شبهة ورد:
لعل قائلاً يقول: إن حاطب بن أبي بلتعة قد كاتب كفار قريش، وأطلعهم على سر زحف النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من جند الإسلام لفتح مكة، وهذا من التجسس والموالاة، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفره، ولم يأمر بقتله، فكيف نوفق بين ذلك، وبين ما تقدم ذكره؟
أقول: الذي فعله حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه هو من الكفر، لكن حاطباً لم يكفر لاعتبارات وموانع عدة منعت من لحوق الكفر به، سنأتي على بيانها إن شاء الله.
أما أن الذي فعله حاطب هو من الكفر والنفاق الأكبر؛ ذلك لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه أمام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: (يا رسول الله قد خان اللهَ ورسوله والمؤمنين، دعني أضرب عنقَ هذا المنافق - وفي رواية - فإنه قد كفر، إنه قد نافق، نكث وظاهر أعداءك عليك)!
والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه ولم ينكر عليه أن هذا الذي فعله حاطب يُعد من الموالاة للمشركين، والكفر والنفاق الذي تُقطع عليه الأعناق، ولكن الذي أنكره على عمر رضي الله عنه حمل حكم النفاق والكفر على حاطب، وذلك لاعتبارات تمنع من لحوق هذا الحكم بحاطب!
أما أن حاطباً لم يكفر، ولم يقع في النفاق فهو للاعتبارات التالية:
1) أنه كان متأولاً في فعله، لم يكن يعلم - أو يظن - أن هذا الذي فعله يمكن أن يرقى إلى درجة الكفر والخروج من الإسلام، أو أنه يضر في إيمانه، ولم يكن يقصد به الغش والغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك نجده يجيب - من فوره - لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي حمله على كتابة الرسالة إلى كفار قريش: (يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً ولا ارتداداً، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام - وفي رواية - ما غيرت ولا بدلت، أما أني لم أفعله غشاً يا رسول الله ولا نفاقاً، ما كفرتُ ولا ازددتُ للإسلام إلا حباً)!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد صدقكم، لا تقولوا له إلا خيراً، إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم!
قال ابن حجر في الفتح [8/503]: (وعذر حاطب ما ذكره؛ فإنه صنع ذلك متأولاً أن لا ضرر فيه) اهـ.
قلت: والتأويل مانع من موانع لحوق الكفر بالمعين، فتنبه لذلك.
2) علم النبي صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي - بسلامة قصد وباطن حاطب، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قد صدقكم)، وهذه ليست لأحدٍ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك نجد عمر - وليس له إلا ذلك - قد تعامل مع حاطب على اعتبار ظاهره، وما يدل عليه ظاهره من نكوث، وموالاة، وكفر ونفاق، فقال عباراته الآنفة الذكر!
فإن قيل: الأحكام تبنى على الظاهر، فعلام هنا قد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع باطن وقصد حاطب؟
أقول: فيما يخص إقامة الحدود، وإنزال التعزير والعقوبات بالمخالفين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إلا ما يدل عليه ظاهر الحال الذي يستوجب الحد أو العقوبة، وإن كان يعلم صلى الله عليه وسلم أن بواطن الأمور وخفاياها هي بخلاف هذا الظاهر، كتعامله مع المنافقين على اعتبار ظاهرهم رغم علمه صلى الله عليه وسلم بنفاقهم وكفرهم في الباطن.
قال ابن تيمية في الصارم [356]: (فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يُقيم الحدود بعلمه، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي، ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار) اهـ.
أما فيما يتعلق بإقالة العثرات التي كان يقع فيها بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يراعي سلامة الباطن والقصد الذي يطلعه عليه الوحي ما وجد إلى ذلك سبيلاً، لحبه للعذر وإقالة العثرات؛ وبخاصة إن جاءت هذه العثرات من أصحابه الكرام الذين لهم سابقة بلاء وجهاد في سبيل الله!
ولأن مراعاة سلامة الباطن في هذا الجانب هو لصالح الإنسان المخطئ بخلاف جانب المؤاخذة والمحاسبة ففيه تقريع وتعذيب للمخالف، لذا لم يمضه النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببينة ظاهرة تستدعي ذلك.
ودليلنا على ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم من حاطب، ونحوه ذلك الرجل من الأنصار الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري -: (أراك تحابي ابن عمتك!!). وذلك لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بأن يسقي أرضه، ثم يرسل الماء إلى أرض جاره الأنصاري!
قلت: قول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم "أراك تحابي ابن عمتك!"؛ هو كفر أكبر، وطعن بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم على إقالة عثرته علمه صلى الله عليه وسلم بسلامة قصده وباطنه، وأن الذي صدر منه هو عبارة عن فلتة وزلة، وهذه ليست لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي في الأحكام [5/267]: (كل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة، وليست لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم) اهـ.
وهذا الذي قيل في موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأنصاري يُقال أيضاً في موقفه صلى الله عليه وسلم من حاطب بن أبي بلتعة. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: هل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيل عثرات ترقى إلى درجة الكفر بناءً على سلامة قصد وباطن أصحابها؟
أقول: لا، لانقطاع الوحي، وهذا الذي يقصده عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: (إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيراً أمَّناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يُحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة).
لذا نقول: من أظهر لنا الكفر البواح - من غير مانعٍ شرعي معتبر - أظهرنا له التكفير ولا بد.
وقوله رضي الله عنه: (كانوا يؤخذون بالوحي)، يريد في جانب إقالة العثرات، وليس في جانب تطبيق الحدود وإنزال العقوبات، فتنبه لذلك.
3) ومن علامات صدق حاطب رضي الله عنه أنه صدَق النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، ولم يواري عليه ما فعل، مما دل على سلامة باطنه وقصده، وبراءته من النفاق، بخلاف المرأة فإنها أنكرت وكذبت لما سئلت عن الكتاب، فقالت: (ما معي من كتاب " فزاد ذلك من جرمها وكفرها!
ولو كان حاطب منافقاً لكذَب الحديث، لأن من خصال المنافق أنه إذا حدث كذب، ولكن لما صدق في الحديث، دل على صدق إيمانه وباطنه وأنه ليس منافقاً، وكان لذلك أثراً ظاهراً في منجاته وإقالة عثرته، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي: (فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة).
ومن حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، يقول: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذَبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحدٍ، فقال: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنمُ جزاءً بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين}.
بينما أنزل الله في الثلاثة الذين صدَقوا الحديث - منهم كعب من مالك - قوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} إلى قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 117-119].
فتأمل كيف أن الصدق أنجاهم، وأقال عثرتهم، وكيف أن الكذب أردى أولئك الذين كذبوا الأعذار، وأوبق آخرتهم!
وهذا ينبغي أن يكون معتبراً عند الحديث عن حاطب بن أبي بلتعة، وعن الأسباب التي أقالت عثرته.
4) إن مما أعان على إقالة عثرة حاطب كذلك أنه من أهل بدر، وبدر حسنة عظيمة تذهب السيئات، وتقيل العثرات، وتستدعي تحسين الظن بأهلها، وتوسيع دائرة التأويل لهم لو عثروا أو زلوا!
لذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تذكر له حسنة بدر - وما أدراك ما حسنة بدر - فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وفي صحيح مسلم: (إني لأرجو أن لا يدخل النار أحد - إن شاء الله - ممن شهد بدراً والحديبية).
وحاطب قد جمع بين الخيرين، فقد شهد بدراً والحديبية معاً!
نستفيد من ذلك أن المرء كلما كبرت وكثرت حسناته، وكانت له سابقة بلاء في الله، كلما ينبغي أن تتوسع بحقه ساحة التأويل وإقالة العثرات، عند ورود الشبهات، وحصول الكبوات، والله تعالى أعلم.
5) أن فعل الوشاية الذي أقدم عليه حاطب لم يكن فعلاً ملازماً له، فهو لم يفعل ذلك إلا مرة واحدة في حياته، ولأسباب تقدم ذكرها، وهذا بخلاف ما عليه الجاسوس فإن التجسس صفة لازمة له على مدار الوقت، لا هم له إلا كيف يتحصل على المعلومات لكي يرسلها إلى موفديه أو من يتعامل معهم!
فهناك فرق بين من يقع في الخطأ مرة، وبين من يقع في الخطأ مراراً من حيث دلالته على صفة وحقيقة فاعله.
لذا من الخطأ الفادح أن يُحمل على حاطب حكم ووصف الجاسوس الآنف الذكر، والله تعالى أعلم.
وبعد، لأجل هذه الأسباب مجتمعة أفدنا في أول حديثنا أن فعل حاطب يُعتبر من الكفر، ومن الموالاة الكبرى، إلا أن حاطباً لم يكفر بعينه، ولا يجوز أن يُحمل عليه حكم الكفر، والله تعالى أعلم.
منقول