاديث؛ لما شاع فى زمنه من التحدث عن أهل الكتاب، وما وجدوه من كتبهم عند فتح بلادهم، والرجوع إلى ما تقدم من الأحاديث قبل أيام عمر لضبطه الأمر وشدته فيه، وطلبه الشهادة على ما بلغه منه حتى استقرت السنن وصحيح الأحاديث)([9]).
ثانيًا: حديث قُرَظَة بن كعب رضي الله عنه:
عن عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عن قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الْكُوفَةِ وَشَيَّعَنَا، فَمَشَى مَعَنَا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ صِرَارٌ، فَقَالَ: (أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟) قَالَ: قُلْنَا: لِحَقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِحَقِّ الْأَنْصَارِ، قَالَ: (لَكِنِّي مَشَيْتُ مَعَكُمْ لِحَدِيثٍ أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، فأردْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لِمَمْشَايَ مَعَكُمْ، إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ لِلْقُرْآنِ فِي صُدُورِهِمْ هَزِيزٌ كَهَزِيزِ الْمِرْجَلِ، فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَنَا شَرِيكُكُمْ).
وهذا الحديث رواه عن الشعبي جمعٌ، وهم: إسماعيل بن أبي خالد([10])، وأشعث بن سوار([11])، وبيان بن بشر([12])، وجابر الجعفي([13])، وداود بن أبي هند([14])، وسعد بن إبراهيم([15])، وأبو الحصين عثمان بن عاصم الأسدي([16])، ومجالد بن سعيد([17])، ومنصور بن عبد الرحمن الغداني([18]). ولم يخالف أحد من الرواة في أن الحديث عن الشعبي عن قرظة وحده، إلا راوٍ واحد وهو مطرف بن طريف، فرواه عن الشعبي وزيد بن صوحان([19]).
وقد تكلم الإمام أبو محمد ابن حزم في سماع الشعبي من قرظة، فقال: (فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة، وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة، ولا سمع منه، بل لا شك في ذلك؛ لأن قرظة رضي الله عنه مات والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة، هذا مذكور في الخبر الثابت المسند، وأول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب، فذكر المغيرة عنده ذلك خبرًا مُسنَدًا في النوح، ومات المغيرة سنة خمسين بلا شكٍّ، والشعبي أقربُ إلى الصبا، فلا شك في أنه لم يلق قرظة قطُّ، فسقط هذا الخبر. بل قد ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي رضوان الله عليه بالكوفة، فصح يقينًا أن الشعبي لم يلق قط قرظة، ولا عقل عنه كلمة)([20]).
قال المعلمي: (اخْتُلِف في وفاة قرظة، والأكثرون أنها كانت في خلافة عليّ، ووقع في صحيح مسلم في رواية ما يدلّ أنه تأخر بعد ذلك، ولعلها خطأ([21]). وسماع الشعبي منه غير متحقق، وقد جزم ابن حزم في الإحكام (2/ 138) بأنه لم يلقه، وردَّ هذا الخبر وبالغ كعادته)([22]).
وتعَقَّبَ الإمام ابنَ حزم الشيخُ أحمد شاكر في تعليقه على الإحكام، فقال عند قوله: (فلا شك في أنه لم يلق قرظة قط): (في هذا شك كثير، فإن الشعبي ولد سنة 20، وقيل: 19، ومات سنة 109)([23]). وحاصل هذا أن سماع الشعبي من قرظة ممكن؛ لأن وفاته سواء كانت في حياة عليٍّ الذي توفي سنة 40، أو في وقت إمارة المغيرة على الكوفة وقد توفي المغيرة سنة 50؛ فإنه يكون حينئذٍ في سن 20 سنة، أو 30 سنة، وعلى مذهب من يكتفي بالمعاصرة ولا يشترط اللقاء فلا إشكال في رواية الشعبي عن قرظة.
ثم ذكر المعلمي علةً أخرى وهي تدليس الشعبي: (والشعبي لم يذكر في طبقات المدلسين، لكن ذكر أبو حاتم في ترجمة سلميان بن قيس اليشكري أن أكثر ما يرويه الشعبي عن جابر إنما أخذه الشعبي من صحيفة سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، وهذا تدليس)([24]). وإذا ثبت تدليسه فإن الإسناد غير متصل؛ لأنه قد عنعن، والحديث المُعنْعَن يشترط في قبوله براءة المُعنْعِن من التدليس كما قد تقرر في علم المصطلح.
فهذا ما يتعلق بإسناد هذا الخبر عن عمر رضي الله عنه.
أما توجيه العلماء له على تقدير ثبوته: فإنهم حملوا نهي عمر رضي الله عنه على الخشية من الوقوع في الكذب والسهو والخطأ، وغير ذلك من المعاني التي لا تدلّ على منع الإكثار مطلقًا، فضلا عن أن تكون دالةً على منع التحديث أصلًا كما ينسبه له من ينسبه من أهل البدع وغيرهم من الطاعنين في السنن([25])، ولا على اتهام الصحابة رضي الله عنهم بالكذب، وعمر رضي الله عنه نفسه لا يعدُّ مُقلًّا من الحديث.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (فأما مذهب من ذهب إلى ترك أحاديث النبي عليه السلام فهذا باطل؛ لأن فيه إبطال السنن، ومما يبين ذلك حديث عمر حين وَجَّهَ الناس إلى العراق، فقال: “جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم” ففي قوله: “أقلوا الرواية عن رسول الله صلي الله عليه وسلم” ما يبين لك أنه لم يرد بتجريد القرآن ترك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رَخَّصَ في القليل منه، وهذا يُبَيِّن لك أنه لم يأمر بترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكِنَّه أراد عندنا علم أهل الكتب للحديث الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه حين قال: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟!» ومع هذا فإنه كان يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كثير)([26]).
وقال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله تحت عنوان: (ذكر بعض السبب الذي من أجله منع عمر بن الخطاب أصحابَهُ من إكثار الحديث): (لم يكن عمر بن الخطاب يتهم الصحابة بالتقوّل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ردّهم عن تبليغ ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب»، وأنه لا يحل لهم كتمان ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه علم ما يكون بعده من التقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينزل الحق على لسان عمر وقلبه»، وقال: «إن يكن في هذه الأمة محدثون فعمر منهم». فعمد عمر إلى الثقات المتقنين الذين شهدوا الوحي والتنزيل، فأنكر عليهم كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يجترئ من بعدهم ممن ليس في الإسلام محله كمحلهم، فيكثروا الرواية، فيزلّوا فيها، أو يتقوّل متعمدًا عليه صلى الله عليه وسلم لنوال الدنيا، وتبع عمر عليه علي بن أبي طالب -رضوان الله عليهما- باستحلاف من يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا ثقات مأمونين، ليعلم بهم توقي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرتدع من لا دين له عن الدخول في سخط الله عز وجل فيه. وقد كان عمر يطلب البينة من الصحابي على ما يرويه عن رسول صلى الله عليه وسلم مخافةَ الكذب عليه؛ لئلا يجيء مَن بعد الصحابة فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله)([27]).
وقال ابن حزم: (وإنما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صح فهو بَيِّنٌ في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة، وإنما نهى عن الحديث بالأخبار عمن سلف من الأمم وعمّا أشبه، وأمَّا بالسُّنَن عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن النهي عن ذلك هو مجرّد، وهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه ممن دون عمر من عامة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه؟! ودليل ما قلنا أن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروهًا فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحل لمسلم أن يظنّ بعمر رضي الله عنه أنه نهى عن شيء وفعلَه؛ لأنه قد روي عنه -رضوان الله عليه- خمسمائة حديث ونيف على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فصح أنه كثير الرواية والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب إلا بضعة عشر منهم فقط؛ فصح أنه قد أكثر الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصح بذلك التأويل الذي ذكرنا لكلامه رضي الله عنه)([28]).
وقال أبو عمر ابن عبد البر في توجيهه بعد كلامٍ في توجيه العلماء لهذا الحديث: (وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة، ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه، ومن حفظ شيئًا وأتقنه جاز له أن يحدث به، وأن الإكثارَ يحملُ الإنسان على التقحُّمِ أن يُحدِّثَ بكل ما سمع من جيد ورديء وغث وسمين)([29]).
وقال الخطيب البغدادي: (إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: إنما فعل ذلك عمر احتياطًا للدين وحسنَ نظر للمسلمين؛ لأنه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار، وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها، فقد يرد الحديث مجملًا، ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه والحكم بخلاف ما أخذ به ونحو من هذا المعنى الحديث الآخر)([30]).
النوع الثاني: مرويات خاصة عن عمر رضي الله عنه في شأن أبي هريرة رضي الله عنه:
وينقسم هذا النوع إلى قسمين:
القسم الأول: مرويات في نهي عمر رضي الله عنه أبا هريرة عن الإكثار من الرواية:
وهي آثار أخرجها ابن عساكر في ترجمة أبي هريرة من (تاريخه)، ونقلها عنه ابن كثير في (البداية والنهاية)، وأخذها من (البداية والنهاية) أبو ريّة واحتجّ بها على تكذيب عمر رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنه، وجميع تلك الآثار لا يخلو إسنادها من مقال، وعلى تقدير ثبوتها فليس في شيء منها ما يدل على تكذيب الفاروق رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنه، وإنما تُحمَل على الاعتبارات المصلحية التي كان عمر رضي الله عنه يتوخّاها في نهيه عن الإكثار من الرواية، والتي قدّمنا شرحها في النوع الأول، وفي أسباب إقلال الصحابة من الرواية.
أولًا: حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه:
قال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، قال: حدثنا مروان بن محمد، قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن السائب بن يزيد، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتترُكَنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن الأحاديث أو لألحقنك بأرض القردة([31]).
قال المعلمي عقبه: (وسَنَدُ الخبر غير صحيح، ولفظه في «البداية»: «قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زُرْعة الرُّعيني، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السائب إلخ». ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل، إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله -بالتصغير- بن أبي المهاجر فثقة معروف، لكن لا أدري أَسَمِعَ من السائب أم لا)([32]).
أما ترجمته فقد وثقه العجلي وابن حبان([33]).
وأما سماع إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر من السائب بن يزيد رضي الله عنه فهو ثابت، وقد ذكر ذلك البخاري ومسلم([34]).
غير أنّ هذا الخبر اختُلف في وصله وانقطاعه، فروي موصولًا بالطريق المذكور، ورواه أبو زرعة الدمشقي من طريق أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي، ولم يسنده، قال أبو زرعة: (وقد سمعت أبا مسهر يذكر عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه، ولم يُسنِدْه)، ورواه منقطعًا أيضًا ابن شبة ولفظه عنده: (لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض الطفيح -يعني: أرض قومه-)([35]). قال المعلمي: (وسعيد -بن عبد العزيز- لم يدرك عمر ولا السائب)([36]).
ومثل هذا الاضطراب في وصله وانقطاعه مما يعل به الحديث، أو نرجح الطريق المنقطع ونحكم بضعفه.
وقد استشكل المعلمي ثبوت هذا لخبر من جهة الإسناد والمتن من جهات متعددة، فقال: (هذا، ومخرج الخبر شامي، ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة، ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير، منهم ابن عمر وغيره، هذا باطل قطعًا. على أن أبا ريَّة يعترف أنّ كعبًا لم يزل يحدِّث عن الأُوَل حياةَ عمر كلها، وكيف يُعقل أن يرخِّص له عمر ويمنع أبا هريرة؟! هذا باطل حتمًا. وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس، والمهاجر يحرُم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدّد عمر مهاجرًا أن يردّه إلى بلده التي هاجر منها؟! وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في «فتوح البلدان» للبلاذري (ص: 92-93). وبطبيعة الحال كان يعلّمهم ويفتيهم ويحدّثهم)([37]).
وقد أخرج هذا الخبر الرامهرمزي([38]) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه عن عثمان بدلًا من عُمَر، قال: (حدثنا عُبَيْد الله بن هارون بن عيسى ينزل جبلَ رامَهُرْمُز، حدثنا إبراهيم بن بِسْطام، حدثنا أبو داود، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن محمد -قال: أظنُّه ابنَ يوسف- قال: سمعتُ السائب بن يزيد يحدِّث، قال: أرسلني عثمان بن عفان إلى أبي هريرة فقال: قل له: يقول لك أميرُ المؤمنين: ما هذا الحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لقد أكثرتَ، لتنتهينَّ أو لأُلحقنَّك بجبال دَوْس. وأتِ كعبًا فقل له: يقول لك أمير المؤمنين عثمان: ما هذا الحديثُ؟ قد ملأتَ الدنيا حديثًا، لتنتهينَّ أو لأُلقِينَّك بجبال القِرَدة). وشيخ الرامهرمزي لم أجد له ترجمة، وهذه الرواية مُعارَضَة بالرواية المتقدّمة عن عمر، وقد تقدم اختلاف الرواة فيها بين الوصل والانقطاع.
وعلى تقدير ثبوتها فلا تحمل على تكذيب عمر رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنه، ولا على منع عمر له من رواية الحديث، وإنما على ما بينه العلماء من أسباب لمن منع من الإكثار من الحديث. يبين ذلك قول ابن كثير عقبها: (وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي يضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلون على ما فيها من أحاديث الرخَص، أو أن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه، أو نحو ذلك)([39]).
وقال ابن الوزير في تعليقه على هذا الخبر: (هذا لا يصح، ولو صح لم يكن فيه حجة على جرح أبي هريرة؛ لأنه سوء ظن مستنده إكثار أبي هريرة من الرواية، والإكثار دليل الحفظ لا دليل الكذب، وقد قال أبو هريرة: وما ذنبي إن حفظت ونسوا)([40]). وسوء الظن هنا إنما يصح أن ينسب إلى من يستند لأثر عمر رضي الله عنه في جرح أبي هريرة رضي الله عنه، وإلا فحاشا عمر رضي الله عنه أن يقال ذلك فيه.
ثانيًا: خبر منقطع عن الزهري:
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالَ: أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا فِيمَا يُعْمَلُ بِهِ. قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفَإِنْ كُنْتُ مُحَدِّثَكُمْ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَعُمَرُ حَيٌّ، أَمَا وَاللَّهِ إِذَنْ لأَلْفَيْتُ الْمِخْفَقَةَ سَتُبَاشِرُ ظَهْرِي([41]).
ومراسيل الزهري قال فيها الشافعي: (يقولون: يحابي، فلو حابينا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذلك أنا نجده روى عن سليمان بن أرقم)([42]). وقال يحيى بن سعيد القطان: (مرسل الزهري شرّ من مرسل غيره لأنه حافظ، وكل ما قدر أن يسمِّي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه)([43]). غير أن الإمام أحمد جاء عنه قبولها([44]).
قال المعلمي عن مرسل الزهري المتقدِّم: (عزاه إلى «البداية والنهاية»، وهو فيها عن الزهري، ولم يدرك عمر. وعلق عليه أبو ريَّة قوله: (أي: السنة العملية) فإن أراد اصطلاح شيخه «السنة العملية المتواترة» فلا يخفى بطلانه؛ لأن هذا اصطلاح مُحْدَث، وإنما المراد ما يترتَّب عليه عمل شرعي، فيدخل في ذلك جميع الأحكام والآداب وغيرها، ولا يخرج إلا القصص ونحوها، استحبّ الإقلال من القصص ونحوها، ولم يمنع من الإكثار فيما فيه عمل)([45]).
ثالثًا: خبر منقطع عن محمد بن عجلان:
عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان أن أبا هريرة كان يقول: (إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي)([46]).
قال المعلمي: (يُروى هذا عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح)([47]).
رابعًا: خبر ضعيف عن الزهري عن أبي سلمة:
عن الزهري، عن أبي سلمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: (ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر). قال أبو سلمة: فسألته: بم؟ قال: (كنا نخاف السياط)، وأومأ بيده إلى ظهره([48]).
قال المعلمي: (إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له: صالح بن أبي الأخضر، قال فيه الجوزجاني وهو من أئمة الجرح والتعديل: اتهم في أحاديثه)([49]).
وفي سنده كذلك يزيد بن يوسف وهو ضعيف([50]).
يقول المعلمي بعد أن أورد هذا الأثر وما تقدّمه: (وبعد، فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار مع ثناء جماعة منهم عليه وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه كما يأتي يدل على بطلان المحكيّ عن عمر من منعه. بل لو ثبت المنع ثبوتًا لا مدفع له لدلّ إجماعُهم على أن المنع كان على وجه مخصوص، أو لسبب عارض، أو استحسانًا محضًا لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أَوْلَى بالحقِّ من رأي عمر)([51]).
خامسًا: أثر ذكره ابن عبد البر بلا إسناد:
ذكر ابن عبد البر عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لقد حدثتكم بأحاديث، لو حدثت بها زمن عمر لضربني عمر بالدرة)([52]).
وهذا الأثر لم يذكر له ابن عبد البر سندًا، ولم أجده في شيء من كتب الحديث.
وقد نقل هذا الأثر رشيد رضا في مقال له قديم بعنوان: (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية)، وقال في التعليق عليه: (فلو طال عُمْر عُمَر حتى مات أبو هريرة في عصره لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة عنه، ومنها 446 حديثًا في البخاري ما عدا المكرر)([53]). وكلام رشيد رضا هذا احتجّ به أبو رية في جرح عمر لأبي هريرة رضي الله عنه([54]).
يقول المعلمي معلقًا: (وما يدريك لعلّ عمر لو طال عمره حتى يستحرَّ الموتُ بحَمَلة العلم من الصحابة، لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحثَّ عليه، وحِفْظُ الله تبارك وتعالى لشريعته، وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر، في حياة عمر وبعد موت عمر)([55]).
القسم الثاني: مرويات مكذوبة على عمر رضي الله عنه في جرح أبي هريرة رضي الله عنه:
وهذه المرويات المكذوبة قد تصدى لها في وقتٍ مبكّر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي، حيث افترى خصمه الجهمي على عمر رضي الله عنه أنه يقول: (أبو هريرة أكذب المحدّثين).
(فالعجب ممن يقبل جرحه ممن لا يعرف ولا يدرى من هو بغير إسناد ولا نظر في رجال الحديث، بل يقبله مقطوعًا ممن لا يدرى من هو، ولا يساوي أدنى أدنى أدنى مرتبة من مراتب أصحاب أبي هريرة من التابعين الرواة عنه، الموثقين له، الذين زادوا على ثماني مئة!)([56]).
وقد أورد الإمام الدارمي عددًا من الوجوه في إبطال قول الجهمي في ما نسبه إلى عمر رضي الله عنه من تكذيب أبي هريرة، ثم قال: (فاتق الله أيها المعارض، واستغفره مما ادعيت على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروف بخلاف ما رميته، ولو كان لك سلطان صارم يغضب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأوجع بطنك وظهرك، وأثر في شعرك وبشرك، حتى لا تعود تسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ترميهم بالكذب من غير ثبت)([57]).
وتلك الوجوه التي ذكرها الدارمي يمكن إجمالها في ما يأتي، وبعضها تقدّمت الإشارة إليه في الجواب عن روايات منع عمر رضي الله عنه لأبي هريرة من التحديث:
الوجه الأول: أن جرح عمر رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنه كذبٌ مختلق عليه:
قال الدارمي رحمه الله تعالى مخاطبًا الجهمي الذي نسب لعمر رضي الله عنه قوله: (أكذب المحدثين أبو هريرة): (وهذا مكذوب على عمر. فإن تَكُ صادقًا في دعواك فاكشف عن رأس من رواه، فإنك لا تكشف عن ثقة)([58]).
وهذا الكذب على عمر رضي الله عنه تداوله شيوخ الاعتزال والرفض، وتلقفه المصنفون عنهم وأثبتوه في كتبهم، ثم احتجّ به أولئك الطاعنون في حجية السنة النبوية مثل محمود أبو رية.
ومن ذلك ما نقله ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي قال: (وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا، غير مرضي الرواية، ضربه عمر بالدرة، وقال: قد أكثرت من الرواية! وأحر بك أن تكون كاذبًا على رسول الله صلى الله عليه)([59]).
يقول ابن الوزير: (قواعد العلم المتفق عليها تقتضي أن لا يقبل المتعارضان معًا، ولا يصح ذلك، وقد تعارض الثناء على أبي هريرة والذم له، أما الثناء عليه فإنه قد دخل في الثناء من الله عز وجل على الصحابة، وأثنى عليه غير واحد من السلف والخلف كما تبين في ترجمته من كتب الرجال بالأسانيد المعروفة، حتى أثنى عليه أئمة علم الرجال في الحديث من الشيعة كالحاكم والنسائي وابن عقدة وغيرهم، وصححوا أحاديثهم، ودونوها في كتبهم، وكذلك من احتج بحديثه من أهل البيت عليهم السلام والفقهاء كما يعرف ذلك من طالع فقههم، وأدلتهم فيها. وأما المعارض لهذا فجاء مقطوعًا كولد الزنى الذي لا يعرف له أب من طريق غير وافية بشروط الصحة عن الإسكافي، وكان بغداديًّا لا يقول بأخبار الثقات، دع عنك غيرها، ومقصده في كلامه القدح في الأخبار بالجملة، وسدُّ باب الرواية لو صح ذلك عنه. فلا بُدَّ على الإنصاف من معرفة رواة جرح أبي هريرة، والموازنة بين كل واحد منهم وبين أبي هريرة، فإن كان فيهم واحد دون أبي هريرة في فضله ونبله لم يصدق على من هو خير منه، وإلا لزم فيه ترجيح المرجوح على الراجح، وهو على خلاف المعقول والمنقول)([60]).
ويقول المعلمي: (وابن أبي الحديد من دُعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة، والإسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضًا في القرن الثالث، ولا يعرف له سَنَد، ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعليّ وعائشة وغيرهم، وإنما يتشبَّت بها من لا يعقل… ونحن قد لا نتهم الإسكافي باختلاق الكذب، ولكن نتهمه بتلقّف الأكاذيب من أفَّاكي أصْحَابه الرافضة والمعتزلة، وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة، فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإسكافي عمن تقدمه بزمان؟!)([61]).
ومما ينبغي تقريره: أن نسبة تكذيب أبي هريرة رضي الله عنه كما أنها لا تصحّ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهي لا تصح عن أحدٍ من الصحابة، لا سيما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي ورد نسبة ذلك إليه في بعض مصادر الشيعة والمعتزلة.
يقول أبو بكر الجصاص المعتزلي: (وحكى بعض من لا يرجع إلى دين ولا مروءة، ولا يخشى من البهت والكذب: أن عيسى بن أبان رحمه الله طعن في أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي عليه السلام يقول: «إنه يخرج من أمتي ثلاثون دجالًا»، وأنا أشهد أن أبا هريرة منهم. وهذا كذب منه على عيسى رحمه الله، ما قاله عيسى، ولا رواه، ولا نعلم أحدًا روى ذلك عن علي في أبي هريرة، وإنما أردنا بما ذكرنا أن نبين عن كذب هذا القائل وبهته وقلة دينه)([62]).
ويقول ابن الوزير: (ثم إني وجدت في “شرح النهج” للشيخ العلامة عبد الحميد بن أبي الحديد كلاما في جماعة من السلف لا يليق بمنصبه المنيف في العلم والإنصاف، وحمله على السلامة يوجب تنزيهه عنه، والقول بأن بعض أعدائه زاده في كتابه، فإنه ينبغي من العاقل العمل بالقرائن القوية في تصحيح الأخبار وتزييفها، ألا ترى أن فيه نسبة أبي هريرة إلى بغض علي وتعمد الكذب عليه، ووضع الأحاديث الباطلة عمدا في مثالبه؟! بل فيه عن علي عليه السلام أنه قال: ألا إن أكذب الناس -أو: أكذب الأحياء- على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة. فهذا ما يقطع العارف ببطلانه عن علي عليه السلام، وأرجو ألا تصح حكايته وتقريره عن ابن أبي الحديد)([63]).
ويقول المعلمي: (ومن الممتنع أن يكون وقع مِن عمر وعثمان وعليّ وعائشة أو واحد منهم رَمْيٌ لأبي هريرة بتعمّد الكذب أو اتهام به، ثم لا يشتهر ذلك ولا يُنْقل إلا بدعاوى مَن ليس بثقة ممن يعادي السنَّةَ والصحابَة كالنظَّام وبعض الرافضة. وعند أهل البدع من المعتزلة والجهمية والرافضة والناصبة حكايات معضلة مثل هذه الحكاية، تتضمّن الطعنَ القبيح في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعائشة وغيرهم، وفي كثير منها ما هو طعن في النبي صلى الله عليه وسلم، والحكم في ذلك واحد، وهو تكذيب تلك الحكايات البتة)([64]).
الوجه الثاني: اتهام أبي هريرة رضي الله عنه بالكذب: سبٌّ لصحابي، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب صحابته:
يقول الإمام الدارمي: (فكيف يستحل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يرمي رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب عن غير صحة ولا ثبت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي»([65])، و«أحفظوني في أصحابي»([66])، و«الله الله في أصحابي»([67])، و«من سب أصحابي فعليه لعنة الله»([68])؟! فأيُّ سَبٍّ لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من تكذيبه في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)([69]).
ويقول ابن الوزير: (قد تواتر عن أبي هريرة أنه كان أرفع حالا من هذه المنزله الخسيسة التي لا أسقط منها، فإنه لو كان لوطيًّا، أو مَجمعًا للفساد وأهله، لكان خيرًا له من مرتبة الزندقة في الإسلام، فإن تلك معصية لا تتعدَّى إلى غير صاحبها، والحاملُ عليها شدة الشهوة والشبق والخسة، وهذه معصية الحاملُ عليها بغض الله ورسوله وأمير المؤمنين([70])، ومضرتها دائمة للإسلام والمسلمين، ولا يمكن صدور مثل هذا من مؤمن البتة)([71]).
ولعل الطاعنين في أبي هريرة رضي الله عنه تفطنوا إلى أن ما أتوه في تكذيب أبي هريرة رضي الله عنه محض سِباب، فنسبوا إلى أبي هريرة رضي الله عنه نفس الحجة المنسوبة للكرامية، وهي أنهم يكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم لا عليه، ليلبسوا سبابهم لبوس النقد العلمي، يقول أبو رية: (كان أبو هريرة يُسوِّغ كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما دام لا يحلّ حرامًا ولا يحرم حلالًا فإنه لا بأس من أن يروى)([72]). واحتج أبو رية لزعمه ذاك بمرويات ساقطة([73]).
وما أحسن قول المعلمي في وصف أبي ريّة: (ثم راح يسبّ أبا هريرة رضي الله عنه ويرميه بما هو من أبعد الناس عنه. وهذا مما يوضِّح أن أبا ريَّة ليس بصدد بحثٍ علمي، إنما صدره محشوٌّ براكين من الغيظ والغِلّ والحقد، يحاول أن يخلق المناسبات للترويح عن نفسه منها، كأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل في أصحاب نبيه: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، ولا يصدّق بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأُمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين كما في ترجمته في فضائل الصحابة من صحيح مسلم)([74]).
الوجه الثالث: أن عمر رضي الله عنه ولى أبا هريرة رضي الله عنه، وائتمنه على أمور المسلمين، ولو كان كاذبًا عنده لما فعل ذلك:
جاء عن ابن سيرين: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بِعَشَرة آلَافٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اسْتَأْثَرتَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّ كِتَابِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَسْتُ عَدُوّ اللَّهِ وَلَا عَدُوَّ كِتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قَالَ: خَيْلٌ لِي تَنَاتَجَتْ، وَغَلَّةُ رَقِيقٍ لِي، وَأَعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ، فَنَظَرُوه فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَاهُ عُمَرُ لِيَسْتَعْمِلَه، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَه، فَقَالَ: أَتَكْرَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ طَلَبَ الْعَمَلَ مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْكَ: يُوسُفُ؟ قَالَ: إِنَّ يُوسُفَ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ، وَأَنَا أَبُو هُرَيْرة بْنُ أُمَيْمَةَ أَخْشَى ثَلَاثًا وَاثْنَيْنِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَفَلَا قُلْتَ: خَمْسًا؟ قَالَ: لَا، أَخْشَى أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَيُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُنْتَزَعَ مَالِي، وَيُشْتَمَ عِرضي([75]).
قال الدارمي: (وكيف يَتَّهِمُه عمر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستعمله على الأعمال النفيسة ويُولِّيْهِ الولايَات؟! ولو كان عند عمر كما ادعى المعارض لم يكن بالذي يأتمنه على أمور المسلمين، ويوليه أعمالهم مرة بعد مرة، حتى دعاه آخر ذلك إلى العمل فأبى عليه؛ حدثناه موسى بن إسماعيل، عن أبي هلال الراسبي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه)([76]). وهو الحديث المتقدم.
وهذه القصّة تدل دلالةً واضحة على أمانة أبي هريرة، بحيث إن عمر رضي الله عنه يسعى لتوليته مرةً بعد أخرى، وقد حاول أبو رية أن يجعلها دليلًا على ضد ذلك، فقال تحت عنوان: (سيرته في ولايته): (ونذكر هنا أن عمر قد ولاه على البحرين سنة 20ه كما روى الطبري، وبعد ذلك بلغ عمر عنه أشياء تخل بأمانة الوالي، فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي). ثم ذكر الرواية المتقدمةَ مبتورةً، ثم أورد رواية لا زمام لها ولا خطام من كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه، وهو من كتب الأدب التي تضمنت الغث والسمين، وقال: (وهذه الرواية أقرب إلى الصحة؛ لأنها تتفق مع حزم عمر وصرامته، وطبع أبي هريرة ومهانته، وقد ثبت أن عمر شاطره ماله كما شاطر غيره مثل أبي موسى الأشعري والحارس بن كعب بن وهب وغيرهما)([77]). فتأمل كيف يصحح الروايات ويضعفها بهواه!
يقول المعلمي بعد أن أورد حديث محمد بن سيرين المتقدِّم: (فقد تحقق بما قدمنا من الروايات الصحيحة أن المال الذي جاء به أبو هريرة لنفسه من البحرين كان من خيله ورقيقه وأعطيته، وأَخْذُ عمر له أو لبعضه لا يدلّ إلّا على ما قدَّمْنَا من الاحتياط، ثم يعطيهم خيرًا منه. ومما يوضِّح براءة أبي هريرة في الواقع وعند عمر: إظهاره المال، وعزم عمر على توليته فيما بعد، وامتناع أبي هريرة من ذلك)([78]).
والذي يظهر لي -والله أعلم- أنا أبا رية جعل نفسه حكمًا على أبي هريرة رضي الله عنه، لا أنه يبحث في موقف عمر رضي الله عنه منه، فمهما أتى به أبو هريرة من عذرٍ فليس مقبولًا عنده لشدّه حنقه عليه، مع أن الشأن ليس في قبول أبي رية لعذره أو عدم قبوله، وإنما الشأن في قبول الفاروق رضي الله عنه له، وإذ وجدناه قد ثبت عنه بالسند الصحيح أنه يقبل عذره ويعرض عليه الولاية مرةً أخرى فيأبى؛ كان ذلك دليلًا على ثقة عمر رضي الله عنه به، وسقوط ما يروى عنه من تكذيبه، وهذا هو المطلوب.
الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم -ومنهم عمر- لم يعاقبوا أبا هريرة رضي الله عنه بعقوبة من تعمّد الكذب، فدل ذلك على براءته منه:
إن تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الجرائم والموبقات، فلو قدّر أن أبا هريرة رضي الله عنه وقع في ذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم ليغضوا الطرف عنه، بل لعاقبوه بما يعاقب به من يقع في مثل هذه الجريمة، فلا يخلو إما أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه بريئًا من ذلك، أو يكون قد وقع فيه وسكت عنه الصحابة رضي الله عنهم، وفي ذلك نسبة الخيانة لهم.
يقول ابن الوزير: (ولو قدرنا صدور مثل هذا من قليل عقل لوقع منهم من التنكيل به والذم له وضرب الأمثال بكذبه والمناداة عليه في المحافل والمجامع ما يوجب تواتر ذلك عنهم فيه، ولما كفى أمير المؤمنين أن يقول ذلك مرة ولا ثنتين ولا ثلاثا حتى يتواتر. وفي أخبار عمر رضي الله عنه أنه قال: كيف وجدتموني؟ قالوا: وجدناك مستقيما، ولو زغت لقومناك، فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا زغت قوموني، ودع عنك الكثير الطيب من أخبارهم في ذلك، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم في خطابهم ووصفهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بالمعرُوفِ وتَنهَونَ عنِ المنكَرِ} [آل عمران: 110]، فكيف يمكن ظهور كذاب على الله ورسوله مستور بينهم، ثم لا يهتكون ستره ويشهرون فضائحه حتى يتواتر ذلك؟! والعادات جارية مستمرة بمثل هذا في كل زمان، ولو جوزنا أن أحدا يظهر في زمانهم مثل هذه الأكاذيب على الله وعلى رسوله ولا يتواتر عنهم مقابلته بما يستحقه من التنكيل والتكذيب، لجوزنا أنه قد كان من غير أبي هريرة مثل ذلك من المستورين المقبولين، ولم يقابل ذلك بشيء منهم البتة حتى خفي حالهم على أهل الإسلام)([79]).
ويقول: (فكما أنه لا يُصَدَّقُ من زعم أن أبا هريرة كان لوطيًّا مشهورًا في محافل الصحابة بذلك ولم يقتلوه ولم ينفوه؛ لا يصح أن يكون معروفا عندهم بتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثالب سيد المسلمين في عصره ولا يقتلوه أو ينفوه ولا يكذبوه وينكلوا به، وقد ذهب الجويني وغيره إلى أن تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر وردة)([80]).
ويقول رشيد رضا في ردّه على المنصّرين الطاعنين في أبي هريرة: (ومن الغريب أن أبا هريرة أغضب مروان بن الحكم الأموي -الذي كان أمير المدينة، ثم صار أمير المؤمنين- وعرّض أمامه تعريضًا يقرب من التصريح بأن عشيرته هي التي تفسد على المسلمين أمرهم، ولم يجد مروان كلمة يقولها فيه إلا حكاية قول من قال: أكثر أبو هريرة. ولما جبهه بتذكيره بنفي النبي صلى الله عليه وسلم لوالده -الحَكَم- من المدينة لم يعد إلى تلك الكلمة ولا غيرها، ولو وجد فيه مطعنًا لما قصر في التشنيع عليه به([81]).
وقد ورد أن مروان امتحنه لعله يعثر عثرة يؤاخذه بها([82])، فيا ليت شِعري، ماذا كان يقول هذا الطاعن لو نُقِلَ أن أبا هريرة غيَّر أو بدَّل أو زاد أو نقص في الأحاديث التي حدث بها مروان؟ -وإذًا لعاقبه مروان وشهر به حتى لا يقبل أحد حديثه- أو لو طعن في دينه وإيمانه غير مروان؟ بل ماذا يقول هو وسائر دعاة النصرانية لو نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم طرده كما طرد المسيح عليه السلام بُطرُس وسماه شيطانًا وهو كبير تلاميذه ورسله؟!)([83]). ثم نقل نصوصًا من الإنجيل في ذلك.