الغلو في التجسيم عند الشيعة
اشتهرت ضلالة التّجسيم بين اليهود [وفي كتاب الله سبحانه أدلة على تلبس اليهود بهذا الضلال. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ} [التوبة، آية: 30.].
وفي التوراة المتداولة اليوم بين اليهود أمثلة عديدة لفشو ضلالة وصف الله سبحانه بصفات المخلوقين بينهم منها ما يلي:
"وسمعا (يعني آدم وحواء) صوت الرب الإله ماشيًا" (سفر التكوين، الفصل الثالث، فقرة 8)، ومنها:
"ثم صعد موسى وهارون.. وسبعون رجلاً من شيوخ بني إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت قدميه كصنعة بلاط.
. وكذات السماء صفاء" (سفر الخروج، الفصل الرابع والعشرون، فقرة: 9، 10، 11). وأمثلة كثيرة على هذا النمط وأشد، وللمزيد من أمثلة هذه الافتراءات انظر: سفر التكوين، الفصل 32 فقرة22، وسفر تثنية، الفصل 34، فقرة 10، سفر القضاة، الفصل 6، فقرة 11، سفر الخروج، فصل 24، فقرة 4.. إلخ.]
، أوّل من ابتدع ذلك بين المسلمين هم الرّوافض، ولهذا قال الرّازي: "اليهود أكثرهم مشبّهة، وكان بدء ظهور التّشبيه في الإسلام من الرّوافض مثل هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، ويونس بن عبد الرحمن القمي وأبي جعفر الأحول" [اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين: ص97.].
وكل هؤلاء الرجال المذكورين هم ممن تعدهم الاثنا عشرية في الطليعة من شيوخها، والثقات من نقلة مذهبها [انظر: محسن الأمين/ أعيان الشيعة: 1/106، وهؤلاء في كتب الفرق أصحاب طوائف منسوبة لأسمائهم. قال الأشعري: "الهشامية أصحاب هشام بن الحكم.." (مقالات الإسلاميين: 1/106) و"اليونسية أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي" (السابق: 1/110)، و"الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجوليقي" (السابق: 1/109)، والجميع ينتظمهم سلك الرفض.].
وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية أول من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال: "وأول من عرف في الإسلام أنه قال: إن الله جسم هو هشام بن الحكم" [منهاج السنة: 1/20.].
وقبل ذلك يذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين أنّ أوائل الشّيعة كانوا مُجسّمة، ثم بيّن مذاهبهم في التّجسيم، ونقل بعض أقوالهم في ذلك، إلا أنّه يقول بأنّه قد عدل عنه قوم من متأخّريهم إلى التّعطيل [انظر: مقالات الإسلاميّين: 1/ 106-109].
وهذا يدل على أن اتجاه الاثني عشرية إلى التعطيل قد وقع في فترة مبكرة، وسيأتي ما قيل في تحديد ذلك [في المبحث الثاني.].
وقد نقل أصحاب الفرق كلمات مغرقة في التشبيه والتجسيم منسوبة إلى هشام بن الحكم وأتباعه تقشعر من سماعها جلود المؤمنين.
يقول عبد القاهر البغدادي: "زعم هشام بن الحكم أن معبوده جسم ذو حد ونهاية وأنه طويل عريض عميق وأن طوله مثل عرضه.." [الفرق بين الفرق: ص65.].
ويقول: إن هشام بن سالم الجواليقي مفرط في التجسيم والتشبيه لأنه زعم أن معبوده على صورة الإنسان.. وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان [الفرق بين الفرق: ص68-69.]، وكذلك ذكر أن يونس بن عبد الرحمن القمي مفرط أيضًا في باب التشبيه، وساق بعض أقواله في ذلك [الفرق بين الفرق: ص70.].
وقال ابن حزم: "قال هشام إن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه" [الفصل: 5/40.].
وقد نقل الإسفراييني مقالة هشام بن الحكم، وهشام الجواليقي وأتباعهما في التجسيم، ثم قال: "والعاقل بأول وهلة يعلم أن من كانت هذه مقالته لم يكن له في الإسلام حظ" [التبصير في الدين/ 24.].
وقد استفاض عن هشام بن الحكم ومن تبعه أمر الغلو في التجسيم في كتب الفرق وغيرها [انظر – بالإضافة لما مضى -: الملطي/ التنبيه والرد ص24، الشهرساني/ الملل والنحل: 1/184، 187، 188، السكسكي/ البرهان ص41، ابن حجر/ لسان الميزان: 6/194، محمود البشبيشي/ الفرق الإسلامية ص58، علي مصطفى الغرابي/ تاريخ الفرق الإسلامية ص300.].
وتحدثت عن ذلك أيضًا بعض كتب المعتزلة والزيدية. وممن نقل ذلك عن الروافض من المعتزلة الجاحظ حيث قال: وتكلمت هذه الرافضة وجعلت له صورة وجسدًا، وكفرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير [انظر: رسالة الجاحظ في بني أمية ص99 (ضمن كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، المطبعة الإبراهيمية القاهرة 1937م).]، وكذلك ابن الخياط [الانتصار: ص14.]، والقاضي عبد الجبار [تثبيت دلائل النبوة: 1/225.].
ومن الزيدية [يلاحظ أن الزيدية هم يوافقون المعتزلة في العقيدة؛ ولذلك قال الشهرستاني: "أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة" (انظر: الملل والنحل 11/162، المقبلي/ العلم الشامخ: 319).].
ومن الزّيديّة [يلاحظ أنّ الزّيديّة هم يوافقون المعتزلة في العقيدة؛ ولذلك قال الشّهرستاني: "أمّا في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة" (انظر: المِلَل والنِّحَل 11/162، المقبلي/ العلم الشّامخ: 319).] ابن المرتضى اليماني حيث قال بأن جل الروافض على التجسيم إلا من اختلف منهم بالمعتزلة [المنية والأمل ص19، وانظر: نشوان الحميري/ الحور العين ص148-149.].
إذًا تشبيه الله سبحانه بخلقه كان في اليهود، وتسرّب إلى التّشيّع، لأنّ التّشيّع كان مأوى لكلّ من أراد الكيد للإسلام وأهله، وأول من تولى كبره هشام بن الحكم [انظر ما سلف من الحديث عن هشام وصلته بفرية دعوى التحريف للقرآن التي استشرى داؤها في مذهب الاثني عشرية ص(213-214).]، ثم تعدى أثره إلى آخرين عرفوا بكتب الفرق بمذاهب ضالة غالية منسوبة إليهم [انظر: ص (528) هامش رقم: (3).].
ولكن شيوخ الاثني عشرية يدافعون عن هؤلاء الضلال الذين استفاض خبر فتنتهم، واستطار شرهم ويتكلفون تأويل كل بائقة منسوبة إليهم أو تكذيبها [انظر: المجلسي في دفاعه عن هؤلاء في بحار الأنوار: 3/290-292.].
حتى قال المجلسي: "ولعل المخالفين نسبوا إليهما [يعني هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي.] هذين القولين [يشير إلى ما نسب إليهما من القول بالجسم، والقول بالصورة.] معاندة" [بحار الأنوار: 3/288.].
وأقول: أما إنكار بعض الشيعة لذلك فقد عهد منهم التكذيب بالحقائق الواضحات، والتصديق بالأكاذيب البينات.
وأما دفاعهم عن هؤلاء الضلال فالشيء من معدنه لا يستغرب، فهم يدافعون عن أصحابهم، وقد تخصص طغام منهم للدفاع عن شذاذ الآفاق، ومن استفاض شره، وتناقل الناس أخبار مروقه وضلاله، في حين أنهم يتناولون من أثنى الله عليهم ورسوله بالذم والتفكي.
وقد يقال: إن ما سلف من أقوال عن هشام وأتباعه هي من نقل خصوم الشيعة فلا يكون حجة عليهم.
ومع أن تلك النقول عن أولئك الضلال قد استفاضت من أصحاب المقالات على اختلاف اتجاهاتهم، وهم أصدق من الرافضة مقالاً، وأوثق نقلاً، وهي تثبت أن الرافضة هم الأصل في إدخال هذه البدعة على المسلمين. لكن القول بأن نسبة التجسيم إليهم قد جاءت من الخصوم، ولا شاهد عليها من كتب الشيعة قد يتوهمه من يقرأ إنكار المنكرين لذلك من الشيعة، وإلا فالواقع خلاف ذلك.
إذ قد جاء في رواياتهم في كتبهم المعتمدة ما يدل على أن متكلمي الشيعة كهشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي ويونس بن عبد الرحمن القمي وأمثالهم لم يكتفوا بمجرد إثبات الصفات كما دل عليه القرآن والسنة، بل تجاوزوا ذلك حتى ابتدعوا الغلو في الإثبات والتجسيم.
جاء في أصول الكافي للكليني، وفي التوحيد لابن بابويه وغيرهما ما يدل على أن الشيعة في سنة (255ه) قد تاهوا في بيداء مظلمة،
إذ قد غرقوا في خلافهم في التجسيم؛ فمن قائل: إنه صورة، ومن قائل: إنه جسم، وقد صوروا هذا الواقع لإمامهم فحكم عليهم بأنهم بمعزل عن التوحيد، تقول الرواية كما يرويها صدوقهم القمي عن سهل قال: كتبت إلى أبي محمد سنة (255ه)
قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد؛ منهم من يقول: هو جسم [لفظ "الجسم" وأمثاله من الألفاظ المبتدعة التي لم نفي لفظها ولا إثباته في الكتاب والسنة.
. الحق التوقف في مثل هذه الألفاظ فلا يثبت اللفظ ولا ينفى لعدم ورود دليل النفي أو الإثبات. وأما المعنى فإن أراد حقًا قيل وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل فلا بد من الاستفصال وتبيين الحق من الباطل
. والله أعلم. انظر: التدمرية ص65 (بتحقيق محمد بن عودة السعودي) وانظر معنى الجسم في اللغة وعند النظار والمتكلمين في: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/316-318.]
، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولاً على عبدك؟
فوقع بخطه: سألت عن التوحيد وهذا عنكم معزول، الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام ويصور ما يشاء وليس بمصوَّر، جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، وتعالى أن يكون له شبيه هو لا غيره ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [أصول الكافي: 1/103، التوحيد لابن بابويه: ص101-102، بحار الأنوار: 3/261.].
وقد كان لهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي بالذات دور ظاهر في اتجاه التجسيم عند الشيعة كما تذكر ذلك مجموعة من رواياتهم.
جاء في أصول الكافي وغيره.. عن محمد بن الفرج الرّخجي قال: "كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة، فكتب: دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قال الهشامان" [أصول الكافي: 1/105، وانظر هذه الرواية في التوحيد لصدوقهم ابن بابويه ص97، وفي "أمالي الصدوق": ص228، وبحار الأنوار: 3/288، والحر العاملي/ الفصول المهمة ص15.].
وكان الأئمة يتبرؤون منهما ومن قولهما، وحينما جاء بعض الشيعة إلى إمامهم وقال له: "إني أقول بقول هشام" قال إمامهم (أبو الحسن علي بن محمد): "ما لكم ولقول هشام؟ إنه ليس منا من زعم أن الله جسم، ونحن منه براء في الدنيا والآخرة" [ابن بابويه/ التوحيد: ص104، بحار الأنوار: 3/291.].
وتفصح بعض رواياتهم عما قالوه في الرب جل شأنه وتقدست أسماؤه، فهذا أحد رجالهم [سمته الرواية: يعقوب السراج وهو من ثقاتهم (انظر: الفهرست للطوسي ص214).] ينقل لأبي عبد الله – كما تقول الرواية – ما عليه طائفة من الشيعة من التجسيم فيقول: "إن بعض أصحابنا يزعم أن الله صورة مثل الإنسان، وقال آخر: إنه في صورة أمرد جعد قطط! فخرّ أبو عبد الله عليه السلام ساجدًا ثم رفع رأسه فقال: سبحان الذي ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به علم.." [ابن بابويه/ التوحيد ص103-104، بحار الأنوار: 3/304.].
وروى ابن بابويه عن إبراهيم بن محمد الخراز ومحمد بن الحسين قالا: "دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له ما روي أن محمدًا رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة، رجلاه في خضره وقلنا:
إن هشام بن سالم وصاحب الطاق [يعني محمد بن علي بن النعمان أبو جعفر؛ لأنه يلقب بشيطان الطاق، والشيعة يقولون عنه: "مؤمن الطاق" (سبقت ترجمته ص:207).] والميثمي [هو: علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيى التمار، من وجوه متكلمي الشيعة، وتلميذ هشام بن الحكم، له كتب منها كتاب "الإمامة"
، انظر: رجال النجاشي ص176.] يقولون: إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد، فخر ساجدًا ثم قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك.." [ابن بابويه/ التوحيد ص113-114، بحار الأنوار: 4/40، أصول الكافي: 1/101.].
فأنت ترى أن كبار متكلميهم قد غلوا في الإثبات، حتى شبهوا الله جل شأنه بخلقه وهو كفر بالله سبحانه؛ لأنه تكذيب لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى، آية:11.] وعطلوا صفاته اللائقة به سبحانه فوصفوه بغير ما وصف به نفسه، وإمامهم كان ينكر عليهم هذا المنهج الضال
، ويأمر بالالتزام في وصف الله، بما وصف به نفسه. ورواياتهم في هذا الباب كثيرة [لمعرفة المزيد من الشواهد انظر كتاب: التوحيد لابن بابويه
، باب أنه عز وجل ليس بجسم ولا صورة ص:97-104، وفيه عشرون رواية، وأصول الكافي: باب النهي عن الجسم والصورة: 1/104-106، وفيه ثماني روايات، وفي بحار الأنوار، في باب نفي الجسم والصورة والتشبيه وفيه (47) رواية، وفي ترجمة هشام ابن الحكم، وهشام بن سالم، ويونس بن عبد الرحمن في رجال الكشي أمثلة أخرى لهذا الاتجاه،
وانظر بعض روايات هذه المسألة أيضًا عند: الطبطبائي/ مجالس الموحدين في أصول الدين: ص23.].
فهذا الاتجاه إلى الغلو في الإثبات، قد طرأ على الإثبات الحق الذي عليه علماء أهل البيت، وأصبح المذهب يتنازعه اتجاهان:
اتجاه التجسيم الذي تزعمه هشام، واتجاه التنزيه الذي عليه أهل البيت كما تشير إليه روايات الشيعة نفسها، وكما هو "ثابت مستفيض في كتب أهل العلم" [منهاج السنة: 20/144.]( من كتاب اصول مذهب الشيعة )