قـال القاضي شهاب الدين القرافي (فإن كان المتكلم هو الشرع حملنا لفظه على عُرْفِه) (شرح تنقيح الفصول) للقرافي، ط دار الفكر، صلى الله عليه وسلم 211.
وقال ابن حجر رحمه الله (عُرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لايُراد به إلا ذلك) (فتح الباري) 1/ 65.
وقال أبو حيـان الأندلـسي في تفسيـره (البحـر المحيـط) (الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين) (البحر المحيط) 3/ 493.
ومعنـى الإطـلاق في كلامهما (إذا أطلـق الشـرك) و (الكفـر إذا أطـلِـق)أي لم يرد مايقيـده ويصـرفه عن حقيقته المطلقة، كقولك: الماء المطلق طاهر مطهر، أي الماء الذي لم يقيد بصفة من الصفات كقولك ماء الورد أو ماء نجس.
وحاصـل ما سـبق: أنـه يجـب مراعـاة عُرف المتكـلم، فـإذا دَلّت عادتـه على استعمـال لفـظ معين في بيان معنى معين، فإنه لايجوز القول بأنه أراد بلفظه معنى آخر حتى يأتي المتكلم بالقرائن الدالة على ذلك.
ثم نذكر النقاط التالية ونرجو التركيز ، ففيها الفائدة :
اولا : الاصل اللغوي :
اعلـم أن هنـاك فـرقاً بين لفـظ الكفـر إذا جـاء بصيغـة الاسـم النكرة(ككُفْر، وكافر، وكُفار، وكافرون)، وإذا جاء بصيغة المعرفة بدخول (أل) على الاسم النكرة (كالكُفْر، والكافر، والكفار، والكافرون).
أمـا إذا جـاء الكفـر بصيغـة المعرفـة، فإنـه لايـُراد بـه إلا الكفـر الأكبر، وذلك لتصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى، وهذا لاخلاف عليه بين أهل العلم بلغة العرب. فإنك إذا قلت «عمرو الشجاع» أفدت أنه الكامل في الشجاعة، فتخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إلا فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال، وهذا بخلاف قولك «عمرو شجاع»، فظهر بذلك الفرق بين الاسم النكرة والمعرفة في إفادة كمال المعنى.
انظر (الإيضاح في علوم البلاغة) للخطيب القزويني، ط دار الكتب العلمية 1405هـ، صـ 101، وانظر (الصلاة) لابن القيم، ط دار الكتب العلمية، صـ 18.
وعلى هذا فقولك (فلان الكافر) هو إخبار عنه وحكم عليه بأنه كافر كفراً أكبر، لكون الخبر عنه جاء معرفاً بأل الدالة على حصول كمال الكفر فيه، والدالة على بلوغه الغاية في الكفر. وكذلك في قوله تعالى (فأولئك هم الكافرون) هو إخبار عن أولئك بأنهم قد بلغوا الغاية في الكفر، وهذا هو الكفر الأكبر.
وفي تقرير هذه المقدمة:
قال ابن تيمية رحمه الله (وفَرْقٌ بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم «ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة» وبين كُفر منكر في الاثبات) (اقتضاء الصراط المستقيم) صـ 69.
ثانياً : قاعدة عامة :
فإن كل كُفِر ورد بصيغة الإسم المُعرَّف بأل في الكتاب أو السنة فهو كفر أكبر، كلفظ (الكفر ــ الكافر ــ الكفار ــ الكافرون ــ الكوافر) لأن الألف واللام تدلان على استغراق الإسم لكمال المعنى، وهذا لاخلاف عليه بين أهل العلم وأهل اللغة.
وكل كُفر ورد في القــرآن فهو كفــر أكــبر، ســواء ورد بصيغــة الاسم أو الفعل أو المصدر. لأن ألفاظ القرآن غائية، وقد ثبت هذا باستقراء مفردات القرآن حتى الكفر الوارد في معرض كفر النعم هو كفر أكبر كما في سورتي إبراهيم 28، والنحل 112. وحتى مايظهر أنه يراد به الكفر اللغوي إنما المراد بتفسيره الكفر الأكبر الشرعي كما في آية سورة الحديد 20.
تبقى بعد ذلك ألفـاظ الكفــر الواردة في السنـة، فما كان منها بصيغة الإسم المعرف بأل فهو كفر أكبر كما في حديث (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم
فإن كان بغير هذه الصيغة !
فالأصل فيه حمله على الكفر الأكبر حتى تقوم القرينة الصارفة له إلى الكفر الأصغر. ودليله حديث كفران العشير ، ألا ترى أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ عن النساء ــ (يكفرن)فقال الصحابة: أيكفرن بالله؟.
فدل على أن الكفر إذا أطلق انصرف إلى الأكبر حتى تقوم القرينة الصارفة له إلى الأصغر كما في الأمثلة التي سبق ذكرها.
قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد مُسَّماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يُراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لايُحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يُعرف ذلك بالبيان النبــوي وتفسير السنة، قال تعالى «وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» إبراهيم 4) أهـ. (الرسائل المفيدة) للشيخ عبداللطيف، جمع سليمان بن سحمان، صـ 21 ــ 22.
ثالثا :
إن الكفر إذا كان نكرة احتمل أن يكون كفراً أصغر أو أكبر، ومعرفة دلالته على أيهما يكون بالنظر في القرائن والجمع بين الأدلة، وهذا الكلام ينطبق على الكفر النكرة الوارد في السُّنة (الحديث)، أما في القرآن فكل كُفر فيه فهو الكفر الأكبر سواء ورد بصيغة الفعل بأزمنته المختلفة أو بصيغة الاسم النكرة أو المعرفة.
ومن أمثلة الكفر بصيغة الاسم النكرة في القرآن، ودلالته على الكفر الأكبر:
قوله تعالى (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً) البقرة 109
وقوله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) البقرة 217
وقوله تعالى (وليزيدن كثيراً منهم ماأنزل إليك من ربك طغيانا وكُفراً) المائدة 64 و 68
وقوله تعالى (الذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ــ إلى قوله تعالى ــ فكيف آسى على قوم كافرين) الأعراف 92 ــ93
وقوله تعالى (وكان الشيطــان لربـه كفــوراً) الإسراء 27
وقوله تعالى (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) سبأ 34.
فهذه كلها أسماء نكرة (كُفاراً، كافر، كُفْراً، كافرين، كفوراً، كافرون) وكلها تدل على الكفر الأكبر، وهكذا كل كُفر في القرآن.
أما الكفـر بصيغــة الاســم النكرة في السنــة فيحتمل الكفـر الأكبر أو الأصغر. فقوله صلى الله عليه وسلم (سباب المسلم فسوق وقتاله كُفْر) متفق عليه، وأن الكفر فيه هو الأصغر لأن قاتل العمد لايكفر بدليل آية البقرة (فمن عفي له من أخيه شيء) كما أن البغـاة لايكفـرون مع الاقتـتال كما في آية الحجرات (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا).
أما الكفر النكرة في قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أن تروا كفراً بواحاً) الحديث متفق عليه فهو الكفر الأكبر، والقرينة الدالة على ذلك وصفه بالبواح وهو الصريح، وهناك قرينة أخرى وهى عموم الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الجور مع ظلمهم وفسقهم فعُلِمَ أنه لا يقيد هذا الأمر بالصبر إلا وقوعهم في الكفر. وكذلك الكفر النكرة في قوله صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بِعَرَض ٍ من الدنيا) رواه مسلم، فالكفر فيه هو الأكبر بقرينة أنه جعله ضداً للإيمان، وبقرينة قوله صلى الله عليه وسلم (يبيع دينه).
وكما ذكرت (ففي الاعادة إفادة)
الأصل أن يُحمل كل كُفْر بأي صيغة ورد على الكفر الأكبر حتى تقوم القرينة الصارفة له إلى الأصغر، لأن هذا أصــل وضــع اللفــظ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في حديث موعظة النســاء ــ (يكفرن)،قال الصحابــة(يكفرن بالله؟)، فحملــه الصحابــة على الكفر الأكبر، حتى بيّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه الكفر الأصغر بقوله (يكفرن العشير)، وفي بيان هذا الأصل قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يُراد بها مُسمَّاها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يُراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لايُحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يُعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى «وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» إبراهيم 4) أهـ. (الرسائل المفيدة) للشيخ عبداللطيف، جمع سليمان بن سحمان، صـ 21 ــ 22.