(منقول)
لماذا منع الحجاب ؟
الرأي السائد حول قرار فرنسا منع الحجاب الإسلامي في المدارس العامة والمؤسسات الحكومية هو أن ذلك يرجع إلي تطبيق مبادئ العلمانية بصرامة والتي اكتشفت فرنسا علي ما يبدو أنها موجودة بعد حوالي القرن من تطبيقها رسمياً. هذه الأسطورة رددتها الحكومة الفرنسية نفسها عبر رئيس الجمهورية جاك شيراك ثم تطوع البعض بتأكيدها مثل شيخ الأزهر التي أعلن أنه من حق فرنسا حظر الحجاب لأنها دولة غير مسلمة ولأنها دولة علمانية وحيث تطوع زيادة علي ذلك بتبييض وجه العلمانية الفرنسية نفسها بالحديث أو بالأصح ترديد المقولة الفرنسية بأن العلمانية محايدة بين الأديان لا تفرق بينها. غير أن الواقع يقول أن العلمانية واكتشافها المتأخر والمفاجئ لا علاقة له من قريب أو بعيد بمنع الحجاب.
إن الإشارة إلي العلمانية في هذا الصدد ليست أكثر من حجة أنيقة ألقيت للتغطية علي الدوافع الحقيقية للقرار كما ألقيت كذلك لإخفاء الإيجابية وحسن السمعة علي العلمانية وهو ما وقع فيه البعض بتعمد في العالم العربي حيث استغلوا هذا الحديث لإبداء الآراء المحبذة للعلمانية من كل حدب وصوب من صحن الأزهر. إن قرار منع الحجاب في فرنسا يأتي ليس في سياق إحكام تطبيق مبادئ العلمانية التي تكرر أنها اكتشفت فجأة وبشكل مصطنع ولكن في سياق عملية استمرت طيلة السنوات الماضية وهي محاولة ضرب الإسلام المتصاعد والمتزايد في فرنسا بواسطة التذويب والتغريب والإقصاء فيما عرف بسياسات الدمج والاستيعاب التي روجت تحت شعار عام هو الخروج بإسلام "فرنسي" أو" أوروبي" لا علاقة له بما يسمونه هناك بالإسلام العربي أو التقليدي أو الغير عصري .
نقبل الحديث المفاجئ عن العلمانية وقبل الحماسة والتقوى الداعية لإحكام وصرامة التطبيق العلماني بسنوات كان الحديث ومن جانب نفس الأصوات التي تتحدث الآن عن العلمانية كمبرر يدور حول ضرورة أن يندمج المسلمون في فرنسا داخل المجتمع الفرنسي . ولم يكن هذا الحديث يتعلق بالحجاب أبدا الذي لم يكن له ذكر بل دار حول الوجود الإسلامي نفسه وضرورة أن ينبذ المسلمون ما وصف بالروابط منع الإسلام العربي أو الأفريقي في البلدان الأصلية التي أتي البعض منهم إلي فرنسا . كما دار الحديث حول ضرورة أن يكون جميع المسلمين في فرنسا سواء ذوى الأصول الأجنبية أو الفرنسية بالقيم والسلوكيات وأنماط الحياة والأفكار السائدة في ذلك المجتمع الفرنسي أو في الغرب عامة وهي أنماط ذات جذور مسيحية في الأساس . كان ذلك الحديث يدور حول ضرورة تعديل وتغير وتكييف نسق القيم والتعاليم وحتى الشرائع بل والعقائد الإسلامية نفسها كي تتلائم مع تلك الأنظمة والمثل الأوروبية المطلوب والانسجام معها والاندماج فيها أو بالأصح الدمج القرى معها. كانت الفكرة السائدة وقبل منع الحجاب بالاستثناء المزعوم للعلمانية بسنوات تدور حول إعادة تشكيل الإسلام نفسه ككل وتحقيق الدمج في المجتمع الغربي الفرنسي . ووجد هذا التصور الفرنسي من يؤيده أو علي الأقل يتمشى معه تحت مسميات معينه كان من بينها مثلا ما عرف بفقه الأقليات حيث تصدر فتاوى تطوب عمليات التغير الفقهي المواتية للدمج للمسلمين في المجتمع الغربي . كذلك اتخذت الحكومة الفرنسية قرارات ملموسة لتحقيق هذه السياسة دون الحديث مره أخرى عن العلمانية كمبرر أو إطار .
ويذكر في هذا الصدد عملية السيطرة علي ما يسمي بمسجد باريس وفرض عميل فرنسي صريح علي قيادته مع تحويله إلي نوع من الكنيسة ذات ولاية مصطنعة علي المسلمين في فرنسا وعلي أنهم المتحدث باسمهم والذي يصدر فتاوى "معتمدة" تمثل الحق المطلق وتكون بالطبع مواتية لوجهات النظر الفرنسية وفي إطار تعديل الإسلام للخروج بما تريده فرنسا من "الإسلام الفرنسي" وجاءت بعد ذلك مجلس لمسلمي فرنسا يكون كذلك بمثابة الأداء الرسمية للسيطرة علي مسلمي فرنسا تحت ستار أنه هيئة تمثلهم وترعي شئونهم وتكون وصلة الربط بينهم وبين الحكومة .
وكما هو واضح لم تكن لهذه الهيئات أية قوة لصالح المسلمين بل انحصر دورها في أن تكون وسائل سيطرة علي كتلة المسلمين وتوجهيهم في إطار سياسة الدمج القسرى والخروج بالإسلام الفرنسي إلي حيز الوجود لعل أبرز دليل علي ذلك هو موقف ما يسمي بإمام مسجد باريس من قضية منع الحجاب حيث أيد ودافع عن القرار الفرنسي رغم وقوف كل المسلمين في فرنسا ضده. والسياق الذي طرحت فيه مسألة الإسلام الفرنسي كان سياقا أوروبيا حيث مسائل مشابهه , حول الإسلام الإيطالي أو الإسلام الأسباني والإسلام الهولندي مع مطالب مماثلة في ألمانيا وبلجيكا. وقبل هذا وذاك هناك العداء للإسلام الذي يجتاح أوروبا والذي ظهر في بشكل سافر في أحداث البوسنة وكوسوفو الشيشان لكنه يظهر في شكل مستقر في مسألة الدمج القرى والطلب بالخروج بأنماط متغربة من الإسلام في أوروبا الغربية .
هذه هي الخلفية الحقيقية لقرار منع الحجاب وليس الالتزام المتأخر والمفاجئ وغير المقنع بالعلمانية . إن الخلفية الحقيقية للقرار هي الرغبة في مسح الإسلام من أوروبا من خلال توجيه وتشويهه وتعديله ليتمشى أو يخضع للقيم والمفاهيم الغربية المخالفة أما الحديث عن الاحترام بالعلمانية فهو مجرد عذر مكشوف للتغطية علي حقيقة هدف الحملة كما أنه في نفس الوقت محاولة للترويج للعلمانية في البلاد الإسلامية بإظهارها في صورة وردية علي أنه لا تميز بين الأديان رغم أن فرنسا وحتى في إطار علمانيتها الشرسة تصر علي فرض القيم الغربية (وهي مسيحية في الأصل) علي أصحاب الأديان الأخرى وهو ما تجلي في رفض الاعتراف بالأعياد المسيحية التي تحولت إلي أعياد رسمية رغم كل الحديث عن العلمانية والحياد وعدم التمييز بين الأديان. أن سياق العداء للإسلام إلي حد الخوف المرضي هو الذي يكمن حقيقة وراء قرار منع الحجاب وليس ما زعم من الالتزام بالعلمانية