عصمـة الأنبيـاء عليهم السلام
الكاتب / الدكتور طـه حامد الدليمي
المقــدمة
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على خيرة الخلق أجمعين.. نبينا محمد. وعلى آله.. أصحابه وأتباعه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد..
فليس من الصعب على من تدبر القرآن الكريم ، وتأمل -على مدار التأريخ- في أحوال البشر أن يلحظ اعتداد الإنسان –أيِّ إنسان- بآرائه وتصوراته.
ولقد طغى في ذلك حتى أطلق على هذه الآراء والتصورات اسم (العقل)! اعتداداً بها وتعظيماً لها. وحتى إنه صار إذا حكم بشيء أو صرح برأي نسبه إلى العقل. فإذا أنت خالفته قال: خالفت العقل! ولا أدري ما الذي منح (عقله) هو، أو آراءه وتصوراته هذه الحصانة القدسية دون (عقول) الآخرين؟!
على كل حال هذا هو الإنسان.
حتى أولئك الذين بلغوا في الثقافة وسعة الأفق مداها، أو الاستنارة من قبس الوحي ألطفها وأعلاها تبقى في زوايا نفوسهم بقية لو تلمسوها لوجدوها!
حتى الفلاسفة والمتكلمون –وهم يختلفون فيما بينهم- كلٌّ يدعي أن العقل يحكم له، ويجنح إلى صفه!
لقد بلغ اعتداد الإنسان بعقله أن أنكر تنزل الوحي ونبوة الأنبياء عليهم السلام رغم كل الدلائل والبينات! لمخالفتها عوائد عقله من التصورات والأوهام.
فإذا حصل أن أقر بهما أقر على دخن. وانتقل وفي داخله -لا يزال- حنين إلى ماضي أيامه، ونزوع إلى سالف عهده. فيدخل رحاب الإيمان وهو يحاول –مدفوعاً بهواجسه- أن يلتف على النصوص ليخضعها –إذ لم ينكرها- لتلك العوائد والتصورات.
من تصورات العقل البشري التي قادت الإنسان إلى إنكار الوحي تارة، وإلى الالتفاف على نصوصه تارة أخرى اعتقاد أن الأنبياء عليهم السلام صنف من الخلق فوق مستوى البشر!
وقد رصد القرآن العظيم هذه الظاهرة لدى بني الإنسان على مدار تأريخهم، واختلاف أممهم وأجناسهم ورد عليها، وقيدها في عدة مواضع منها:
(فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) (المؤمنون:24).
(وَقَالَ الْملأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (المؤمنون:33).
(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (الأنبياء:3).
(قَالَتْ لَهمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (إبراهيم:11).
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِليْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (فصلت:6).
ودخل هذا الإنسان دارة الإسلام وهو يحمل معه علله وتصوراته. فماذا عساه يفعل فيما لو اصطدمت هذه التصورات بمقررات الوحي؟ وهو لا يرغب في التخلي عن تصوراته من ناحية، ولا يريد أن يخرج على ما يقرر الوحي من ناحية أخرى!
لا بد من حيلة إذن يوفق بها بين ما يرغب وما يريد! ووسيلة تبقي عليهما جميعاً.
فاهتدى إلى أن يقر بحكم الوحي لفظاً، بينما هو يخضع لمقررات عقله حقيقةً وواقعاً!
لقد أقر بأن الأنبياء عليهم السلام بشر، لكنه -في الوقت نفسه- منحهم من الصفات ما جعلهم بها فوق مستوى البشر.
وهكذا احتال على نفسه بنفسه! وعمد إلى أمر وسط:
فهو لم ينكر نصوص الوحي، بل أبقاها كما هي ليطمئن نفسه على إيمانه من جهة. لكنه أولها -أي عطلها- وأخضعها لحكم عقله، والتف عليها من الجهة الأخرى.
يتبع