وا ثكل(بضم الثاء) أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته وإن كان قبيحاً تركته فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى بيته فدخلت عليه وقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا فوالله ما برحوا بي يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثمّ أبى الله إلا أن يسمعني قولك فسمعت قولاً حسناً فاعرض عليّ أمرك فعرض عليّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الإسلام وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه قال فقال اللهم اجعل له آية قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر (أي مكان مرتفع) وقع بين عيني نور مثل المصباح فقلت اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظن (بضم الياء) بها مثلة (بضم الميم وتسكين الثاء) (يعني أخاف أن يقولوا دعوة الآلهة عليك) فتحول فوقع في رأس سوطي (أي النور) فجعل الحاضرون يتراءون ذلك النور من رأس سوطي كالقنديل يضيء، وأنا أتهبط عليهم من الثنية (أي أنـزل عليهم من مكان مرتفع) حتى جئتهم فأصبحت فيهم فلما نـزلت أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً فقلت إليك عني يا أبة فلست منك ولست مني قال: لم يا بني؟ قلت أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أي بني فدينك ديني قلت فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثمّ ائتني حتى أعلمك مما علّمت (بضم العين) فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثمّ جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم. ثم أتتني صاحبتي (أي زوجته) فقلت إليك عني فلست منك ولست مني قالت: ولم بأبي أنت وأمي؟ قلت فرّق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالت: فديني دينك فقلت فاذهبي إلى حمى ذي الشرا ، وتطهري منه، (ذو الشرا
هذا صنم لدوس وكان الحمى الذي حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل، أي نقاط من ماء تهبط من جبل) قالت: بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرا شيئاً؟ قلت: لا، أنا ضامن لذلك قال فذهبت فاغتسلت ثمّ جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت. ثمّ دعوت دوساً (أي قبيلته) إلى الإسلام فأبطأوا عليه (أي تأخروا في القبول وذلك أنه ليس كل الناس سواء فأبو ذر أسلم قومه وتابعوه والطفيل بن عمرو لم يسلم قومه مباشرة ولكن تمنعوا عليه) قال: ثمّ جئت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة فقلت يا رسول الله أبطأوا عليّ فادع عليهم فقال صلوات الله وسلامه عليه اللهم اهد دوساً ارجع إلى قومك وادعهم وارفق بهم قال فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ثمّ قدمت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بخبير فأسهم لنا مع المسلمين صلوات الله وسلامه عليه.
الجهر بالدعوة:
لما نـزل قول الله تبارك وتعالى "يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر" جهر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك أن الله تبارك وتعالى انتزعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة فقال " يا أيها المدثر قم فأنذر " كأنه قيل له إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً وأما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم وما لك والراحة وما لك والفراش الدافئ قم للأمر العظيم الذي ينتظرك والعبء الثقيل المهيأ لك قم للجهد (بفتح الجيم) والنصب (بفتح النون والصاد) والكد والتعب قد مضى وقت النوم والراحة وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاق قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . هكذا أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقوم ويجهر بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى. وقد روى لنا أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه بداية دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجهره بها صلوات الله وسلامه عليه قال أبو هريرة لما أنـزلت هذه الآية "وأنذر عشيرتك الأقربين" دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قريشاً فاجتمعوا فعمّ وخصّ فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلّها ببلاها، رواه الإمام مسلم في صحيحه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لمّا نـزلت هذه الآية "وأنذر عشيرتك الأقربين"خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى صعد الصفا (جبل الصفا) فهتف يا صباحاه (وهذه جملة كان يستعملها الناس في ذلك الوقت للمناداة ينادون الناس اجتمعوا الأمر مهم) فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاجتمعوا إليه فقال يا بني فلان يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي وفي رواية لو حدثتكم أن خلف هذا الوادي جيش مصبّحكم (أي سيدخل عليكم صباحاً) أكنتم مصدقي؟ (والله لو قالوا له نصدقك لكفى ولكن أبى الله تبارك وتعالى إلا أن يشهدوا بالحق وإلا أن يقولوا الكلمة التي تكون شاهدة عليهم وعلى تكبرهم وعنادهم وإعراضهم عن الحق الذي عرفوه، ماذا قالوا؟) قالوا ما جرّبنا عليك كذباً قط، (هكذا يشهد أهل مكة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المشهور بعد ثلاث وأربعين سنة بأنهم ما جرّبوا عليه الكذب أبداً ولذلك سيأتينا من قصة أبي سفيان لمّا يسأله هرقل وذلك في بداية السنة السابعة من الهجرة بعد صلح الحديبية هل كان يكذب قبل أن يقول ما قال فقال لا وهكذا هي صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يكذب أبداً صلوات الله وسلامه عليه) قالوا ما جربنا عليك كذباً قط فقال إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقام عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبو لهب فقال تباً لك أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثمّ قام فأنـزل الله تبارك وتعالى آيات يدافع فيها عن نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال سبحانه وتعالى "تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد". ثمّ كانت بعد ذلك الدعوة الجهرية قال ابن إسحاق ثمّ أمر الله تبارك وتعالى رسوله بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر (بضم الألف) وأن يصبر على أذى المشركين وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب استخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون في شعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم (أي أنكروا عليهم وعابوا عليهم ما يصنعون) حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلحى جمل (أي عظم جمل) فشجّه فكان أول دم أهريق في الإسلام. وبدأ الناس يدخلون في دين الله تبارك وتعالى وكان قد أسلم أبو بكر وعلي وزيد وبلال وخديجة ثمّ أسلم عمّار بن ياسر وأسلم كذلك عثمان والزبير وابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله ثمّ أسلم أبو عبيدة وأبو سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم وعثمان بن مظعون وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت و عبد الله بن مسعود وفاطمة بنت الخطاب وكل هؤلاء كان إسلامهم سراً (أي كانوا يسرون بإسلامهم خوفاً من أهل مكة). فبعد أن أنـزل الله قوله جلّ وعلا " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" قام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينكر خرافات الشرك وترّهاته ويذكر حقائق الأصنام وحقائق عبدتها وأنها لا تستحق العبادة ولا تستحق أن يسجد لها وأن تعبد من دون الله تبارك وتعالى وبدأ يسفّه الأحلام ويبين الضلال صلوات الله وسلامه عليه. عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال كنت رجلاً قيناً (أي عبداً) وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثمّ تبعث قال فإني إذا مت ثمّ بعثت (بضم الباء) جئتني ولي ثمّ (بفتح الثاء) مال وولد فأعطيك فأنـزل الله تبارك وتعالى " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا … إلى قوله تعالى ويأتينا فردا " أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وعن خباب قال أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة أي مستند على برده (وهي العباءة) وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدّة فقلت ألا تدعو الله فقعد وهو محمر الوجه فقال قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد. ولما بدأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى مشى رجال من أشراف مكة إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وسفّه أحلامنا وعاب ديننا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه ومضى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكلمه وينصحه واستمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما هو عليه صلوات الله وسلامه عليه. ولما قرب موسم الحج والحجاج سيأتون إلى بيت الله تبارك وتعالى ولا شك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيجدها فرصة سانحة للدعوة إلى الله تبارك وتعالى، اجتمع كفار مكة وكبراؤها إلى الوليد بن المغيرة وقالوا ما نقول إذا جاء الناس فقال لهم الوليد اجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ويرد قولكم بعضه بعضاً (يعني لا ينبغي أن يقول أحدكم ساحر والآخر يقول كاهن والثالث يقول مجنون والرابع يقول كذاب وهكذا يكذبكم الناس جميعاً أجمعوا قولاً واحداً فيصدقكم الناس على ما تقولون) فقالوا له بل أنت قل ونسمع قال لا قولوا أنتم وأنا أسمع قالوا نقول كاهن قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا نقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا فما نقول فقال لهم والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين شيئاً إلا عرف (بضم العين) أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، سبحان الله هو يقول لهم ما هو بساحر وهم يعرفون انه ليس بساحر ولكنه الكبر (بكسر الكاف) والعياذ بالله قال قولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك ولكن هل بقي الأمر هكذا؟ لا لقد دافع الله تبارك وتعالى عن نبيه فقال عن الوليد بن المغيرة ومن معه ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا … إلى قوله فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر". واتبعت قريش أساليب عدة في محاربة دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فمن هذه الأساليب التي استخدموها مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
أولاً: السخرية والاحتقار: رمي (بضم الراء) النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته بتهم وشتائم وتألفت جماعات للاستهزاء بالإسلام ورجاله فرسولهم ينادى بالجنون قال تعالى" وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون" ووصم بالسحر والكذب قال تعالى " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " وكذلك صاروا ينظرون إليه نظراً يريدون بهذا النظر أن يزلقوه بأبصارهم أي يوقعوه في مهلكة من حسدهم قال الله تعالى "وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون" وسخروا أيضاً من أصحابه قال الله تعالى " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضآلون وما أرسلوا عليهم حافظين". وقالوا عن القرآن الكريم أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا وقالوا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون وأرادوا لجهلهم أن يعارضوا القرآن الكريم بأساطير الأولين وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حدّث الناس ودعاهم إلى الله تبارك وتعالى وقرأ عليهم القرآن ثمّ قام جاء النضر بن الحارث فجلس مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ يقول والله ما محمد بأحسن حديثاً منّي ثمّ يحدثهم عن ملوك فارس ثمّ يقول بماذا محمد أحسن حديثاً منّي وحاولوا المساومة كما قال الله تبارك وتعالى " فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون".
ثانياً: الإيذاء: وهو نوعان:
النوع الأول: الإيذاء النفسي: فأول هذا الإيذاء ما وقع من أبي لهب قبّحه الله وذلك أنه قد زوّج ولديه عتبة وعتيبة من بنتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة فلما بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودعا إلى الله تبارك وتعالى وجهر بالدعوة أمر أبو لهب ولديه أن يطلقا بنتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فطلقاهما. وكانت امرأة أبي لهب أم جميل (أروى بنت حرب) لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى بابه ليلاً وكانت امرأة سليطة اللسان ولما سمعت ما نـزل فيها وفي زوجها من القرآن (أي قول الله تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب …إلى آخر السورة) أتت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر وفي يدها حجارة فوقفت عليهما فأخذ الله بصرها فلم تر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم تر إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جالس جنبها مع أبي بكر فقالت قد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه (أي الحجر) أما والله إني لشاعرة ثمّ قالت:
مذمماً عصينا ،،،، ودينه قلينا
ثمّ انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك فقال ما رأتني فقد أخذ الله ببصرها عني. وازداد الأمر وذلك أن عقبة بن أبى معيط كما حدّث عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
النوع الثاني: الإيذاء الجسدي: عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يأتي بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، (سلا الجزور هو بيت الولد أي المكان الذي يكون فيه الولد وهي المشيمة بالنسبة للإنسان ويقصدون بذلك سلا ناقة ميتة) فانبعث أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط فجاء به فنظر (أي انتظر) حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه يقول عبدالله وأنا أنظر لا أغني شيئاً لو كانت لي منعة (لأنه ليس من قريش) قال فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض (أي يتمايلون على بعضهم) ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة (أي بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فطرحته عن ظهره فرفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ قال اللهم عليك بقريش ثلاث مرات يدعو عليهم فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، كيف وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صادق وأنه نبي حقاً صلوات الله وسلامه عليه كما قال الله تبارك وتعالى "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" قال اللهم عليك بأبي جهل اللهم عليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعد السابع يقول عبد الله ولم أحفظه والذي نفسي بيده لقد رأيت الذي عدّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صرعى في القليب قليب بدر (أي في معركة بدر كلهم قد صرعوا)، أخرجه مسلم. وكذلك أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ (يعني يسجد بين أظهركم وأنتم سكوت) قالوا نعم قال واللات والعزى لإن رأيته لأطأنّ على رقبته ولأعفرنّ وجهه (أي لأجعلنّ وجهه في التراب) فأتى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلي زعم ليطأ رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقيه بيديه. (أي أدار ظهره وصار يجري ويرفع يديه ليتقي ليدفع عن نفسه) فقال له الناس ما لك يا أبا الحكم؟ ما الذي حدث؟ (أبو جهل كان يكنى بأبي الحكم لما يرونه من رجاحة عقله) قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهؤلاء أجنحة. يقول أبو هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضوا. وروى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير قال سألت عبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال عبدالله بينما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه (أي بمنكبي عقبة) ودفعه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
هذا ما وقع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأما ما وقع لأصحابه:
عثمان بن عفان: كان عمّه يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته،
مصعب بن عمير: لما علمت أمه بإسلامه طردته من بيتها وأجاعته وكان من أنعم الناس عيشاً في قري،
بلال بن رباح: فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة (أي في أرض مكة ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثمّ يقول لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعبد اللات والعزى فيقول بلال أحد، أحد. هذا عذاب أمية لبلال وأمّا أمية فكان ينال عذاباً أكثر من هذا العذاب وهو بقول بلال أحد، أحد فكانت أشد على أمية من عذاب بلال رضي الله عنه وأرضاه فمر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه رضي الله عنه وأرضاه وقيل أن أبا بكر لما جاء ليشتريه قال بكم تبيعونه؟ قالوا قل أنت، قال: تبيعونه بخمسمائة، قال أمية: بعتك فاشتراه أبو بكر فقال أمية لو دفعت أقل من هذا لأعطيناكاه يعني بعناك بلال بأقل من هذا السعر فقال أبو بكر يظهر قيمة بلال عند الله تبارك وتعالى لو طلبت أكثر من هذا لدفعت،
عمار بن ياسر وأمه وأبيه: كذلك وقع العذاب عليهم، فكانوا يخرجونهم إلى البطحاء ويعذبونهم فكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمر بهم ويقول صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة فمات ياسر وماتت سمية أم عمار في العذاب وهي كما يقال أول شهيدة في الإسلام . وبلغ الاضطهاد أشدّه حتى إن خباب بن الأرت يقول أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة (أي مستند على عباءة) وقد لقينا من المشركين أشده فقلت ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه وقال قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعظم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه يشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون، رواه الإمام البخاري في صحيحه. ومع هذه الاضطهادات كلها كان الله تبارك وتعالى مع أوليائه سبحانه وتعالى كما قال " إن الله يدافع عن الذين آمنوا".
عودة إلى الدعوة السرية:
ولما اشتدت الدعوة وزاد الإيذاء رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الدعوة السرية صلوات الله وسلامه عليه وذلك في دار الأرقم بن أبي الأرقم. وكانت دار الأرقم على الصفا وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم فاختارها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتكون مكاناً لاجتماعه باتباعه صلوات الله وسلامه عليه وقد كانت هذه الاضطهادات في بداية السنة الرابعة من دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الهجرة إلى الحبشة:
وكان من حرص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه أنه لما رأى كثرة الاضطهاد أمرهم بالهجرة إلى الحبشة وكان ملك الحبشة حينئذ رجلاً يقال له أصحمة وقد ذكر بالعدل فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبعض المسلمين اذهبوا إلى أصحمة فإنه ملك عادل لا يظلم (بضم الياء وتسكين الظاء) عنده أحد. وكانت الهجرة الأولى وذلك سنة خمس من النبوة فهاجر اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة إلى الحبشة وكان رئيسهم عثمان بن عفان رضي الله تبارك وتعالى عنه ومعه بنت النبي رقية رضي الله تبارك وتعالى عنها. ووقعت حادثة غريبة في تلك السنة في رمضان وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج إلى الحرم وهناك جمع كبير من قريش في نواديهم كما هي عادتهم فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم "والنجم إذا هوى …هذه السورة بما احتوته من معان وألفاظ عجيبة لم يسمعوا مثلها أبداً فلما وصل صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هذه الآية "فاسجدوا لله واعبدوا" سجد صلوات الله وسلامه عليه فلم يتمالك أحد منهم حتى خرّ ساجداً فسجدت كل مكة وذلك أن روعة هذه الآيات أخذت بألبابهم وجعلتهم يسجدون مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولما بلغ هذا الخبر وهو سجود أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظن بعض الناس أنهم آمنوا وأنهم تابعوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووصل هذا الخبر إلى أهل الحبشة ظنوا أن قريشاً كلها دخلت في الإسلام فرجعوا إلى مكة مرة ثانية في السنة نفسها في شوال فلما وصلوا إلى مكة تبين لهم أن الأمر ليس كذلك وأن ذلك السجود إنما وقع منهم اعترافاً وإقراراً من داخل نفوسهم بصحة نسبة هذا القرآن إلى الله تبارك وتعالى.
قصة الغرانيق:
جاء في بعض الروايات قصة يقال لها قصة الغرانيق وهذه القصة مجملها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قرأ سورة النجم بلغ قول الله تبارك وتعالى" أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان " تذكر بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قرأ "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" سمعت قريش قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك يقول تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فتكون هكذا أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى سجد أهل مكة الكفار منهم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنه مدح أصنامهم وأثنى عليها. وهذه القصة باطلة ليس لها سند صحيح وإن ذكرها بعض أهل العلم والدليل على بطلانها:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يمكن أبداً أن يقول مثل هذا الكلام وذلك أن هذا الكلام كفر كيف يثني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على اللات والعزى.
ثانياً: هذه الرواية تخالف رواية صحيحة في البخاري والتي ذكرناها قبل قليل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما قرأ سورة النجم كاملة فسجدت قريش لهذه السورة لا لأجل ما ذكر أنهم سمعوه وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.
ثالثاً: ذكر بعض الرواة أن الشيطان ألقاها أي هذه الكلمات على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يشعر وهذا باطل إذ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يمكن أبداً أن يخلط بين قول الله وقول الشيطان،
رابعاً: سند هذه القصة ضعيف، فلا شك إن هذه الدلائل كلها تدل على بطلان هذه القصة. وعلى فرض صحتها وأنها وقعت كذلك فإنما يكون الشيطان هو الذي قال هذا لكفار مكة ولم يسمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فقام الشيطان وقال تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، فظن أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي مدح آلهتهم وليس الأمر كذلك. وذلك أن الشيطان قلد صوت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الهجرة الثانية إلى الحبشة:
لما رجع المهاجرون من الحبشة إلى مكة ورأوا حقيقة الأمر وجليته وهو أن كفار مكة ما دخلوا في الإسلام وأن تلك كانت إشاعة فهاجروا مرة ثانية إلى الحبشة ولم يهاجر الجميع وإنما بعضهم بقي كعثمان رضي الله عنه وبعضهم هاجر مرة ثانية وتبعهم آخرون فكانت الهجرة الثانية وكان فيها ثلاث وثمانون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وثماني عشرة أو تسع عشرة. عند ذلك ذهب سادات قريش إلى أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا له يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنـزلة فينا وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك ولم تنهه، (أي طلبنا منك أن تنهاه فلم تنهه) وإنّا والله لا نصبر على هذا يأتي ويقرأ القرآن بين أظهرنا هذا ما لا نتحمله أبداً ومن شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين وهذا تهديد قوي من قريش إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما رأى أبو طالب هذا الأمر قد اشتد بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني وقالوا لي كذا وكذا وذكر له ما قالوا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن عمه سيخذله وأنه ضعف عن نصرته فقال صلوات الله وسلامه عليه يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته ثمّ استعبر صلوات الله وسلامه عليه وبكى وقام وترك أبا طالب عمه واجماً من هذا الكلام الذي قاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهذه الرواية وإن كانت لا تصح سنداً وهي قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته لكن كما ذكر أهل العلم أن السيرة يتسامح بها ولا بأس بذكرها لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثبت أنه لم يتنازل ولكن هل قال هذه الكلمة بذاتها أو قال غيرها العلم عند الله تبارك وتعالى. فلما مشى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وترك أبا طالب واجماً انتبه أبو طالب ثمّ نادى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرجع إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له أبو طالب اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت والله لا أسلمك لشيء أبدا وذكر أبياتاً طيبة يبين فيها صدقه مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنه ناصره وإنه لن يسلمه إلى كفار مكة أبداً قال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ،،،،،،،،،، حتى أٌوَسّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ،،،، وابشر وقَرّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت إنك ناصحي ،،،،، فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت ديناً قد عرفتُ بأنه ،،،،،،،،،،، من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ،،،،،،،،، لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
قال هذه الأبيات فانصرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرحاً بما سمع من أبيات ومن كلام أثلج صدره من عمه أبي طالب فلما رأت قريش أن أبا طالب قد أبى أن يخذل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه مجمع على فراقهم ذهبوا إلى عمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له يا عمارة نعطيك أبا طالب فتكون ولداً له ونأخذ محمدا بدلك ثم نقتله وجاؤا أبا طالب وقالوا يا أبا طالب إن هذا الفتى (أي عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه لك عقله ونصره، (والعقل يعني ما تتحمله العاقلة في القتل وما شابه ذلك وهم الأقارب)، واتخذه ولداً فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل فقال أبو طالب والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم اغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدا. والملاحظ من موقف أبي طالب من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن كفار مكة يستغرب كيف أن أبا طالب لم يسلم ولم يتابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولو وقفنا مع قول أبي طالب لولا الملامة أو حذاري (بضم الحاء) سبة (بضم السين) لوجدتني سمحاً بذاك مبينا هذا الذي منع أبا طالب من اتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حق ولذلك قال الله تبارك وتعالى "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" فهم يعلمون الحق ويعلمون أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حق وإنه رسول من عند الله وأن الذي يتلوه ليس شعراً ولا سحراً ولا كهانة ولكنه الكبر والعياذ بالله تعالى.
إسلام حمزة :
ثمّ جاء بعد ذلك النصر من الله تبارك وتعالى بإسلام رجلين أما الأول فهو حمزة عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخوه من الرضاعة (أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب) وسبب إسلامه أن أبا جهل عدو الله مرّ برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو عند الصفا فآذاه وسبه ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ساكت لا يكلمه ثمّ قام أبو جهل فحمل حجراً فضرب به رأس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فشجه حتى نـزف منه الدم ثمّ انصرف عنه إلى نادي قريش يعني مكان جلوسهم فجلس معهم وكانت مولاة (أي أمة) لعبد الله بن جدعان رأت ذلك فلما أقبل حمزة من القنص (أي صيد الطيور) متوشحاً قوسه جاءته هذه الأمة فأخبرته بما رأت وماذا فعل أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فغضب حمزة رضي الله عنه وأرضاه وكان رجلاً شديداً وكان في عنفوان شبابه وكان من أشجع قريش في ذلك الوقت رضي الله عنه وأرضاه ومحمد ابن أخيه فخرج يسعى ثمّ جاء لأبي جهل فلما دخل قام على رأسه وقال له تشتم ابن أخي وأنا على دينه ثمّ قام وسبه ثمّ ضربه بالقوس وشجّ وجهه شجة منكرة فثار رجال من بني مخزوم (يعني من قوم أبي جهل) وثار رجال من بني هاشم لحمزة حتى كادت أن تكون معركة بين الحيين فقال أبو جهل دعوا أبو عمارة فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحا. قال حمزة رضي الله عنه: فلما خرجت فكرت في الأمر فقلت كيف قلت أنا على دينه وأنا لم أسلم بعد فما هو إلا أن شرح الله تبارك وتعالى صدري للإسلام وذلك أنه ذهب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا ابن أخي إني قلت كذا وكذا فماذا أصنع فدعا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يشرح الله تبارك وتعالى صدره للإسلام فشرح الله جل وعلا صدره للإسلام وأسلم وكان إسلامه نصراً للمؤمنين.
إسلام عمر:
وأما إسلام عمر وهو النصر الثاني فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد ثبت عنه أنه قال اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام . وقصة إسلامه فيها أكثر من رواية ولكن أقرب الروايات إلى الصحة هي أن عمر رضي الله عنه قال: خرجت يوماً إلى البيت (البيت الحرام) فدخلت في ستر الكعبة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم يصلي وقد استفتح سورة الحاقة فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ وأنا استمع وأعجب من تأليفه (أي من تأليف هذا القرآن) فقلت في نفسي هذا والله شاعر كما قالت قريش فكانت قراءة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد وصلت إلى هذا الموضع "إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون" فقلت في نفسي كاهن فقرأ "ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنـزيل من رب العالمين" فوقع الإسلام في قلبي. ولما أسلم عمر جاء إلى رجل يقال له جميل بن معمر وهذا الرجل نقالة للحديث لا يستطيع أن يسكت أبداً فقال له أريد أن أخبرك شيئاً قال وما هو؟ فقال له: أسلمت فقام هذا الرجل (جميل بن معمر) فنادى بأعلى صوته إن ابن الخطاب قد صبأ إن ابن الخطاب قد صبأ ويسير فيها إن ابن الخطاب قد صبأ وعمر بن الخطاب يجري خلفه ويقول كذب ولكني أسلمت فقاموا إلى عمر رضي الله عنه فصاروا يقاتلونه (أي يضربونه وهو يضربهم ويضربونه هكذا حتى ارتفعت الشمس وذكرت بعض الروايات أنهم ضربوه حتى سقط مغشياً عليه من شدة ضربهم. عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر وقال كذلك مازلنا أعزة منذ أسلم عمر.