معنى ومفهوم قوله تعالى ( الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) .
لقد لاحظت الغالبية العظمى من المفسرين والعلماء والكثير من الناس يعتقدون ويظنون إن تفسير ومعنى النبي الأمّي تعنى انه لا يقرأ ولا يكتب، وهذا اعتقاد خاطئ وغير صحيح ومن يتدبر القرآن دائما ما يجد فيه الشفاء ويجد فيه القول الحق وهذا ما دفعني بأن اكتب هذا البحث لتوضيح معنى الأمّي وأوضح لكم مفهوم الأمّية من خلال آيات الله البينة ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ).
وقبل الخوض في هذا البحث ، نشير إلى اعتقادنا الجازم أن النبي محمدا بُعث لا يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) ولكن بعد النبوة صار النبي يكتب بالقلم وعلمه الله العليم الحكيم ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) وشهد له المشركين شهادة حق بأنه كان هو الذي يكتب في الوحي وقت نزوله عليه رغم أنهم كفروا بالوحي وبالكتاب ومن العجب أنك لا تجد حتى الذين كفروا برسالته يشهدون أنه لم يكن يقرأ أو يكتب شيئاً، كذبوه في كثير ولم يستطع أحد منهم أن ينكر عليه العلم بالقراءة والكتابة.
فلنتلو شهادة هؤلاء كما أثبتها الله عز وجل في كتابه ، فهي شهادة بأمر مادي ملموس لا سبيل إلى نكرانه أو الكفر به فالنبي كان يكتتب القرآن حيث يملى عليه ولم يكن هو الذي يمليه ليكتبه غيره ، وهذه الشهادة وإن كانت تنكر الوحي إلا أنها تعترف له بالإلمام بالقراءة والكتابة. والدليل قوله تعالى ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) كان محمد النبي يقرأ ويكتب فالله سبحانه وتعالى يصف كتابه العزيز فيما يصفه به بقولـه ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ).
ولذلك فإنه لم يكن من الهزل وحاشا أن يكون هزلاً أن يقول الله وقوله الحق لرسوله ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق ) ، يكفي أن يقول الله تعالى لنبيه ( أقرأ ) ليكون الرسول قارئاً وكاتباً ، ثم يقول تبارك وتعالى ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) فالله لا يُعلِّم إلا بالقلم . وكان حرياً ألا يُعلِّم رسوله الذي أرسله ليعلم البشر كافة إلا بالقلم . وإذن فماذا يستفاد من قوله تعالى ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) لا يستفاد من ذلك أن الرسول لا يقرأ ولا يكتب ، وما كان ذلك ليعني شيئاً من المعنى الكبير الذي تشير إليه هذه الآية الكريمة ، لأن الملايين من البشر التي تقرأ وتكتب بل التي برزت في الكتابة والقراءة من قبله ومن بعده لم يأتوا ، ولن يأتوا ولم يزعم أحد منهم بالغاً ما بلغت فصاحته وفقهه في الكتابة أو في القراءة أن يأتي بمثله أو بشيء منه قل أو كثر.
ولكن الذي يستفاد من ذلك أن النبي لم يكن يشتغل بالكتابة ولم يكن ينكب على قراءة الكتب ، وأنه لم يتتلمذ على كتب ينكب على قراءتها ولم يكن يعلم بكتب يكتبها بيده كما كان يفعل بعض علماء بني إسرائيل الذين كانوا ينكبون على قراءة الكتب ثم يكتبونها بأيديهم ليخرجوا بها على الناس حتى وصل الأمر ببعضهم إلى دمج بعض ما كانوا يكتبونه بأيديهم في كتبهم لتدرس باعتبارها كتباً مقدسة.
وما الذي يستفاد من قوله تعالى ( فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ ) ، لا يستفاد من ذلك أنه كان أمُياً لا يقرأ ولا يكتب وإنما يستفاد من ذلك أنه كان بشراً من الأمة لا ينتمي إلى يهود أو نصارى يستخلص ذلك من قوله تعالى ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ، والأميون في هذه الآية الكريمة هم الذين لا ينتمون إلى يهودية أو نصرانية وفي رأي بعض أهل الكتاب هؤلاء وكان منهم النبي محمد نبياً أميناً من الأمة التي لا تنتمي إلى يهودية ولا إلى نصرانية. يؤكد ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ).
وقد ورد في القرآن وصفه بالنبي الأمي وشرح المفسرون ذلك بعدم القراءة والكتابة ، ولكننا لو تتبعنا آيات القرآن بقطع النظر عن ذلك ، وقارناها بعضها ببعض فإننا نرى أن المراد بالأمي ما يقابل أهل الكتاب الذين يحوزون الكتب المقدسة ويعرفونها ويدرسونها ، فالمراد بذلك على ما يظهر أن الرسول لم يكن له علم بهذه الكتب ولم يتلق منها ، وإنما جاءه العلم عن وحي من الله ولكن ما وصلنا من أقوال فقهاء السلف من المفسرين في معنى الأمّية لا يطمئن إليها قلب المؤمن السائل المتدبر.
ولو كان فيما نقلوه إلينا نص محكم من آية قرآنية لسلمنا وآمنا وقلنا سمعنا واطعنا ، ولكن كل ما وصلنا لا يرقى إلى درجة الحجة ، فهو رأي مجرد يخالف مناط الحكمة في ختام النبيين.
وليس أدل على ذلك من الخلاف الذي صاحب هذه المسألة عند أهل العلم أنفسهم ، فثمة أقوال لا قول متفرد ، فهم قالوا على أن النبي الأمّي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، فهو على حاله التي ولدته فيها أمه ، وهذا قول غير صحيح فالنبي الكريم بُعث على قاعدة القرآن في تقسيم الناس إلى أمتين ، أمة أمّية لم يؤتها الله كتاباً ، ولم يرسل إليها رسولاً ، وأمّة كتابية أتاها الرسول وجاءها الكتاب ، كاليهود والنصارى ، بدليل الآية في قوله تعالى ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) والناس كانوا أمّة بغير كتاب ، ثم اختلفت فيما بعد ، فأنزل الله إليهم الكتاب ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) ، فأصل الناس جميعا ، كما هو ظاهر أمّيّون لا كتاب معهم ثم أنزل الله الكتاب عليهم بعد ذلك فقد تكون أمياً وأنت تقرأ وتكتب أي من الذين لم ينزل عليهم كتاب ولا تحمله ولا تتلوه وقد تكون كتابياً ولكن أمياً كقوله عز وجل ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ).
ولا خلاف بأن هذه الآية قد جاءت في اليهود الكتابيين فمنهم لا يعلم الكتاب إلا أماني أي لا يحملونه ولا يتلونه ولا يعملون به فلم ترد الأمّي وصفاً لرسول لله في القرآن إلا مرتان ، ولم يوصف بها فيما نعلم نبي غير محمد ، فوردت في المرة الأولى في دعوة أهل الكتاب لوجوب إتباعه على أنه الرسول النبي الأمّي لقوله تعالى ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ) ، ثم في الآية التي تليها مباشرة ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ).
فبهذه الصفات الثلاث المتتالية يوجب الله تعالى على الناس جميعاً بما فيهم أهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسول النبي الأمّي .. فهي إذن صفات فارضة لازمة للإتباع أكثر منها للتسمية والتوصيف ، فالأمر بالإتباع جاء صريحا في الآيتين ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ) وفى قوله تعالى ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ).
وهذا يعنى فرضا لو إن النبي محمد كان أمُياً بمعنى لا يقرأ ولا يكتب فلن يتبعوه أهل الكتاب فهل يتبعون نبيا لا يعرف الكتابة والقراءة ، إذ لا غضاضة عند أحد من الناس في إتباع النبي ، ولكن الغضاضة عند الكتابي الذي على دين نبي عيسى أو موسى حين تدعوه إلى الانتقال إلى ذلك النبي الآخر.. لذا صار الأمّي هو مربط الأمر الفارض في الإتباع والخضوع ...
احدهم يسأل كيف ذلك ؟ وهنا أصل البحث فأن يؤمر الناس جميعاً بإتباعه لأنه رسول من الله أمر معقول واجب وأن يؤمر الناس جميعاً بإتباعه لأنه نبي الله أمر واجب أيضاً وقد يستسيغه كل مدعوا بهذه الآية وأما أن يؤمر الناس جميعاً بإتباعه لأنه لا يقرأ ولا يكتب فهذا فيه نظر وتمعن ....
فأهل الكتاب الذين فضلهم الله تعالى على الناس بـالكتاب سيجدون حرجا في إتباع من لا يقرأ أو يكتب وهم المفضلين من الله على باقي العالمين ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ولكونهم فضلهم الله على العالمين ونعموا بالنبوة والرسالة وهذا هو سبب التفضيل ، فأن يؤمر هؤلاء بإتباعه وجوبا لأنه لا يقرأ ولا يكتب ، فهذا محل النظر والتدبر والتفكير.
ثم من يضمن لنا ببينة من الكتاب أنه لم يكن من نبي قبله لا يقرأ ولا يكتب غير رسول الله محمد ، وأكثر النبيين أمّيين على المعنى الأول والثاني في التفسير.
فالأمّي أصلها ( أُمْ ) أضيفت إليها الياء التي تنسب وتغني المعنى كما نقول : الغني والعلي والذكي ، والأم بلسان القرآن العربي المبين هي : الأصل والأول ، فأم الرجل أصله وأوله ومنشأه ، كما جاء في قوله تعالى ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا ) أي في أصولها ومجمعها أو بمعنى أخر في أمتها أو شعبها ، ودليل أخر في قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) وذلك بما تحمله الآية من معاني الأصول والجوهر ....
فهو بذلك الرسول النبي الأصل والأول بكل ما تعنيه الكلمة من معاني الأصل في الرسالة والمنشأ وحتى أصل الكلام واللسان ( وإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) وهنا دليل على إن النبي محمد الْأُمِّيَّ يعتبر أم النبوة والرسالة والله قد أخذ ميثاق النبيين على ذلك لأنه جاء مصدقا لما معهم فيقول الله تعالى ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) .
فالمسألة الآن تبدو واضحة فهو بهذا أم الرسالة والنبوة ، لم يرسل رسول ولا نبي ، إلا وأُمر بإتباع الرسول النبي الأمّي ، وأن يأمر قومه بإتباعه ، فكان بذلك كل نبي ورسول يُرسل إلى قومه خاصة ، وهو يعلم أن محمدا رسول الله ، ويأمر بها قومه ، حتى إذا أدى كل نبي ما عليه في كل الأمم ، بُعث الرسول النبي الأمّي عامة لكل الأمم ، فكل الرسل والنبيين مقدِّمون خاصون للرسالة العامة الأم بالرسول النبي الأمّي ، فحين يدعى الكتابي للإيمان بنبي غير نبيه يأبى ويستكبر، بأنه على دين نبي موسى كان أو عيسى ، فالآن يُدعى الكتابي للإيمان بـالأمي ، فهو أم نبوة موسى وعيسى والنبيين جميعاً ، فكيف تؤمن بشيء وتكفر بأمه وإمامه ؟
فإذا علم الكتابي يهودياً كان أو نصرانياً أن هذا الأمّي هو أم رسالة موسى وعيسى وإبراهيم ، تبرر الأمر عنده بإتباعه والإيمان به ، فهو إذا النبي الإمام للنبيين الأولين وللناس كافة .. فهو بهذا أم النبوة والكتاب ، فمعه أم الكتاب ، وكتابه مهيمن على الكتب ، كما نبوته أمّ النبوات ، وهو أيضا رسول الله إلى الناس جميعاً كونه الأمّي ، نسبة إلى منشأ الناس الأول ، وقريتهم الأم أم القرى ( وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقوله سبحانه وتعالى ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ) فهي مكة أم القرى وأصل نشأة الناس وانتشارهم ، ليكون بذلك النبي الأمّي للناس جميعاً ، كونه من أم قراهم ، ومن بيت أبيهم الأول ، فهذه أرضهم وبيت أبيهم آدم من قبل ، فهو لهم كافة ثم هو النبي الأمّي الوحيد الذي تكلم بلسان الناس الأم. ولعل هذا الفهم الذي نطرحه ما قد يحل سؤالاً ذا مكان ، ألا وهو .. ما ورد في قوله تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ ) فأرسل نوح بلسان قومه ليبين لهم وكذلك موسى وعيسى وسائر النبيين ، فإذا كان رسول الله محمد رسول إلى الناس جميعاً ، وكتابه الوحي رسالة الناس جميعاً ، وجب أن يكون لسانه لسان الناس جميعاً ، وهذا ما لم يكن فيما يظهر لنا ونراه ...
فكيف يستقيم هذا إلا أن يكون أمراً آخر وأعظم مما كان يبدو لنا ؟ فهذه الآية ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ ) تحل مسألة وتفرض فرضاً نقرأه بالمفهوم اللازم للنص ، أنه إن كان كل رسول يرسل بلسان قومه فيكون لسان القوم لسان نبيهم ، وأرسل محمد إلى الناس جميعاً ، لزم أن يكون لسان الناس جميعاً لسان نبي الناس جميعاً محمد بلسانه العربي الأم ، الذي أرسل به وأنزل به كلام الرب الذي خلق الناس جميعا. ولهذا فأهل الكتاب جميعهم كانوا يتكلمون بنفس لسان النبي محمد ، والنبي كان يتكلم بنفس لسانهم دون أي مترجم . ومن بعدها تبدلت الألسنة واختلفت ، فعليهم هم أن يرجعوا إلى لسانهم الأم لسان نبيهم الأم محمد وهذا ما نراه في الأعجميين الآن لما يسلموا فهم يضطروا لتعلم اللسان العربي المبيّن ( لسان قريش الذي نزل بها القرآن ).
وليس بين كل إنسان مهما كان لسانه وعمر أمته وحضارته ليس بينه وبين لسان النبي الأم إلا أم هذا الإنسان وأبوه ، فمثلاً لو نشأ الغلام الروسي أو الياباني بين العرب تكلم بلسانهم كواحد منهم بلا خلاف دون أن يكون لماضي حضارة قومه شأن ولا مانع . وفي القرآن هناك ما يشهد على ما نقول .. فالقرآن لا يُقرّ إلا لسانين إما عربي أو أعجمي ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) فكل الألسن على اختلافها ما لم تكن عربية فهي أعجمية ، والأعجمي هو الذي لا يُبين ولا يُفصّل .والعربي لسان وليس لغة كما تظن الأغلبية العظمى : وهو ما أبان وفصل وهذا ظاهر نصوص القرآن ... بهذا يصبح الرسول النبي الأمّي واجب الأتباع بهذه الأركان الثلاثة أمّية النبوة والكتاب على الكتب النبيين جميعا ، وأمّية الأرض والمنشأ في أم القرى، وأمّية اللسان ، فهو للناس جميعا بلسانهم الأم وإن تبدلوا بها أي لسان كان فهذا لسانهم الأم أولى بهم أن يتعلموه وأن يرجعوا له ، وهذه أرضهم الأم وبيت أبيهم الأول .
وفي خضم الحديث قد يقول قائل : إن الأمُية كانت آيته أو معجزته التي تثبت نبوته .. قلنا إن هذا مردود جملة وتفصيلاً وإنما هو قول أهل السنة ليس له من الصحة في شيء فما آمن به أحد قط يوم بُعث لأجل أنه لا يتلو كتابا ولا يكتبه ولا دعا هو أحدا للإيمان به قائلاً بأنني أنا الذي لا أتلو ولا أخط إذ الذين دعاهم جميعا مثله لا يتلون ولا يكتبون فبم يفوق الأمي الْأُمِّيِّينَ ؟.
ثم لا ننسى أنه ما قال أحد قط : إن الله ما بعث نبيا إلا وهو يقرأ ويكتب.. إلا محمدا فالنبوة والرسالة مثله فيها بضع مائة من النبيين .. ولكنه غيرهم بالْأُمِّيَّ واجب الإتباع للناس جميعا فهو محمد الرسول النبي الأمّي ، أول الرسالة وآخرها وخاتمها ، وللحمد في القرآن منازل الكمال والتمام ، فكثير ما يرُدّ الله الحمد له حينما يكون الكل له.. فنقول : سبحان الله وبحمده ، فالتسبيح لنفي النقص والحمد لإثبات الكمال .. ألا ترون الله يبدأ الأولى بالحمد ويختم الآخرة بالحمد ( وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فالله يجمع بين الأولى والآخرة بالحمد، ( وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) كأن الحمد عند الله هو التمام والاكتمال.
فهذا الذي يجمع له الله الرسالة الأولى والآخرة ويؤتيه كتابا مهيمنا فيتم له ويتم به إنما هو محمد وبحكم تواجد أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) في البيئة المحمدية في المدينة والقرى التي من حولها فقد اخذ القران عن أهل الكتاب هذا الاصطلاح ( أمّي وأُمِّيِّينَ ) للدلالة به على الغير كتابيين أي من ( مشركي العرب ).
لم يأخذ القران لفظة أمي وأُمِّيِّينَ بمعناها اللساني ، بل أخذها بمعناها الاصطلاحي . وهذا ما دل عليه الواقع القرآني وذلك في قوله ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ) . وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ( أَأَسْلَمْتُمْ ) ؟ وقوله تعالى ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ) أي الذين عندهم كتاب وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم وهم الكفار ومشركي العرب. في قوله تعالى ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) بمعنى ليس علينا في من لم ينزل عليهم كتاب سبيل ، أي ليس علينا حرج في أموال العرب لأنهم امِّيِّينَ ، قد أحلها الله لنا ولم ينزل علينا حكما في شأنها. فالمعنى الذي نزل به لسان القرآن لكلمة ( الأمّي ) ليس هو عدم القراءة والكتابة كما زعم جماعة أهل السنة بل يفهم هذا ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ) أي الذين انزل عليهم كتاب والى الذين لم ينزل عليهم كتاب ، وهذا هو التفسير الحقيقي لمعنى الأمّي .
وقد جاءت في سورة البقرة ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) فهذه الآية لا تحتاج إلى تفسير بل تكون قرينة لوضوحها على فهم بقية الآيات الأخرى حيث قال تعالى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ) ثم اتبعها لبيان ذلك وسبب الأمُية هي أنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني أي لا يعلمون ما انزل عليهم من كتاب لذلك وصفهم الله بالأمّية . وهذا هو المعنى الثاني للأمية ومنه يفهم قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) فالأمِّيُّونَ هم الذين لم يطلعوا على أي كتاب من قبل ولم ينزل عليهم ولم يأتهم نبي بتعاليم دينية وكونه منهم أي من هؤلاء أي من أنفسهم لا غريب عليهم مثل قوله ( الْأُمِّيَّ ) فنسبة الأمّية إليه باعتباره من هؤلاء وكلاهما لم ينزل عليهم كتاب فهو أُمِّيَّ وهم أُمِّيِّينَ ، فمن يقول إن النبي فقط هو الْأُمِّيَّ بمعنى لا يقرأ ولا يكتب ، هاهم قومه أيضا لا يعرفون الكتابة والقراءة فهم أيضا بذاك المعنى والمفهوم هم كذلك أُمِّيِّينَ.
في نهاية البحث نسأل سؤال ونقول فما هي الميزة أو المعجزة إذاً في كون النبي أُمِّيَّ مادام قومه هم ُ أُمِّيِّينَ كذلك وقد قال تعالى ( مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ ) وقال له أيضا ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) نستخلص من كل ذلك أن روح القرآن بعيد كل البعد عن تلك الجهة الاصطلاحية التي يراها القوم في معنى الأمّية والقرآن الكريم لما ذكرهم ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ) فعالج المشكلة بقوله تعالى ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ونفهم من هذا السياق أن سبب أمُيتَهم هي عدم معرفتهم بالكتاب وعدم التزكية لنفوسهم وليس في عدم معرفتهم بالقراءة والكتابة ولأجل هذا الداء جاءت الرسالة بذلك الدواء.