"أنا اللي خلقت ليبيا وأنا اللي بيفنيها" .. قراءة في الفكر الفرعوني الاستبدادي!
ابتليت هذه الأمة بطغاة يعيشون على دماء أبناءها ، ينهبون ثرواتها ، ويجمعون خيراتها ، ويحالفون أعداءها ، ويعملون ضدها ليلا ونهارا ، ويحيكون المؤامرات ويعقدون المؤتمرات لئلا تعود هذه الأمة لمكانتها التي كانت .
دخل كبار الضباط على معمر القذافي يسألونه إلى أن سيذهب بليبيا ، فقال لهم : أنا اللي خلق ليبيا وأنا اللي بيفنيها !
وقبل أيام قلائل يخرج هذا المجنون المعتوه يصرخ .. أريد مزيدا من الدماء ، ولم أستخدم القوة حتى الآن !
هؤلاء الحكّام المتخلّفون هم السبب الرئيس في كل دمار حل بهذه الأمة ، وهم المتسبب الأول في تأخر الأمة وتراجعها عن قيادة العالم ، مع ما تمتلكه من ثروات ورجال وعقول قادرة على القيادة والريادة .
وقد ضرب الله لنا في القرآن الأمثال ، وحكى لنا قصص الطغاة والمتجبرين ، وطريقة تعاملهم مع شعوبهم ، ونمط تفكيرهم البائس ومحاربتهم للمصلحين .. وكان الطاغية فرعون النموذج الأكثر ورودا في القرآن الكريم ، وما ذلك -في ما ظهر لي بعد التدبّر- إلا أن هذه الأمة ستبتلى بأمثال هذا الفرعون في تجبره وتغطرسه وحربه للمصلحين .
وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الله وعده أن لا يجتاح هذه الأمة عدو خارجي يمحو بيضتها ويستأصلها ، ولكن سيكون بأس هذه الأمة بينها ، فيحارب أبناء الأمة أمتهم ، ويعادي المصلح المفسد . والذي يقرأ تاريخ الأمة يظهر له بجلاء مصداق هذا الحديث النبوي .
وفي هذا المقال سأحاول عرض بعض الآيات التي تحكي طغيان فرعون ، وطريقة تعامله مع شعبه ومع المصلحين ، فالقصص في القرآن لم تقص إلا للاعتبار ، والله سبحانه يورد من القصص ما فيه نفع لقارئ القرآن على مر العصور .. ففرعون لم يغرق في البحر وينتهي أمره ، بل مازال فرعون بفكره وتغطرسه وعتوه وتجبره يحكم ويأمر وينهى ويبطش بأبناء هذه الأمة . وسأقوم بعرض ما لدي في النقاط التالية:
1- الأمر الجامع في شخصية كل الفراعنة هو أنهم يرون أنفسهم عظماء لا مثيل لهم ولا يوجد لهم نظير .. فشيخهم يقول : أنا ربكم الأعلى !
والآخر المعاصر يقول : أنا الذي خلقت وأنا الذي أفني .
ويزعمون أن معهم قدرات خارقة .. فالقذافي هو المجد .. أرأيت المجد ، المجد هو القذافي على حسب كلامه !
وفرعون مصر المعاصر هو الحاكم الأوحد ، والمصري الوحيد الذي عبر القناة ، ويطلق على نفسه بطل العبور ! والآخر قائد تنمية تونس ومحارب الظلام!
2- الطغاة لا يستسيغون أن يخالفهم أحد في الرأي ولو في مسألة تافهة ، فهم الأعلم والأحكم والأكثر فهما لبواطن الأمور وخوافيها.. قاعدتهم الأساسية في الحكم: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ، هذا هو الأساس الذي يبني عليه الطاغية سياسته وتعامله مع شعبه .
3- الاعتزاز بالنجاحات الوهمية التي زعم الطاغية أنه حققها عنصر مهم ، لإظهار نفسه بالبطولة وأنه نادر المثال : (ونادى فرعون في قومه : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟)
ألست بطل العبور؟
ألست محقق التنمية في تونس؟
ألست المجد وقائد ثورة الفاتح من سبتمبر ؟
4- يتفق الفراعنة على تشويه صور مخالفيهم من المصلحين ، مستخدمين قدراتهم الإعلامية الهائلة ، في كل عصر وفي كل مصر .. ينادي فرعون في قومه واصفا موسى بأنه مهين ولا يكاد يبين : (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ؟)
ويقول فرعون – أيضاً- عن موسى نبي الله : (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) .
وكذلك رأينا الطغاة المعاصرين يستخدمون هذا الأسلوب البائس لتشويه صورة المصلحين ، فإعلام النظام المصري يصور لنا شباب الثورة بأنهم مجرد شباب تافه ضائع ، ومثيري للفتنة والفساد .
والقذافي يخبرنا أن شباب الثورة الليبية مجموعة جرذان وفئران ومتعاطي مخدرات .. يريدون أن يظهروا في الأرض الفساد !
5- كل الفراعنة موقنون بأن مناوئيهم يدعون للصلاح والخير ، وأنهم يطالبون بحقوق مشروعة ، لا يختلف على مشروعيتها اثنان عاقلان .. ولكن كما أخبر الله عن فرعون واتباع نظامه : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً .
لاستمراءهم الظلم ، ولتكبرهم عن الحق ينكرونه ويعادون أهله .. وانظر إلى التعبير بقوله : وجحدوا ، فالجحد هو تكذيب الشيء مع إيقان النفس بصدقه .
6- يستخدم الفراعنة في حربهم لأهل الصلاح كل الأسلحة التي يمتلكون .. ولكنهم يتفقون على سلاح واحد ، وهو محاولة التغلب على المصلحين بسلاح مشابه لسلاحهم .
فشيخهم فرعون يريد أن يتغلب على موسى بنفس سلاحه الذي أتى به ، فيجمع السحرة ، لإيهام الناس أن موسى ساحرا ، ويأمرهم بقلب العصا ثعبانا كما فعل موسى .
أتى بباطل ليهدم به الحق ، موهما أن ما عنده نفس ما عند موسى .. ويأتي الطغاة في هذا العصر سائرين على نفس المنهج ، فيأمر الطاغية مبارك بخروج المتظاهرين لتأييده والمطالبة بعدم تنحيه !
والقذافي يطالب المنتفعين به للخروج في مظاهرات تأييدا له على إجرامه وظلمه .. ولكن الحق هو الحقيق بالنصر ، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين .
7- الاستعانة بأعوان يخدمون الطاغية بإخلاص ، ويربط حياتهم به ، ففي زواله زوالهم ، فهو ركنهم الذي إليه يأوون وبقائهم قائم على بقائه .. لذلك نجد هؤلاء يحاربون من أجل النظام بكل ما أوتوا من قوة ، ويُعتبر كثير من هؤلاء ملكيون أكثر من الملك .
هامان وعمر سليمان وعبد الله السنوسي وسيف الإسلام وغيرهم من أعوان الظالمين يقومون بأدوار كبيرة لتثبيت أركان حكم الفرعون ، وأزّه إلى مزيد من الظلم والطغيان . وصدق الله العظيم : إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين .
ويتخذ الفرعون - أيضا- أنصارا مؤجرين لمواجهة المناهضين له، ويجعل لهم الأعطيات الجزيلة من أجل الوقوف في وجه المصلحين .. يحدثنا القرآن عن فرعون وكيف أنه استأجر السحرة وأغراهم بالمال من أجل مواجهة موسى : (قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ، قال: نعم .. وإنكم إذن لمن المقربين ! ).
ويسير الفراعنة المعاصرين على سنته ، فيغرون فئام من الناس بالوقوف في وجه أصحاب الحق .. وما معركة الجمل الثانية منا ببعيد !
حيث كان النظام المصري يدفع الأموال ويستأجر الخيل والبغال والجمال لمحاربة المتظاهرين ! وبقليل من الجنيهات فقط !
والقذافي حشد المرتزقة بالأموال الطائلة لمحاربة من قال لا لظلم القذافي وتجبّره .
لكن هؤلاء الذين يقفون مع النظام من أجل المال أقل شراً من أولئك الذين يرون أن في زوال النظام زوالهم فيستميتون من أجل ذلك في الدفاع عنه.
8- تفريق المحكومين في بلاد الفرعون ، وجعلهم شيعا وأحزابا ، وإثارة الفتن بينهم ، يقول تعالى : (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا) .
هذه هو القانون عند الفراعنة قائم على قاعدة : "فرّق تسد" ، فالفرعون المصري المعاصر قام ببث الفتنة بين الأقباط والمسلمين ، وقد عاش الأقباط تحت ظل المسلمين أكثر من ألف سنة ولم يتعرض لهم المسلمون بسوء ، وهاهي خيوط المؤامرات بدأت تتكشّف بعد سقوط النظام ، فيٌتهم وزير داخلية الفرعون ( حبيب العدلي) بتفجير الكنيسة القبطية في الإسكندراية ، فيا لله العجب انظر كيف تبلغ الدرجة من الدناءة بالفرعون وأعوانه أن يقوموا بهذه المؤامرات الخسيسة على شعبهم !
بل لم يقتصر الأمر على إثارة الفتن بين المسلمين والأقباط فقط ، بل خرجت وثائق وأوراق من أروقة وزارة الداخلية تثبت أن النظام المصري كان يستغل بعض الخلافات بين الإخوة السلفيين والإخوان المسلمين لتأجيج الصراع بينهم !
وهاهو فرعون ليبيا منذ أن استلم السلطة قام بإثارة الفتن بين القبائل ، وتسليح بعضهم واستضعاف بعضهم على سنة فرعون (علا في الأرض وجعل أهلها شيعا) .
9- عدم الاعتبار بالتاريخ ونواميسه التي لا تتخلّف إن وجدت مسبباتها ، يقص لنا سبحانه وتعالى عن مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه ، وكيف أنه كان يعظ فرعون ومن معه بضرورة أخذ العبر من التاريخ وحوادثه : (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فمازلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ، كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) .
وتلك سمة الفراعنة لا يعتبرون بما يجري من أحداث ، فيستمرون في ظلمهم ويظنون أن التاريخ ونواميسه ستنحاز إليهم .
وقد استمعنا إلى التصريح الشهير لوزير خارجية فرعون مصر بعد أحداث تونس ، عندما قيل له إنه من المحتمل أن تنتقل هذه الثورة لتدك عرش الفرعون ، فقال مجيبا بكل تكبر وعلو : "مصر مش تونس" !
والآن ابن الفرعون الضال لا يعتبر مما جرى ويكرر نفس كلمة فراعنة مصر : "ليبيا مش تونس ولا مصر" .
كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب !
وكذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار !
10- حشد الحشود لمحاربة المصلحين ومطاردتهم حتى وهم عزّل لا يملكون سلاحا يدافعون به عن أرواحهم ، يقول تعالى : (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين : إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون ، وإنهم لنا لغائظون ، وإنّا لجميع حاذرون) .
جميعنا حاذرون .. في هذا إعلان لحالة الطوارئ في مصر ، فإن موسى ومن معه خطر على الأمن القومي ، مع إنهم شرذمة قليلون ولا يملكون سلاحا !
ويعيد التاريخ نفسه مع فرعون ليبيا ، فيكرر نفس عبارة فرعون : إن هؤلاء لشرذمة ، ثم يستعين بالعالم الخارجي بدعوى أن حربه حربهم ، وإنه يحارب الإرهاب ، وهؤلاء سيؤسسون دولة إرهاب ستهدد العالم كله .. هؤلاء الشرذمة القليلون يفعلون كل ذلك !
وكذلك رأينا فراعنة مصر كيف ينعتون المتظاهرين بأن هناك قوى معادية للغرب تدعمهم ، وتوفر لهم المأكل والمشرب ليكونوا حربا على النظام وأعوانه ، ثم يكونوا حربا على الغرب ومصالحه في المنطقة . كل هذه الأقوال لحشد الحشود المؤيدة للفرعون على جرائمه .
مع أن موسى وقومه كانوا عزّل لا يملكون قوة ، ومع أن متظاهرين تونس عزل ، ومع أن شباب مصر عزل ، ومع أن ثوار تونس عزل .. إلا أن الفرعون يرسل في المدائن حاشرين لدعم حربه المقدسة على الحق !!
11- التهديد والتخويف والوعيد هي لغة الفراعنة على مر العصور ، يهدد الطاغية فرعون موسى قائلا: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ).
مع أن فرعون نفسه أشد الناس إيماناً بأنه ليس بإله !
ولكن هذه صفته عند الناس ، فيجب أن يؤمن بها الجميع حتى إن كانت كذبا . ففرعون في زمننا بطل العبور ، والآخر هو المجد ..!!
12- إن لم تأخذ الشعوب على محمل الجدية تهديدات فرعونها فإنه سيطبقها غاضبا على فئام كثيرة منهم حتى يرتدع الآخرون ويعلمون أن الفرعون إذا قال فعل .
آمنتم له قبل أن آذان لكم ؟
فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لأصلبنكم أجمعين !
بهذه الوحشية يتعامل الفراعنة مع مخالفيهم .. فالفرعون من أجل تعزيز سلطته مستعد بأن يقتل ويعذّب كل من يقف في طريقه .
13- عدم الاستسلام حتى آخر لحظة . وهذا أمر يجمع عليه كل الفراعنة ، لا للاستسلام حتى تسقط كل الأوراق ، وحتى تراق كل الدماء .. ولا يتم الاعتراف بأن للمعارضين حقوقا مشروعة إلا في آخر لحظات الغرق ، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل.
وحتى إذا أدركه الغرق قال: فهمتكم .. فهمتكم !
وحتى إذا أدركه الغرق قال: إني أعي مطالب الشعب .
والله سبحانه أعلى وأعلم
عبد الله الحسني..
---------------------------------------------------------------------