French | English | Thai (ภาษาไทย) | Shqipe | Türkçe | Indonesian | Tagalog | اردو | عربي | فارسي
 
 
القائمة البريدية
أدخل بريدك الإلكتروني من أجل الاشتراك معنا في القائمة البريدية
عداد الزوار
المتواجدون الآن على الموقع الرئيسي :

( 1291 )



















شبهات وردود
    أرسل لصديق

إغلاق النافذة

المقالات --> المادة المختارة

الكتاب الذي هم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته (2)

 

أضيفت في: 15 - 3 - 2023

عدد الزيارات: 402

المصدر: جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور

فلا جرم أن كان الكتاب المعزوم عليه يتضمن التحذيرَ من شيء سيقع، مثل النص على أن أبا بكر هو الذي يلي أمر المسلمين، أو النص على كيفية تعيين الخلفاء للأمة، وقاعدة البيعة، فإن الخلاف في ذلك قد جر فتنًا على المسلمين نشأت من اختلاف في أدلة الاجتهاد. قال المازري في المعلم: "وقد قال بعضُ العلماء: الأظهر عندي أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - أن ينص على الإمامة بعده لترتفع بنصه عليها تلك الفتن العظيمة التي منها حربُ الجمل وحرب صفين. وهذا الذي قاله غير بعيد".  ولا شك أن المهاجرين والأنصار كانوا يومئذٍ في حال حيرة في مصير أمرهم بعد وفاة نبيهم.

ويُحتمل أن يكون أراد أن يكتب لهم كتابًا في إعادة التصريح بأن الإيمان لا ينقضه التقصيرُ في الأعمال البدنية، فإن تكفير المسلمين بعضهم بعضًا قد ابتلاهم بفتن عظيمة، مثل فتن الخوارج والمعتزلة وغيرهم الناشئة عن اعتقاد تكفير مرتكب الكبيرة حتى أفضت إلى الطعن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكفير بعضهم كثيرًا منهم. وآل هذا إلى أن ترمي طائفة مخالفيها بتهمة الخروج عن حظيرة الإسلام، فتستخف بحقوقها ودمائها، ولا تلبث أن تمتشق السيوف بين الطائفتين، حتى كاد أن ينفرط عقد الجامعة الإسلامية. ومني المسلمون بفتن عظيمة عملية وفكرية من جراء مصيبة تكفير بعضهم بعضًا قد شهد بها التاريخ.

أو يكون قد أراد أن يبين للأمة وجوب استمرارهم على ما كانوا عليه في حياة الرسول من الانقياد وإعطاء زكاة الأموال ليسلموا من فتنة الارتداد التي طلع قرنها بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتقاد قبائل العرب أن الطاعة لا تجب بعد الرسول، كما قال الحطيئة:

أَطَعْنَا رَسُولَ الله إِذْ كَانَ بَيْنَنَا … فَيَا لَعِبَادِ الله مَا لأَبِي بَكْرِ؟

ومن المحتمل القريب أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكتب لهم وصية بملازمة كتاب الله وسنة رسوله، وتذكر ما سبق من هديه وإرشاده. فقد ثبت في الصحيح أنه أوصى قبيل وفاته بكتاب الله، وثبت أنه أوصى بالصلاة وما ملكت أيمانهم. ثم قد يكون عزم رسول الله على هذا الكتاب ناشئًا عن إذن إلهي بوحي، وقد يكون عن اجتهاد منه بناءً على المختار من أقوال علمائنا بجواز الاجتهاد للنبي ووقوعه منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وأيًّا ما كان الغرضُ الذي هَمَّ رسول الله بكتابته، وأيًّا ما كان الباعث الذي دعا رسول الله إلى ذلك، فقد عدل عنه وتركه، وقال لهم حين أعادوا عليه: "ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه". فإن كان عزمه الأول ناشئًا عن وحي، يكون قوله الثاني دالًّا على أن الله نقله من ذلك العزم إلى ما هو خير للأمة، فيكون نسخًا للإذن بالكتابة. وإن كان ناشئًا عن اجتهاد مستند إلى ظواهر الأدلة والأحوال، فالله صرفه عنه بوحيه إليه ما هو خير لأمته في علم علام الغيوب، أو غيَّر اجتهادَه بلائحة أدلة أخرى أظهرت لرأيه ما هو خير لأمته في ترك ما عزم عليه.

وجعل الله اختلاف الحاضرين في الأمر سكينة لنفس رسول الله - عليه السلام - لئلا يبقى له شك في نفع العدول عن ذلك الكتاب. وإن من أول منافعه إزالة الاختلاف بين الحاضرين في شأنه.

بقي علينا أن نبين وجهَ تفضيل العدول عن الكتاب، وجامع القول في ذلك أن الله في تلك الفترة أوحى إلى رسوله بشارة بأن أمته لا تضل، وأن ما يعرض لها من النوائب إنما هو سنة الله في الأمم، وأن تلك العوارض لا تلبث أن تنقشع، وأن كتابه الذي عزم عليه تحف به مصالح، وأن تركه يجلب مصالح أكثر من مصالح كتابته. فإنه إن كتب لهم بشيء خاص ربما توهموه أولَى من غيره فحرصوا على تحقيقه وفرطوا فيما سواه، فيفضي ذلك إلى تضييع أكثر الواجبات والتهاون فيها.

وهناك حكمةٌ أخرى عظيمة تحصل من مجموع القصة، تبين القصدَ إلى الكتابة والقصدَ إلى الإعراض عنها، حتى لا يُشْكِلَ وجهُ تأخر الأمر الإلهي أو الاجتهاد بالعدول عنه إلى ما بعد التصريح بالعزم عليها. وذلك أن التصريح بالعزم عليها قد أوقع في نفوس الحاضرين ومَنْ يبلغه ذلك من الأمة أن شأنًا مهمًّا توجهت إليه عناية رسول الله في أحرج ساعاته ثم لَم يبينه، فتبقى في نفوسهم لهفةٌ على بيانه لو سمح به، فتنبعث همةُ كل صاحب همة، واجتهادُ كل مجتهد، وتدبيرُ كل مَنْ يلي أمرَ الدعوة، إلى توسم أشد الأمور مصلحة للمسلمين، وأشدَّها درءَ مفسدة عنهم، فيفرغوا في تحصيله وتطلبه جهودهم وتفكيرهم، عساهم أن يصادفوا مرادَ الرسول - عليه السلام -، فيكون ذلك باعثًا على الاهتمام بمعظم مصالح المسلمين وذودُ معظم ما يُتَّقَى منه تطرقُ الفساد إليهم.

وكلٌّ ينسج على منواله، فالعالِمُ الفقيه يستفرغ جهدَه لاستنباط أحكام أدق الأحوال العارضة للأمة عساه أن يصادف ما عزم رسولُ الله على بيانه من الأحكام. ألا ترى أن ابن عباس كان يقول: "الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم"؟

والجدلي المتكلم ينافح عن عقيدة الإسلام بأوضح الأدلة النافية للشبه خيفة أن تزلزل عقائد المسلمين لعله أن يوافق مرادَ رسول الله مما ينفي الضلالة عن الأمة.
وولاة الأمور ونصحاء الأمة يتوخون في سياسة الأمة أفضلَ المصالح، ويتقون مسارب التأخر والانحطاط خشية إضاعة بعض ما اؤتمنوا عليه من حقوق الأمة، أو الظهور في مظهر قلة الكفاءة للقيام بأعباء الخلافة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كل بحسب دائرة تصرفه فيما وكل إليه من مصالح المسلمين.
والوعاظ المرشدون يهيئون للدخول إلى مداخل القلوب أفصحَ الأقوال وأقربها إلى فهم العامة من الموعظة الحسنة. وسائر أفراد الأمة ممن يعلم ذلك يَزِنُون أحوالَ معاملتهم في جماعاتهم بميزان ما حدده لهم الشرع، خشيةَ أن يضلوا في مزالق تفرق كلمة الأمة، فيكونوا ممن أراد الرسولُ التحذيرَ منهم، ويبعثهم على الاستشهاد من أهل العلم فيما يُشكل عليهم وجهُ الْمخلَص منه.

فترى أيها اللبيب كيف يكون التفكُّرُ في تلك الساعة الرهيبة التي بدا فيها عزمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كتابة الكتاب وإعراضُه بعد ذلك عنها، دافعًا عظيمًا لقادة الأمة إلى التألب على جلب مصالحها ودرء مفاسدها، وإن اختلفت مناحي قيادتهم، ومظاهر نصيحتهم، وللأمة نفسها بحسب مبالغ علمها في معاملتها، وفي الالتفاف حول علمائها وقادتها.

واستبان لك أنه يحصل من الإيماء إلى أهمية الكتاب الذي يعصم من الضلال، ومن الإعراض عن كتابته، نفسُ الحكمة الحاصلة من عدم تعيين ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، والصلاة الوسطى.

ثم إنك تجد نفسَك قد أفضت إلى مرتبة أخرى من العلم، وهو أن كانت وصيةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عزم على إثباتها ثم أعرض عنها، مناسِبَةً لعظمة شأنه، وعلوِّ مقداره، وعموم شريعته ودوامها، وهو أن كانت حركةً في سكون، وبلاغةً في سكوت، وإطنابًا في إيجاز، ففاقت بذلك سائرَ وصايا الأنبياء والحكماء، وناسبت عزةَ عنت الأمة عليه، وحرصه عليها، ورأفته ورحمتَه بها. ونجدك الآن قد اندفعت عنك الوجوه: الأول والثاني والرابع والخامس من الإشكال.

فأما قول الرسول - عليه السلام -: "أكتب لكم كتابًا"، فيجوز أن يكون إسناد الكتابة إليه مجازًا عقليًّا، أي آمر مَنْ يكتب لكم ما أقوله. ويجوز أن يكون الإسناد حقيقيًّا على ظاهره، ويكون فيه إظهار معجزته وهي صدور الكتابة من الأمي. وقد جوز أبو الوليد الباجي وجماعةٌ من المحققين أن يكون رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد كتب في صحيفة صلح القضية بيده حين امتنع علي بن أبي طالب أن يمحو سطر: "محمد رسول الله". واستند الباجي إلى الحديث الذي في صحيح البخاري. ورأوا ذلك لا ينافي الأمية بعد تقررها، إذ يكون صدور ذلك العلم الجم منذ وقت البعثة إلى يوم القضية من أمي معجزة عظيمة، ويكون صدور الكتابة بعد ذلك ممن تحقق الناس أميته معجزة أخرى. وبهذا زال الوجه الثالث من الإشكال.

من أجل ذلك ظن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتجشم الكتابةَ في تلك الحالة ليؤكد شيئًا مما تضمنه القرآن، فأحب عمر أن يكفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلفة، ويسمعه أنهم على العهد في الوقوف عند كتاب الله، فقال: "إن رسول الله قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله". قال عياض في الإكمال: "وقيل قد يكون امتناع عمر إشفاقًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من تكليفه في تلك الحال إملاء كتاب، ولذلك قال: إن النبي اشتدَّ به الوجع، حسبنا كتاب الله"،  أي فيكون قوله: "إن رسول الله غلبه الوجع" تعليلًا لقوله: "لا تقربوا إليه اللوح والدواة، وقوله: "حسبنا كتاب الله"، أي: لا يفوت شيءٌ من الهدى بترك هذا الكتاب؛ لأنا معتصمون بكتاب الله. قال المازري في المعلم: "قد فهم عمر أمر النبي أنه أمرٌ غير جازم بقرائن دلت على عدم الوجوب، ثم رأى أن قد يتطرق به المنافقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام بكتاب يكتب في خلوة، ويضيفون إليه ما يشبهون به على الذين في قلوبهم مرض، فلذلك قال عمر: "حسبُنا كتابُ الله"، فكان جوابًا للفريق الذين ألَحُّوا في تحصيل الكتاب.

وبهذا حصل انكشافُ الوجهين السادس والسابع من وجوه الإشكال.

ثم إن عمر قد علم أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن تضلوا بعده"، ما يريد به إلا نفيَ الضلال في الغرض الذي يتضمنه الكتاب من الأمور التي عسى أن تكون قد بقيت مجملة. فالضلال المنفيُّ هو ضلالُ الحيرة في محمل ذلك المجمل بحيث يصير مبيَّنًا، فرأى عمر أن هذه المصلحة التي تحصل من كتابة الكتاب قد يفي بها اجتهادُ مجتهدي الأمة في تبيين ذلك المجمل بالبحث عن الأدلة المبيِّنة، أو في ترك العمل بالمجمل والمصير إلى دليل آخر يخلفه من نص أو قياس.

فمآل المصلحة الحاصلة من الكتاب أن أراح مجتهدي الأمة من تعب الاجتهاد في محمل ذلك المحمل، فرأى عمر أن تلقي الأمة هذه المزية من رسولهم في حال اشتداد المرض عليه بإراحة الرسول عليه الصلاة والسلام من عناء الكتاب والإملال، أوجب لشكر عنايته - صلى الله عليه وسلم - بهم، فقال: "إن رسول الله قد غلبه الوجع"، و"حسبنا كتاب الله". وليس في ذلك عصيان لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم.

 


سجل تعليقك