إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ )( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِياً )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: تتفاوَتُ البُلدانُ والأوطانُ شرفًا ومكانة، وعلُوًّا وحُرمة، ومجدًا وتاريخًا، وتأتي المدينةُ النبويَّة بلدُ المُصطفى-صلى الله عليه وسلم- أرضُ الهجرة ودار الإيمان وموطِد السنّة في المكانِ الأعلى والموطنِ الأسمَى، هي بعد مكة سيدةُ البُلدان، وثانيتها في الحرمة والإكرام والتعظيم والاحترام، الفضائلُ مجموعةٌ فيها، والإيمانُ يأرِزُ إلى نواحِيها، فيها قامت الدّولة النبوية والخلافة الإسلاميّة، قال صلى الله عليه وسلم-: "إن الإيمانَ ليأرِزُ إلى المدينةِ كما تأرِزُ الحيَّةُ إلى جُحرِها" متفق عليه، كان -صلى الله عليه وسلم- إذا قدِمَ من سفرٍ، ونظرَ إلى جُدُرانها ودوحاتِها ودرجاتها أوضعَ راحِلَته، وحرَّكَ دابَّتَه واستَحَثَّها، وأسرعَ بها حُبًّا في المدينة، فإذا أشرفَ عليها قال: "هذه طابَة، وهذا أُحُدٌ جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه"، فهي حبيبةُ المحبوبِ -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يقول: "اللهم حبِّب إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ" متفق عليه، فهي دارُه ومُهاجرُه، فيها نُصِبَ مِحرابُه ورُفِع مِنبرُه، وفيها مضجَعُه ومنها مبعثُه، طيبةُ الغرَّاء، وطابَةُ الفَيحاء، تُوسِعُ العينَ قُرَّة، وتملأُ النفسَ مسرَّة، بلدةٌ آمنة، ومدينةٌ ساكِنة، لا يُهراقُ فيها دم، ولا يُحمَلُ فيها سلاحٌ لقتال، اشار -صلى الله عليه وسلم- بيده إليها فقال: "إنها حرَمٌ آمِن" أخرجه مسلم، هي حرامٌ ما بين لابَتَيْها وحرَّتَيْها، وجبَلَيْها ومأزِمَيْها؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "المدينةُ حرمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثورٍ؛ فمن أحدثَ فيها حدَثًا، أو آوَى مُحدِثًا فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يقبَلُ الله منه يوم القيامة صرفٌ ولا عَدلٌ" متفق عليه، لا يُنفَّرُ صيدُها، ولا يُؤخَذُ طيرُها، ولا يُعضَدُ شوكُها، ولا يُقطَعُ عِضاهُها، ولا يُختَلَى خَلاها، ولا يُقطَعُ منها شجرة إلا أن يعلِفَ الرجلُ بعيرَه، ولا تُلتَقَطُ لُقطَتُها إلا لمُنشِدٍ، لا يدخلُها رُعبُ الدجَّال ولا فزَعُه، ولا يرِدُها ولا تطؤُها قدَمُه، الملائكةُ على أنقابِها وأبوابِها، وطُرقها ومحاجِّها، يحرسونها ويذُبُّون عنها؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "على أنقابِ المدينةِ ملائكةٌ لا يدخلُها الطاعون ولا الدجَّال" متفق عليه، الصلاةُ في مسجدها مُضاعفةُ الجزاء فرضًا ونفلاً في أصحِّ قولَي العُلماء؛ قال-صلى الله عليه وسلم-: "صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سِواه إلا المسجدَ الحرام" متفق عليه، وقال-صلى الله عليه وسلم-: "ما بين بيتي ومِنبَري روضةٌ من رِياضِ الجنةِ، ومِنبري على حوضي" متفق عليه ، المدينةُ مُبارَك صاعها ومُدّها، ومِكيالها وتمرها، وقليلِها وكثيرها، مَن أظهرَ فيها بدعةً أو حدَثًا أو شِركًا أو آوى زانيًا أو مبتدِعًا فقد عرّض نفسه للوعيد الشديد واللّعن الأكيد، لا يُزار في المدينةِ النبويّة سِوى مسجدِ رسول الله ومسجد قباء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تطهَّرَ في بيته ثم أتَى مسجِدَ قُباءٍ فصلَّى فيه صلاةً كان له كأجرِ عُمرةٍ" أخرجه ابن ماجه ، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله يأتي مسجِد قُباء كلَّ سبتٍ ماشِيًا وراكِبًا فيُصلِّي فيه ركعتين" متفق عليه، وقولُه: "ماشِيًا وراكِبًا" أي: حسَبَ ما يتيسَّر له، هذه هي المدينة؛ فضائلُها لا تُحصَى، وبركاتُها لا تُستقصَى، فيا هناءَةَ ساكنيها، ويا سعادةَ قاطِنِيها، ويا فوزَ من لزِمَ الإقامةَ فيها حتى جاءَته المنِيَّةُ في أراضيها، مستقيما على امر الله، فاغتنِموا فيها الأوقات، واستكثِروا فيها من الصالِحات، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنةِ، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...............
..............الخطبة الثانية......................
الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ وَأَشْهَدُ ألاّ إله إلا الله تعظيماً لِشَانهِ، وأشهدُ أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأعْوانِهِ وسلم تسليماً كثيراً أما بعدُ: فأُوصِيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقوى اللهِ عز وجل، فتزوّدوا بها فإنها خيرُ الزَّادِ، واستعدُّوا بالأعمالِ الصالحةِ ليومِ المَعَادِ، ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ )[غافر]
عباد الله: لا يجوز السفر الى المدينة المنورة بقصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الناس، لقول صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) متفق عليه، والمشروع لمن أراد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعيد عن المدينة أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي للصلاة فيه، فتدخل زيارة القبر الشريف وقبر أبي بكر وعمر والشهداء وأهل البقيع تبعا لذلك، أما نية زيارة القبر فقط فلا تجوز مع شد الرحال، وأما إذا كان قريبا لا يحتاج إلى شد رحال ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفرا فلا حرج في ذلك؛ لأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه وقبور الشهداء وأهل البقيع وقبور المسلمين عامة من دون شد رحال سنة وقربة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة. اخرجه مسلم، ويُنبه على ما يقع فيه أناس من تحري الدعاء عند قبره -صلى الله عليه وسلم فقد جاء عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجةٍ كانت عند قبر النبي ، فيدخل فيها فيدعو فنهاه عن ذلك وقال: ألا أحدّثكم حديثًا سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله قال: (لا تتّخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلّوا عليّ فإن تسليمَكم يبلغني أينما كنتم) (إسناده حسن). وأشد من ذلك من يقف عند قبر النبي فيتجه بالدعاء إليه صلى الله عليه وسلم ويطلب منه ويستغيث به فهذا شرك بالله، لم يفعله أحد من صحابته رضوان الله عليهم، لان الدعاء والاستغاثة والتوجه يكون لله وحده سبحانه لا شريك له، ولا يجوزُ التبرُّك بمسحِ جُدرانِ المسجد النبويِّ، أو أعمدته، أو أبوابِه، أو تقبيلِ مِنبَره ومِحرابِه، ومَن اعتقد جوازَ الطواف بقبور الصحابة فيها أو التبرّكَ بتربتها أو الاستشفاءَ بها أو التوسّل بأصحابها أو نداءها ودعاء أهلها فقد اعتقد باطلاً، وأتى منكرًا. ومَن اعتقد أنّ البركة تحصُل بمسحِ جدارٍ أو عمودٍ أو باب أو تقبيل مِنبرٍ ومحراب فقد جانب الصّواب, وخالف السنّة والكتاب،. وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنَّة المُتَّبَعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحِمين. ........