مالآثار التي تركها إنتصار العرب على الفرس في معركة القادسية على النفسية الفارسية
قرّر علماءُ النفس والاجتماع بأنّ ثمة خطوات يقوم بها كلّ مغلوب تجاه من يغلبه؛ لغايات ومآرب عديدة كامنة في نفسه.. وهي جميعاً تمثّل - في النهاية- بعضَ صور الانكسار والهزيمة ودركاتها.. وأنّ أول درجات الهزيمة التي يخطوها المغلوب تجاه الغالب تبدأ بالبحث عن نقاط التقاء، ووشائج قربى، وصلات رحِم، وعلامات شبه بين فكر الغالب، وفكر المغلوب.. ثم تستمر سلسلة التداعيات والانهيارات التي انبثقت من تلك النقطة..
إنّ هؤلاء العلماء يقولون بأنه ما أنْ تنتصر حضارةٌ على حضارةٍ؛ حتى تتولد لدى المغلوب إحدى قابليتين: قابلية الانتماء للمنتصر- أو المتغلِّب، كما يقول ابن خلدون- أو تتولد لديه حالاتُ الرفض السلبي!!!
ومن باب الإنصاف؛ فقد كان لا بدّ من الإقرار بأنّ لإيران تاريخاً طويلاً، وحضارةً قديمةً.. إذ قامت بها دولٌ متعاقبة، يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام).. واستمرت حتى ظهور الإسلام!!! وقد امتازت تلك الدول بوفرة نتاجها الحضاري، وجودة تنظيمها، وسعة سلطتها الدينية والزمنية!!!
لقد توسعت الدولةُ الإيرانية؛ فشملت مناطق واسعةً خارج حدود بلادها؛ حتى أنّ ملوك الأرض في فترات كانت تحمل إلى الملك بهمن [هو بهمن بن أسفنديار بن كشتاسب.. تولى حكم بلاد فارس بعد وفاة جدّه الملك كشتاسب الذي ظهر أيام زرادشت (660- 583 ق. م)] تحمل إليه الأتاوات السنوية!!! وقد كان بعضُ أطراف البلاد العربية؛ كأرض السواد [وهي ما بين نهري دجلة والفرات من أرض الرافدين، والتي تنحصر في وسط العراق وجنوبه] كانت واحدة من جملة المناطق التي سيطرت عليها الدولة الإيرانية الفارسية ردحاً طويلاً من الزمن، وكانت العلاقة فيها بين عرب العراق والدولة الفارسية علاقةً يشوبها الاختلاف والتنافر؛ فهي علاقة الحاكم المستعمِر بالشعب المستعمَر!!! وكان العرب يشعرون بثقل وطأة تلك السيطرة على كواهلهم، ويتطلّعون إلى الخلاص منها!!!
لذا؛ فقد استمرت المنازعات بين العرب والفرس؛ ولا سيما في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام!!! وظلّت هيمنةُ الفرس سائدةً في بعض المناطق.. حتى زوال دولتهم الكسروية الاعتدائية بمعركة القادسية الأولى عام (15هـ) بقيادة سعد بن أبي وقاص، في عهد أمير المؤمنين عمر الفاروق (رضي الله عنهم وأرضاهم)..
أما فيما يتعلّق بالديانات الإيرانية؛ فقد كان لها أثرُها البعيد في حياة الشعب الإيراني.. فكانت مبعثاً مهماً من مباعث نشأة (الحركة الشعوبية)؛ ويأتي ذلك من أنّ الديانات: (الزرادشتية)، و(الديصانية)، و(المانوية)، و(المزدكية).. كلّها ديانات ثنوية؛ قامت على أساس المبدأ الثنوي [وهو الذي تُثبت أصلين اثنين مدبّرين، قديمين، يقتسمان الخير والشر.. ويسمّون أحدهما: النور خالق الخير، والثاني: الظلمة خالقة الشر]!!!
ولما كان لتلك الديانات خصوصيتها، وفلسفتها المكتوبة؛ كان لا بدّ أن يكون المبدأ الثنوي - الذي يمثّل قاسمها المشترك- قد حظي بجهد استثنائي لتوكيده، وتنظيره، وإيصاله إلى الشعوب الفارسية!!!
وبمعنىً آخر.. فإنّ (المبدأ الثنوي) كان أقربَ المبادئ القديمة إلى مكامن الاعتقاد في الشخصية الفارسية، وأقدرها على التأثير في تشكيل نظم الاعتقاد والتفكير الديني فيها!!!
لذا؛ فإنّ الخلاص من هذا المبدأ ليس بالأمر الهيّن، ولا يمكن إزالتُه تماماً عن الجمع الفارسي الذي دخل في الإسلام؛ وذلك لأنّ ثقافات الشعوب ومعتقداتها الدينية لا يمكن أن تنتهي بنهاية مرحلةٍ ما؛ إنّما تبقى ذات تأثير فعّال في السلوك والتفكير والتوجُّه والمعتقد!!!
ولما كان (التوحيد) هو الركن الأساسي في العقيدة الإسلامية؛ فإن اصطداماً حادّاً وقع بين (الثنوية الإيرانية)، و(التوحيد الإسلامي)!!! وقد ترتب على هذا الصِّدام صِدامٌ آخر بين المبادئ الجزئية، والتطبيقات التفصيلية للإسلام من جهة.. والنزوع إلى خلفيات الديانة الثنوية من جهة أخرى!!!
كان لهذا كلّه أثرُه البعيد في إثارة الوعي لدى الشعب الإيراني الذي ظهر بمظهر التحدِّي، ووقف من الإسلام والدولة العربية موقفاً يتّسم بالعداء والمعارضة.. وعبّرت روحية التحدِّي تلك عن نفسها بمعتقداتٍ مستهجنة، وممارسات خاطئة؛ خالفت القيمَ والمعتقداتِ الإسلاميةَ.. أُطلق على أتباعها اسم: (الزنادقة).. و(الزندقةُ): مظهرٌ من مظاهر (الشعوبية)!!!
لذا؛ فإنّ الوعي هو الذي أثار روحَ التحدِّي، وأجّج روح (الشعوبية) لدى الفرس.. وكان للديانات الفارسية الأثرُ الأكبر في إثارة هذا الوعي؛ وذلك لأنَّ تلك الديانات أقوى مَثَلٍ للذات الإيرانية المجوسية، وأنّ الدعوة إليها تنطوي على وعي إيراني بين المجوس، وعلى جهد مكافحة الإسلام، وحملته: العرب!!!
إذن؛ فقد ارتبط التناقضُ الحضاري مع العرب بالطبيعة الفارسية.. وقد انضاف إلى عنصرية الفرس ذاتهم التي لم يغيِّرْها الإسلامُ إيجابياً.. فأُولئك العبيد الذين حرّرهم الإسلام لم يندمجوا في الحياة الجديدة؛ إنما حصل العكس من ذلك تماماً.. فهم - كما يقول ابن قتيبة- بدلاً من أن يقودهم تحرُّرهم نحو الحياة الجديدة؛ ارتدوا خلفاً!!!
وهذا التحليل يفيد كثيراً في فهم الطبيعة العنصرية للفرس، وازدواجية الشخصية الفارسية!!! فدورُ الإسلام في تحريرهم من العبودية، ووضعهم على طريق التقدّم.. لم يوظِّفْه أولئك الفرسُ إيجابياً لتجاوز طبيعتهم العدائية؛ وإنما - على العكس من ذلك تماماً- لتعزيز موقفهم المُعادي للإسلام والعرب!!! لذا؛ فقد صبُّوا جام حقدهم على أولئك العرب المحرِّرين الذين أطاحوا بالدولة الساسانية، وأتاحوا لشعبها المسترقِّ الحريةَ!!!
قامت الدولة العربية - منذ بداية نشوئها- على أساس متين من الترابط الوثيق، والتكامل بين العروبة والإسلام.. وقد أفصح هذا التكاملُ عن حدوث هزّة عنيفة في الروح والجذور؛ فجَّرتْ كامنَ القوى، وأطلقت بديع الإبداع؛ فأصبح العربُ المسلمون قوةً خارقة نجحت في تحقيق اختصار عمليٍّ للزمن والمسافة؛ من خلال ما حققته من بناء دولة واسعة في زمن قصير!!!
وقد لمس المستشرق الغربيُّ (هاملتون جب) تلك الحقيقة السَّنية؛ مما دفعه دفعاً، وألجأه إلجاءاً إلى الإشارة لذلك بقوله: (انبثق الإسلام انبثاقاً مفاجئاً في بلاد العرب، وأقام - بسرعة كبيرة، تكاد تعزّ على التصديق، في أقلّ من قرن من الزمن- امبراطوريةً جديدةً في غربي آسيا، وشواطئ البحر الأبيض المتوسط الجنوبية والغربية!!!).. [دراسات في حضارة الإسلام/ ص4]..
إنّ هذا الترابط الوثيق، والتكامل بين العروبة والإسلام الذي تؤيِّده وتؤكدهبعضُ الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة.. كان له أبلغُ الأثر في إثارة الثقة لدى العرب.. كما كان له - بالمقابل- أثرُه البعيد والبليغ في إيغار الصدور، وإثارة الغيظ والحنق والحقد والحسد في نفوس بعض أبناء الشعوب غير العربية!!!
وقد ألمح الجاحظُ إلى ذلك في كتابه: (الحيوان)؛ إذ يقول: (ربما كانت العداوةُ من جهة العصبية.. فإنّ عامة من ارتاب بالإسلام؛ إنما جاءه ذلك عن طريق (الشعوبية).. فإذا أبغض شيئاً؛ أبغض أهله.. وإنْ أبغض تلك اللغةَ؛ أبغض تلك الجزيرة.. فلا تزال الحالات تنتقل به.. حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العربُ هي التي جاءت به، وكانوا السلفَ والقدوة!!!).. [ج7/ ص68]..
وعبر توالي الجهد العربي الإسلامي فكرياً وعسكرياً؛ انتصر العرب المسلمون على دولتي فارس والروم؛ فتحرّر العراق، وبلاد اليمن من ربقة الهيمنة الفارسية.. كما تحررت الشام، ومصر، وشمال أفريقيا من السيطرة الرومانية.. ثم أعقب ذلك زحفُ الجيوش العربية الإسلامية وتقدّمها.. حتى بلغت الصين شرقاً، وآسيا الصغرى شمالاً، وأوروبا غرباً!!!
وقد أحدث هذا الانتصارُ الإسلامي ردودَ أفعال عكسيةً عنيفة لدى الشعوب في الأراضي المفتوحة، وكانت ردودُ الأفعال تلك تتناسب طردياً مع درجة وعي تلك الشعوب!!! ولهذا؛ فقد وجدنا التحدِّي لدى الشعب الإيراني قوياً؛ (لأنّ الفرس كانوا في سعة الملك، وعلوّ اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر.. حتى إنهم كانوا يسمون أنفسهم: (الأحرار)، و(الأبناء).. وكانوا يعتبرون سائرَ الأمم عبيداً لهم!!! فلما امتُحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب - وكانت العرب أقلّ الأمم عند الفرس شأناً وشأواً وخطراً- ؛ تعاظمهم الأمرُ، وتضاعفتْ لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى.. فرأوا أنّ كيده على الحيلة أنجع؛ فأظهر قوم منهم الإسلام)!!! [الفِصَل في الملل والأهواء والنحل ج2/ ص115]..
وآنئذ.. فتّش الفرس المندحرون عن سرّ الانتصار العربي، وحاولوا أنْ يفهموا كيف أنّ دولة العرب الفتية بإمكاناتها البسيطة استطاعت أن تُسقط الامبراطورية الفارسية، وتُحجِّم الامبراطورية الرومانية في آنٍ واحد!!!
والذي يبدو أن الفرس الذين أغاظهم الانتصار العربي قد وقفوا على حقيقة هذا الانتصار، وحدّدوا أسبابه: في العقيدة، والقيادة، والترابط التكويني الأصيل بين العروبة والإسلام!!!
لذا؛ فقد نشطوا في ابتكار وسائل تآمرية ملتوية؛ استهدفت العقيدة الإسلامية، والقيادة العربية!!! كما تنبّهوا إلى ضرورة إحياء ديانة إيرانية قديمة؛ لتُلازِمَ الفارسية، وترتبط بها.. مقابل التلازم بين العروبة والإسلام؛ التلازم الذي كان سبباً في نهضة العرب!!! فكان أن وُلدت (الشعوبية) المقيتة التي يُعدّ من أجلى مظاهرها ووجوهها اليوم: (التشيع الماكر، البغيض، الكاذب لأهل البيت)!!!
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&