French | English | Thai (ภาษาไทย) | Shqipe | Türkçe | Indonesian | Tagalog | اردو | عربي | فارسي
 
 
القائمة البريدية
أدخل بريدك الإلكتروني من أجل الاشتراك معنا في القائمة البريدية
عداد الزوار
المتواجدون الآن على الموقع الرئيسي :

( 10696 )



















شبهات وردود
    أرسل لصديق

إغلاق النافذة

شبهات وردود --> المادة المختارة

الرد على أكذوبة العصر: هل فعلا تأخر تدوين الحديث إلى زمن البخاري؟

 

أضيفت في: 28 - 6 - 2021

عدد الزيارات: 442

المصدر: عامر الخميسي

الشبهة: الرد على أكذوبة العصر: هل فعلا تأخر تدوين الحديث إلى زمن البخاري؟



الجواب :

أصواتُ نشاز تتحدَّث أن هناك فترةً زمنيةً بين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم، كلُّها ضائعةٌ لم تُوثَّقْ، وأنَّ ما كتَبَه البخاري عبارة عن تأليف من رأسِه لوجُود حَلَقاتٍ مُفْرغةٍ بينه وبين العصر النبوي، وهذا جهل وغباء من الكذَّابين الجُدُد مُنْكري السُّنَّة؛ فتدوينُ الحديث وكتابتُه بدأ منذ العهد النبوي، فقد حضَّ النبي صلى الله على وسلم على الكتابة، وثبَت في السُّنَّة الحَضُّ على كتابة العِلْم وتدوينه، فعندما خطب النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، قام أبو شاه رجلٌ من أهل اليَمَن، فقال: اكتبُوا لي يا رسول الله.

وقد سأل الأوزاعي: ما قوله: اكتُبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخُطْبة التي سَمِعَها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قيِّدُوا العِلْم بالكِتابة)).

وروى رافع بن خديج رضي الله عنه حديثًا يقول فيه، قال: قلنا يا رسول الله، إنا نسمَعُ منكَ أشياءَ، أفنكتُبُها، قال: ((اكْتُبُوا ولا حَرَجَ))، ونحوه من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعًا، وأسند الخطيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجُلٍ من الأنصار لا يحفَظُ الحديث: ((استَعِنْ بيمينِكَ)).

وفي أحاديث عبدالله بن عمرو من مسند الإمام أحمد نجد أربع روايات صحيحة تُثبِتُ هذه الكتابة، منها قوله: كنت أكتُبُ كلَّ شيء أسمَعُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حِفْظَه، فنهتْني قريش، فقالوا: إنك تكتُب كلَّ شيء تسمَعُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ، يتكلَّم في الغَضَب والرِّضا، فأمسكْتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اكْتُبْ، فوالذي نفسي بيده ما خرَج منِّي إلَّا حَقٌّ))، وفي رواية: ((ما خَرَجَ منه إلَّا حَقٌّ))، وفي رواية ثالثة: ((فإنه لا ينبغي لي أن أقولَ في ذلِكَ إلَّا حقًّا))، وفي الأخيرة من الرِّوايات الصحيحة: ((.... فإنِّي لا أقول فيهما إلا حقًّا)).

وقد ورد عند أبي داود والترمذي، وأحمد في المسند بأسانيد صحيحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرَ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إلَّا عبدالله بن عمرو، فإنه كان يكتُب، وكنت لا أكتُب"، وفي هذا دليل على أنه كان يكتُبُ كلَّ ما سمِعَه من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقُوم بتدوينه، وهذه الرِّواية لم ينفرِد بها البخاري؛ بل ثبَتت أيضًا بأسانيدها الصحيحة المتصلة في سُنَن أبي داود والترمذي، ومسند أحمد، وهي ثابتة في صحيفة همام بن منبِّه التي نقلها مُشافهةً من سَماعِه لأبي هريرة، وقد بلغ عدد أحاديث صحيفة عبدالله بن عمرو ألفَ حديثٍ، وكان يُسمِّيها بالصادقة، وقد انتقلت إلى حفيده عمرو بن شعيب، وروى الإمام أحمد في مسنده جُزءًا كبيرًا منها؛ بل لربما استوعبها كاملةً في مسنده، وروى كذلك البخاري ومسلم بعضًا منها، وتناقَلَها أولادُه وذريَّتُه من بعده، ونالت جانبًا كبيرًا من الرعاية والحِفْظ والتداوُل والنَّقْل والدِّراسة.

وقد أمَر الرسولُ عليه الصلاة والسلام بتدوين سجلٍّ يُحصِي أعْداد المسلمين لحاجته لذلك، وقد بلَغ عددُهم ألفًا وخمسمائة، ودوَّن الصحابة بأمره الكثيرَ من سجلَّات الحروب؛ حتى يتمَّ توزيع الغنائم بشكْلٍ مُنظَّمٍ، وهناك قوائم مدوَّنة خاصة بالحُرُوب ورسُل الآفاق، وعقود العِتْق والمكاتبات، والدِّيات والجنايات والحُدُود، فلو بحثنا سنجد كُتُبًا كثيرةً دُوِّنَتْ في عهده صلى الله عليه وسلم تحتوي على الكثير من أحكام الإسلام وأسرار التشريع ومقاصد الدين، وقد جمَعَ كلَّ تلك الكُتُب ابن طُولُون الدمشقي المتوفَّى سنة 953 هــ في كتابه "إعلام السائلين عن كُتُب سيِّد المرسلين"، وكتب في هذا غيرُه من علماء الأُمَّة؛ كابن سعد، والقضاعي، وابن عساكر، والسُّهيلي، وهذا يُعزِّز لدينا أن التدوين ثابِتٌ في عهد النبوة، ولا غُبارَ على ذلك، ولم يُشكِّكْ فيه إلا زُمْرةٌ ظهروا في عصرنا، جُلُّ همِّهم إنكارُ السُّنَّة.

ولقد ثبَت يقينًا وصُولُ كثيرٍ من كتب النبي صلى الله عليه وسلم، وعثَر على بعض النسخ الأصلية التي كُتبت في حياة الرسول، فقد بوَّب أبو عبيد بابًا في كتاب "الأموال" باسم "باب كُتُب العهود التي كتبها الرسول وأصحابه لأهل الصلح".

وروى بإسناده الصحيح المتصل نصوصَ سبعةِ كتبٍ، وفعل قريبًا منه ابن زنجويه في إثباته كتب العُهُود التي كتَبها الرسول لأهل الصُّلْح، ولا تزال كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي وهرقل والمقوقس وكسرى، موجودة في المتاحف، وقد جاء من فعل حولها الدراسات، وأثبَتَ نُصوصَها وبيَّن مصادرَها، وفيها الكثير من التعاليم وأحكام الشَّرْع، وثبَتَ أيضًا كِتابُه لعمرو بن حزم الذي فيه الكثير من أصول الإسلام وطريق الدعوة إليه، وعبادة الله وحده وأنْصِبة الزكاة والجزية والدِّيات، وكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لآل الخطاب في الصَّدَقات ونحوها، وصحيفة علي بن أبي طالب في حدود المدينة المنورة وتخوم الأرض، وما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه قبل موته بشهر في جلد الميتة، وكتابه صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر، وفيه أصول الإسلام العامة، وأهم المحرَّمات، فهذه الكُتُب كلُّها كُتِبَتْ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبأمرٍ منه وباسمه، وتناقلتها الأجيالُ بالأسانيد المتَّصلة حتى وصلت إلينا، فكيف يأتي مَنْ يتوهَّمُ بحدْسِه الضعيفِ أن الكتابة والتدوين لم يكن أبدًا في عصر الرسالة، وأن هناك حقبةً ضائعةً اكتشفَها هذا الشخصُ ودلَّنا عليها؟!

إن مثل هذا كذبابة حاولَتْ أن تسدَّ بجناحها عينَ الشمس أو كناطِحِ صخرةٍ ليكسرها فعاد بكَسْر رأسِه.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا أشدَّ الحرص على التخصُّص في مسألة الكتابة وتعلُّمها، فقد أمر الأسْرَى في بَدْر أن يُعلِّموا الصحابةَ القراءةَ والكتابةَ، وأجْرتُهم على ذلك إطلاقُهم، وأمر زيد بن ثابت أن يتعلَّم كتاب يهود وبلغ عدد كُتَّابه كما ذكر ذلك ابنُ كثير في "البداية والنهاية"، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" إلى ثلاثة وعشرين كاتبًا، وأوصَلَهم بعضُ المؤرِّخين إلى ستة وعشرين كاتبًا، وقد ذكر محمود شاكر في تاريخه أنهم اثنان وأربعون، وهناك كِتابٌ كامل تحت هذا العنوان "كُتَّاب الوحي" يقع في حوالي ستمائة صفحة لبعض المعاصرين، ذكر فيه كُتَّاب الوحي، وعهود كتابتهم، فلْيُرجَع إليه، وقد كان لكُلِّ مهمة كُتَّاب، فمنهم المتخصِّص في كتابة الوحي، ومنهم كاتب رسائل الملُوك، ومنهم كاتب التشريعات والمعاملات، ومنهم كاتب قوائم المقاتلين وشؤون الحرب، ومنهم كاتب العُقُود، ومنهم الاحتياط والنواب.

وقد اهتمَّ الصحابة بتدوين السُّنَّة، وقد ثَبَت كتاب أبي بكر لأنس رضي الله عنهما، وفيه الصَّدَقات المفروضة والزكاة والدِّيَات، وهو مرويٌّ في غير البخاري؛ كسُنَن أبي داود، وجامع الترمذي، وهو كتاب شهير بلغ حدَّ الاستفاضة، وكتاب عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في القضاء، وهو كتاب جليل في آداب القضاء، وصحيفة عبدالله بن عمرو، وكتَبَ زيد بن ثابت كتابًا في الفرائض، وكتاب سعد بن عبادة ثابتٌ عنه، مرويٌّ بأسانيد صحيحة، وكذلك كتاب سعد بن معاذ، وفي كتاب "حجية السنة" للدكتور شواط، عشرون نموذجًا مثبتة صحيحة، لا غُبار عليها لكتابات الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وعبدالله بن مسعود، والمغيرة بن شعبة، والحسن بن علي، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وسمرة بن جندب، وسعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي رافع، وكعب بن عمرو، وأبي هريرة، وجابر بن عبدالله، ورافع بن خديج، فكُلُّ هؤلاء ثبَتَتْ لهم نُقُولات وتدوينات في الشريعة المطهَّرة نقلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي كتاب "التوثيق المبكِّر للسنة والحديث"، للدكتور امتياز أحمد، وفي كتاب "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، للدكتور محمد حميد الله، جميع الكتب التي كُتِبَت في عهد الرسول موثَّقة مثبتة، وسنقف طوفانًا في وجه كل مُشكِّك للتدوين قبل البُخاري.

وبالتتبُّع والاستقراء ثبَت من طُرُقٍ مُتعدِّدة أن هناك اثنين وخمسين صحابيًّا، كتبُوا الحديث، أشهرهم عبدالله بن عمرو، وقد كتب التابعون ما سمِعُوه منهم، فهذا أبو هريرة روى عنه ثمانمائة من التابعين وأشهرهم عشرة منهم همام بن مُنبِّه صاحب الصحيفة التي وصلتنا كاملةً، وأربعة عشر كتبوا عن جابر بن عبدالله، وهو نفسه من المؤلِّفين الأوائل، ومن كَتَبة الوحي، وتسعة كتبُوا عن ابن عباس الذي كانت كُتُبُه وقْرَ بَعِيرٍ.

على سبيل المثال ممَّن كتب عن الصحابة همام بن مُنبِّه، واشتَهرت صحيفتُه بصحيفة همام بن مُنبِّه، وبلغت حدَّ الشُّهْرة، وثبتَت صحَّتُها ثبُوتًا يقينيًّا؛ إذ إن بين كاتبها وبين النبي صلى الله عليه راويًا واحدًا، وهو أبو هريرة، وقد طُبِعَتْ هذه الصحيفة عدة مرات، وتمَّ تبيينُ أصولها ومصادرها ورجالها، وشُرِحَت شرحًا وافيًا، وقد حقَّقَها أكثرُ من عالمٍ وعلى فترات متتالية؛ نحو: محمد حميدالله، ورفعت فوزي عبدالمطلب، وعلي الحلبي، وطُبِعَتْ في دمشق وباريس وبيروت، وهي موجودة بين أيدينا مثبتة مصادرها، ولا يمكن أن يتطرَّقَ أدنى شَكٍّ في نسبتها لسببين:

الأول: وجود الصحيفة بالسَّنَد الصحيح إلى مؤلِّفها في نسخها المخطوطة.

الثاني: تتابُع الحُفَّاظ على الرِّواية من الصحيفة في مصنَّفاتهم؛ إما على جهة الاستيعاب كما فعل الإمام أحمد في مُسْنده، أو بطريق الانتقاء كما فعل البخاري ومسلم والبغوي وغيرهم.

ومن خلال دراسة عهد التابعين نجد ثلاثة وخمسين ممَّن تخصَّصُوا في نقل الحديث وكتابته وتدوينه، وتطوَّر الأمرُ في عَهْد صِغارِ التابعين، فبلغ عددُهم اثنين وخمسين ومائتين، وبهذا يتَّضِح لكُلِّ ذي عَقْلٍ اتصالُ الكتابة وتدوينها واستمرار نموِّها إلى أن تبلورت فكرةُ التقسيم والتبويب والإحاطة الشاملة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَنِه وهَدْيه لدى الإمام البخاري، وقد ذكر الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه "دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه" المراحل التي مرَّ بها التدوين في عصوره الأولى، فلْيُرْجَع إليه.

 فكتابة الحديث وتدوينه بدأت من عصر الرسالة، وتناقَل الناسُ بعضًا ممَّا كُتِب، فكيف يقف أحد في القرن الخامس عشر بشُبْهة يُردِّدها، وهي أنها ضاعَتْ عشرات السنين، ولم توثَّق، ويأتي بالأكاذيب الملفَّقة والألاعيب الباطلة، زاعمًا أن السنة لم تدوَّنْ قبل البخاري؟!

وفي عهد التابعين تمَّ تدوين كثيرٍ من الكُتُب، فقد نَشِطَ تلميذان من تلاميذ ابن عباس، وهما سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، فكتَبا عنه، واشتَهرت بعد ذلك صحيفتاهما وعُرِفتا بصحيفة سعيد بن جبير، وصحيفة مجاهد بن جبر، ونشِط أيضًا أبو الزبير محمد بن مسلم المكي أحد أشهر وأضْبَط تلاميذ المحدِّث والراوية الكبير جابر بن عبدالله، فكتب عنه صحيفةً عُرِفَت باسمه، وهناك صحيفة أيوب بن أبي تميمة السختياني، وصحيفة عروة بن الزبير، وصحيفة خالد بن معدان، وصحيفة أبي قلابة، وصحيفة الحسن البصري، وغير ذلك من الصُّحُف التي كانت بمثابة الأساس لما كُتِب في عهد التابعين.

 ويتحدَّث كثيرٌ من الكُتَّاب والمؤرِّخين أن هذه التدوينات كلها كانت فرديةً، يقوم بها كلٌّ على حدة؛ لكن التدوين الرسمي للحديث كان في زمن عمر بن عبدالعزيز، لكن في الحقيقة كان التدوين الرسمي قد بدأ قبل ذلك في زمن والده عبدالعزيز بن مروان الذي كان واليًا على مصر؛ فقد كتب إلى مُحدِّث حمص التابعي الجليل كثير بن مُرَّة الحضرمي، الذي أدرك سبعين بَدْريًّا من الصحابة - أنْ يكتب إليه بما سمِعَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه بما سمِعَه منهم ليأتي بعد ذلك عمر بن عبدالعزيز، فيكون ما أمر به من تدوين عبارة عن امتداد لمشروع ضخم بدأ قبل ذلك في زمن والده.

 صحيح أن النهي ورَد عن كتابة الحديث في أول الإسلام، ولكن كان ذلك خوفًا على اختلاطه واشتباهه بالقرآن، وليأخُذ القرآنُ مجالَه الرَّحْب في صدورهم وسطورهم، ثم نُسِخ الأمرُ بعد ذلك، بل أصبح من المندوب تقييد العلم وكتابته، ولا أشرف من العلم الذي يتلفَّظ به الرسولُ عليه الصلاة والسلام، والدليل على نسخ النهي ما ورد من أحاديث صحيحة ثابتة؛ كقوله: ((اكتبُوا لأبي شاهٍ))، وإذنه لعبدالله بن عمرو في كتابة كل ما يصدُر عنه ويقوله، وصحيفة الإمام علي التي احتوت على العقل وفِكاك الأسير، وألَّا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ.

ولأن الصحابة كانُوا يعتمدون على حفظهم، وقد اشتَهر الحِفْظ السريع عن العصور السابقة، فهذا ابن عباس يحفظ قصيدة عمر بن ربيعة - التي حفظتها في ثلاثة أيام - حفظها هو من مرة واحدة في وقت سَماعِها، وكذلك الإمام علي، وزيد، وأبي بن كعب، ومعاذ، وغيرهم من الصحابة فكانوا لا يهتمُّون بالكتابة؛ لأن مَلَكةَ الحِفْظ عندهم حاضرةٌ؛ لكن لا يعني هذا أنه لم يكتُبْ أحدٌ ولم يهتمَّ بالتدوين أحدٌ منهم؛ بل اهتمُّوا به، وكانت أحاديثُ الإباحة ناسخةً للنهي، وهذا ما اتَّفق عليه علماءُ الأُمَّة، وأثبته ابنُ قتيبة، وابن القيم، وابن حجر، وأحمد شاكر من المعاصرين، ومعظم الأحاديث التي رُويَتْ في كُتُب الصحاح والمسانيد دوِّنت وكُتِبت بأقلام رواة العصر الأول من الصحابة والنبي صلى الله عليه بين ظهرانيهم، وبهذا نثبت أنَّ كل الأحاديث الموجودة في البخاري قد دوَّنها العلماء من قبله، ونَثَروها في مصنَّفاتهم، فلم يأتِ هو بأي حديث جديد؛ وإنما جَمَعَها ورتَّبها وقسَّمها وطرَّزَها بعناوينه الفقهية، وأثبَتَ طُرُقَها المتصلة منه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

وللعلم فقد اشتَهر أن أصحَّ الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وابن عمر هو أحد رواة الإسلام الخمسة الذين رووا فوق الألف، وهو فوق الضبط، والصحابة لا مَطْعَنَ عليهم في عدالتِهم، وممَّن أخذ عن ابن عمر تلميذُه نافع، وأخذ مالكٌ عن نافعٍ، ثم بدا لمالك أن يُؤلِّف "الموطَّأ" فاشتهَر به، ورحل إليه طلبةُ العِلْم من المشرق والمغرب، وجاءه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزُّهَّاد، والملوك والعامة، وانتشر موطَّؤه في الأرض حتى لا يُعرَف في ذلك العصر كتابٌ بعد القرآن أكثر انتشارًا واشتهارًا وحِفْظًا ودراسةً من "الموطَّأ"، وتلقَّتْه الأُمَّةُ بالقبول، وأصبح هو المرجعيَّة بعد القرآن، وأصبح له رواتُه وحَمَلتُه، وقد أخذه عنه أهلُ الشام والعراق، وكانت له العمد والأُسُس في الحجاز ومصر، وكان الشافعي إذ ذاك صغيرًا فرحَل إلى مالك، وحفظ موطَّأه في تسعة أيام، وقرأه عليه غيبًا ورواه عنه، وأخذه أيضًا عنه محمد بن الحسن حامل راية أبي حنيفة وناقل علمه.

 وقد صنَّف قبل البخاري ابن جريج، وابن أبي عروبة، وابن صبيح، ومعمر بن راشد، وعبدالله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وجرير بن عبدالحميد، وعبدالله بن وهب، والأوزاعي، والثوري، وحماد بن سلمة بن دينار، والإمام العلم سيد الحُفَّاظ الزُّهْري شيخ مالك، وابن إسحاق صاحب السيرة، ثم تلاهم كثيرٌ من أهل العلم الحفَّاظ إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يُفرِد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بمصنَّف، وكان ذلك على رأس المائتين، فصنَّف عبيدالله بن موسى مُسندَه، وصنَّف مسدَّد بن مُسرْهَد مُسندَه، وكذلك أسد بن موسى، ونعيم بن حماد الخزاعي، ثم جاء حُفَّاظٌ أجمع وأشمل فصنَّفُوا وأبدعوا؛ كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة، فما وصل الدور إلى الإمام البخاري إلا وقد نضِجَت الفكرة وتبلورت؛ فحدَّد الإمام البخاري معالم صحيحه وبوَّبَه ورتَّبَه، فأجاد أيَّما إجادة، وأبدع أيَّما إبداع، ووصل الذُّرْوة من الكتابة والإتقان والجمع والتبويب، فكتابُه عصارةٌ لكل الكُتُب التي قبله، ونِتاجٌ فكري ضَخْم جَمَعَ فيه حديثَ مَنْ كان قبلَه، وبهذا تسقُط شُبْهةُ الزَّمَن الضائع الذي لم يوثَّق، والتي يتحدَّث بها كُتَّاب قصدًا منهم للطَّعْن في صحيح البخاري وتشويه معالمه.

 فلو جاء أحدهم يقول: لقد تأخَّر مصنَّف البخاري إلى القرن الثالث، فنقول: نعم تأخَّر إلى القرن الثالث؛ لأن مولدَه تأخَّر، هذا هو السِّرُّ فقط، فماذا عليك فأصولُه كلُّها مدوَّنةٌ مكتوبةٌ من عصر الصحابة، ما زاد ولا خرم حرفًا ممَّا وثق من عصر الصحابة؟

 وبهذا تسقُط هذه الكذبة التي أخذَتْ حيِّزًا واسِعًا من الجَدَل، وأعلم يقينًا أنها لا تنطلي على كل طالب علمٍ مُنصِفٍ باحثٍ متجرَّدٍ؛ إنما يتأثَّر بها العوامُّ، وأنصافُ المتعلِّمين، وأهلُ الهوى، والزَّيغ والجهالة والعمى.

 وصدق الله ومَنْ أصْدَقُ من الله قيلًا: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق ﴾ [الأنبياء: 18].

 


سجل تعليقك