شبهة:
قالوا:نحن مذنبون بعيدون عن الله وليس لنا قدر ولا جاه عندالله فلذا نجعل أحبابه وأولياءه وسطاء بيننا وبينه لما نعلم من أن لهم عندالله جاها ومنزلة وقدرا فلا يرد شفاعتهم ووساطتهم كما أن الملوك يتشفع لديهم بالمقربين لديهم من الوزراء والندماء,وفي ذلك سلوك للأدب مع الله لعدم أهليتنا لخطاب الله تعالى وعدم معرفتنا لآداب خطابه ,كما أن في ذلك سرعة لقضاء حوائجنا .
الجواب:من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا بعينه هو قول عبّاد الأنبياء والصالحين من عهد قوم نوح الى أن بعث اليهم خاتم النبيين,كما حكى الله عنهم ذلك في كتابه الكريم, قال تعالى (ويعبدون من دون الله مالايضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)وقال تعالى(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاليقربونا إلى الله زلفى),وقال تعالى(فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون).
فهذه النصوص المحكمة صريحة في أن المشركين لم يقصدوا الا الجاه والشفاعة والتوسل بمعنى جعلهم وسائط تقربهم إلى الله,وتقضى حوائجهم منه تعالى,وقد أنكرالقران هذا أشد الإنكاروأخبرأن أهله هم أهل النار وجمهور هؤلاء المشركين لم يدّعوا الاستقلال ولا الشركة في توحيد الربوبية بل أقروا واعترفوا بأن ذلك لله وحده,في غير موضع من كتابه.
فقوله تعالى (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)نص قاطع في أن عبادتهم لغير الله ليست إلا لشيء واحد وهو طلب القربى والزلفى إلى الله وذلك لأن الآية وردت بصيغة القصر والحصر وهي النفي والاستثناء ,ففي الآية حصر غرض عبادة الأولياء في التقريب إلى الله.وقوله تعالى في الآية الأخرى (قربانا ءالهة)والقربان:ما يتقرب به الى المعبود,وانماقيل للآلهة قربانا لما أنها غيرمقصودة لذواتها.
الوجه الثاني:أن هذا الاعتقاد فيه مفاسد ومحاذير تهدم العقيدة وتزلزل أركانها,من ذلك إساءة الظن بالله تعالى وبعلمه وسمعه وجوده وكرمه وذلك أن الذي ظن أن الرب سبحانه وتعالى لا يسمع له ولا يستجيب له إلا بواسطة تطلعه على ذلك ,أوتسأل ذلك منه فقد ظن بالله ظن السؤ فإنه إن ظن أنه لا يعلم أولا يسمع إلاباعلام غيره له واسماعه,فذاك نفي لعلم الله وسمعه وكمال ادراكه وكفى بذلك ذنبا,وإن ظن أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يلينه ويعطفه عليه فقد أساء الظن بإفضال ربه وبره واحسانه وسعة جوده,وهذا بخلاف الملوك فإنهم محتاجون إلى الوسائط لعجزهم وقصور علمهم فأما من لا بشغله سمع عن سمع وسبقت رحمته غضبه, وكتب على نفسه الرحمة فما تصنع الوسائط عنده؟
فمن اتخذ واسطة بينه وبين الله تعالى فقد ظن به أقبح الظن وذلك يمتنع في العقول والفطر,لأنه قد ثيت في العقول والفطر أن الله سبحانه هو المدبر لأمور الخلائق بدون الاستعانه بأحد وأنه لاتخفى عليه خافيه في الأرض ولا في السماء ,وأنه يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات,لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل,ولا يتبرم بإلحاح الملحين .وأي عقل يترك هذا الرب الجليل,ويترك الالتجاء إلى بابه ويطلب الوسطاء فإنه عقل مختل.فمن شم رائحة العلم وعرف شيئا مما جاءت به الرسل عرف أن هذا الذي قاله هؤلاء من جنس عبادة الأصنام والأوثان وهومناقض لما دل عليه القران والسنة ,ولا يستريب في ذلك عاقل, وأن من أعرض عن الله وقصد غيره,وأعد ذلك الغيرلحاجته وفاقته, واستغاث به ونذرله ولاذ به,فقدأساء الظن بربه وأعظم الذنوب عند الله هو إساءة الظن به,فإن المسيء به الظن قد ظن خلاف كماله المقدس ,فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته,ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيره كما ذكره تعالى(ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدلهم جهنم وساءت مصيرا),
وقال تعالى (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين),وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام(إذقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون.أئفكاءالهة دون الله تريدون.فما ظنكم برب العالمين).أي فما ظنكم أن يجازيكم إذالقيتموه قد عبدتم غيره ,وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره,فلوظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه غني عن كل ما سواه,فقير إليه كل من عداه ,وأنه قائم بالقسط على خلقه,وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره,والعالم بتفاصيل الأمورفلا تخفى عليه خافيه من خلقه, والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين ,والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه
وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم من الوسطاء الذين يعينونهم على قضاء حوائجهم,وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة,فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم.فأما القادر على كل شيء,الغني بذاته عن كل شيء, العالم بكل شيء ,الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء,فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده,وظن به ظن السوء ,وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده ,ويمتنع في العقول والفطر , وقبحه مستقر في العقول السليمه فوق كل قبيح,فالله أقرب إلينا من حبل الوريد فلا حاجة إلى الوسطاء بين الله وبين عباده,ولذا فقد أمرالله سبحانه عباده المؤمنين أن يدعوه ويطلبوا منه ما يريدونه رأساً بلا وسائط ,فقال تعالى ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين),وقال تعالىوإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
إن هؤلاء القبوريين في جعلهم الصالحين واسطة بين الخلق وبين الحق تعالى لدفع المضرات وجلب الخيرات مشبهة مرتين بتشبيهين من جهتين اثنتين, فمرة شبهوا المخلوق بالخالق في صفات الكمال فصاروا مشبهة حيث رفعوا المخلوقين فوق منزلتهم ووصفوهم بصفات الله من العلم والقدرة والسمع والإغاثة ونحوها فعبدوهم من دون الله تعالى ,ومرة شبهوا الخالق بالمخلوق في صفات النقص ,حيث إنهم قد قاسوا رب العالمين,بالملوك والسلاطين الذين لايتوصل إليهم إلابالأمراء والوزراء ,ومن المعلوم أن أصل الشرك هو التشبيه والتشبه.
الوجه الثالث : إن هذه الواسطة باطلة من أصلها,إذ فيها قياس الله على الملوك,وهذا من أفسد القياس ,وهوقياس مع الفارق من عدة أوجه:
1-أن الملوك لأجل جهلهم بحقائق الأمور وعدم علمهم بأحوال الرعية يحتاجون إلى وسائط من الأمراء والوزراء والندماء والوجهاء والعرفاء ليبلغوهم أحوال الرعية,ويرفعوا إليهم حوائجهم,بخلاف عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية,فمن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فهو كافر.
2-أن الملوك عاجزون عن تدبيرأمورهم والقيام على حقوق رعاياهم ودفع أعدائهم,فهم في حاجة إلى أعوان وأنصارمن الوزراء ليعينوهم في تدبير مملكتهم وسياسة رعاياهم وحفظ بلدانهم وأوطانهم,بخلاف رب الكائنات,الخالق,الحي,القيوم,القادر,المالك,الغني,ال قاهر,القوي,العزيز,فمن أن الله تعالى مثل الملوك فهو كافر.
3-أن الملوك ليسوا مريدين لنفع الرعية والإحسان إليهم ورحمتهم إلابمحرك يحركهم من خارج,فاحتاجوا في ذلك إلى الشفعاء والنصحاء ينصحون ويشفعون عندهم للمضطرين والمكروبين من رعاياهم ,ليقوموابقضاء حوائجهم بهذا الترغيب والنصيحة والشفاعة,بخلاف الله رب العالمين الذي هو أرحم الراحمين,وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها.
4-أن الملوك مضطرون إلى قبول شفاعة أمرائهم ووزرائهم لحاجتهم إليهم في حفظ البلاد وسياسة العباد,فالملوك يقبلون شفاعة أمرائهم ووزرائهم لحاجتهم إليهم في حفظ البلاد وسياسة العباد,فالملوك يقبلون شفاعتهم بإذنهم وبدون إذنهم لمن يرضون عنه ولمن يسخطون عليه,بخلاف رب العالمين فإنه غني ,حي, قيوم, لم يتخذ صاحبة ولا ولدا,ولم يكن له شريك في الملك,ولم يكن له ولي من الذل ,وهو مالك الأكوان,ليس له لأحد فيهما من شرك,ولا له من خلقه من ظهير.فتبين أن قياس الخالق على المخلوق قياس مع الفارق.