رأيت غزة «1»
زارت غزة وكتبت عن عظمتها وعظمة اهلها ومجاهديها
لاتبالى ياغزة وتحلى بالعزة وتحدي كل حصار
د. ديمة طارق طهبوب....اهلا وسهلا بكم في غزة
بداية:
لا أحد يموت "ناقص عمر"، ولكن من لم يزر غزة، بوابة فلسطين الجنوبية، ولم يعايش أهلها فقد مرت حياته دون إدراك معنى العظمة الحقيقية.
*معابر الأرض ومعابر السماء.
رفح، أرض عربية مقسّمة مشتتة ككل أحوال العرب بين حدودهم التي اصطنعها العالم الذي فرّقنا ليسودنا، فلا فرق بين رفح المصرية والفلسطينية في الطبيعة، فالأرض الطيبة ذات الأرض والمناخ ذاته في الرفحين، حتى السكان يتكلمون تقريبا نفس اللهجة وبينهم عرى نسب ودم وثيقة لم يقطعها الحاجز الحديدي.
معبر رفح كتاريخ العرب كان له نصيبه من لحظات الخزي يوم وقف الأخ كالعدو في وجه أخيه، وكذلك كان له أيام مجد يوم دكّته أيدي نساء غزة طلبا للحرية والحياة.
ساعات على المعبر موقوفون حتى بالرغم من تغيّر الأوضاع في مصر، وما وراء الانتظار القسري هناك دروس أخرى تقول لنا: ينبغي لمن لا يجاهد أن ينتظر، ينبغي له أن يذوق ذلة القعود عن نصرة الدين، ينبغي على من لا ينهض ليزيل هوانه أن ينتظر، يجب عليه أن يتأدّب حتى يدخل على المجاهدين ويتعلّم دروسهم.
معابر البشر مغلقة أمام أهل غزة وغيرهم لا تُفتح إلاّ بحدود وشروط، غير أنّ هناك في سماء غزة التي تكتحل بلحظات صفو قليلة معبر لا يُغلق أبدا والملائكة فيه أكثر شغلا من شرطة الأرض، معبر سماوي إلهي يعرف أهل غزة ويعرفونه دون تصاريح ولا جوازات، يحتفل بقدومهم كل يوم ويختم على صحف عبورهم: أيتها النفوس الطيبة اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان.
إنّ للبلاد أقدارا ومقادير عند الله، وقدر فلسطين وغزة أن تحضنها الأرض وروحها معلّقة بالسماء من يوم إسراء نبيها صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السموات العلى.
* البكاء على صدر الحبيب.
"مرحبا بكم في فلسطين" لوحة ترحيبية تستقبلك عند دخول رفح الفلسطينية، فتظن للوهلة الأولى أنّ الأمور اختلطت عليك، فتعيد القراءة لتتأكد أنّ عيناك لم تخدعاك، وتلتقط المشهد بالكاميرا لتثبت لنفسك أنّك وطأت أرض فلسطين يوما، ولم تعد هذه الفلسطين كلمة تقرؤها في كتاب ولا خارطة تراها في أطلس، ولا تاريخا ولا أناشيد ولا أثوابا ولا طعاما ولا تراثا! أنت الآن على أرض فلسطين بشحمك ولحمك وكيانك، فلسطين التي تؤمن أنّها ستحرر يوما ما، ولكن ليس في حياتك ويذهب حلم رؤيتها والعيش فيها حسرة معك إلى قبرك.
لا يصف المشهد ولا يعالج الشوق ولا يروي الظمأ سوى سجدة تروي أرض فلسطين بدموعك الحرى، سجدة ودموع وشكر لله تستشعر فيها عظمة فضل الله عليك أن جعلك أهلا لهذا الموقف، فينطق لسانك "أنت ربي خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي، وما استطعت وما استقلت به قدمي لله رب العالمين".
على أرض غزة - فلسطين تستشعر لماذا أحنى رسول الله رأسه يوم الفتح على نعمة النصر التي جعلها الله نعمة محببة وأثيرة في نفس الإنسان، فتقتدي به وتدخل غزة خافض الرأس لتقرأ في كتاب الله المنظور آيات عظمته في الأرض والإنسان.
* ليسوا من البشر ولا من ذات الكوكب.
غزة التلفاز والأخبار لا تساوي نقطة في بحر غزة الحقيقية والواقع أكثر عظمة وإدهاشا وإنجازا وتفوقا، وأيضا أكثر معاناة وألما.
تظن أنّك ستفهم وتعرف أكثر برؤية غزة وأهلها ولكن البعض يكتشف أنّه يخرج أكثر حيرة، فمدى الفهم البشري يصل حدا تجاوزه أهل غزة منذ زمن في التضحية والبسالة والإقدام، ونحن ما زلنا على مفاهيمنا البسيطة الأولية في معاني الجهاد والشهادة، نقدّم رجلا ونؤخر أخرى ونتمنّى أن نحصل أجر الجهاد بغير ابتلاءات الجوع والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات!
* سقط صاروخ، أُطلق صاروخ..وتمضي الحياة.
من كثرة الأصوات في سماء غزة نهارا وليلا لا يميّز المبتدؤون في المدرسة الغزية من الزائرين شيئا، ولكن أهل غزة يعرفون صواريخهم ومن لهم ومن معهم، ويعرفون صواريخ أعدائهم ومن عليهم.
أنت تترقّب وتصغي، هذا غير عاصفة المشاعر التي تجتاح قلبك انتظارا للنتائج أو هربا من أن تكون هدفا محتملا لطائرة تضرب كل شيء وأيّ شيء، وأهل غزة يمضون في حياتهم بذات الإصرار والاندفاع وكأنّ ما يحلّق ليس أكثر من طائر قد يكون بشيرا أو نذيرا.
يدرسون تحت القصف، ينامون تحت القصف، يأكلون تحت القصف، يعملون تحت القصف، يتزوجون تحت القصف، ينجبون تحت القصف حتى أصبح القصف لازمة في حياتهم فقد تعلّم أهل غزة الدرس من ابن تيمية الذي يئس العدو منه عندما قال: ماذا يفعل أعدائي بي؟ وعدّد كل مناشط الحياة التي حتى لو ضيّقها عليه العدو فلن يستطيعوا هزيمة إرادته.
حقا لا عدو مهما بلغت قوته وبطشه يقدر عليك إذا انتصرت على نفسك!
قست أحوال غزة وتصرفات أهلها بآخر ذكرى حرب عشنا إشاعات نذرها في حرب الخليج الأولى، فحضرنا الملاجئ والإسعافات والتموين وألصقنا الشبابيك وغطّيناها، وكان صوت الرعد يفزعنا حد الرعب فعلمت أنّ أهل غزة في عليائهم متفرّدون.
* أنزلوهم من أنفسكم.
لا يمكن أن تشعر بما يشعر به أهل غزة حتى تضع نفسك وحياتك وأهلك وأولادك مكانهم وتسأل نفسك: ماذا لو كانت حياتي دائما على المحك والموت يحوطني في كل وقت ومكان دون لحظة هدنة أو راحة أو نسيان؟ ماذا لو كان أولادي لا يرقدون من الليل إلاّ بضع ساعات والطائرات تحوم فوق رؤوسهم وتقضّ مضاجعهم وتسرق الأمان من حضن أمهاتهم وآبائهم؟ ماذا لو مات الأب والأخ والأم والابن والزوج دون أن تجد فيهم ما يمكن احتضانه وتوديعه؟
لائحة أسئلة طويلة والأجوبة الصادقة ستثبت أنّك ربما لست من أصحاب حديث رسول الله في وحدة الجسد المؤمن الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالدعم والمساندة، الجواب الصادق يحتاج أن تجعل لأهل غزة من طعام أولادك نصيبا ومن جهدك نصيبا لنصرتهم، ومن دعائك كذلك نصيبا، أمّا الموسمية في النصرة المادية والمعنوية فلا تصنع نصرا ولا تقيم أودا ولا تحفظ دما ولا تثبت أخوة، والله جعل الإنسان من أسباب نصرة أخيه الإنسان.
هم صابرون صامدون مجاهدون، ولكن ما هذه الحياة التي يجب أن يعيشها البشر، فالأمن من الخوف من أبسط حقوق الإنسان وعالم دولي لا يرى ما بغزة هو عالم أعمى منفصم الشخصية والمعايير.
ولنا عود إن شاء الله.