العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتديـــــــــــــات الحوارية > الــــحــــــــــــوار مع الاثني عشرية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-11-03, 04:50 AM   رقم المشاركة : 1
StraightPath
عضو ينتظر التفعيل






StraightPath غير متصل

StraightPath


Thumbs up أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية

المقـدمـة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين.‏

أما بعد : ‏

فإن نقد مقالات المبتدعة وأعمالهم ومسالكهم، والرد عليهم، وكشف ما عندهم من باطل، والتحذير من زيفهم، وظيفــة العلمــاء، لا يجوز التساهل فيها، أو التقصير في أدائها، إذ بها تتم حماية الدين ونقاوته من شائبة الباطل، وقد أكمل الله دينه، وأتم نعمته، ورضي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم دينًا، قال تعالى : (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) (المائدة : 3). وقال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر : 7). وقال صلى الله عليه و سلم : (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْــرِنَا هَــذَا ما ليس منه فهو رَدٌّ) (1)، وفي رواية : (من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ) (2).‏

قد أقام الله تعالى للعلماء ميزان الحق، الذي يَزِنُون به الأقوال المخالفة، ويصدرون عنه أحكامهم.. أقامه على العلم والعدل : العلم الذي يتبين به الحق من الباطل، وتُقام به الحجة على قائله أو فاعــله، قال تعالى : (ولا تَقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (الإسراء : 36)، والعدل الذي يثبت به لكل ذي حق حقه من مدح أو ذم غير مغموط فيه، ولا متعتع، وبقدر متساوٍ مع الأولياء والأعداء، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة : 8).‏

ويُعد شيخ الإسلام ابن تيمية عَلَمًا من أعلام الدين، وإمامًا من أئمة الهدى، نَافَحَ بلسانه وقلمه عن السُّنَّة، وجاهد بنفسه رؤوس الفتنة، ووقف موقف الأبطال من دعاة البدعة، وصبر على ما لاقاه في سبيل إعلاء كلمة الله من العَنَت والمحنة، فلم تَلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، حتى أظهر الله بعلمه وجهاده ومواقفه منهج أهل السنة، ونشر على يديه عقيدتهم، بعد أن كانت الغلبة في عصره لعقائد أهل الكلام، والرواج لأقوال أهل الابتداع.‏

واعتمد ابن تيمية في كل ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في أصول الدين وفروعه، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، غير متبع لهوى، أو مقلد لأشخاص، فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظـن وما تهوى الأنفس، ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم الهدى، قــــال الله تعالـــــى : (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) (النجم : 23)، وأقام العدل في حكمه على أقوال الناس وأعمالهم، وإن كانوا من المخالفين له في الأصول، مراعيا ما يسوغ فيه الخلاف، أو ما يقع فيه خطأ بسبب اجتهاد، أو تأول صحيــح، أو ما يلائمه التماس العذر للمخالف، فإن ذلك أسلم من الوقوع في الظلم الذي حرمه الله تعالى على عباده، أو القول على الله بغير حق، وذلك أقرب للتقوى.‏

فكان ابن تيمية قائمًا بميزان الحق، الذي صرَّح بوجوب الوزن به، وأنه الحد الفاصل بين منهج أهل السنة والجماعة، ومنهج أهل البدع والغواية في الكلام على الناس، قائلاً : (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع) (3).‏

ذلك أن الأصل حفظ جارحة اللسان من القول إلا حقًا، وحماية أعراض الناس من انتهاكها زورًا وبُهتانًا، قال صلى الله عليه و سلم : (مَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليتَّقِ اللهَ وليَقُلْ حقًّا أو ليَسْكُت) (4)، وقال صلى الله عليه و سلم : (بِحَسْبِ امرئٍ من الشرِّ أن يَحْقِرَ أَخَاه المسلم، كلُّ المسلمِ على المسلم حَرام، دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُه) (5).‏

وقد حرَّمَ الله سبحانه أذية المؤمنين، أو إساءة الظن بهم أو غيبتهم، فقال سبحـانــه : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا ) ( الأحــزاب : 58 ). وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (الحجرات : 12)، وعَظَّمَ القول في المسلم بغير علم، مرشدًا إلى إمساك اللسان عن الخوض في عرضه بغير حق، وموجهًا إلى تبرئة ساحته مما قيل فيه، إبقاء على الأصل : وهو عدالته من الجارح، وسلامته من القادح، قال تعالى : (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك) (النور : 15_16).‏

إن اعتماد العلم والعدل شرطان في الكلام على الناس عمومًا، وفي الحكم على أقوال المخالفين وأعمالهم خصوصًا.. لا يعني المداهنة مع المبتدعة، ولا الدفاع عن باطلهم، ولا تذويب العقيدة أو إضعاف جانبها أمام الضلالة، أو التقصير نحو إظهارها أو إعلائها على غيرها من الأقوال والآراء المخالفة، لكنه المنهج الحق الذي شرعه الله لأنبيائه وعباده، وارتضاه لهم في كتبه، واتبعه رسوله صلى الله عليه و سلم، وسار عليه سلف الأمة وعلماؤها.. يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيميــة بعد تقريــره : (ولما كان أَتْبَاعُ الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة، مع الكفار وأهل البدع، بالعلم والعدل لا بالظن وما تهوى الأنفس) (6).‏

يستهدف هذا المنهج ضبط الأحكام، لتصدر بعد تحر وتثبت، وصيانتها من الانسياق مع جواذب الأهواء، وسلامتها من الجهل على الناس وبخسهم حقوقهم.. ويتحقق هذا المنهج في صياغة أصول كلية قائمة على الأدلة المعتبرة، يرجع إليها من احتاج الكلام في الناس، والحكم على أقوالهم وأعمالهم كلما اقتضت الحاجة، تفاديًا لما ينشأ عن الجهل بها من مفاسد وعظائم لا تخفى.‏

ومن يراجع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ورسائله، يصل إلى نتيجة واضحة، هي تمكُّنه من تحديد هذه الأصول، التي كثيرًا ما كان يشير إليها بحسب ما يقتضي المقام، عند حواره ومناقشته ورده على مقالات المبتدعة وأعمالهم، والتي ساعدته على وحدة أسلوبه واستواء أحكامه.. وقد أبان رحمه الله، أهميتها، فقال : (لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم) (7).‏

إن أهمية هذه الأصول تتلخص في أمرين : ‏

الأول : أنها قاعدة الوصول إلى أحكام دقيقة ومنضبطة ومنصفة، مبنية على العلم والعدل، وملتزمة بالمنهج الحق.‏

الثاني : أنها سبيل الوقاية من التخبط في الأحكام على غير هدى، وما يتولد عنه من أضرار كبيرة ومفاسد عظيمة، تلحق بالأفراد والجماعات.‏

لهذه الأهمية، رأيتُ جمع هذه الأصول المتناثرة في مواضع مختلفة من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لكي يسهل الانتفاع بها والرجوع إليها، وقد حافظتُ على نصها، معتمدًا على النقل من مظانها، ومجتهدًا في ترتيبها على حسب مراده منها، باذلاً غاية جهدي في التعرف على الأصول التي اعتمدها في الحكم على المبتدعة والكلام فيهم، ولا أقول : إني استطعتُ الإحاطة بجميعها أو الإلمام بأجزائها، ولكن حسبي أني جمعت ما تيسر لي منها مما أمكنني الوقوف عليه.‏

والله أسأل أن يلهمني رشدي، وأن يرزقني صوابًا في القول والعمل، والله وحده الهادي إلى سواء السبيل.‏

د. أحمد بن عبد العزيز الحليبي







 
قديم 17-11-03, 04:51 AM   رقم المشاركة : 2
StraightPath
عضو ينتظر التفعيل






StraightPath غير متصل

StraightPath


مفهوم السنة والبدعة عند ابن تيمية
يحسن قبل الشروع في بيان أصول شيخ الإسلام ابن تيمية في الحكم على أهل البدع، أن أعرض بشيء من الاختصار ما يبين مفهومه رحمه الله للسنة، ويحدد أهلها، ويوضح طريقتهم، ويبين مفهومه للبدعة وتفاوتها، ودعوته إلى الاعتصام بالسنة، وتحذيره من البدعة وفسادها بحيث يتحدد لنا موقفه من الاتباع والابتداع ابتداءً.‏

‏1 ـ تعريفه للسنة : ‏

يرى أن السنة من الفعل هي : (ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم، أو فُعل على زمانه، أم لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضي حينئذ لفعله ،أو وجود المانع منه، فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب(35)، وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف(36)، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة(37)) (38).‏

قصد الشيخ في هذا التعريف، المعنى العام للسنة، وهو الطريقة الموافقة لهدي الرسول صلى الله عليه و سلم وعمل الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما الخلفاء الراشدون، وقد استقاه من وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثَات الأمور، فإن كُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة) (39).‏

‏2 ـ مَن هم أهل السنة ؟ ‏

يرى أنهم المتبعون لسلف الأمة، الذين عاشوا في القرون الثلاثة المفضلة، وحازوا كل فضيلة، وثبت لهم ذلك بالضرورة، وأنه (من المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد... القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ،كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه(40)، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة، من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل.. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم) (41)، كما قال عبد الله بن عمر(42) رضي الله عنهما : (مَن كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، كانوا على الهدى المستقيم) (43).‏

وقال غيره : (عليكم بآثار مَن سَلَف، فإنهم جاءوا بما يكفي ويشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه) (44)، وقال الإمام الشافعي(45) : (هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب يُنال به علم أو يُدرك به هوى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) (46).‏

وحَدَّدَ رحمه الله أهل السنة والجماعة، فقال : (أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم والتابعين، وأئمة أهل السنة وأهل الحديث، وجماهير الفقهاء والصوفية(47)، مثل مالك(48) والثوري(49) والأوزاعي(50) وحماد بن زيد(51)، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ومحققي أهل الكلام(52)) (53)، فلم يحصر أهل السنة والجماعة في مدرسة معينة، لأن طريق السنة يتسع لكل من اعتصم بها، واتبع آثار السلف رحمهم الله تعالى).‏

‏3 ـ طريقة أهل السنة : ‏

بين الإمام ابن تيمية أن (طريقة أهل السنة والجماعة، اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال : (عليكم بسنتي) (54) إلى آخر الحديث) (55)، فهم إنما سُموا بأهل السنة لهذا المعنى، وسُموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفُرقة، نسبة إلى الأصل الثالث وهو الإجماع، ويقصد به الإجماع المنضبط، وهو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بَعْدَهم كَثُر الاختلاف، وافترقت الأمة(56).‏

وإنما كان السلف على السنة، لأن غاية ما عندهم أن يكونوا موافقين لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ولأن عامة ما عندهم من العلم والإيمان استفادوه منه صلى الله عليه و سلم، الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد(57)، لذا كان الحق معهم، لأن (الحق دائمًا مع سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وآثاره الصحيحة، وأن كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة، لم يكن القول الذي انفردت به إلا خطأ، بخلاف المضاف إليه أهل السنة والحديث، فإن الصواب معهم دائمًا، ومَن وافقهم كان الصواب معه دائمًا لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول صلى الله عليه و سلم، فمن كان أعلم بسنته وأَتْبَع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته، وأتبع لها، وأكثر سلف الأمة كذلك، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين) (58).‏

لذا كانت متابعة السلف شعارًا للتمييز بين أهل السنة وأهل البدعة، كما قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك(59) : (أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم) (60)، فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف.. ولما كان الرافضة(61) أشهر الطوائف بالبدعة، حتــى إن العامــة لا تعرف مـن شعـائـر البـدع إلا الرفض، صار السني في اصطلاحهم مَن لا يكون رافضيًا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة(62)، وهناك طوائف أقرب منهم إلى طريقة السلف مثل (متكلمة أهل الإثبات من الكُلاَّبية(63) والكرامية(64) والأشعرية(65) مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم، وله أتبع، وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها) (66).‏

‏4 ـ تعريفه للبدعة : ‏

يرى البدعة في مقابل السنة، وهي : (ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات) (67)، أو هي بمعنى أعم : (ما لم يشرعه الله من الدين.. فكل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة، وإن كان متأولاً فيه) (68)، أي مما استحدثه الناس، ولم يكن له مستند في الشريعة.‏

وهي (نوعان : نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني) (69)، فمثال الأول في الأقوال : بدعة الأوراد المحدثة، وفي الاعتقادات : بدعة الرافضة والخوارج(70) ، والمعتزلة(71) ، والمرجئة(72)، والجهمية(73).. ومثال الثاني في الأفعال : لبس الصوف عبادةً، وعمل المولد(74)، وفي العبادات، الجهر بالنية في الصلاة، والأذان في العيدين(75).‏

‏ ـ تفاوت البدعـة : ‏

يرى أن البدعة تكون باطلاً على قدر ما فيها من مخالفة للكتاب والسنة، وابتعاد عن متابعة السلف، فهي ليست باطلاً محضًا، إذ لو كانت كذلك لظهرت وبانت وما قُبلت، كما أنها ليست حقًا محضًا لا شــوب فيه، وإلا كـانت موافقــة للسنــة التي لا تنــاقض حقًا محضًا لا باطل فيه، وإنما تشتمل على حق وباطل(76)، وعلى هذا يكون بعضها أشد من بعض(77)، ويكون أهلها (على درجات : منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة) (78).‏

وهذا التفاوت يقع في مسائل العقيدة والعبادة على حد سواء، فإن (الجليل من كل واحد من الصنفين، مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع) (79).. وما درج عليه الناس من تسمية مسائل العقيدة الخبرية بالأصول، ومسائل العبادة العملية بالفروع، تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء المتكلمين، وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن المسائل العملية آكد وأهم من المسائل الخبرية المتنازع فيها، لذا كثر كلامهم فيها، وكرهوا الكلام في الأخرى، كما أثر ذلك عن مالك وغيره من أهل المدينة(80).‏

وقد أشار الشيخ إلى هذا التفاوت من حيث قُرب الفِرَق وبُعْدها عن الحق قائلاً : (وأصحاب ابن كلاب(81) كالحــارث المحاسبـــي(82)، وأبي العباس القلانسي(83)، ونحوهما، خير من الأشعرية في هذا وهذا، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب، كان قوله أعلى وأفضل) (84).‏

‏6 ـ تأكيده على العمل بالسنة : ‏

يؤكد شيخ الإسلام على أنه لا عاصم من الوقوع في الباطل إلا بملازمة السنة، ذلك أن (السنة مثال سفينة نوح عليه السلام، من رَكِبَها نجا، ومن تَخَلَّف عنها غرق، قال الزهري(85) : كان من مضى من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة) (86)، لذا فإن المبتدعة لما كانوا مخالفين للسنة، وقعوا في الباطل وإن كانوا متأولين، لأنهم اتبعوا الهوى، وضلوا طريق السنة المنصوب على العلم والعدل والهدى، ومن هُنا سُمي أصحاب البدع، أصحاب الأهواء(87).‏

أما أهل العلم والإيمان من السلف، فإنهم تمسكوا بالسنة، وكان منهجهم على النقيض من منهج المبتدعة، فهم (يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقًا، وما خالفه كان باطلاً، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين، وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه، غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو المسائل العملية، فإنه ليس كل ما كان معلومًا متيقنًا لبعض الناس، يجب أن يكون معلومًا متيقنًا لغيره، وليس كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمه كل الناس ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيرًا منه، وكثير منهــم قد يشتبـــه عليـــه مـــا أراده، وإن كـــان كلامـــه في نفســـه محكـمًا مقــرونًا بما يبين مراده) (88).‏

لكن إذا لم يُتَّبَع منهج السلف، فإنه يُخاف على المنتسبين إلى العلم والنظر العقلي، وما يَتْبَع ذلك، من الوقوع في بدعة الأقوال والاعتقادات، ويُخاف على المنتسبين إلى العبادة والإرادة، وما يَتْبَع ذلك، من الوقوع في بدعة الأفعال والعبادات، وكل ذلك من الضلال والبغي، وقد أُمر المسلم أن يقول في صلاته : (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفاتحة : 6_7)، آمين، وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (اليهــود مغضوب عليهم، والنصــارى ضـالـون) (89)، قـــال سفيــان بن عيينة(90) : كانوا يقولون : من فَسَد من العلماء ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من العُبَّاد ففيه شبه من النصارى.. وكان السلف يقولون : احذروا فتنة العَالِم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فِعْلُ مــا يجـب عليـه، وتَرْكُ ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال(91).‏

‏7 ـ تحذيره من البدعة، وبيانه لوجه فسادها : ‏

حذر الشيخ من البدعة، وبين أنها أشر من المعصيــة(92)، لـذم رسول الله صلى الله عليه و سلم إياها في قوله : (شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) (93)، وفي رواية : (وكل ضلالة في النار) (94).. وذمه عليه الصلاة والسلام الواقعين فيها، في ذمه للرجل الذي اعترض على رسول الله صلى الله عليه و سلم في قسمته، فقال فيه : (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئي(95) هذا قومٌ يَحْقِرُ أحدُكُم صلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِم، وصيامَهُ مَعَ صِيَامِهِم، وقِرَاءَتَه مَعَ قِرَاءتِهم، يقرؤونَ القرآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمْرُقُون(96) مِنَ الإسلامِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة، لَئِن أدركتُهُم لأَقْتُلَنَّهم قَتلَ عاد) (97).. وفي رواية : (لو يعلمُ الذين يقاتلونهم ماذا لهم عن لسان محمدٍ لاتَّكَلُوا عن العمل) (98).. وفي رواية : (شر قَتْلَى تحتَ أديمِ السماء، خير قَتْلَى مَنْ قَتَلُوه) (99).‏

قال الشيخ معلقًا على هذا الحديث : (فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبيُ صلى الله عليه و سلم بقتلهم، وقَتَلَهم علي بن أبي طالب(100) ومَن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، وذلك لخروجهم عن سُنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرتُ قول الشافعي : لأن يُبتلى العبد بكل ذنب، ما خلا الشرك بالله، خير من أن يُبتلى بشيء من هذه الأهواء) (101).‏

كما بين الشيخ أن فساد البدعة وضررها من وجهين : ‏

الأول : أن البدع مفسدة للقلوب، مزاحمة للسنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، وفي هذا المعنى يقول (الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث) (102).‏

الثاني : أن البدع معارضة للسنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة والأعمال الفاسدة والخروج عن الشريعة، وفي هذا المعنى يقول : مبينًا أن (من أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة، الخروج عن الشِّرعة والمنهاج، الذي بعث به الرسول صلى الله عليه و سلم إلينا، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (103)، وهذا ظاهر في منهج المبتدعة، القائم على معارضة الكتاب والسنة، لـمَّا (جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة، التي جعلوها أصول دينهم، وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يُستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابــه، كمـا يجعـل الجهميـة من المتفلسفـة والمعتزلـة ونحوهـم، ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة، وعُلُوه على خَلْقه، وكون القرآن كلامه ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً عليها، أو مردودًا، أو غير ملتفت إليه، ولا متلقى للهدى منه) (104).‏


--------------------------------------------------------------------------------







 
قديم 17-11-03, 04:52 AM   رقم المشاركة : 3
StraightPath
عضو ينتظر التفعيل






StraightPath غير متصل

StraightPath


الأصول‏

أقام ابن تيمية رحمه الله أصول حكمه على المبتدعة، وفق منهج السلف من أئمة العلم والهدى، متبعًا لهم في الأحكام، ومتصفًا بما كانوا يتحلون به من خلال التعامل مع هؤلاء المخالفين، وقد بيّن منهج السلف الذي اتبعه في هذا الشأن، فقال : (وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان : فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج عنها، ولو ظلمهم كما قال تعالى : (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائــدة : 8)، ويرحمــون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا) (105).‏

حقًّا إن ابن تيمية ترجم هذا المنهج إلى علم وعمل، معتمدًا على الدليل الشرعي في بيان مفارقة البدعة للسنة، والحكم عليها وعلى أصحابها حسب درجتها، متوخيًا في ذلك الدقة المتناهية، حذرًا من الوقوع في الخطأ أو الزلل، ولاسيمــا ما يتصــل بالتضليـل أو التفسيــق أو التكفير، ومتحريًا العدل في إنصاف المخالفين، وإثبات ما عندهم من حق أو باطل، وما لهم من محامد أو مذام، متجردًا في ذلك دون أن تدفعه الغيرة على السنـــة، والكراهة للبدعـــة، إلى الوقـــوع في الظلـــم أو الحيف في الحقوق، وقاصدًا الرحمة بالمخالفين، والإحسان إليهم، باذلاً في سبيل بيان الحق والهداية إليه كــــل ما يملك من جهـــد ووقت، أو ما يلائم من حكمة وموعظـــة حسنـــة وجـــدال بالتي هي أحســن، أو ما يؤدي إلى الزجر والردع، حسب ما تقتضيه المصلحة، أو يدفع المفسدة بأنجع وسيلة، مع تدرج في سلوك هذا بما يعيدهم إلى رشدهم، أو يكف أذاهم عن غيرهم، متقيًا الاعتداء أو التشفي، مريدًا الخير والإصلاح، مبتغيًا وجه الله تعالى وإعلاء دينه.‏

هذا جملة المنهج الذي سار عليه ابن تيمية في تحرير أصول حكمه على المبتدعة، التي جاءت منضبطة وواضحة ودقيقة، تمثل تفصيل منهج أهل السنة والجماعة، في التعامل مع المبتدعة والحكم عليهم، وإليك البيان...‏

الاعتذار لأهل الصلاح والفصل عما وقعوا فيه بدعة عن اجتهاد، وحمل كلامهم المحتمل على أحسن محمل ‏

‏ عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية فرعيه ، وأولى من ذلك عدم تكفيره أو تفسيقه ‏
عذر المبتدع لا يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة، ولا إباحة اتِّباعه، بل يجب الإنكار عليه فيما يسوغ إنكاره، مع مراعاة الأدب في ذلك ‏
‏ عدم الحكم على من وقع في بدعة أنه من أهل الأهواء والبـدع، ولا معاداته بسببها، إلا إذا كانت البدعة مشتهرة مغلظة عند أهل العلم بالسنة ‏
لا يحكم بالهلاك جزمًا على أحد خالف في الاعتقاد أو غيره، ولا على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين، إلا إذا كانت المخالفة غليظة ‏
التحري في حال الشخص المعين، المرتكب لموجب الكفر أو الفسق، قبل تكفيره أو تفسيقه، بحيث لا يكفر ولا يفسق أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه ‏
‏ الحرص على تأليف القلوب واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين، والحذر من أن يكون الخلاف في المسائل الفرعية العقدية والعملية، سببًا في نقض عُرى الأخوة والولاء والبراء بين المسلمين ‏
‏ الإنصاف في ذكر ما للمبتدعة من محامـد ومـذام، وقبـول ما عندهم من حق، وردّ ما عندهم من باطل، وأن ذلك سبيل الأمة الوسط ‏
‏ رعاية شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأمر بالسنة والنهي عن البدعة، وتقديم الأهم فالأهم في ذلك
‏ مشروعية عقوبة الداعي إلى البدعة بما يحقق الزجر والتأديب والمصلحة، لأن ضرره متعد إلى غيره، بخلاف المسر فإنه تُقبل علانيته، ويُوكل سره إلى الله تعالى ‏
‏ صحة الصلاة خلف المبتدع إذا لم يمكن الصلاة خلف المتبع، وإذا أمكن ذلك فالمسألة محل خلاف بين أهل العلم .‏
‏ قبول توبة الداعي إلى البدعة .‏

--------------------------------------------------------------------------------







 
قديم 17-11-03, 04:54 AM   رقم المشاركة : 4
StraightPath
عضو ينتظر التفعيل






StraightPath غير متصل

StraightPath


الأصل الأول : الاعتذار لأهل الصلاح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد، وحمل كلامهم المحتمل على أحسن محمل

لا ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، يعفى عنه خطؤه، ويثاب، لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) (106)، لذا يُعذر كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد(107)، فإن كثيرًا (من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرَدْ منها، وإما لرأي رَأَوْه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286)، وفي الصحيح أن الله قال : (قد فعلتُ) (108)) (109).‏

وقد اعتذر الشيخ لبعض أهل الفضل والصلاح، ممن شهدوا سماع الصوفية ورقصهم متأولين، قائلاً : (والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والإخلاص والصلاح، غمرت حسناتهم ما كان لهم فيه وفي غيره من السيئات، أو الخطأ في مواقع الاجتهاد، وهذا سبيل كل صالحي هذه الأمة في خطئهم وزلاتهم) (110)، مستندًا في هذا على قول الله تعالى : (والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون) (الزمر : 33-35).‏

كما اعتذر لشيوخ أهل التصوف، الذين حسن ذكرهم وثبت إيمانهم، فقال : (لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتًا، غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاد) (111).‏

وإذا كان الاجتهاد عذرًا في العفو عن الخطأ البدعي، فإن هذا الخطأ لا ينقص من قدر المجتهد، متى كان من أهل القدم في الصلاح والتقوى، فإنه مع خطئه (قد يكون صدِّيقًا عظيمًا، فليس من شرط الصدِّيق أن يكون قوله كله صحيحًا، وعمله كله سنة) (112).. كما أن فعل أهل الفضل للبدعة ليس دليلاً على صحتها، فإن الصحة تُعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم.. قال رحمه الله مبينًا هذا : (إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين، فقد تركها في زمان هؤلاء من كان معتقدًا لكراهتها، وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم، ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فتُرد إلى الله ورسوله) (113).. هذا إذا وقع الخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، أما من أخطأ مخالفًا (الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع) (114).‏

وكذلك تُحمل الأقوال المحتملة لأهل الفضل والصلاح، على أحسن محمل وأسلم مقصد، من ذلك حَمْله رحمه الله لقول الجنيد(115) رحمه الله : (التوحيد إفراد القِدَم من الحدث)، قائلاً : (هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسنًا، وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة، وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة، وهو أن يُفْرَد الحق سبحانه وهو القـديم، بهــذا كلـه، فلا يشركه في ذلك محدث، وتمييز الرب من المربوب في اعتقادك وعبادتك، وهذا حق صحيح، وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.. ومما يدخل في كلام الجنيد، تمييز القديم عن المحدث، وإثبات مباينته له، بحيث يعْلَمه ويشهد أن الخالق مباين للخلق، خلافًا لما دخل فيه الاتحادية(116) من المتصوفة وغيرهم من الذين يقولون بالاتحاد معينًا أو مطلقًا) (117). ومنه أيضًا حمله قول بعض الصوفية : ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك أو إجلالاً لك -مع ما فيه من خطأ، على حسن القصد- فيقول : (وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات، يكون لأحدهم وَجْدٌ صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين مراده، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب(118) مع صحة مقصوده) (119).‏


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل الثاني
: عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية .. وأولى من ذلك، عدم تكفيره أو تفسيقه ‏

نسب ابن تيميـــة هـــذا الحكـــم إلى السلف وأئمــة الفتــوى، كأبي حنيفة(120) والشافعي والثوري وداود(121) بن علي وغيرهم، أنهم كانـوا لا يؤثمون مجتهدًا أخطأ في المسائل الأصولية والفروعية، وذكر ذلك عنهم ابن حزم(122) وغيره، وعلل هذا بأن أبا حنيفة والشافعي وغيرهمــا كــانــوا يقبلـــون شهـــادة أهـــل الأهــــــواء، إلا الخطابيـــة(123)، ويصححون الصلاة خلفهم(124)، والكافر لا تُقبل شهادته على المسلمين، ولا يُصلى خلفه، وأنهم قالوا : هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهــم لا يكفــرون ولا يفسّقــون ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا : والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع، من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية، ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غَوره(125).‏

وبيَّن رحمه الله بطلان رأي مَن قال : إن (مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية، التي يُطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل -من جهة الحكم- فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم شهر رمضان، وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش، وفي المسائل العلمية، ما لا يأثم المتنازعون فيه، كتنازع الصحابة : هل رأى محمد ربه؟ كتنازعهم في بعض النصوص : هل قاله النبي صلى الله عليه و سلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات، هل هي من القرآن أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة : هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام، كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ونحو ذلك، فليس في هذا تكفيـر ولا تفسيق) (126).‏

وأوضح الشيخ بطلان جعل العقائد هي الأصول، والعبادات والمعاملات هي الفروع، فقال : (الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع، فالعلم بوجوب الواجبات، كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا مَن جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كَفَر، كما أن مَن جحد هذه كَفَر.. وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية، بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل : وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقَدَر خيره وشره.. وأما الأعمال الواجبة، فلابد من معرفتها على التفصيل، لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة، ولهذا تُقِرُّ الأمةُ مَن يُفصلها على الإطلاق وهم الفقهاء، وإن كان قد يُنكر على مَن يتكلم في تفصيل الجمل القولية، للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة) (127).‏

وعلل رحمه الله، عدم تأثيم المجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية بقوله : (ليس كل مَن اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا مَن ترك مأمورًا أو فعل محظورًا، وهذا قول الفقهاء والأئمة(128)، وهو القول المعروف عن سلف الأمة، وقول جمهور المسلمين) (129).‏

لكنه يُفَرِّقُ بين خطأين : خطأ مؤاخذ عليه، وخطأ مغفور له، فيقول : (مَن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله، بسلوك السبيل التي نُهي عنها، أو لاتباع هواه بغير هدىً من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله، فهذا مغفور له خطؤه، كما قال تعالى : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا...) إلى قوله : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 285-286)، وقد ثبت في صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه و سلم، أن الله قال : (قد فعلتُ) (130)، وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس(131) رضي الله عنهما : (أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك) (132)، فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا) (133).‏

وإذا كان خطأ المجتهد من علماء المسلمين مغفورًا له، فإنه لا يجوز تكفير أحد منهم بمجرد الخطأ، بل ولا يُفَسّق ولا يُؤثم، وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام : (إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم، لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه... فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض، الذين يكفّرون أئمـة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم، وليس كُل مَن يُترك بعضُ كلامِه لخطأ أخطأه، يكفر، ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286)، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إن الله قال : قد فعلتُ) (134)) (135).‏

بل يرى الشيخ أن (دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطأوا، هو من أحق الأغراض الشرعية...) (136).‏

على أنه ينبغي أن يعلم أن رفع الإثم عن العالم المجتهد إذا أخطـأ، لا يعني الإغضاء عن البدعة التي أخطأ فيها، فقد بيّن رحمه الله أن إثمها يزول للاجتهاد أو غيره، إلا أنه يجب بيان حالها، وعدم الاقتداء بمن استحلها، وأن لا يقصر أحد في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها(137)، ذلك أن الإثم مزال عن المجتهد، لا عن وجه المخالفة من المبتدع.‏

وتأكيدًا لما سبق، فإن الشيخ يقرر أن مسلك أهل السنة، عدم تكفير المجتهد المخطئ في المسائل العملية أو المسائل الاعتقادية، فيقول : (إن المتأوِّل الذي قَصْدُه متابعةُ الرسول صلى الله عليه و سلم لا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثيــر من النــاس كفَّــروا المخطئين فيهــا، وهــذا القــول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يُكفّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل مَن خرج عما هو عليه، من أهل البدع.. وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفّر مَن قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفّر كلُّ مَن قاله مع الجهل والتأويل) (138).. لذا كان (من عيوب أهل البدع، تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهــم يُخَطِّئــون ولا يكفّرون) (139).‏


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل الثالث :عذر المبتدع لا يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة، ولا إباحة اتِّباعه، بل يجب الإنكار عليه فيما يسوغ إنكاره، مع مراعاة الأدب في ذلك ‏

يرى ابن تيمية أن المجتهد المبتدع لا يُقر على إظهار البدعة والدعوة إليها(140)، متى تبينت مخالفتها للكتاب والسنة، بل لا يجوز متابعته فيها، (نعم، قد يكون متأولاً (141) في هذا الشرع، أي الذي ابتدعه، فيُغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يُعفى معه عن المخطئ، ويُثاب أيضًا على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر مَن قال أو عمل عملاً قد عُلم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا، وقد قال سبحانه وتعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (التوبة : 31)، قال عـدي بن حاتم(142) للنبي صلى الله عليه و سلم : (يـا رسـول الله! ما عبـــدوهم. قـــال : (ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم) (143) فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن به الله، في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد لحقه من هذا الذم نصيب) (144).‏

ويؤكد رحمه الله، أنه لا يكون معذورًا من اتبع مخالفًا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه و سلم مما هو ظاهر بيِّن، فيقول : (والذي يصدر عنه أمثال هذه الأمور(145) -أي المخالفة- إن كان معذورًا بقصور في اجتهاده، أو غيبة في عقله، فليس مَن اتبعه بمعذور، مع وضوح الحق والسبيل، وإن كانت سيئته مغفورة، لما اقترن بها من حُسنِ قصدٍ، وعملٍ صالحٍ، فيجب بيان المحمود والمذموم، لئلا يكون لبسًا للحق والباطل) (146).‏

وبيّن متى تجب المتابعة في الأمور الشرعية، ومتى تمتنع، وأحوال المجتهدين معها، فقال : إن (الأمور -الشرعية- تُعطى حقها من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر والأمر والنهي وجب اتباعه، ولم يُلْتَفت إلى مَن خالفه كائنًا مَن كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائنًا مَن كان، كما دل عليه الكتاب والسنة(147) وإجماع الأمة، من اتباع الرسول وطاعته... فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم، وما من الأئمة إلا من له أقوال وأفعال -تَبَيَّنَ مخالفتها للكتاب والسنة- فهو لا يتبع عليها، مع أنه لا يُذم عليها) (148).‏

أما ما (لم يُعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الاجتهاد، التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان، فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بيّن الله له الحق فيها، لكنه لا يمكنه أن يُلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم... وقد تكون اجتهادية عنده أيضًا، فهذه تسلم لكل مجتهد ومن قلده... بحيث لا ينكر ذلك عليهم) (149)، وأما الذي لا يسلم إليه حاله فهو آتي المحرمات وتارك الواجبات، من غير تأويل سائغ أو عــذر مشـــروع، فإنــه يجب الإنكــار عليه بحسب ما جاءت به الشريعة، من اليد واللسان والقلب(150)، ويلحق به كل من أظهر مقالة تُخالف الكتاب والسنة، فإنهــا من المنكــر الذي أمر الله بالنهــي عنـــه(151) في قولـه تعالـى : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (آل عمران : 104).. أما مَن اشتبه أمره فيُتوقف معه، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة (152).‏

وإذا كان الاجتهاد يغفر للعالم خطأه، فإن هذا يقتضي التأدب معه، ومراعاة حقه عند إنكار ما أظهره من بدعة وبيان مخالفته للسنة، وفي هذا يقول رحمه الله : (وإن كان المخطئ المجتهد مغفورًا له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب، وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله، ومن علم منه الاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يُذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله له من حقوقه، من ثناء ودعاء وغير ذلك) (153).‏


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل الرابع : عدم الحكم على من وقع في بدعة أنه من أهل الأهواء والبـدع، ولا معاداته بسببها، إلا إذا كانت البدعة مشتهرة مغلظة عند أهل العلم بالسنة ‏

بيّن ابن تيمية أن (البدعة التي يعد بها الرجل من أهـل الأهواء، ما اشتهر عند أهل العلم مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية(154) والمرجئة) (155).. وغلظت أقوال أصحابها فيها حتى أخرجتهم من عداد أهل السنة، وفي هذا يقول عند عرضه لأقوال هؤلاء انتهاءً ببدعة المرجئة : (أما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعظلة(156)، بل قد دخل في قولهم طوائــف من أهل الفقــه والعبــادة، وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة) (157)، ويلحق بهؤلاء، بل هم أشد بدعة، (الحجاج إلى القبور، والمتخذون لها أوثانًا ومساجد وأعيادًا، فهؤلاء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة تُعرف، ولا كان في الإسلام قبر ولا مشهد يُحج إليه، بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلاثة.. والبدعة كلما كانت أظهر مخالفة للرسول صلى الله عليه و سلم يتأخر ظهورها، وإنما يحدث أولاً ما كان أخفى مخالفة للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج) (158)، وهكذا فإن غلظ البدعة ليس مقصورًا على بدع القرون الأولى، فإن بدع الشرك ظهرت بعد ذلك، وهي أشد وأغلظ وأعظم خطرًا.‏

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذين يعدون من أهل الأهواء والبدع، هم من اتصفوا بما يلي : ‏

أ ـ أنهم يجعلون ما ابتدعوه، قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون(159).‏

ب ـ أنهم ينازعون فيما تواترت به السنة(160).‏

وبهذا يتميز أهل السنة عن أهل البدعة، فإن الذين وقعوا في البدعة (إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتهـــا، لهــم مقــالات قالـوها باجتهــاد، وهي تخــالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف من والى مُوَافِقَهُ، وعادى مُخَالِفَهُ، وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسّق مُخَالِفَه دون مُوَافِقَه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات) (161).‏

وكذلك فإن أئمة المسلمين متفقون على تبديع مَن خالف في الأمور المعلومة بالاضطرار، عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم في الصفات والقَدَر والعلو والرؤية، وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته، كما تواترت عندهم عنه، بخــلاف من نــازع في مســائل الاجتهــاد، التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القَسَامة والقُرْعَة وغير ذلك(162).‏

فمن كانت بدعته غليظة، ظاهرة المخالفة للسنة عند أهل العلم، وجبت عداوته بقدر بدعته، بل يرى شيخ الإسلام عقوبة مَن والاه، فيقول في معرض رده على الاتحادية، وينتظم معهم مَن كان مثلهم : (ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذبّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظّم كتبهم، أو عُرِف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو مَن قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خَلْقٍ من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله) (163).‏

أما ما كان دون ذلك من المسائل التي وقع فيها خلاف، فإنه لا يستوجب الفرقة والمعاداة، والحكم على المخالف من أهل البدعة والهوى، فقد ذكر ابن تيمية أن من مسائل الاعتقاد التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة والاتباع، مسألة رؤية الكفار ربهم في الآخرة، فجمهور أهل السنة يرون أن الكفار محجوبون عنها على الإطلاق، ومن العلماء مَن يرى أنه يراه مَنْ أَظْهَرَ التوحيدَ من منافقي هذه الأمة والكفار، في عَرَصات يوم القيامة، ثم يحتجب عنهم(164) عقوبة لهم.‏

لكــن أمـــــام هــــذه المســألـة، وغيـــرها من مثيــلاتــها، تجب مراعــاة الآداب التالية : ‏

أ ـ (أن مَن سكت عن الكلام في هذه المسألة، ولم يدع إلى شيء، فإنه لا يحل هجره، وإن كان يعتقد أحد الطرفين، فإن البدع التي هي أعظم منها، لا يُهجر فيها إلا الداعية دون الساكت، فهذه أولى.‏

ب ـ أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارًا، يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم، فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه و سلم.‏

جـ ـ وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين، الذين هم في عافية وسلام عن الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها، أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك، ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، فإن الإيمان بذلك فرض واجب، لما قد تواتر فيها عن النبي صلى الله عليه و سلم، وصحابته وسلف الأمة) (165).‏







 
قديم 17-11-03, 04:56 AM   رقم المشاركة : 5
StraightPath
عضو ينتظر التفعيل






StraightPath غير متصل

StraightPath


الأصل الخامس :لا يحكم بالهلاك جزمًا على أحد خالف في الاعتقاد أو غيره، ولا على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين، إلا إذا كانت المخالفة غليظة ‏

لا ريب أن نجاة الأفــراد والجماعـــات تكــون في السيــر على مثـل مـا ســـار عليــه رســول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابـــه رضــي الله عنهــم، لقـــول رســول الله صلى الله عليه و سلم : (تَفترقُ أُمَّتِي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً : اثنتان وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنة، وهي مَن كان على مِثْلِ ما أنا عليه اليوم وأصحابي) (166)، هذه هي الفرقة الناجية.. فما مصير مَن خالف اعتقادها؟ وهل يعد من الاثنتين والسبعين فرقــة التي أشــار إليهـا الحديث؟‏

يبين ابن تيمية أنه (ليس كل مَن خالف في شيء مِن هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته.. وإذا كانت ألفاظ الوعيـــد المتناولــة له، لا يجــب أن يدخــل فيهــــا المتـــأول والقـــانـت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك، فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيًا، وقد لا يكون ناجيًا، كما يقال : مَن صمت نجا) (167)، فليس كل من تكلّم هلك.‏

كما يوضح ابن تيمية أنه لا يُحكم على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث، وأنه لا سبيل إلى الجزم بأنها واحدة منها، لأن (الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لابد له من دليل، فإن الله حرّم القول بلا علم عمومًا، وحرّم القول عليه بلا علم خصوصًا) (168)، قال تعالى : (قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) (الأعراف : 33).‏

وقــال تعــــالى : (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (البقرة : 168-169). وقـــال تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء : 36).‏

نعم ورد تعيين بعض الفرق عن إمامين من أهل السنة همــا : يوسف بن أسباط(169)، وعبد الله بن المبارك(170)، أنهما قالا : أصول البدع أربعة : الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة، فقيل لابن المبارك : والجهمية، فأجاب : بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه و سلم، وكان يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.. وهذا الذي قاله، اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا : إن الجهمية كفار، فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة(171).‏

وروى المسيب بن واضح(172) أنه قال : (أتيت يوسف بن أسباط، فقلتُ : يا أبا محمد! إنك بقية ممن مضى من العلماء، وأنت حجة على من لقيت، وأنت إمام سنة، ولم آتك أسمع منك الأحاديث، ولكن أتيتك أسألك عن تفسيرها، وقد جاء هذا الحديث : (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة) (173)، فما هذه الفرق حتى نجتنبهم؟ فقال : أصلها أربعة…) (174).‏

فهذه الطوائف اشتهرت أقوالها المخالفة مخالفة غليظة للكتاب والسنة، وافترقت عن أهل السنة والجماعة، افتراقًا بينًا في الأصول من الدين مما ثبت بالضرورة، فساغ لهذا الإمام الحكم عليها بأنها من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين(175).‏


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل السادس :التحري في حال الشخص المعين، المرتكب لموجب الكفر أو الفسق، قبل تكفيره أو تفسيقه، بحيث لا يكفر ولا يفسق أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه ‏

نبه ابن تيمية إلى عظم مسألتي التكفير والتفسيق عمومًا، فقال : (اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام، التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة، والقتل والعصمة، وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرّم الجنة على الكافرين) (176).‏

ولعظم المسألتين وخطرهما، فإن إطلاق الكفر أو الفسق على أحد لا يكون إلا بموجب قطعي، ولاسيما الكفر فإنه يكون (بمثل تكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم) (177)، ويتعلق بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق بالكتاب والسنة، وهما متضادان، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع تصديقـــه وطاعتــه، وحكمــه لا يتبين إلا عن طريق الشرع(178)، فليس لأحد أن يكفر أحدًا بهواه، لأن التكفير حق لله تعالى، والذين يكفّرون بهواهم هم المبتدعة، كالروافض الذين كفّروا أبا بكر(179)، وعمر(180) رضي الله عنهما، والخوارج الحرورية(181) الذين كفّروا عليًا رضي الله عنه، وقاتلوا الناس على الدين، (حتى يرجعــوا عمــا ثبت بالكتــاب والسنــــة وإجمــاع الصحابــــة، إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن.. ومع هذا، فقد صرّح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون، ليسوا كفارًا ولا منافقين، وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس، كأبي إسحاق الإسفراييني(182) ومن اتبعه، يقولون : لا نكفّر إلا من يكفّرنا، فإن الكفر ليس حقًا لهم بل هو حق لله، وليس للإنســان أن يَكْذِبَ على مــن يكــذب عليـه، ولا يفعل الفاحشة بأهل مَن فعل الفاحشة بأهله، ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرامٌ، لحق الله) (183).‏

ويصرّح في موضع آخر بأن هذا المسلك هو مسلك أهل العلم والسنة، فيقول : (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون مَن خالفهم، وإن كان ذلك المخالفُ يكفّرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يُكَفَّر إلا من كَفَّره الله ورسوله) (184).‏

كما أن أهل السنة لا يكفّرون أحدًا من أهل القبلة بالذنب والمعصية، وإنما ذلك من فعل الخوارج الذين يكفّرون بمطلق الذنوب(185)، وفي هذا يقول رحمه الله : (من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لابد منه، ويكفّرون مَن خالفهم فيها ويستحلون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة.


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل السابع : الحرص على تأليف القلوب واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين، والحذر من أن يكون الخلاف في المسائل الفرعية العقدية والعملية، سببًا في نقض عُرى الأخوة والولاء والبراء بين المسلمين ‏

يقول رحمه الله في هذا : (تعلمون أن من القواعد العظيمة، التي هي من جِماع الدين، تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول : (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) (الأنفال : 1)، ويقول : (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) (آل عمران : 103)، ويقول : (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران : 105). وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف.. وأهل هذا الأصل، هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفُرقة) (213).‏

وبيّن الشيخ أن الخلاف في المسائل الفرعية العقدية والعملية، جرى بين الصحابة والتابعين من سلف الأمة، مع محافظتهم على هذه القاعدة، وأن العاصم من ذلك كان في رد النزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، وابتغاء الحق وحده، فيقول مقررًا مسلكهم رضي الله عنهم : (وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، إذا تنازعوا في الأمر اتبعـــوا أمـــر الله تعالـى في قولــه : (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) (النساء : 59). وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين.. نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافًا لا يُعذر فيه، فهـــذا يعامــل بما يُعامـــل به أهــل البــدع، فعائشــة أُم المؤمنين رضي الله عنها، قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة، في أن محمدًا صلى الله عليه و سلم رأى ربه، وقالت : (مَن زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفـرية) (214)، وجمهـــور الأمــــة علــى قــول ابن عباس رضي الله عنهما، مع أنهم لا يُبدّعون المانعين الذين وافقـــوا أم المؤمنين رضي الله عنها، وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي، لـمّا قيل لها : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (ما أنتــم بأسمع لمـا أقــول منهم) (215)، فقالت : إنما قال : (إنهم ليعلمون الآن أن ما قلتُ لهم حق) (216).. ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : (ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) (217)، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم، إلى غير ذلك من الأحاديث.. وأم المؤمنين تأولت، والله يرضى عنها، وكذلك معاوية(218) رضي الله عنه، نقل عنه في أمر المعراج أنه قال : (إنما كان بروحه) (219)، والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه، ومثل هذا كثير).‏

وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كــل ما اختلف مسلمــان فــي شيء تهاجــرا، لـم يبق بين المسلمين عصمـــة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، سيدا المسلمين، يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير.. وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه يوم بني قريظة(220) : (لا يُصلين أحد العصرَ إلا في بني قُريظة)، فأدركتهم العصرُ في الطريق، فقال قوم : لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتتهم العصر. وقال قوم : لم يُرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب واحدًا من الطائفتين، أخرجاه في الصحيحين(221)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا وإن كــان في الأحكــام، فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام (222).‏

وأكد الشيخ على مراعاة الأخــوة والمــوالاة بين المسلمين، بحيــث لا يؤثر عليها ما يقع من خلاف بسبب دواع اجتهادية، مبينًا أن العاصم من ذلك تقديم حق الله على حق النفس، وفي هذا يقول : (جعل الله... عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين، وأمرهم سبحانه بالائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، فقال تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) (آل عمــران : 103) ، وقـــــال تعــــالـــــى : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله) (الأنعام : 159) الآية، فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه و سلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة، ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برَّأ الله نبيه صلى الله عليه و سلم ممن كان هكذا. فهذا فِعْل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماء مَن خالفهم.. وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخّره الله ورسوله، ويحـب مــا أحبــه الله ورســوله، ويبغـض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورســوله، وأن يرضــى بما رضي الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يُضلل غيره ويكفّره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين، فليس كل مَن أخطأ يكون كافرًا أو فاسقًا، بل قد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال الله تعالى في كتابه، في دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286). وثبت في الصحيح أن الله قال : (قد فعلت) (223)، لاسيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام، مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي، أو منتسبًا إلى الشيخ عدي(224)، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عِرضه ودمه وماله؟ مع ما قد ذكر الله تعالى من حقوق المسلم والمؤمن) (225).‏

ولعل أظهر ما يقوّي وشيجة الأخوة بين المسلمين، ويحفظ تماسك جماعتهم، العمل بأحكام الولاء والبراء التي شرعها الله في كتابه، دون التفات إلى مناهج أخرى أو تعصّب لطوائف، ذلك أن (الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقُرب، وأصل العداوة البغض والبُعد) (226)، وهما أوثق عُرى الإيمان كما أخبر الرسول صلى الله عليه و سلم : (أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) (227).. وقد بيّن الشيخ أحكام الولاء والبراء، ولمن يكونان ويعطيان، فقال : (فأما الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة، فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمنًا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرًا وجبت معادته من أي صنف كان، قال الله تعالى : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) (المائدة : 55-56)...‏

ومن كان فيه إيمان وفيه فجور، أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يُجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفسّاق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى : (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) إلى قولـه : (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات : 9-10)، فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي) (228).‏

كما لا يتنافى وجود الشر والمعصية والبدعة في شخص، مع استحقاقه للموالاة والإكرام بقدر ما فيه من خير وطاعة وسنة، وفي هذا يقول الشيخ : (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له هذا وهذا) (229).‏

وعملاً بمبدأ الولاء والبراء، فإن الشيخ يقرر : (أن الواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين، ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان قادرًا على أن يُولّي في إمامة المسلمين الأفضل ولاّه، وإن قدر أن يمنع من يُظهر البدع والفجور منعه) (230).. وهكذا على مقتضى اتباع الحق وإظهاره، خلا المبتدعة الملاحدة، فهؤلاء يجب البراء منهم، فإن الشيخ أنكر على من يعاون أو ينصر أهل الحلول والاتحاد، فقال : (ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان المنكرين للحلول والاتحاد، وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين، فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى، بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين، فإن قول المشركين الذين يقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى(231)، خير من قول هؤلاء، فإن هؤلاء أثبتوا خالقًا ومخلوقًا غيره، يتقربون به إليه، وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق) (232)، بخلاف أهل الصلاح والتقوى إذا وقعوا في بدعة متأولة وليست غليظة(233)، فهؤلاء تجب موالاتهم ومحبتهم، لأن ما وقع منهم من قبيل الهفوة والزلة، التي لا تنسخ ما لهم من صلاح وتقوى، وقد وقع ذلك (من أكابر السلف المقتتلين في الفتنة، والسلف المستحلين لطائفة من الأشربة المسكرة، والمستحلين لربا الفَضْل والمتعة، والمستحلين للحشوش، كما قال عبد الله بن المبارك : رُبَّ رجل في الإسلام، له قدم حسن وآثار صالحة، كانت منه الهفوة والزلة، لا يُقتدى به في هفوته وزلته) (234).. فهؤلاء وأمثالهم معذورون، لأنهم مجتهدون، لم يقصدوا فعل الحرام، ولا مخالفة السنة، فهم حين استحلوا ذلك لا يعتقدون (أنه من المحرمات، ولا أنه داخل فيما ذمه الله ورسوله، فالمقاتل في الفتنة متأولاً لا يعتقد أنه قتل مؤمنًا بغير حق، والمبيح للمتعة والحشوش ونكاح المحلل لا يعتقد أنا أباح زنا وسفاحًا، والمبيح للنبيذ المتأول فيه، ولبعض أنواع المعاملات الربوية وعقود المخاطرات، لا يعتقد أنه أباح الخمر والميسر والربا.. ولكن وقوع مثل هذا التأويل من الأئمة المتبوعين، أهل العلم والإيمان، صار من أسباب المحن والفتنة، فإن الذين يعظمونهم قد يقتدون بهم في ذلك، وقد لا يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك، بل يتعدون ذلك ويزيدون زيادات لم تصدر من أولئك الأئمة السادة، والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل، قد يعتدون على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم، ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حرّمه الله ورسوله) (235).‏

وبهذا يتقرر أن الشيخ لا يرى الوقوع في البدعة عن شبهة أو تأول مبطلاً لحقوق المسلم، ومنها الموالاة، التي من معانيها المحبة والنصرة والحماية، بل هي ثابتة للمسلم المبتدع بقدر ما عنده من إيمان، فيحب بقــدر ما فيه من صلاح، وينصر على من ظلمه، وإن كان فيه سوء، وفي هذا يقول رحمه الله : (ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج، أعظم من شر الظالم، وأما إذا لم يكونوا يظلمون المسلمين، والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم، فهذا عدوان منه فلا يعاون على عدوان) (236)، مصداق قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (المسلم أخو المسلم لا يَظلمه ولا يُسْلمه) (237)، فما دام المبتدع مسلمًا، فإنه يثبت له هذا الحق.‏







 
قديم 17-11-03, 04:58 AM   رقم المشاركة : 6
StraightPath
عضو ينتظر التفعيل






StraightPath غير متصل

StraightPath


الأصل الثامن : الإنصاف في ذكر ما للمبتدعة من محامـد ومـذام، وقبـول ما عندهم من حق، وردّ ما عندهم من باطل، وأن ذلك سبيل الأمة الوسط ‏

قرر شيخ الإسلام أن منهج أهل السنة والجماعة في الثناء والذم، قائم على الكتاب والسنة والإجماع، فقال : (وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله والثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وأن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يُثاب عليــه ومــا يعــاقب عليــه، وما يحمد عليه وما يذم، وما يحب منه وما يبغض منه) (238).‏

وبيّن رحمه الله، أن هذا هو المنهج الصواب، فقال : (والصواب أن يُحمد من حال كل قوم ما حمده الله ورسوله، كما جاء به الكتاب والسنة، ويذم من حال كل قوم ما ذمه الله ورسوله، كما جاء به الكتاب والسنة) (239)، ووضح الشيخ أن هذا المنهج يضاده منهج أهل البدع، الذين لا يعذرون من أخطأ مجتهدًا، فيذمونه متغافلين عن حسناته ومحامده، فقال : (ومن جعل كل مجتهد في طاعة، أخطأ في بعض الأمور، مذمومًا معيبًا ممقوتًا، فهو مخطئ ضال مبتدع) (240).‏

وقد أظهر شيخ الإسلام مسلك أهل السنة والجماعة، في ثنائه وذمه للرجال والطوائف والكتب، وبيانه لقربهم من الحق وبعدهم عنه، متبعًا في ذلك سبيل الأمة الوسط، القائم على العدل والإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه، من غير مداهنة في باطل، ولا غمط في حق، ومن الأمثلة على إنصافه : ‏

أ ـ ذكره بعض محامد أهل البدع والأهواء، وبيانه أن أهل السنة يتبعون معهم العدل والإنصاف، يقول رحمه الله : (والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية(241) من الشيعة خير منهم، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العـــدل والإنصــاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقًا، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء، خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقـــولون : أنتــم تنصفوننــا ما لا ينصف بعضنا بعضًا، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد، مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض.. والخوارج تكفّر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفّرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفّر فسّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء، يبتدعون رأيًا ويكفّرون من خالفهم فيه، وأهل السنــة يتبعــون الحـق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يكفّرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحـــق وأرحـــم بالخلــق، كمــا وصــف الله به المسلمين بقولــه : (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران : 110)، قال أبو هريرة(242) رضي الله عنه : (كنتم خير الناس للناس) (243)، وأهل السنة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس) (244).‏

ويقول في موضع آخر : (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين، من الرافضة والجهمية وغيرهم، إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا) (245).‏

ب ـ تفصيله في الحكم على الصوفية والتصوف، بما يظهر الإنصاف : فقد بَيَّن رحمه الله تعالى، أنه وقع الاجتهاد والتنازع في طريق الصوفية (فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا : إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونُقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين مــن قد يجتهـــد فيخطئ، وفيهـــم من يذنـب فيتـوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم، كالحلاج(246) مثلاً، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه من الطريق، مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره، كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمـــن السلمي(247) فــي طبقات الصوفية(248)، وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب(249)، في تاريخ بغداد(250)) (251).‏

جـ ـ دفاعـــه عـــن اعتقـــاد بعـض مشايــخ الصوفيــة، فقــد ناقـش أبا القاسم القشيري(252)، في دعواه أن اعتقاد أكابر مشايخ الصوفية مثل : الفضيــل بن عيــاض(253)، وأبي سليمــان الداراني(254)، ويوسـف ابن أسباط، وحذيفة المرعشي(255)، ومعروف الكــرخي(256)، والجنيــد ابن محمد، وسهل بن عبد الله التُّسْتَري(257)، موافق لاعتقاد كثير من المتكلمين الأشعرية بما يطول نقله، لذلك أقتصر منه على مقدمته : (فصل فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيري في رسالته المشهورة، من اعتقاد مشايخ الصوفية، فإنه ذكر من متفرقات كلامهم، ما يستدل به على أنهم كانوا يوافقون اعتقاد كثير من المتكلمين الأشعرية، وذلك هو اعتقــــاد أبي القاســـم الذي تلقـــاه عن أبي بكــر بن فــورك(258)، وأبي إسحاق الإسفراييني. وهذا الاعتقاد غالبه موافق لأصول السلف وأهل السنة والجماعـــة، لكنه مقصـــر عن ذلك، ومتضمن تـرك بعض ما كانوا عليه، وزيادة تخالف ما كانوا عليه، والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ، يوافق ما كان عليه السلف، وهذا هو الذي كان يجب أن يذكر، فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن أكابر المشايخ، مثل : الفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، ومعروف الكرخي، وأبي الجنيد بن محمد، وسهل ابن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء، ما يبين حقيقة مقالات المشايخ) (259).‏

وفي موضع آخر قال مفصلاً حال أهل التصوف بما يدل على الإنصاف والعدل : (والشيوخ الأكابر الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، وأبو القاسم القشيري في الرسالة، كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهــل الحديث، كالفضيـل ابن عياض، والجنيد بن محمـــد، وسهــل بن عبــد الله التستـري، وعمــرو بن عثمان(260) المكي، وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، وغيرهم، وكلامهم موجود في السنة، وصنفوا فيها الكتب، لكن بعض المتأخرين منهم كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد، ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة، وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين، فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل الحديث، وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم، وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة كهؤلاء الملاحدة) (261)، أي القائلين بوحدة الوجود، الملحدين في الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر.‏

وبيّن رحمه الله، منهجه في مناقشة ما ذكره أبو القاسم فقال : (اجتهدتُ في اتباع سبيل الأمة الوسط، الذين هم شهداء على الناس، دون سبيل من قد يرفعه فوق قدره، في اعتقاده وتصوفه على الطريقة التي هي أكمل وأصح مما ذكره، علماً وحالاً وقولاً وعملاً واعتقادًا واقتصادًا، أو يحطه دون قدره فيهما، ممن يسرف في ذم أهل الكلام، أو ذم طريقة التصوف مطلقًا، والله أعلم.. والذي ذكره أبو القاسم، فيه الحسن الجميل الذي يجب اعتقاده واعتماده، وفيه المجمل الذي يأخذ المحق والمبطل، وهذان قريبان، وفيــه منقـــولات ضعيفــة، ونقول عمــن لا يقتدى بهم في ذلك، فهذان مردودان، وفيه كلام حمله على معنى، وصاحبه لم يقصد نفس ما أراده هو، ثم إنه لم يذكر عنهم إلا كلمات قليلة لا تشفي في هذا الباب، وعنهم في هذا الباب من الصحيح الصريح الكبير ما هو شفاء للمقتدي بهم، الطالب لمعرفة أصولهم، وقد كتبتُ هنا نكتًا يُعرف بها الحال) (262).‏

د ـ تأكيده على اتباع منهج العدل، في قبول قول المخالفين وآثارهم ورواياتهم وردها، وذلك تصديقًا لقول معاذ بن جبل(263) رضي الله عنه : (اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافرًا -أو قال فاجرًا- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا : كيف تعلــم أن الكافــر يقـول الحــق؟ قال : على الحق نور) (264)، وهو ما عبّر عنه ابن تيمية بقوله : (والله قد أمرنا ألا نقول إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني، فضلاً عن الرافضي، قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون مافيه من الحق) (265).‏

ووضّح شيخ الإسلام كيفية الاستفادة من هذا المنهج، في التعامل مـــع مـــرويــات المخالفين وآثارهــــم، ممثـــلاً لهــا بمــــا (جمعـــــه الشيــخ أبو عبــد الرحمن السلمي ونحوه في تاريخ أهل الصُّفَّة، وأخبار زهّاد السلف، وطبقات الصوفية، يُستفـــاد منه فوائـــد جليلــة، ويتجنب منه ما فيه من الروايات الباطلة، ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة، وهكذا كثير من أهل الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق، من الفقهاء والزهاد والمتكلمين وغيرهم، يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له، شيء كثير.. وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسولَه، ويوجد أحيانًا عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة، ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يُثنى عليه ويُحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يُعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العدل والعلم، فهم بعداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس) (266).‏

هـ ـ دفاعه عن بعض طوائف أهل الكلام(267)، وتفضيله لهم على من دونهم، لانتسابهم إلى مذهب أهل السنة والجماعة، في ردهم على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة، كالخوارج، مما يدل على إنصافه، قال رحمه الله : (ومعلوم باتفاق المسلمين أن مَن هو دون الأشعرية، كالمعتزلة والشيعة الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما وراءه، فهم خير من الفلاسفة الذين يسوّغون التدين بدين الإسلام واليهود والنصارى، فكيف بالطوائف المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة كالأشعرية والكرامية والسالمية(268) وغيرهم؟ فإن هؤلاء مع إيجابهم دين الإسلام وتحريمهم ما خالفه، يردون على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة، كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية، ولهم في تكفير هؤلاء نزاع وتفصيل، فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح دين المشركين واليهود والنصارى، خير من اثنتين وسبعين فرقة فليس بمسلم، فكيف بمن جعله خيرًا من طوائف أهل الكلام المنتسبين إلى الذب عن أهل السنة والجماعة) (269).‏

و ـ ثناؤه على بعض علماء المسلمين ممن لهم قدم راسخة، واعتذاره عن خطئهم، من أمثال القاضي أبي بكر الباقلاني(270)، وأبي ذر الهروي(271)، وهما من علماء الأشاعرة : ‏

قال عن القاضي الباقلاني : (فيه من الفضائل العظيمة، والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة والملحدين وأهل البدع، حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كُلاّب والأشعري أجلَّ منه، ولا أحسن كتبًا وتصنيفًا، وبسببه انتشر هذا القول) (272).‏

وقال عن الهروي : (أبو ذر فيه من العلم والدين، والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري(273)، عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من المحاسن والفضائل، ما هو معروف به، وكان قد قدم بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم، فتكلّم فيه وفي طريقته من تكلّم، كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني(274) وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين، بما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الضبعي(275)، والثقفي(276)، على طريقة ابن خزيمة(277) وأمثاله من أهل الحديث.. وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة، ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي(278)، فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني(279) الحنفي، صاحب القاضي أبي بكر(280)، ورحل بعده القاضي أبو بكر العربي، فأخذ طريقة أبي المعالي(281) في الإرشاد. ثم إنه ما من هؤلاء إلا مَن له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من مسائل أهل السنة والدين، ما لا يخفى على مَن عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظّمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوسطها، وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات : (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) (الحشر : 10)، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين، من جهة الرسول صلى الله عليه و سلم، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين، حيث قالوا : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286)، ومن اتبع ظنَّه وهواه، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنَّه صوابًا بَعْدَ اجتهاده -وهو من البدع المخالفة للسنة- فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه) (282).‏

ز ـ دقة تقويمه لكتابي قوت القلوب وإحياء علوم الدين، وإنصافه في إثبات ما لهما وما عليهما، في إجابته لمن سأله عنهما، قال رحمه الله تعالى : (أما كتاب قوت القلوب، وكتاب الإحياء تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب : مثل الصبر والشكر والحب والتوكل والتوحيد ونحو ذلك، وأبو طالب(283) أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم، من أبي حامد الغزالي(284)، وكلامه أسدُّ وأجود تحقيقًا، وأبعد عن البدعة، مع أن في قوت القلوب أحاديث ضعيفة وموضوعة وأشياء كثيرة مردودة، وأما ما في الإحياء من الكلام في المهلكات، مثل الكلام على الكِبْر والعُجب والرياء والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه، والإحياء فيه فوائد كثيرة لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد الغزالي هذا في كتبه(285)، وقالوا : مرضه الشفاء، يعني شفاء ابن سينا(286) في الفلسفة، وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وتُرَّهَاتِهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية، العارفين المستقيمين، في أعمال القلوب، الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب، ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه) (287).‏


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل التاسع : رعاية شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأمر بالسنة والنهي عن البدعة، وتقديم الأهم فالأهم في ذلك

أكد شيخ الإسلام ابن تيمية على أهمية العمل بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأمر بالسنة والنهي عن البدعة، وحذّر من سوء النية والانتصار للهوى، لما يؤديان إليه من إبطال العمل، وإشاعة الفرقة، فقال : (والأمر بالسنة والنهي عن البدعة، هما أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغى به وجه الله، وأن يكون مطابقًا للأمر، وفي الحديث(288) من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فينبغي أن يكــون عالمًا بمــا يأمــر بـــه، عالمًا بما ينهى عنه، رفيقًا بما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه، فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم مع الأمر، فإن لم يكن عالمًا لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم.. وإن كان عالمًا ولم يكن رفيقًا، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام : ( فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى) (طه : 44).. ثم إذا أمر أو نهى، فلابد أن يُؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى : (أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) (لقمان : 17).. وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه.. فإن فَعَلَ ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره، كان ذلك خطيئة لا يقبلها الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء، كان عمله حابطًا، ثم إذا رُدّ عليه ذلك، أو أوذي، أو نسب إلى أنه مخطئ، وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هـــوى أن ينتصـــر جـاهــهـــم أو رياستــهــم، وما نُســـب إليــهــم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على مَن خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيء القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم، لا على دين الله ورسوله) (289).‏

ودعا شيخ الإسلام ابن تيمية إلى سلامة النية، واتّباع الإحسان في مراتب الإنكار، مع جميع المبتدعة مهما غلظت بدعتهم، ومنهم الرافضة، لقصد الإصلاح، فيقول : (وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد فيه بيان الحق، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد، ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرًا، والمقصود بذلك ردعه، وردع أمثاله، للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام... وهذا مبني على مسألتين : ‏

إحداهما أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه، كما تقوله الخوارج، بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه، كما يقوله المعتزلة.‏

الثاني : أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول، لا يُكفَّر ولا يُفسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل الاعتقـــاد فكثيــر من الناس كفّروا المخطئين فيهــا، وهذا القــول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويكفّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية) (290).‏

ولما كان الأمر بالسنة والنهي عن البدعة من الواجبات العملية، فإن الشيخ يؤكد على مراعاة الأدب في ذلك، واتباع ما يؤدي إلى إصلاح النفوس واستقامتها، من جهة الاقتداء والقبول، ودفع ما يؤول إلى مفسدة أعظم، وتقديم الأهم فالأهم، ومراعاة المصالح، وفي هذا الشأن يدعو فيقول : (عليك هنا بأدبين : ‏

أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنًا وظاهرًا، في خاصتك وخاصة من يطيعك، واعرف المعروف وانكر المنكر.‏

والثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيتَ مَن يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب، تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوّض عنه من الخير المشــــروع بحســـب الإمكـــان، إذ النفــوس لا تتـــرك شيئًا إلا بشــيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرًا إلا إلى مثله أو إلى خير منه).‏

ثم قال : (وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات، تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به، ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا يُنهى عن منكر إلا ويُؤمر بمعروف يغني عنه، كما يُؤمر بعبادة الله سبحانه، ويُنهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خُلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم يترك العمل السيء أو الناقص، لكن لما كان في الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح، نُهيت عنه حفظًا للعمل الصالح) (291).‏

وينبه الشيخ إلى أن حقيقة العلم تظهر من الآمر والناهي، في تقديم الأهم فالأهم عند ازدحام المصالح والمفاسد، أو تركه النهي في حال إذا كان الانتقال سيكون إلى ما هو أشد شرًا وفسادًا، وهذا يقع في الأعمال المختلفة التي فيها خير وشر، ويضرب أمثلة عملية لهذا الفقه، فيقول : (فتعظيم المولد(292) واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس ويكون فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه و سلم، كما قدمتُه لك أنه يَحْسُن من بعض الناس ما يُستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء : إنه أنفق على مصحف ألف دينار أو نحو ذلك، فقال : دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط، وليس مقصود أحمد هذا، وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضًا مفسدة كُره لأجلها، فهـــؤلاء إن لم يفعلوا هــذا وإلا اعتاضــوا بفسـادٍ لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور، من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم. فتفطّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل) (293). ‏

ومن الوقائع العملية التي يُقدم فيها الأهم فالأهم، دفعًا لمفسدة أعظم، ما ذكره ابن القيم(294) في هذا الشأن، مستشهدًا بفقــه شيخـه ابن تيمية : (إذا رأيتَ أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك.. وإذا رأيتَ الفسّاق قد اجتمعوا على لهو أو لعب أو سماع مُكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك.. وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفْتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكُتُبَه الأولى، وهذا باب واسع، وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه ونوّر ضريحه، يقول : مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَن كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلتُ له : إنما حرَّم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم) (295).‏

ومن الوقائع التي تُراعى فيها المصالح، وتُدفع فيها المفاسد، أو تُقلل بحسب الإمكان، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الصلاة خلف مُظْهِر المنكر، إذا لم يمكن صرفه عن الإمامة (إلا بشر أعظم ضررًا من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين، إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين، إذا لم يندفعا جميعًا، فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يُصلى خلفه ما لا يمكن فعلها إلا خلفه، كالجُمَع والأعياد والجماعة، إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يُصلّون خلف الحجاج(296)، والمختار بن أبي عبيد الثقفي(297)، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الاقتداء فيها بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة) (298).‏

ولما كان قَدْر الإنكار مراعى فيه المصلحة، فإنها قد تكون في استعمال القوة للقضاء على البدعة الغليظة، وإلى هذا وجّه شيخ الإسلام ابن تيمية في التعامل مع (أهل البدع والضلال، والكذب والجهل، وتبديل الدين وتغيير شريعة الرسل -وأنهم- أولى بأن يُجَاهَدوا باليد واللسان بحسب الإمكان، وأنهم فيما استحلوه من جهاد أهل العلم والسنة، من جنس الخوارج المارقين، بل هم شر من أولئك، فإن أولئك لم يكونوا يدعون إلى الشرك ومعصية الرسول، وظنهم أنهم ينصرونهم، ظن باطل لا ينفعهم) (299).‏

وعلى العموم، فإن الإنكار على أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، وبيان حالهم، وتحذير المسلمين من باطلهم، ودفع أذاهم، واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، لا يجوز التساهل فيه أو التقصير نحوه، لما يترتب على ذلك من فساد القلوب وفساد الدين، وفي هذا يقول شيخ الإسلام : (ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم، واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف، أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنما هو للمسلين، هذا أفضل. فبيّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك، واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاءإذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء) (300







 
قديم 17-11-03, 05:01 AM   رقم المشاركة : 7
StraightPath
عضو ينتظر التفعيل






StraightPath غير متصل

StraightPath


الأصل العاشر : مشروعية عقوبة الداعي إلى البدعة بما يحقق الزجر والتأديب والمصلحة، لأن ضرره متعد إلى غيره، بخلاف المسر فإنه تُقبل علانيته، ويُوكل سره إلى الله تعالى ‏

بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية أن السلف والأئمة نهجوا منهج التفريق بين المبتدع الداعية وغير الداعية، في التعامل معهما، (فإن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يُناكَحون، فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا، ولهذا يفرّقون بين الداعية وغير الداعية، لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخــلاف الكــاتم فإنــه ليس شرًا مــن المنافقين الــذين كــان النبي صلى الله عليه و سلم يقبل علانيتهم، ويكِل سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثير منهم، ولهذا جاء في الحديث : إن المعصيــة إذا خفيت لم تضـــر إلا صاحبها، ولكن إذا أُعلنت فلم تُنكر ضرت العامة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إن الناس إذا رَأَوْا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه) (301).. فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلاف الباطنة، فإن عقوبتها على صاحبها خاصة) (302).‏

وهذه العقوبة مقيدة بما إذا لم يكن الداعي متأولاً، وكانت بدعته غليظة، وأدت إلى كفِّه عن البدعة، وتنفير الناس منها.‏

وعلى العموم، (من قامت عليه الحجة استحق العقوبة، وإلا كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة لا ثواب فيها، وكانت منقصة له خافضة له بحسب بُعده عن السنة، فإن هذا حكم أهل الضلال، وهو البعد عن الصراط المستقيم، وما يستحقه أهله من الكرامة، ثم مَن قامت عليه الحجة استحق العقوبة، وإلا كان بعده ونقصه وانخفاض درجته، وما يلحقه في الدنيا والآخرة، من انخفاض منزلته وسقوط حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه، والله حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة، وهو عليم حكيم لطيف لما يشاء، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا : (له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه تُرجعون) (القصص : 70)) (303).‏

ولما كانت الغاية من عقوبة المبتدع الداعية كفّه عن بدعته وزجره، وابتعاد العامة عن متابعته، تنوعت العقوبة بما يحقق ذلك ويرعى المصلحة، فإنه قد يعاقب أحيانًا بالذم، وذكر ما فيه من فجور ومعصية، لينكشف حاله للناس. ويعلل شيخ الإسلام مشروعية هذه العقوبة فيقول : (لهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة، كما روي ذلك عن الحسن البصري(304) وغيره، لأنه لما أعلن ذلك استحق عقوبة المسلمين له، وأدنى ذلك أن يُذم عليه لينزجر، ويكف الناس عنه وعن مخالطته، ولو لم يُذم ويُذكَّر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لاغتر به الناس، وربما حمل بعضهم على أن يرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضًا هو جرأة وفجورًا ومعاصي، فإذا ذُكِّر بما فيه انكفّ، وانكف غيره عن ذلك، وعن صحبته ومخالطته) (305).‏

وقد تقتضي المصلحة إيقاع عقوبة أشد على الداعية المبتدع، متى دعا إلى مفسدة عظيمة، وواجه الحق الظاهر، فيُعاقب بالهجر أو التعزير أو القتل، إذا كان لا يرتدع إلا بإحداها، وإلى هذا أشار ابن تيمية في قوله : (فإن الحق إذا كان ظاهرًا قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هُجِر وعُزِّر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بصَبِيغ(306) بن عِسْل التميمي(307)، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قُتل كما قَتَل المسلمون الجَعْد بن درهم(308)، وغيلان القدري(309) وغيرهما، كان ذلك هو المصلحة، بخلاف ما إذا ترك داعيًا، وهو لا يقبل الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة، وضرر عليه وعلى المسلمين... والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قوبل بالعقوبة) (310).‏

وبيّن شيخ الإسلام أن (الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهَجر، والهَجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يتألف قومًا ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا، كانوا خيرًا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح) (311). على أنه ينبغي أن يعلم أن الهجر عقوبة لدفع ضرر ناشئ عن بدعة غليظة أو معصية كبيرة، فلا يُهجر من كان مستترًا على معصية صغيرة، أو مسرًا لبدعة غير مكفرة(312)، أو من كانت بدعته فيما يسوغ فيه الاجتهاد من المسائل الدقيقة، وقد أشار شيخ الإسلام إلى بعض هذه المسائل عند جوابه على مسألة رؤية الكفار ربهم في عَرَصات يوم القيامة، فقال : (ليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة، فإن الذين تكلموا فيها قَبْلَنا عامتهم أهل سنة واتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم، والناس بعدهم، في رؤية النبي صلى الله عليه و سلم ربه في الدنيا، وقالوا فيها كلمات غليظة، كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : (مَن زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية) (313)، ومع هذا فمـــا أوجب هـــذا النــزاع تهاجرًا ولا تقاطعًا.. وكذلك ناظر الإمام أحمد أقوامًا من أهل السنة، في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة، حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات، وكان أحمد وغيره يرون الشهادة، ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير هذه كثيرة) (314).. ومسائل الأحكام العملية أكثر، بل الخلاف فيها أشهر، ولم يتهاجر أئمة المسلمين في الفقه بسببها ولم يتقاطعوا، وقد خطَّأ شيخ الإسلام الذين فهموا أن الهجر عام في جميع الأحوال، والذين أعرضوا عنه بالكلية، فقال : (إن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا، فاستعملوا من الهجـــر والإنكــار ما لم يؤمــروا بـه، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات، وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيّعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه، وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه) (315).‏

ويقرر شيخ الإسلام أن القتل عقوبة تعزيرية، ذهب إليها الإمام مالك(316)، وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم(317)، تشرع في حق (الداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد، فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (أينما لقيتموهم فاقتلوهم) (318)، وقال : (لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد) (319).. وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عِسْل : (لو وجدتك محلوقًا لضربتُ الذي فيــه عينــاك) (320).. ولأن علي بن أبي طـالب رضي الله عنه طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ(321)، أول الرافضة، حتى هرب منه، ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض، فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قُتلوا، ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان في قتله مفسدة راجحة، ولهذا ترك النبي صلى الله عليه و سلم قتل ذلك الخارجي ابتداءً، لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام، ولهذا ترك عليٌّ قتلهم أول ما ظهروا، لأنهم كانوا خلقًا كثيرًا، وكانوا داخلين في الطاعة والجماعــة ظاهــرًا، لم يحاربوا أهل الجماعة، ولم يكن يتبين له أنهم هم) (322).‏

وعقوبة القتل لا تدل على ردة صاحبها، فهو إنما (يقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب وإن لم يكن في نفس الأمر كافرًا، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره، قد يكون على هذا الوجه) (323)، وتتم هذه العقوبة بعد اليأس من صلاح الداعي إلى البدعة، وإقامة الحجة عليه، كما فعل المسلمون مع غيلان، فإنهم (ناظروه وبيّنوا له الحق، كما فعل عمــــر ابن عبد العزيز(324) رضي الله عنه، واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه، وكذلك علي رضي الله عنه، بعث ابن عباس رضي الله عنهما، إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين) (325).‏

كذلك فإن عقوبة الداعي، بأي نوع من العقوبات الزاجرة له ليست دليلاً على ما يلي : ‏

أ ـ استحقاقه للإثم، فإنه قد يكون المعاقَب معذورًا، وفي هذا يقول شيخ الإسلام : (يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم، وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس الأمر، لاجتهاد أو تقليد) (326).‏

ب ـ سلب العدالة منه، فإنه قد يكون المعاقَب عدلاً أو رجلاً صالحًا، (ومن هذا هجر الإمام أحمد الذين أجابوا في المحنة -أي محنة القول بخلق القرآن- قبل القيد، ولمن تاب بعد الإجابة، ولمن فعل بدعة ما، مع أن فيهم أئمة الحديث والفقه والتصوف والعبادة، فإن هجره لهم والمسلمون معه، لا يمنع معرفة قدر فضلهم، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا، لما أمر النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين بهجرهم، لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق، حتى قد قيل : إن اثنين منهما شهدا بدرًا، وقد قال : (كأن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) (327)… فإن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل، لا يمنع أن يكون المعاقب عدلاً أو رجلاً صالحًا) (328). ‏

أما غير الداعية ممن وقع في معصية أو بدعة، فإن حكمه حكم غيره من المسلمين، ولا أدل على ذلك مما وقع بين السلف من الصحابة والتابعين من اقتتال في الـجَمَل وصِفِّين، فإنهم كانوا (يوالي بعضهم بعضًا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك) (329).‏


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل الحادي عشر : صحة الصلاة خلف المبتدع إذا لم يمكن الصلاة خلف المتبع، وإذا أمكن ذلك فالمسألة محل خلاف بين أهل العلم ‏

فَصَّل شيخ الإسلام في هذه المسألة على ما يلي : ‏

‏1 ـ (يجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك، خلف مَن لم يعلم منه بدعة ولا فسقًا، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم(330) من أئمة المسلمين، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول : ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال) (331).‏

‏2 ـ (لو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته، أو ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة(332) وغيرهم) (333)، لأن (الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجـــل وحـــده، وإن كـــان الإمـــام فاسقًا... والصحيـــح أن يصليهــا ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان ابن عمر يصلي خلــف الحجــــاج(334)، وابن مسعــــود وغيـــره يصـلـــون خلف الوليـــد ابن عقبة(335)، وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم مرة الصبح أربعًا، ثم قال : أزيدكم؟ فقال ابن مسعود : مازلنا معك منذ اليوم في زيادة، ولهذا رفعوه إلى عثمان(336)، وفي صحيح البخاري أن عثمان رضي الله عنه، لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان، فقال : إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة، فقال : يا ابن أخي، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم(337)) (338).‏

ومن كره الصلاة خلف الإمام الراتب المبتدع، فإنما كره لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، والأصل أن من أظهر بدعة أو فجورًا لا يرتب إمامًا للمسلمين، وترك الصلاة خلفه يكون مشروعًا إذا حقق مصلحة، مثل أن يُؤثِّر هذا في توبته أو عزله، أو انتهاء الناس عن مثل ذنبه، ولم يفت المأموم التارك جمعة ولا جماعة، فمن فوّت ذلك من أجل البدعة، كان مبتدعًا مخالفًا للصحابة(339) رضي الله عنهم.‏

‏3 ـ (تنازع العلماء في الإمام إذا كان فاسقًا أو مبتدعًا، وأمكن أن يصلى خلف عدل، فقيل : تصح الصلاة خلفه وإن كان فاسقًا، وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين، وأبي حنيفة(340)، و قيل لا تصح خلف الفاسق إذا أمكن الصلاة خلف العدل، وهو إحدى الروايتين عن مالك وأحمد(341)) (342).‏

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا التفصيل (إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة، مثل بدع الرافضة والجهمية ونحوهم، فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس، مثل مسألة الحرف والصوت -في صفة الكلام- ونحوها، فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعًا، وكلاهما جاهل متأول، فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس، فأما إذا ظهرت السنة وعلمت، فخالفها واحد، فهذا هو الذي فيه النزاع) (343).‏


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل الثاني عشر : قبول توبة الداعي إلى البدعة ‏

يذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن البدعة مهما غلظت، ذنب من الـذنــوب، ومــا مــن ذنب إلا ويغفـــره الله تعـالـى، مستــدلاً بقولـه تعالـى : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا) (الزمر : 53)، قائلاً : هي (آية عظيمة جامعة، من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول : إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي، فيه (أنه قيل لذلك الداعية : فكيف بمن أضللت) (344)، وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي(345) وأمثاله، ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتـــج به، بل يـروون كل ما في الباب محتجين به، وقد حكى هذا طائفةٌ قولاً في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين، أنه تُقبل توبته كما تُقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم، وقد تاب قادة الأحزاب، مثل أبي سفيان بن حرب(345)، والحارث بن هشام(346)، وسُهيل بن عمرو(347)، وصفوان بن أمية(348)، وعكرمة بن أبي جهل(349)، وغيرهم بعد أن قُتل على الكفر بدعائهم من قُتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا، وغفر الله لهم، قال تعالــى : (قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف) (الأنفال : 38).. وعمرو بن العاص(350) كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه و سلم لما أسلم : (يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله؟) (351)) (352 ).. ومن البدع الغليظة التي نص شيخ الإسلام ابن تيمية على قبول توبة التائب منها، بدعة سب الصحابة(253) رضي الله عنهم، وبدعة الاتحادية ووحدة الوجود(254).‏

وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله غلط مَن ذهب إلى أن توبة الداعي إلى البدعة لا تُقبل، من جهة الدليل من الكتاب والسنة، فإن الله بيّن في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر، الذين أهم أعظم من أئمــة البــدع، فـقال تعالــى : (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) (البروج : 10). قال الحسن : (انظروا إلى هذا الكلام، عذّبوا أولياءه وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة) (255). وقال تعالى عن المشركين : (فإذا انسلخ الأشهر الحُرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) (التــوبــــة : 5).. وقال تعالى : (قد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) (المائدة : 73-74).. وأما السنة فإنها دلت على قبول توبة القاتل، كما في حديث (الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل هل له من توبة، فدُلّ على رجل عالم، فقال : نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة) (256).. والقتل من الذنوب الكبيرة، ثم إنه ليس في الكتـاب والسنــة ما ينـافـي ذلك ولا نصوص الوعيد، بل علم يقينًا أن كل ذنب فيه وعيد، فإن لحوق الوعيد به مشروط بعدم التوبة، إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص، كالوعيد في الشرك وأكل الربا(257).‏

ووجّه رحمه الله أقوال القائلين بعدم قبول توبة الداعي إلى البدعة بما يلي : ‏

أ ـ مَن قال : توبة الداعي غير مقبولة، فيعني : أن التوبة المجردة تُسْقط حق الله في العقاب، دون حق المظلومين(258).‏

ب ـ ومَن قال : البدعة لا يُتاب منها، فيقصد بذلك : (أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسـوله، قد زُين له ســوء عملـه فـرآه حسنًا، فهـو لا يتوب مادام يراه حسنًا، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب، ليتوب ويفعله، فمادام يرى فعله حسنًا، وهو سيء في نفس الأمر، فإنه لايتوب) (259).‏

جـ ـ ومَن قال : إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، فإنه يقصد : إنه (لا يتوب منها، لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر) (260).‏

وهكذا فما ورد مما يدل على عدم قبول التوبة، فمحمول على تلك المعاني، أو أن قائلي تلك الأقوال قالوها على وجه التغليظ على أهل البدع، لتنفير الناس من البدع، وذلك لقوة دليل من يقول بقبول التوبة.‏


--------------------------------------------------------------------------------

كتاب ( أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية)

رحم الله شيخ الإسلام كم أنصف غيره ، ولم ينصفه غيره







 
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:44 AM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "