بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )( 1 )
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا )( 2 )
( يا أيها آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما )( 3 )
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد , صلي الله عليه وسلم , وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد : كانت العرب وسائر الأمم قبل مبعث النبي , صلي الله عليه وسلم , في جاهلية جهلاء , وضلالة عمياء , وشرك , ووثنية , فمنهم من يعبد الشمس والقمر , ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار , ومنهم من يعبد الجن والملائكة .
فهم كما قال الله عنهم ( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون )( 4 )
وكما قال تعالى ( أفرأيتم اللات والعزَّى و مناة الثالثة الأخرى )( 5 )
وقوله تعالى ( ثم يقول للملائكة أهؤلاء إيَّاكم كانوا يعبدون . وقالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون )( 6 )
وقوله تعالى ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون )( 7 )
كلهم في جاهلية , وضلال , وشرك , إلا أن بعضهم كان مستمسكاً بآثار الأنبياء , كبعض أهل الكتاب .
قال النبي , صلى الله عليه وسلم ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم , إلا بقايا من أهل الكتاب ..... )( 8 )
وفي هذا الظلام الحالك أشرق نور الايمان بمبعث خاتم النبيين وسيد ولد آدم محمد , صلي الله عليه وسلم , بعثه الله بدين الإسلام الذي أصله التوحيد , كما بعث سائر الرسل بذلك ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) ( 9 )
فدعا , صلى الله عليه وسلم , إلي التوحيد وحارب الشرك بشتي صوره وأشكاله وأنواعه , ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم , بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلي توحيد الله وترك عبادة الأوثان والطواغيت , والبراءة منها وممن عبدها , يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة , مبشراً من أطاعه بالجنة , ومنذراً من عصاه بالنار , وبعد مضي ثلاث عشر سنة من بعثته , عليه الصلاة والسلام أذن الله له في الدفاع عن الحق بالقوة بعد إتمام إقامة الحجة عليهم , فاستنارت القلوب بدعوته, عليه الصلاة والسلام , إلي العقيدة الإسلامية الصافية النقية , وانقمع أهل الباطل , وتبددت ظلمات الجاهلية الأولي أمام عقيدة الإسلام الصريحة التي لا غموض فيها ولا إبهام , لموافقتها للفطرة السليمة النقية من الشوائب , وكان المسلمون في الصدر الأول يأخذون عقائدهم من الكتاب والسنة رأساُ , ويرون فيهما الكفاية والشفاء , ولم يكونوا يرجعون في شئ من ذلك إلي موروثات البشر من قضايا كلامية أو أفكار فلسفية.
يقول المقريزي ( لم يكن عند أحد منهم ما يستدل به علي وحدانية الله _ تعالي _ وعلي أثبات نبوة محمد , صلي الله عليه وسلم , سوي كتاب الله )( 10 ) , كان لهم من البصر بالدين وأساليب اللغة ما مكنهم من فهم نصوص الكتاب والسنة فهماُ صحيحاُ , ثم جاء بعد ذلك عصر الفتوحات , فدخل في الإسلام كثير من أهل الديانات الأخري من اليهود , والنصاري , والصابئة , وغيرهم , ومعهم ثقافاتهم الأجنبية , فاختلط بهم بعض المسلمين , وتأثروا بموروثاتهم وثقافاتهم , وخاصة بعدترجمتها الي العربية في عهد المأمون , وهذا واضح جلي لكل من اطلع علي كتب أهل الكلام , فهي مليئة بالتأويلات الفاسدة , والأقاويل الضعيفة , والاصطلاحات المنطقية الفلسفية , والعبارات الجافة المعقدة المحشوة بالجدليات والمتناقضات , فليس فيها ما يروي غليلاُ ويشفي عليلاُ .
ولا شك أن القارئ الذكي الفطن ذا الفطرة السليمة والعقل السليم , فضلا عن المؤمن المستنير بنور الوحي يدرك فساد هذه الآراء , والمذاهب , والاصطلاحات الدخلية , فلو أفني الرجل عمره في قراءة كتب علم الكلام , والبحث فيما احتوته لخرج منها بالحيرة والأسي علي ضيلع العمر دون طائل يتمني أنه لم يخض في غمار تلك الموروثات , وفي بحر ذلك العلم الذي سموه علم الكلام , واسمع إلي مقالة من دخل في هذه المتاهات , وشهد علي نفسه شهادة صدق عن خبرة وتجربة .
قال الشهرستاني :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها *** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاُ كف حائر *** علي ذقنه , أو قارعاُ سن نادم( 11 )
وقال الرازي :
نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالميـن ضـلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** غاية دنيانا أذي ووبــــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوي أن جمعنا فيه قيل وقال( 12 )
ولقد نشأ في الأمة الإسلامية بدع حمل لوائها أهل الجهل والهوي , كبدعة التكفير بالذنوب , وبدعة الإرجاء , وشر البدع الكلامية بدعة التعطيل , تعطيل الرب عما يجب له من الأسماء والصفات , تلك البدعة الموروثة عن اليهود , والصابئة , والفلاسفة , وكان الإمام فيها جهم بن صفوان الذي تنسب إلية الجهمية , بل تنسب أليه كل المعطلة من هذه الأمة , ومن فروع هذه البدعة بدعة القول بخلق القرآن , وهي التي امتحن أئمة السنة بسببها حين تصدوا لها بالمعارضة والنكير , ومن البلاء أن هذ البدع لم تزل موروثة في الأمة, فصارت الأمة بها فرقاُ , كما أخبر الصادق المصدوق , صلي الله عليه وسلم , كل فرقة تدعو الي طريقتها , وتنافح عن مذهبها وإلي جانب هذه الطوائف كانت الطائفة المنصورة والفرقة الناجية , والتي تترسم خطي السلف الصالح من الصحابة والتابعين , وهي الوارثة لعلمهم , والسائرة علي مناهجهم , ولاتزال هذه الطائفة في الامة كما اخبر الرسول , صلى الله علية وسلم , فلم تزل الخصومة بين هذه الطائفة والطوائف المبتدعة قائمة الي يومنا هذا. ومن خصوم هذه الطائفة في هذا العصر , ومن أئمة المبتدعين والمعطلة لصفات رب العالمين , الأستاذ محمد زاهد الكوثري .
كسب كثيراً من الأنصار من أهل الأهواء والأغراض , لاطلاعه الواسع وسحر بيانه وجرأته فعظمت الفتنة به , فهو في نظرهم ( إمام العصر ) , و ( محقق العصر ) , و ( بقية السلف الصالح ) , و (أمام من أئمة المسلمين ) , و ( المفكر العبقري ) , و ( المناظر الذي لم يقهر قط في حياته ) , و (سيف الله المسلول علي رقاب الملاحدة والفرق الضالة ) , و ( أقدر ناصر ومناضل عن السنة النبوية ) , و ( أبرع محام وحارس للعقائد الدينية الصحيحة ) ,
( وكانت هجرته من تركيا الي مصر أروع هجرة في العزة والكرامة ) .
ولإبراز هذا الرجل علي حقيقته لا سيما وأن كثيراً من طلبة العلم لا يعرفون عن عقيدته شيئاً اللهم إلا علي سبيل الإجمال , رأيت الكتابة في عقيدته , مع بيان موقفه من عقيدة السلف وأئمة السنة , وذلك بعرض أقواله مأخوذة من مصادرها من كتبه التي وقفت عليها , وسأقوم بالتعليق علي بعضها علي وجه الاختصار : إذ المقصود إعلام القارئ علي عقيدة الكوثري , ومموقفه من أهل السنه من خلال نصوصه : فإن كثيراً من الأقوال الباطلة تصورها كاف في العلم ببطلانها , ولأن آراء الكوثري ليست بدعاً من آراء أهل الكلام , بل هي آراؤهم , بل هي نفس آرائهم , التي ردها الأئمة عليهم , وفندوها , فلا أطيل بمناقشتها , ومن أراد الوقوف علي نقض هذه المذاهب فليراجع ما كتبه أئمة الاسلام , كالدارمي في كتابيه ( الرد علي الجهمية ) , و ( الرد علي بشر المريسي ), و ابن قتيبة في كتابية ( تأويل مختلف الحديث ) , وكتاب ( الاختلاف في اللفظ والرد علي الجهمية والمشبهة ) , والبخاري في كتابيه ( التوحيد وخلق أفعال العباد ) , و(الرد عيل الجهمية ) , وغير ذلك من المصنفات السلفية .
ويتألف هذا البحث من : تمهيد , وأربعة مباحث , وخاتمة .
أما التمهيد : فهو تعريف موجز بالأستاذ الكوثري.
وأما المبحث الأول : ففي عقيدته في التوحيد.
وأما المبحث الثاني : ففي عقيدته في الإيمان.
وأما المبحث الثالث : ففي موقفه من عقيدة السلف وأئمة السنة .
وأما المبحث الرابع : ففي المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة والأستاذ الكوثري في التوحيد والإيمان .
وفي الخاتمة : أذكر خلاصة ما توصلت إليه من نتائج , وسأقف من الرجل موقف الحياد والإنصاف , فلا غلو ولا تقصير , عملاً بقوله تعالى ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )( 13 )
وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء للقسط )( 14 )
والرجل قد أفضى إلى ربه , فلست أحاكم شخصه بل ما سطره في كتبه .
وأخيراً بهذا الجزء المتواضع لا أدعي أني قدمت وفيت الموضوع حقه , واستكملت جميع جوانبه , ولكن حسبي أني لم أدخر في سبيل ذلك وسعاً , فإن وفقت إلى ما هو الحق والصواب فذلك هو مقصدي وغاية مناي , فالحمد لله سبحانه , فله الفضل وحده والمنة واستغفره من كل خطأ وزلل , والله من وراء القصد , وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
يتبع بإذنه تعالى .....
ــــــــــــــــ
1 ) سورة آل عمران 102
2 ) سورة النساء 1
3 ) سورة الأحزاب 70-71
4 ) سورة الروم , الايتان : 31, 32.
5 ) سورة النجم, الآيتان : 19 , 20 .
6 ) سورة سبأ , الآية : 40
7 ) سورة فصلت , الآية : 37.
8 ) أخرجه مسلم كتاب الجنة - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار , ج 4/2197 ح 2865 من طريق مطرف بن عبدالله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي
9 ) سورة الانبياء , الآية : 25 .
10 ) خطط المقريزي 2/356 .
11 ) كتاب نهاية الاقدام ص 3 , والحموية ص 91 .
12 ) الحموية ص 91 , وكتا تلبيس ابليس ص 93 , وفتح الباري 13/350
13 ) سورة الأنعام , الآية : 152
14 ) سورة المائدة , الآية : 8