French | English | Thai (ภาษาไทย) | Shqipe | Türkçe | Indonesian | Tagalog | اردو | عربي | فارسي
 
 
القائمة البريدية
أدخل بريدك الإلكتروني من أجل الاشتراك معنا في القائمة البريدية
عداد الزوار
المتواجدون الآن على الموقع الرئيسي :

( 17030 )



















السنة
السنة --> الدفاع عن أهل السنة
السيرة --> الصحابة
    أرسل لصديق

إغلاق النافذة

المقالات --> المادة المختارة

(9)حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم

 

أضيفت في: 27 - 3 - 2008

عدد الزيارات: 28986

المصدر: موقع الاسلام اليوم


ثالثًا: نص وثيقة التحكيم:
بسم الله الرحمن الرحيم
1- هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب, ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما, فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2- قضية عليّ على أهل العراق شاهدهم وغائبهم, وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3- إنا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته, نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
4- وإن عليًّا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرًا وحاكمًا, ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظرًا وحاكمًا.
5- على أن عليًا ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله, أن يتخذا القرآن إمامًا ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورًا, وما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله الجامعة, لا يعتمدان لها خلافًا, ولا يبغيان فيها بشبهة.
6- وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه, وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7- وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما, ما لم يَعْدُوَا الحق, رضي به راضٍ أو سخط ساخط, وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
8- فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة, فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح, على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9- وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية, فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله.
10- وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
11- وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب, من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين, والله أقرب شهيد وكفى به شهيدًا, فإن خالفا وتعدّيا, فالأمة بريئة من حكمهما, ولا عهد لهما ولا ذمة.
12- والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل, والسلاح موضوعة, والسبل آمنة, والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13- وللحكمين أن ينزلا منزلاً متوسطًا عدلاً بين أهل العراق والشام.
14- ولا يحضرهما فيه إلاّ من أحبَّا عن تراضٍ منهما.
15- والأجل إلى انقضاء شهر رمضان, فإنْ رأى الحكمان تعجيل الحكومة عجّلاها, وإنْ رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
16- فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل, فالفريقان على أمرهما الأول في الحرب.
17- وعلى الأمة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر, وهم جميعًا يد واحدة على ما أراد في هذا الأمر إلحادًا أو ظلمًا أو خلافًا.
وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين, ابنا علي, وعبد الله بن عباس, وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب, والأشعث بن قيس الكندي, والأشتر بن الحارث, وسعيد بن القيس الهمداني, والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب, وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري, وعبد الله بن خباب بن الأرت, وسهل بن حنيف, وأبو بشر بن عمر الأنصاري, وعوف بن الحارث بن عبد المطلب, ويزيد بن عبد الله الأسلمي, وعقبة بن عامر الجهني, ورافع بن خديج الأنصاري, وعمرو بن الحمق الخزاعي, والنعمان بن عجلان الأنصاري, وحجر بن عدي الكندي, ويزيد بن حجية الكندي, ومالك بن كعب الهمداني, وربيعة بن شرحبيل, والحارث بن مالك, وحجر بن يزيد, وعلبة بن حجية, ومن أهل الشام, حبيب بن مسلمة الفهري, وأبو الأعور السلمي, وبسر بن أرطأة القرشي, ومعاوية بن خديج الكندي, والمخارق بن الحارث الزبيدي, ومسلم بن عمرو السكسي, وعبد الله بن خالد بن الوليد, وحمزة بن مالك, وسبيع بن يزيد بن أبجر العبسي, ومسروق بن جبلة العكي, ويسر بن يزيد الحميري, وعبد الله بن عامر القرشي, وعتبة بن أبي سفيان, ومحمد بن أبي سفيان, ومحمد بن عمرو بن العاص, وعمار بن الأحوص الكلبي, ومسعدة بن عمرو العتبي, والصباح بن جلهمة الحميري, وعبد الرحمن بن ذي الكلاع, وتمامة بن حوشب, وعلقمة بن حكم. كُتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين.

رابعًا: قصة التحكيم المشهورة وبطلانها من وجوه:
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم, وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها, فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبانٍ للأحكام على مضامينها, وقلّما تجد أحدًا وقف عندها فاحصًا محققًا, وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل, وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص؛ إذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي, بل هي باطلة من عدة وجوه:
1- أن جميع طرقها ضعيفة, وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجاله ثقات عن الزهري مرسلاً قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم, ودعوا إلى ما فيها, فهاب أهل العراق, فعند ذلك حكّموا الحكمين, فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري, واختار أهل الشام عمرو بن العاص, فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان, فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن, وأن يختارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وأنهما يجتمعان بدومة الجندل, فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح, فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت – وكان ذلك أول ما ظهرت- فآذنوه بالحرب, وردوا عليه: أن حَكَّم بن آدم في حكم الله عز وجل, وقالوا: لا حكم إلاّ لله سبحانه, وقاتلوا, فلما اجتمع الحكمان بأذرح, وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس, فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهما في رجال كثير, ووافى معاوية بأهل الشام, وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحدًا من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قالوا: لا نرى أحدًا يعلم ذلك, قال: فو الله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأراجعهما, فدخل عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله, أخبرني عما أسألك عنه, كيف ترانا معشر المعتزلة, فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال, ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمة؛ قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار, وأمام الفجار؛ فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك, حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو فقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأيًا, فيكم بقية المسلمين, فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك, فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش, فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد, فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى, رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم, وعلى أهل الغدر بغدرهم, قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وفوا, وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى, قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى, قال عمرو: يا أبا موسى, أأنت على أن نسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمة؟ فسمّه لي, فإنْ أقدر على أن أتابعك فلك علي أن أتابعك، وإلاّ فلي عليك أن تتابعني, قال أبو موسى: أسمي لك معاوية بن أبي سفيان فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا, ثم خرجا إلى الناس, فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو ومثل الذين قال الله عز وجل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا). [الأعراف: 175].
فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا).[الجمعة:5]. وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار. والزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة, ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة, كما قرر العلماء. وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث, وفي سنده أيضًا الواقدي, وهو متروك, وهذا نصها:.. رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه, وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص, فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا رأس الحول أذرح, وحكّموا حكمين ينظران في أمور الناس فيرضون بحكمهما, فحكّم علي أبا موسى الأشعري, وحكّم معاوية عمرو بن العاص, وتفرق الناس, فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل, واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كانوا معه, وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلاّ لله, ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه. ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمانٍ وثلاثين, واجتمع الناس إليهما، وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية, فقدّم أبا موسى فتكلم وخلع عليًا ومعاوية, ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع عليًا وأقر معاوية, فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما, وبايع أهل الشام معاوية في ذي القعدة سنة ثمانٍ وثلاثين. وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به, فالأول: وهو أبو مخنف لوط بن يحيى, ضعيف ليس بثقة, وإخباري تالف غالى في الرفض, وأما الثاني قال فيه ابن سعد: كان ضعيفًا, وقال البخاري وأبو حاتم: كان يحيى القطان يضعفه, وقال عثمان الدارمي: ضعيف, وقال النسائي: ضعيف.
هذه طرق قصة التحكيم المشهورة, والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة, أفمثل هذا تقوم به حجة؟ أو يُعوّل على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين, عصر القدوة والأسوة؛ ولو لم يكن في هذه الروايات إلاّ الاضطرابات في متونها لكفاها ضعفًا، فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها؟!
2- أهمية هذه القضية من جانب الاعتقاد والتشريع, ومع ذلك لم تُنقل لنا بسند صحيح, ومن المحال أن يطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها.
3- وردت رواية تنقض تلك الروايات تمامًا, وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصرًا بسند رجاله ثقات, وأخرجه ابن عساكر معلولاً, عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره فأْتِهْ فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا, ولا والله ما كان ما قالوا, ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه من النفر الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو عنهم راضٍ قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة, وإن يستغنِ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. وقد روى أبو موسى عن تورع عمرو ومحاسبته لنفسه, وتذكره سيرة أبي بكر وعمر, وخوفه من الأحداث بعدهما, قال أبو موسى: قال لي عمرو بن العاص: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما, لقد غُبنا وأخطآ أو نقص رأيهما, و والله ما كانا مغبونين ولا مخطئين ولا ناقصي الرأي, و والله ما جاءنا الوهم والضعف إلاّ من قبلنا.
4- إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه, فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي, فقد أخرج يحيى بن سليمان الجعفي بسند جيد, عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليًا في الخلافة, أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر, ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا وأنا ابن عمه ووليه أطالب بدمه؟ فأتوا عليًا فقولوا له: يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له, فأتوا عليًا فكلموه فلم يدفعهم إليه. فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية, رضي الله عنهما؛ فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختيار خليفة أو عزله, ويقول ابن حزم في هذا الصدد بأن عليًا قاتل معاوية لامتناعه عن تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام, وهو الإمام الواجب طاعته, ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة, لكن اجتهاده أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة, ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنه وقوته على الطلب بذلك, وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط, وفهم الخلاف على هذه الصورة –وهي صورته الحقيقية- بيَّن إلى أي مدى تخطئ الروايات السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين, إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية, ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما, وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان, وليس هذا من أمر الخلافة في شيء, فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية, وهي ما طلب إليهما الحكم فيه, واتخذا قرارًا في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة, فمعنى ذلك أنهما لم يفضا موضوع النزاع, ولم يحيطا بموضوع الدعوى, وهو أمر مستبعد جدًا.
5- إن الشروط التي يجب توافرها في الخليفة هي العدالة والعلم, والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح, وأن يكون قرشيًا, وقد توافرت هذه الشروط في علي رضي الله عنه, فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة –ولا شك في ذلك- وقد بايعه المهاجرون والأنصار؛ أهل الحل والعقد, وخصومه يقرون له بذلك, فقول معاوية السابق يدل عليه بأن «الإمام إذا لم يخل عن صفات الأئمة, فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه, لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة, فإن عقد الإمام لازم, لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه, ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلاّ مع القطع بلزومها, ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة، ولما استمرت له قدرة واستطاعة، ولما صح لمنصب الإمام معنى».
وإذن فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات؛ كل من لم يرض بإمامه خلعه, فعقد الإمامة لا يحله إلاّ من عقده, وهم أهل الحل والعقد, وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة, وهل علي -رضي الله عنه- فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يُقال إن الحكمين اتفقا على ذلك, فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه, شيء يوجب نقض بيعته, وما ظهر منه قط إلاّ العدل, والجد, والبر والتقوى والخير.
6- إن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة, وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة لهم, فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة, لاشك أن الأحوال ستزداد سوءًا, والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا!! ولهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.
7- إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حصر الخلافة في أهل الشورى: وهم الستة، وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك, فكان ذلك إذنًا في أن الخلافة لا تعدو هؤلاء إلى غيرهم ما بقى منهم واحد، ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلاّ سعد بن أبي وقاص, وقد اعتزل الأمر ورغب عن الولاية, والإمارة, وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان، فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره.
8- أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم: والسؤال: ما المسوّغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم, فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مسوّغ آخر حتى يُنسب عنهم ذلك, مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي, أعلم الناس بأمر الشام أنه قال: كان علي بالعراق يُدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يُدعى الأمير, فلما مات علي دُعي معاوية بالشام أمير المؤمنين, فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلاّ بعد وفاة علي, وإلى هذا ذهب الطبري, فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء, وعلّق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين؛ لأنه لم يبق له عندهم منازع, وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس كفئًا لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه, فإن فضل علي وسابقته وعلمه, ودينه, وشجاعته, وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة ومعروفة, كفضل إخوانه, أبي بكر وعمر, وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم, وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول, فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما», والنصوص في هذا المعنى كثيرة. ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك.
9- أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يُجعل لي من الأمر شيء فقالت: الحقْ فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون احتباسك عنهم فرقة, فلم تدعه حتى ذهب, فلما تفرّق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه, فلنحن أحق به منه ومن أبيه, قال حبيب ابن مسلمة: فهلاّ أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحق بهذا منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك, فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت, هذا الحديث قد يفهم منه مبايعة معاوية بالخلافة, وليس فيه تصريح بذلك, وقد قال بعض العلماء إن هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه.
وقال ابن الجوزي: إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده, ويرى ابن حجر أنما في التحكيم: دلالة النص على القولين الأولين أقوى. فقوله: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم.. دليل على اجتماع الكلمة على معاوية, وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وائتلاف.
10- حقيقة قرار التحكيم: ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة وإلى أهل الشورى ليس إلاّ أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان, ولم يكن معاوية مدّعيًا للخلافة, ولا منكرًا حق علي فيها كما تقرر سابقًا, وإنما كان ممتنعًا عن بيعته, وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون, مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقي واليًا فيها زهاء عشرين سنة, وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه «أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين»: قال أبو بكر محمد الطيب الأشعري –الباقلاني- في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه –علي بن أبي طالب- وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع حتى يكون الكتاب والسنة المجتمع عليهما يوجبان خلعه, أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما, أو إلى أن يبينا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة, ونص كتاب علي –عليه السلام- اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله -عز وجل- من فاتحته إلى خاتمته لا يجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه, ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان, وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق, وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما.. والكتاب والسنة يثبتان إمامته, ويعظمانه ويثنيان عليه, ويشهدان بصدقه وعدالته, وإمامته وسابقته في الدين, وعظيم جهاده في جهاد المشركين وقرابته من سيد المرسلين, وما خص به من القدم في العلم والمعرفة بالحكم, و وفور الحلم, وأنه حقيق بالإمامة, وأهل لحمل أعباء الخلافة.
11- مكان انعقاد المؤتمر: كان الموعد المحدد لاجتماع الحكمين –كما جاء في الوثيقة- في رمضان في عام 37هـ, إذا لم تحدث عوائق, في موضع وسط بين العراق والشام وهذا الموضع المختار هو دومة الجندل, في روايات موثقة, وأذرح في روايات أخرى دونها في الإتقان, ولعل لقرب المكانين من بعضهما أثرًا في اختلاف الروايات؛ إذ يقول خليفة بن خياط: ويُقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريب, وقد تم الاجتماع في الموعد المحدد بدون عوائق.
إن المكان الذي اجتمع فيه الحكمان هو دومة الجندل, وهذا بخلاف ما جزم به ياقوت الحموي من أن التحكيم حدث في أذرح, واستدل على ذلك ببعض روايات لم يبينها وبالأشعار, وبخاصة بشعر ذي الرمة في مدح بلال بن أبي بردة وهو قوله:


أبوك تلافى الدينَ والناسَ بعدما*** تشاؤوا وبيتُ الدينِ منقلعُ الكسرِ

فشدَّ إصارَ الدينِ أيامَ أذرحٍ*** وردَّ حروبًا قد لقحن إلى عقرِ

 

12- هل حضر سعد بن أبي وقاص اجتماع الحكمين؟ اجتمع الحكمان في موعدهما المحدد, ومع كل واحد منهما بضع مئات يمثلون وفدين, وفد عن أهل العراق, والآخر يمثل أهل الشام, وطلب الحكمان من عدد من أعيان قريش وفضلائهم الحضور لمشاورتهم والاستئناس برأيهم, ولم يحضر الاجتماع عدد من كبار الصحابة كانوا قد اعتزلوا القتال منذ بدايته وأفضل هؤلاء, سعد بن أبي وقاص, رضي الله عنه, فإنه لم يحضر التحكيم ولا أراد ذلك ولا همَّ به. فعن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجًا من المدينة فلما أتاه قال: يا أبة, أرضيت أن تكون أعرابيًا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكتْ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي".

خامسًا: هل يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية؟
يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية وذلك بتحمل قادة البلاد الإسلامية جميعًا مسؤولياتهم ومن ورائهم الأمة الإسلامية التي يحكمونها في الضغط الجاد الصادق, على الطرفين المتنازعين, لكي يوقفا بينهما القتال, ويلجآ إلى التحكيم الشرعي في الإسلام، فيرسل هذا الطرف حكمًا من قبله, وذلك حكمًا آخر من قبله أيضًا, للفصل في النزاع القائم وذلك على ضوء ما يلي:
1- تحديد صلاحيات الحكمين في إصدار الأحكام التي لابد منها لحل المشكلات التي هي سبب النزاع.
2- جعل مصادر التشريع الإسلامي هي المرجع الوحيد لإصدار تلك الأحكام والحلول التي تفصل في مسائل النزاع.
3- أخذ العهد على كل طرف من طرفي النزاع, وأخذ العهد على جميع قادة البلاد الإسلامية بقبول ما يصدره الحكمان من أحكام وحلول مشروعة لإنهاء النزاع الراهن على أنها واجبة التنفيذ بحكم الإسلام, وأن الخروج عليها, أو الرضا بذلك الخروج يترتب عليه الإثم شرعًا.
4- إذا أصدر الحكمان ما اتفقا عليه من أحكام, وحلول, وانقاد لها الطرفان المتنازعان قُضِي الأمر, وكفى الله المؤمنين القتال.
5- إذا رفض أحد الطرفين, أو كلاهما الانقياد لقضاء الحكمين, اعتبر الطرف الرافض هو الطرف الباغي, سواء صدر الرفض من أحدهما, أو من كليهما, ووجب شرعًا على القوات الإسلامية في الأقطار الأخرى أن تضع نفسها تحت تصرف ما يصدره الحكمان من قرارات عسكرية, من أجل التدخل لحسم النزاع بالقوة, على وجه لا تترتب عليه أضرار ومخاطر هي أكبر من ضرر النزاع القائم.
6- ويكون من صلاحيات الحكمين بالاتفاق إصدار القرارات التي تخص كيفية تحريك القوات المسلحة في الأقطار الإسلامية الأخرى, من أجل حل النزاع القائم على ضوء ما سلف بيانه. ولعل اللجوء إلى مثل هذه الطريقة في حل المنازعات بين الأقطار, كفيل بسد الطريق على أية قوة خارجية تتدخل في نزاعات المسلمين بحجة أنَّ بعض أطراف النزاع دعاها إلى هذا التدخل.. ومن ثم تستغل هذه الفرصة, لكي تتآمر على المسلمين, فتعمل على تصعيد تلك النزاعات, وفرض الحل الذي يحلو لها, ويكون فيه مصلحتها فقط, وليعاني المسلمون, بعدئذ, من آثار ذلك الحل أسوأ مما كانوا يعانون من فتنة النزاع نفسها, فهذه المعاناة لا تهمها في شيء, لا, بل إن هذه المعاناة هي من جملة الاهتمامات التي فُرضت من أجل تفجيرها ذلك الحل المشؤوم؛ قلنا: لعل اللجوء إلى التحكيم, على نحو ما سلف بيانه, يسدّ الطريق في وجه تلك القوى الخارجية التي تبغي في صفوف المسلمين الفساد, هذا, وإن الصفة الإلزامية شرعًا للحل عن طريق التحكيم –الذي عرضناه- تستند إلى إجماع الصحابة؛ فقد أجمع الصحابة كلهم في عهد النزاع الذي نشب بين علي ومعاوية على اللجوء إلى التحكيم, والقبول به.. سواء في ذلك الصحابة الذين كانوا مع علي, والصحابة الذين كانوا مع معاوية, والصحابة الذين اعتزلوا الفريقين, كسعد بن أبي وقاص, وابن عمر, وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين.

سادسًا: موقف أهل السنة من تلك الحروب
إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلاّ فيما يليق بهم رضي الله عنهم؛ لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم, ويحفظ لهم فضائلهم, ويعترف لهم بسوابقهم, وينشر مناقبهم, وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد, والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ, غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده, وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة, ولم يجوَّز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم, وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال بما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي:
1- قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). [الحجرات:9].
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة, وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله –عز وجل- مؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين, ولم يخرجهم ذلك من الإيمان, فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذُكر في هذه الآية, فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيمانًا حقيقيًا، ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال؛ لأنه كان عن اجتهاد.
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق», والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية, رضي الله عنهما, وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معًا بأنهما مسلمتان, وأنهما متعلقتان بالحق, والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام, وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق, لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام, وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق, وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن عليًا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدًا, وهو مأجور, إن شاء الله, ولكن عليًا هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
3- وعن أبي بكرة قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين". ففي هذا الحديث شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام, والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفّروا عليًا ومن معه, ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام, ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جدًا, قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمّاهم جميعًا مسلمين، وهذا خبر من رسول الله بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان.
فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي، وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان، وقد وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم من أمته, كما وصفهم بأنهم جميعًا متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان, ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم, وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا). [الحجرات:9]. وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم, رضي الله عنهم أجمعين, فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأوّلون, وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما مر معنا. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام, رضي الله عنهم, مسلك أهل السنة والجماعة, وهو الإمساك عما حصل بينهم, رضي الله عنهم, ولا يخوض فيه إلاّ بما هو لائق بمقامهم, وكتب أهل السنة مليئة ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك

الصفوة المختارة, وقد حدّدوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها:
1- سُئل عمر بن عبد العزيز, رحمه الله تعالى, عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال: تلك دماء طهّر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني؟ مثل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها, قال البيهقي معلقًا على قول عمر بن عبد العزيز, رحمه الله تعالى: هذا حسن جميل؛ لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب.
2- سُئل الحسن البصري -رحمه الله تعالى- عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وغِبْنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا. ومعنى قول الحسن هذا: أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا, وما علينا إلاّ أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه, ونقف عند ما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيًا منا, ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله -عز وجل- إذ كانوا غير متهمين في الدين.
3- سُئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقوله: أقول ما قال الله عز وجل: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى). [طه: 52].
قال الإمام أحمد-رحمه الله- بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: ما أقول فيهم إلاّ الحسنى, وعن إبراهيم بن آرز الفقيه قال: حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). [البقرة:141].
4- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يُذكروا به فقال: وألاّ يُذكر أحد من صحابة الرسول إلاّ بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب.
5- وقال أبو عبد الله بن بطة أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والعقيدة: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل, فقد غفر الله لهم وأمر بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم, وفرض ذلك على لسان نبيه، وهو يعلم ما سيكون منهم, وأنهم سيقتتلون, وإنما فُضّلوا على سائر الخلق؛ لأن الخطأ والعمد وُضع عنهم, وكل ما شجر بينهم مغفور لهم.
6- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: ويجب أن يُعلم أن ما جرى بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم, من المشاجرة نكف عنه، ونترحم على الجميع، ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان, ونعتقد أن علياً -عليه السلام- أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة -رضي الله عنهم- إن ما صدر منهم كان باجتهاد، فلهم الأجر ولا يُفسّقون ولا يُبدّعون, والدليل عليه قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:18], وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه؟! ويدل على صحة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين», فأثبت العظمة لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهما بصحة الإسلام, وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ). [الحجر: 47]. إلى أن قال: ويجب الكف عما شجر بينهم والسكوت عنه.
7- وقال ابن تيمية في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه, والصحيح منه هم فيه معذورون, إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون.
8- وقال ابن كثير: أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل, ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين, والاجتهاد يخطئ، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضًا: وأما المصيب فله أجران.
9- وقال ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف الحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلاّ عن اجتهاد, بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا, وأن المصيب يؤجر أجرين.
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة-رضي الله عنهم- بعد قتل عثمان، والترحم عليهم، وحفظ فضائل الصحابة، والاعتراف لهم بسوابقهم، ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
 

 


سجل تعليقك