العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتـــــــــديات العـــــــــــامـــة > الــــحــــــــــــوار العــــــــــــــــــام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 18-04-12, 06:28 AM   رقم المشاركة : 1
جاسمكو
عضو ماسي






جاسمكو غير متصل

جاسمكو is on a distinguished road


سلسلة قراءة نفسية في عقيدة التشيع / الحلقة الخامسة والأخيرة

سلسلة قراءة نفسية في عقيدة التشيع ( الحلقة الخامسة والأخيرة )

أبو وضاح العميري

الفصل السابع

المنهج الأمثل في مواجهة خطر التشيع
مشكلة خطيرة فما هو الحل ؟
طلعت الشمس، وظهر تحتها كل شيء، وتبين لنا - بما لا يقبل الشك - أن التشيع مشكلة خطيرة، هي من كبريات المشاكل الدينية والسياسية والاجتماعية. بل هي المشكلة المحورية، و(القضية المركزية) في بلد مثل (العراق).
لا يقتصر خطر التشيع على الدين فحسب. إنه يجتاح الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد، ووحدة الوطن والشعور بالانتماء إليه، وإلى الأمة الأكبر وكيانها ومفاهيمها وقيمها وثوابتها. فمواجهته، والتصدي له ضرورة حتمية من أجل إنقاذ هذه القيم جميعاً.
لا بد من المواجهة فماذا أعددنا لها ؟
إن هذا الخطر المتعدد الجوانب يحتم على الجميع مواجهته، ووضع الخطط والبرامج
لحل مشكلته، ومعالجة خطره.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن من الضروري لمن تصدى لهذه المهمة الصعبة أن يضع نصب عينيه ذلك الخليط المتشابك من الأمراض والعقد النفسية، وأن يكون جاداً كل الجد، ومقدراً موقعه فيدرك المسؤولية الدينية والوطنية والقومية، والمسؤولية التاريخية التي ينبغي أن يتحملها كل من وضع نفسه هذا الموضع.
لكننا لم نجد في ساحة الدعوة منهجاً واقعياً حكيماً: ينظر إلى الواقع بعين فيحدد المشكلة الكبرى، ويدرس أبعادها الفكرية والنفسية والتاريخية والاجتماعية، وإلى الكتاب والسنة بالعين الأخرى؛ كي يضع العلاج المناسب في ضوء ذلك الهدى الرباني الحكيم. كل الذي وجدنا: رقاعات من هنا وهناك يمكن تلخيصها بكلمة واحدة هي: البحث عن وسائل قربى تجمع بين أهل الحق وأهل الباطل، ولو على حساب الحق. وهو ما نطلق عليه اسم (المنهج الترضوي). إنه منهج يبحث عن وسائل التعايش والتواؤم، ولو على حساب الثوابت والحقوق، ولا يبحث عن سبل للحل، ويتطير من ذكره إن كان يسبب أزمة، أو يثير مشكلة، أو يستلزم أي نوع من المواجهة.
وهو منهج فاشل جملة وتفصيلاً، وواقعاً وتأصيلاً. لم يستطع إثبات صلاحيته للمواجهة أمام الهجمة الشعوبية الشاملة الشرسة. لا في علاج الحالة ولا في إيقاف زحفها وانتشارها. وقد شرحت ذلك مطولاً في كتاب (لا بد من لعن الظلام) .
صورة مجملة للمنهج
حين تطرقنا في الفصل الماضي إلى الخطوط الرئيسة التي رسمها القرآن الكريم للمنهج الأمثل في مواجهة اليهود ودعوتهم، كان ذلك من باب النظر في صلاحية تطبيق المنهج نفسه على الشيعة لمواجهة خطرهم الذي استشرى، ودعوتهم إلى الحق طبقاً لأنجح السبل، وأنجع الأساليب والوسائل؛ فليس ثمة منهج أفضل من المنهج الإلهي الذي أودعه الرب في كتابه العظيم. (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الإسراء:9). والرابط بين الطائفتين (اليهود والشيعة) هو تشابههم في منطلقاتهم النفسية، والفكرية. وعلى هذا الأساس يمكن أن نعطي صورة مجملة، ونرسم خطوطاً عامة للقاعدة الفكرية التي ينبغي أن يستند عليها المنهج الواجب اتباعه في مواجهة خطر التشيع، ودعوة الشيعة إلى الدين الصحيح بما يلي:
1. الصدع بالحق ودعوة الشيعة علناً من خلال جميع المنابر الدينية والإعلامية المتاحة إلى دين الإسلام في وضعه الإلهي الأول قبل وجود الفرق. والإعلان بأن الدين الذي هم عليه اليوم، ليس له من الإسلام إلا الاسم.
2. الإعلان بفضح أباطيلهم وخزعبلاتهم بتفاصيلها (تحريف القرآن، تكفير الصحابة، الطعن بأمهات المؤمنين، شركهم بالقبور ودعاء أهل البيت وتقديسهم، رد الأحاديث النبوية، العصمة، الإمامة، التقية، المتعة، التقليد، التبعية لإيران وتنفيذ مخططاتها، العمالة للأجنبي، فضح كتب مروياتهم، فضح مخازي علمائهم، إباحتهم دم المخالف وماله وعرضه خصوصاً أهل السنة، مساجد ضرارهم (الحسينيات)، الأذان البدعي، أوقات الصلوات، الوضوء، النياحة واللطميات، التطبير...إلخ).
3. عرض مخازيهم التاريخية على مر العهود والعصور، وفضح تزويرهم للتاريخ. لقد آن لنا أن ننهي المعادلة التاريخية الظالمة: أهل السنة يصنعون الأحداث، والشيعة يكتبون تاريخها. (مثال ذلك أبو مخنف الشعوبي واعتماد الطبري عليه في تسجيل أحرج فترة مرت بها في صدر دولة الإسلام، وتاريخ الدولة الأموية).
4. تجريدهم من حق الانتساب إلى (أهل البيت العلوي أو النبوي). والبيان الواضح أن هذه مجرد دعوى وستار كاذب. وإيقاف جميع التهريجات السنية الرامية إلى التقرب إليهم من باب محاولة إثبات حب (أهل البيت) الفاشلة رغم تكرارها منذ مئات السنين!
5. اتباع أسلوب الهجوم المنظم، والخطاب القوي، المبني على الشعور بالعزة الإيمانية، وأننا أهل الحق، وهم أهل الباطل. والبعد عن اتباع مبدأ الدفاع، والأساليب التقريبية الترضوية الضعيفة.
المقاصد الكبرى للمنهج
يتبين من تاريخ الدعوة الإسلامية أن المنهج الإلهي المنزل، والذي طبقه الرسول  مع اليهود لم يؤد إلى النتيجة المطلوبة من هدايتهم، ولم يتغير منهم سوى أفراد قلائل. لكن المتأمل يجد هذا المنهج قد أفصح عن ثمرتين ونتيجتين عظيمتين هما:
1. سحب المشروعية الدينية من اليهود، ونقلها إلى المسلمين. وكان هذا الأمر صريحاً قطعياً، بلا أدنى أثر للشك أو الضبابية أو المجاملة، أو اللف والدوران تحت أي ذريعة، أو تقدير أي مصلحة من المصالح. وهذا ساهم مساهمة كبيرة في تقليص حجمهم، وخطر تغلغلهم واندساسهم وقبول الناس لهم، واحترامهم؛ على أساس أنهم أصحاب دين سماوي مقبول عند الله.
2. تحصين الصف الداخلي منهم، وتفجير طاقات الجماعة المسلمة ضدهم.
وتأسيساً على ما سبق نقول: إن أول خطوة نخطوها في طريق مواجهة الشيعة والتشيع، هو سحب بساط المشروعية الدينية من تحتهم. إن على الناس – وأولهم أهل السنة في العراق، وكل مكان مشابه – أن يعرفوا: أن التشيع دين آخر مبتدع لا علاقة له بالإسلام قط. بل أنشئ هذا الدين أصلاً لمحاربة الإسلام وأهله. إن علماء الشيعة لا يؤمنون بهذا الدين الذي جاء به الصحابة  إلى أجدادهم المجوس؛ فهم يكفّرون الصحابة – إلا بضعة نفر منهم - على هذا الأساس. فالصحابة – حسب ادعاء الشيعة - لم يكونوا على دين الإسلام الذي تركهم النبي  عليه، وإلا لم يكفروهم. إذن الدين الذي كان عليه الصحابة لا يؤمن به هؤلاء العلماء، بل يَكفُرون به، ويُكفِّرون غيرهم عليه. فماذا بقي لهم من دين الإسلام؟ وعلى أي إسلام هم ؟!!!
هذا وقد أجمعوا على تكفيرنا. لكنهم عند (التقية) يسموننا مسلمين، بمعنى الإسلام الظاهر دون الإيمان الباطن الذي ينجي صاحبه من الكفر والخلود في النار؛ فهو كإسلام المنافقين، الذين يطلق عليهم اسم الإسلام دون الإيمان. ولك أن تلاحظ عليهم أنهم حين يشيرون إلى شيعتهم يسمونهم بـ(المؤمنين). وهو اسم لا يطلقونه على غيرهم؛ للسبب الذي ذكرناه.
وهذه الخطوة هي أول عناصر أساس العلاج أو المواجهة، ألا وهو تحصين الصف الداخلي لأهل السنة والجماعة، وحمايتهم من اختراق الشيعة لهم.
وليس مقصودي الأول بعلاج التشيع هو تحويل الشيعة إلى دائرة أهل السنة والجماعة. وإن كان هذا أعظم في ذاته، ونرمي إليه لأسباب، منها أنه يحل الإشكال من الأساس. إنما أقصد - أول ما أقصد – رسم الخطط، ووضع البرامج الكفيلة باتقاء خطرهم، وتخليص مجتمعنا من شرهم ، بتحصين أهل السنة أولاً، ودفع الصائل الفكري والعسكري ثانياً. ثم – من بعد – يكون الاختراق. وأوله محاولة رفع جمهور الشيعة إلى المستوى الحضاري في التعامل الإنساني، كأن يرتفعوا مثلاً إلى مستوى المسيحيين عندنا في العراق في تعايشهم السلمي معنا! ولو كان الشيعة كذلك لما أعطيناهم هذا الاهتمام من جهدنا ووقتنا. على أن أكثر ركاب قطار الدعوة يسلكون الطريق الأسهل لاتقاء شرهم، حين تكون النفس هي المقدمة بالحفظ قبل المجتمع، فيجنحون إلى أسلوب المجاملات والمداهنات، المؤطر بدعوى الحكمة، والمقنن بالنصوص الانتقائية؛ ولذلك فغاية ما يهتمون به دعوة الأفراد بعيداً عن الجمهور. بينما المطلوب في سبيل وقاية المجتمع - وكذلك هدايته - أسلوب جماعي غايته تغيير المجتمع ككل. وذلك لا يتم إلا بتحصين أهل السنة أولاً، ثم التحرك على الشيعة ثانياً من أجل رفعهم إلى ذلك المستوى الحضاري، وصولاً إلى تغييرهم النهائي، كهدف أبعد ومرحلة أخيرة في طريق التغيير.
التخبط المنهجي عند النخبة السنية
التقيت في بداية هذا العام (2006) شيخاً فاضلاً يحمل شهادة الدكتوراة في العقيدة. قال الشيخ: ينبغي أن يكون مشروعنا مع الشيعة مشروعاً سياسياً يستند على التحالف مع الوطنيين منهم ضد العملاء والخونة أصحاب المشروعي الصفوي الأمريكي. وهذا سيساهم مساهمة أكيدة في تفكيكهم. ولا ينبغي أن يكون مشروعاً دينياً يستند على كونهم يتبعون مذهباً بعيداً عن الإسلام. وهذا ما أدعو إليه، وأيدني عليه كثير من العلماء. فقلت له: عليك أولاً أن تبين حجتك الشرعية في ما تذهب إليه. وليس الحجج العقلية تحت مسمى (المصلحة) غير المضبطة بالشرع. وإلا لماذا نحن (إسلاميون)، وغيرنا (علمانيون)؟ فما هي حجتك أو دليلك الشرعي؟ فلم يحر جواباً!
فقلت له: لسنا ضد المشروع السياسي أو الوطني. بيد أن أدلة الشرع تقضي بأن المشروع السياسي يأتي من وراء المشروع الديني، وليس قبله أو بديلاً عنه. فالرسول  تحالف مع اليهود سياسياً، ولكن.. بعد أن حسم الموضوع دينياً. لقد بين لهم أنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنهم كفار لا نصيب لهم في الآخرة إلا النار. لكنه يعيش وإياهم على أرض مشتركة؛ فلينظموا بينهم وثيقة تضبط هذه العلاقة، ومن بنودها الدفاع المشترك عن هذه الأرض أو الوطن. وهذه سياسة. ولم يكن من شرطها التغطية على حقائق الدين، أو المشروع الديني. إن الصراحة الدينية لا تمنع العلاقة السياسية. ولكن بشرط هو وجود القوة التي تُجبر خصمك على التعامل معك. وهذا الشرط إذا فقد فلا قيمة لكل المجاملات السياسية، والعهود والمواثيق والتحالفات الوطنية. كن قوياً وقل ما شئت، فلن يتأثر مشروعك السياسي. وكن ضعيفاً وجامل ما شئت فستخسر الدنيا والآخرة: لا دين، ولا سياسة. كن صريحاً في موقفك من الشيعة، اسحب بساط المشروعية الدينية من تحتهم؛ وسترى!
أما إذا نظرنا إلى الأمر من الزاوية السياسية، فالخسارة واضحة لمن أراد أن يرى. وهنا أسأل: على من تعتمد في مشروعك الوطني الذي تريد أن تفكك به أحلاف الشيعة، وتشق صفوفهم؟ قال: في الجنوب عشائر عربية، تكره الفرس، ووطنيون يمكن التعامل معهم. قلت: كم نسبتهم؟ قال: كم تقدر أنت نسبتهم؟ قلت: إذا زدنا فهم لا يتجاوزون الـ10%. قال: هذه نتيجة مرعبة. قلت: فماذا تظن؟! ثم ما تأثير هؤلاء على التيار الجارف الذي يأخذ بهم إلى الجهة الأخرى؟ ناهيك عن النفسية الجمعية التي تسيّرهم في نهاية المطاف. نعم يبدو هؤلاء كما تظن، حين يجلس أحدهم أو بعضهم معك. لكن حين ينصرفون إلى قومهم، ويتصرفون طبقاً للعقلية والنفسية الجمعية للجمهور الشيعي فلن يختاروا في النهاية إلا الاصطفاف مع ذلك الجمهور. كما أن غريزة الحياة، والنفسية النكوصية التي لا تجد الأمان ولا تحس بالاطمئنان إلا ضمن الجماعة المغلقة، وتحت ظل المرجع- الوالد (دام ظله)، وغيرها وغيرها من العوامل المرئية وغير المرئية ستدفعهم دفعاً إلى هذا الاختيار. أما إذا نزلنا من عالم الخيال والأماني إلى أرض الواقع فلنا أن نسأل: هل حصل شيء من هذا الذي تقولونه عن تحييد بعض الشيعة، وتفكيك صفهم؟ وعندنا (مقتدى الصدر) مثال واضح يدحض هذه النظرية: لقد اندفع معه الكثيرون من أهل السنة ونخبهم. حتى تكلموا بما قد يخالف الحق والحقيقة! اتقاء الفتنة، ودرءاً للتصادم وحلول الكارثة. لكن ماذا كانت النتيجة؟ ها هو الآن يصطف مع قتلة أهل السنة: الحكيم والجعفري وصولاغ و.. و.. وينفخ الروح في قائمة (الائتلاف الشيعي) في الانتخابات الأخيرة! فأي صف استطعتم شقه؟ وكم حلفاً للشيطان تمكنتم من تمزيقه؟ فعن أي سياسة، وأي مشروع سياسي تتحدث؟!
كان هذا اللقاء في كانون الثاني، أي قبل أحداث سامراء وظهور مقتدى وعصابته على حقيقتهم. ولك أن تلاحظ أن أصحابنا يتكلمون عن نظريات وأحلام، لعلهم لم يكلفوا أنفسهم التحرك قيد أنملة باتجاه محاولة تطبيقها، على الأقل من أجل فحصها؛ ولهذا السبب تبقى أفكارهم جامدة بعيدة عن الواقع مهما تقادم الزمن، وجرت الأحداث بغير ما يقولون. اللهم إلا إذا حدثت فضائح ضدها من عيار فضائح مقتدى الأخيرة وعصابته المسعورة. وهنا لا يغيرون القاعدة، ولا يتنازلون عنها! وإنما يحولونها إلى آخر وآخر كالبغدادي والخالصي والحسني وبقية الثعالب. وهذه مصيبتنا.. ما لم نخرج على القطيع. ومن الأدلة على هذا أن الشيخ المعني يطرح أفكاراً ويقعد نظريات ويرسم مشروعاً، لا يعرف هو عن أولياته البسيطة شيئاً. فهو لا يعرف كم نسبة أولئك الذين يتحدث عن عروبتهم ووطنيتهم، ليبني عليهم مشروعه الخيالي؟! ولا يملك معرفة عن الأسس النفسية لحركة المجتمع! هذا وهو ممثل لهيئة تدعو إلى هذا المشروع منذ حوالي ثلاث سنين من التاريخ أعلاه. فوا عجبي!!!
التحصين ثم.. التحصين
علينا أن ننشغل بتحصين صف أهل السنة، وتنمية مناعتهم ضد التشيع، وتحذيرهم من الشيعة. واستغلال الظرف الحالي قبل فوات الأوان في ترسيخ الحقيقة التي تبين أن الشيعة أصحاب دين يمنعهم من التعايش مع غيرهم من المذاهب. دين يحثهم على قتل السني وأخذ ماله وانتهاك عرضه، وإزاحته من أرضه، وإخراجه من وطنه. فضلاً عن تكفيره. وهذا هو الذي يفجر كل الطاقات – الدعوية وغيرها - باتجاه الشيعة.
إن تحصين أهل السنة هو حجر الزاوية، والأساس الذي يعتمد عليه المنهج. ولا يجوز المساس به، والتقصير بشأنه مهما كلف الأمر. وإلا كنا كمن يسير في فراغ، أو يبني بلا أساس.
التشابه بين الشيعة والمنافقين
بين الشيعة والمنافقين من التشابه ما يمكن اعتبارهم صورة من صورهم، ونموذجاً من نماذجهم. كذلك اليهود. وأبرز جامع بينهم هو النفاق نفسه؛ فإنه لدى اليهود والشيعة دين يدينون الله به!
يقول تعالى عن المنافقين: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة:14).
والشيء نفسه قاله تعالى عن اليهود: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:76).
والشيء نفسه يقال عن الشيعة من خلال مبدأ (التقية) اليهودي، الذي بلغت منزلته عندهم حداً أن جعلوه تسعة أعشار الدين! وهذا يقودنا إلى أهمية كون الخطاب مع الطرفين (الشيعة والمنافقين) واحداً أو متشابهاً.
وعندما نبحث في منهج القرآن في خطابه للمنافقين نجده يكاد يتلخص في الفضح والإنكار فقط. كما نجد أن القرآن العظيم يعطي للمنافقين من الاهتمام أكبر من اهتمامه بالكفار الصرحاء من اليهود والنصارى والمشركين! فالتركيز على أباطيلهم وصفاتهم وكشف سوءاتهم وأساليبهم أشد مما هو عليه مع الكفار! وكذلك لهجة الخطاب نجدها أعنف وأغلظ! أما دعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى الحق فلا نجد لها أثرا سوى إشارات خفيفة قليلة هي إلى اليأس من توبتهم أقرب منها إلى الطمع فيها. والسبب في هذا - والله أعلم - (أن المنافقين ومرضى النفوس لا يتيسر علاج أدوائهم من داخل أنفسهم- في غالب الأحيان - لفقدان الوازع وغياب الضمير. ولما كانت عللهم متعدية في الضرر إلى غيرهم، لزم توجيه علاجهم من خارج ذواتهم لا طلباً لبرئهم هم، بقدر ما هو لأجل حفظ الناس من شرور أمراضهم)( ).
المعالم الرئيسة للمنهج القرآني في خطاب المنافقين
ذكرت في كتاب (لا بد من لعن الظلام) أن المعالم الرئيسة للمنهج القرآني في خطاب المنافقين تتلخص في أربعة فقرات هي:
1. التركيز الشديد على ذكر فضائحهم وأباطيلهم ولعن ظلامهم، حتى يكاد أن يكون هو العنصر الوحيد من عناصر المنهج!
2. الغلظة الشديدة في الخطاب، ومواجهة القوم بأباطيلهم أكثر مما هي عليه مع الكفار الصرحاء.
3. عدم إعطائهم الفرصة للقيام بما يمكن أن يؤدي مستقبلاً إلى استقلاليتهم وانحيازهم
ليظهروا كطرف له كيانه الخاص ومعالمه الدالة عليه. بل ضرب بيد من حديد أول بادرة لذلك متمثلة بمسجد (ضرار). بل إن رسول الله  وسع الأمر الإلهي إلى أبعد حدوده، فقام بهدم المسجد وحرقه وإزالة معالمه مع أن ظاهر الأمر ليس فيه أكثر من النهي عن الصلاة فيه: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) (التوبة:108).
4. كبت المنافقين وجعلهم يعيشون حالة من الخوف والشعور بالنقص (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ )(المنافقون: 4)، تعبر عن نفسها بمحاولاتهم ترضية المؤمنين، وادعاء أنهم منهم، والقسم بالله على صدق ما يدعون، والمجيء إلى الصلاة ولو كسالى، والإنفاق ولو كارهين. وفي الوقت نفسه واجه القرآن كل تلك المحاولات بالرفض الواضح، والاستنكاف من قبولهم أو اعتبارهم من المؤمنين أو الالتقاء معهم في وسط الطريق. إ.هـ.
وإذا كان التشابه واقعاً – وهو كذلك – فإن هذا يستلزم أن تكون لهجتنا في خطاب
الشيعة أغلظ وأعنف منها مع اليهود.
قانونان : أحدهما لتغيير الفرد ، والآخر لتغيير المجتمع
من خلال المعاناة المستمرة، والتفكير الدائم في كيفية الوقوف في وجه الزحف الشعوبي المتواصل، وإيقاف تقهقر أهل الحق المتزايد مع الزمن. هذا مع سعي الكثيرين من المخلصين ومحاولاتهم الدعوية الدائبة توصلنا إلى أن الخلل الأكبر يكمن في المنهج الدعوي الذي سارت عليه الأجيال من قبل، ونحن من ورائهم عليه نسير. إن المنهج الحالي فاشل، ودليل فشله – بصرف النظر عن كل شيء – هذا الواقع الذي يصرخ مدللاً على ذلك الفشل!
المنهج المختل - وهو الذي نطلق عليه اسم المنهج الترضوي - لا يصلح لتغيير المجتمع، وإن نجح في تغيير بعض الأفراد قلوا أم كثروا. لقد اكتشفنا ونحن في وسط المعمعة أن هناك قانونين للتغيير: أحدهما يصلح للفرد، والآخر للمجتمع، وأن إصلاح الفرد – مهما كثر عدده – لا يعني ضرورةً إصلاح أو تغيير المجتمع. وأصحاب المنهج الترضوي لا يدركون الفرق بين القانون أو الأسلوب اللازم لتغيير الفرد أو عدد من الأفراد، وبين القانون أو الأسلوب اللازم لتغيير المجموع أو المجتمع. وهذا خلل كبير وخطير في المنهج يجعله مشلولاً وعاجزاً عن إحداث التغيير الاجتماعي. نعم قد ينجح في استمالة بعض الأفراد، ولكن على حساب خسارة المجتمع، والتفريط به ككل.
وما إن أدركت ذلك حتى أخذت أبينه وأشرحه من خلال خطبة الجمعة، والمحاضرات الأسبوعية، والدروس واللقاءات الخاصة وغيرها. وكتبت رأيي في هذا في كتاب (لا بد من لعن الظلام) الذي استغرق مني حوالي سنة كاملة، وانتهيت منه في آذار 2002م. وبنيت ذلك على أن للمجموع – أو المجتمع أو الجمهور - الذي نخاطبه تركيبة (نفسية وعقلية) جمعية تختلف عن نفسية وعقلية الأفراد المكونين له كلاً على حدة. وإذن لا بد - تبعاً لذلك - أن يكون هناك أسلوبان أو قانونان للتغيير، وليس أسلوباً واحداً. واشتققت من ذلك عدة قوانين فرعية أهمها أن تغيير فكر المجموع لا يتم إلا بأسلوب (الطرق المستمر) الذي يقوم على التركيز على فكرة مبسطة يتكرر طرحها بقوة وتأكيد جازم، دون النظر – في البداية - إلى قبولها من المجتمع أو رفضها. حتى إذا أخذت استحقاقها الزمني رسخت في ذهن المجتمع وصارت من المسلمات، بغض النظر عن خطئها من صوابها. ولا يتغير المجتمع بالأسلوب العقلاني المنطقي وحده دون المؤثرات النفسية مع الطرق المستمر.
وقد استفدت ذلك من خلال الرصد والنظر والتحليل، ومعاناة الفشل والنجاح، والبحث في الأسباب المؤدية إلى كل منهما. ومن ذلك الملاحظة الشخصية للتجربة الدعوية التي مررنا بها في دائرة الأسرة والأقارب والعشيرة والمجتمع المحيط بها. كم كان شاقاً على أحدنا أن يقول لأهله، أو يصرح في محيطه قبل ثلاثين عاماً بأن دعاء (الأئمة) والنذر لهم والقسم بهم شرك لا يجوز! ولم تكن حججنا العلمية والمنطقية تنفع إلا مع القلة القليلة منهم. أذكر أنه كان من أوائل المهتدين للعقيدة السليمة من هذه القلة ابن خالة لي بتأثير من أخي الكبير رحمه الله. هل تعلم أن هذا الشاب قد صار أضحوكة لأهله وأقاربه حتى أطلقوا عليه لقب (أبو الشرك)؛ فلا يدعونه في كثير من الأحيان إلا به! فإذا سأل أحدهم عنه قال: أين راح (أبو الشرك)؟ وإلى أين ذهب (أبو الشرك)؟ ومتى جاء (أبو الشرك)؟ لكثرة نهيه لهم عن الشرك! كان ذلك عام 1973م. وتمر الأعوام تلو الأعوام فيتغير أولئك الناس حتى صاروا دعاة للتوحيد، ومن طراز (أبو الشرك) هذا! وكم تذكروا أيامهم الخوالي وهم يتندرون بها، ويضحكون من عقولهم كيف كانت تستسيغ تلك الخرافات؟ ولا تريد الفكاك عن تلك الخزعبلات؟! لقد تغيروا - وكان التغير جماعياً كأنه قد حصل مرة أو جملة واحدة - لا لأنهم قد اقتنعوا في لحظة ما بما كانوا يسمعون من حجج، وإنما بسبب (الطرق المستمر) القوي والمؤكد على آذانهم بالموضوع الذي كانت فقراته تتغلغل شيئاً فشيئاً دون أن يشعروا إلى داخل عقولهم وقلوبهم.
وحين رجعت إلى القرآن والسنة وسيرة الرسول والأنبياء جميعاً والمصلحين عموماً على مر التاريخ ومختلف الأماكن تعززت عندي هذه الملاحظة، وتحولت إلى قناعة راسخة بعد أن تأكد لدي أن الجميع كانوا يتوجهون بالخطاب إلى المجتمع أولاً قبل الفرد. وأن تغيير الفرد سيقع كتحصيل حاصل في النهاية. على أنه ليس من تفريط بأسلوب مخاطبة الفرد حين يكون القصد بالتغيير متوجهاً إليه في أي ظرف من الظروف.
ولكون اطلاعي على كتب علم النفس لم يكن يومها بتلك السعة؛ فقد تصورت أن المهتمين بهذا العلم لم ينتبهوا إلى (علم نفس المجموع) حين اقتصروا في دراساتهم على علم نفس الفرد وأمراضه النفسية. وأفضيت بهذا التصور إلى البعض من خاصتي. وقد وجدت بعد أكثر من سنتين على تأليف الكتاب السابق إشارة بسيطة ضمنتها إياه حين طبعته ونشرته في العام الماضي / 2005م ، وذلك في ثنايا كلام علي عزت بيجوفتش في كتابه القيم (الإسلام بين الشرق والغرب) هذا نصها: (لقد أثبت علم نفس الجماهير، كما أكدت الخبرة، أنه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار الملح لإقناعهم بخرافات لا علاقة لها بالواقع) . وقد اعتبرت هذا النص في حينه اكتشافاً ثميناً من شخصية معتبرة يؤيد كلامي عن أسلوب (التكرار والطرق المستمر)، ولم أنتبه أبداً يومها إلى مدلول عبارة (علم نفس الجماهير) التي وردت في بدايته كما انتبهت إليها اليوم وأنا أعيد قراءتها. وقد كنت أسمع بين حين وآخر عن (العقل الجمعي)، لكنني ظللت على ذلك الوهم حتى وقعت في أيلول الماضي/ 2005م على كتاب (سيكولوجية الجماهير) للعالم الفرنسي غوستاف لوبون المنشور عام 1895م، وكنت يومها في معرض للكتب في دمشق، أبحث علّني أجد كتاباً للأمراض النفسية الجمعية، فلم أعثر من ذلك على شيء، وشد انتباهي عنوان الكتاب فاقتنيته. وحين أخذت أطالعه فوجئت بمطابقة كثير من آرائه للآراء التي توصلت إليها وقمت بنشرها من قبل، دون أن أدري يومها - ولا أحد من حولي كان يدري - أنني كنت أكشف النقاب عن أعظم قوانين التغيير الاجتماعي. وتبين لي أن العلماء قد خاضوا في علم نفس المجموع منذ أكثر من مائة عام، وعلى رأسهم غوستاف لوبون الذي يعتبر مؤسس (علم نفس الجماهير) ورائده الأول كما جاء في مقدمة الكتاب. وستجد بعض الاقتباسات من هذا الكتاب القيم خلال الصفحات القادمة. فاطمأننت إلى أن ما أبديته من ملاحظات، وثبّتّه من قواعد في التغيير الجماعي (الجماهيري) لم تكن نتاج عقل قادته المعاناة إلى ما قادته إليه، ربما كان لردود الأفعال غير المحسوبة بدقة أثرها وطابعها عليه. بل هي قواعد مدروسة طبقاً للمنهج العلمي التجريبي. وأني كنت أقيد ردود أفعالي تقييداً علمياً صحيحاً. إن هذه القواعد قد أثبتها وأرساها من قبلي علماء كبار، ثم قاموا بإعلانها على الملأ، حتى صارت علماً مستقلاً يدرس ويطبق؛ فحمدت الله تعالى، وذكرت هذا من أجل تعزيز القناعة بها لدى طلاب الحق وحملة القضية.
أساليب عامة وأساليب خاصة
الشيعة كمجموع - ننظر إليه كأي مجموع آخر – يسري عليه القانون العام في التغيير الجماعي كما يسري على غيره. أما إذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصياته النفسية والعقلية التي يفترق بها عن غيره فلا بد أن يؤثر ذلك في المعادلة؛ فنحتاج إلى تعديلات أو إضافات تتناسب وتلك الخصوصيات. وبناءً على هذا سنقسم الكلام إلى قسمين:
القسم الأول: يبحث في الأساليب والمبادئ العامة للتغيير
القسم الثاني: يبحث في الأساليب والمبادئ الخاصة بالشيعة
القسم الأول
الأساليب والمبادئ العامة
1. تبني (القضية)
وجدت أغلب الناس – بما فيهم كثير من المفكرين والمنظرين - ينظر إلى المسائل التي تشغله: دنيوية كانت أم دينية نظرة جزئية تفكيكية. بمعنى أنه ينشغل بمسألة ما فيجعلها محط نظره ومحور اهتمامه وحركته ليهمل بقية المسائل. أو يعالج كل مسألة على حدة، دون أن يسلكها بخيط واحد، ويرجع بعضها إلى بعض. وهكذا يفعل كل فريق. وفي النهاية ينقسم المسلمون في البلد الواحد أقساماً غير متجانسة، تتنافر فيما بينها وتختلف تبعاً لاختلاف المسائل التي تبناها كل فريق على حدة دون اتفاق أو تنسيق. وهذا ما نهى الله عنه وذمه بقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:35). إن هذا يقطع المقتسمين أنفسهم ويحيلهم شيعاً وأحزاباً متنافرة كما قال تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة:14). فأخذ بعض الدين ونسيان بعضه يؤدي إلى هذه النتيجة المأساوية.
وللخروج من هذا المأزق لا بد من اللجوء إلى نظرية (القضية). فبها وحدها نتمكن من حل جميع الإشكالات، ونعطي جميع المسائل الممكنة ما يناسبها من اهتمام.
إن نظرية (القضية) تعلمنا – نحن كإسلاميين - أن للدعوة محوراً هو المشكلة، أو
المسألة الكبرى في الواقع المعين تدور حوله (القضية) استناداً إلى قاعدة التوحيد.
إن محورية الدعوة لا تعني أبدا إهمال المسائل الأخرى غير المحورية، وهي تقترب أو تبتعد عن المركز الذي تستقر فيه المسألة الكبرى وتتحرك لتكون هي محور الاهتمام أو (القضية). بل الأمر على العكس تماماً. فإن وضع اليد على المحور، وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة، أو مغلفة لا حراك فيها.
إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات العقد ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد. إن لكل دعوة قضية تنبع من واقعها تشد المسائل المطروحة كما يشد النظام حبات العقد فإذا انفقدت (القضية) انفرط عقد هذه المسائل وفقدت حيويتها وصارت بلا هدف يمكن تحقيقه من ورائها.
وبهذا يتبخر الاعتراض القائل بأن الدعوة لا يصح أن تحصر في قضية مواجهة التشيع أو المشروع الإيراني، وتهمل بقية القضايا. حيث قد أصبح واضحاً أن تبني هذه القضية لا يلغي أياً من القضايا المطلوبة، بل يمنحها الحيوية والحياة، ويجعلها تتحرك وتدور حول محور يمور بالفاعلية والحركة والنشاط :
فمن جعل التوحيد وتصحيح العقيدة غايته نقول له: إن هذا المطلب أول خطوة في طريق (القضية).
ومن جعل التقوى والتزكية القلبية شاغله نقول له: إن هذا هو لب التوحيد وعماد العقيدة.
ومن جعل العبادة هدفه ووجهته نقول له: إن (قضيتنا) لا يصلح لحملها إلا جيل عابد.
ومن جعل الجهاد طريقه ووسيلته قلنا له: لا (قضية) بلا جهاد، ولا جهاد بلا (قضية). وجهادنا أعظم الجهاد في الواقع الذي نعيشه لأنه يجاهد المنكر الأكبر والأصعب فيه.
ومن أراد حشد الناس وتأليفهم، وتنظيمهم في جماعة معينة، قلنا له: إن الحشد والجمع لا بد أن يكون من أجل (قضية)؛ فالقضية الحقيقية أعظم وسيلة لتحقيق هذه الغاية. فتبني هذه القضية تحل مشاكل العراق دينياً واجتماعيا وسياسياً.
ثم.. إن (قضيتنا) لا تنجح دون وعي بالسياسة والواقع وما يدور في العالم.
وتحتاج إلى معرفة عميقة بالنفس البشرية وصيغ التعامل معها والسنن الكونية في التغيير.
والى معرفة بالكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والجغرافية كذلك. واللغة والعقائد والفرق.
وإلى التعرف على الدسائس والمؤامرات وعلاقات الفرس باليهودية والصليبية.
ولا يحملها إلا وطني صادق وعروبي غيور.
... وهكذا ما من مسألة ولا علم مهم أو ضروري إلا وتجد القضية في حاجة إليه، وتعطيه من الاهتمام ما يناسبه. فرق جوهري هو أن هذه المسائل والعلوم تكون حية متوهجة متحركة حين تكون في خدمة (القضية)، وميتة خامدة جامدة حين تنعزل منفردة على قارعة الطريق.
ولعل سائلاً يسأل: ما هي قضيتنا نحن أهل العراق، وبقية المناطق أو الأقطار المشابهة؟ فأقول: إننا في العراق نواجه – ومنذ فجر التاريخ - خطراً هو أكبر الأخطار بل هو مجمع الشر وأم الخبائث من الشرك والنفاق واستباحة الدماء والأموال والأعراض والطائفية والفرقة والتآمر والكيد والدس والاغتيال الفكري والجسدي والولاء للأجنبي والطعن في الكتاب والسنة والتاريخ والرموز…الخ. وقد استطاع أن يجند لصالحه الملايين.
هذا الخطر هو الشعوبية أو المجوسية المقنعة. إنه التشيع الفارسي أو الصفوي. إنه الغزو الشرقي قبل الغربي. فالوقوف بوجه هذا الخطر هو (قضيتنا) الأولى. وهي القضية التي نستطيع توجيه كل الجهود نظريا وعملياً علماء وعامة قادة وجماهير باتجاهها، وحشدها لحلها وعلاجها.
2. التكرار والطرق المستمر
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي، والأساليب العقلانية في دوائر النقاش، وتبادل الآراء في اللقاءات الخاصة، والاجتماعات المحدودة. ولكن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولا يتأثر به إلى الحد الذي يمكن اعتباره كبيراً وشاملاً، ما لم يحصل الصدع بالفكرة مع الطرق والتأكيد المستمر العلني بها، ويستغرق ذلك زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة. على أن يكون قوياً مؤكداً وجازماً.
إن (العقل الجمعي) للمجتمع لا يتغير قط إلا بهذا الأسلوب، الوحيد الذي يمتلك الفاعلية على جعله يتأثر ويستجيب - بلا وعي، وشيئاً فشيئاً - لدواعي الفكرة، التي ستتغلغل فقراتها على مدى الزمن المطلوب، حتى يأتي يوم يكون فيه مهيأً للضربة الأخيرة فيسقط الجدار. وقد يكون سقوطه فجأة؛ لطول ما تفاعلت فيه عوامل التغيير. مثله كمثل بحيرة ماء تضرب أمواجها جداراً من طين، أو تحفر في ذراته شيئاً فشيئاً. إنه يتصدع - ولو ببطء - حتى يأتي يوم فينهار. وبهذا الأسلوب تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم.
يقول د. علي الوردي: إن عيب البرهان المنطقي أنه لا يستطيع أن ينمي في النفس عقيدة. فالعقيدة بنت الإيحاء والتكرار. ولهذا السبب نجد وعاظنا ومفكرينا لا ينجحون في تبديل أخلاق الناس، أو تغيير عقائدهم إلا نادراً. فهم يحاولون دائماً أن يقنعوا الناس عن طريق الجدل، وإقامة الدليل، وما أشبه. هذا بينما الناس يسيرون في أمورهم الفكرية والاجتماعية على أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم. فهتلر لم يبعث في الأمة الألمانية تلك الحماسة، وذلك التعصب العجيب لآرائه بواسطة الإقناع المنطقي. إنما هو قد فعل ذلك بالإيحاء والتلقين والتكرار، وبواسطة الاحتفالات والاجتماعات والاستعراضات: حيث كانت الموسيقى تعزف، والأعوان تهتف، والرايات تخفق، والطيارات تملأ بهديرها الفضاء.
إن كلمةً تكرِّر قولها على نفسك مرة بعد مرة لقادرة أن تطبع في عقلك الباطن شيئاً من الإيمان بها قليلاً أو كثيراً. والإيمان يزلزل الجبال كما يقولون.
ينتقد بعض الكتّاب القرآن لأنه يكرر القصص وآيات الوعظ مرةً بعد مرة، ويذكر الله وآثاره في الكون في كل صفحة من صفحاته. وما درى هؤلاء المغفلون بأن هذا التكرار الذي ينتقدونه هو الذي طبع في نفوس العرب ذلك الإيمان العميق بالله، وجعلهم يحطمون إيوان كسرى وعرش قيصر في سنوات معدودة .
3. الصدع بالحق
الإسلام دين جماعي. أي جاء لتغيير الجماعة قبل الفرد. والإسلام ليس علاقة قاصرة بين الفرد وربه، مجردة عن المجتمع ، أو بعيدة عنه. نعم هو علاقة بين العبد أو الفرد وربه، ولكن من خلال المجتمع.
إذن جاء الإسلام لتغيير المجتمع، وتصدى لمخاطبته ككل، وليس لخطاب فرد أو مجموعة من الأفراد. لهذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى المجتمع، ولم يقتصر بها على الأفراد. فكان يصعد على جبل الصفا ويصيح في جموع قريش، ويغشاهم في نواديهم وأسواقهم، ومواسمهم. وهكذا فعل أصحابه رضي الله عنهم. ولم تشغله دعوته الفردية عن هذه المهمة الاجتماعية. بل سخر الأولى لخدمة الثانية.
إن منهج الإسلام التغييري الجماعي يقوم أول ما يقوم على الإعلان الواضح بالدعوة، والصدع المستمر - وبلا انقطاع - بالحق، وإنكار ما عليه المجتمع من باطل جهراً، دون الاكتفاء بطرح الأفكار في الزوايا الضيقة.
وكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقاً أميناً لما جاء في ذلك من توجيهات الوحي الإلهي النازل عليه. كما قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1،2). وقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
بهذا الأسلوب توصل نبينا إلى تغيير المجتمع. وبه تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم. مشكلتنا أن عامة دعاة أهل السنة عندنا يجنحون عند خطاب الشيعة إلى الاقتصار على الحوارات الخاصة المعزولة. أما الجهر بالحق، والإعلان الصريح به من خلال الوسائل التي تصل بصوتهم إلى المجتمع كمنابر الجمعة والإذاعة والتلفاز، والصحف وغيرها من الوسائل، فيتحاشونه كما يتحاشى المجذوم، أو أشد! وهذا أحد العلل الكبرى في مسيرة الدعوة والتغيير.
إن السكوت وعدم الإعلان بالحقيقة الصريحة في وسط المجتمع خشية أن نفقد عدة أشخاص تربطنا معهم علاقة من أي نوع، أو جاءوا إلى المسجد القريب مثلاً يؤدي إلى أن يظل المجتمع سادراً في غيه، جاهلاً بحاله، مستمراً في ضلاله. لأنه لم يجد أو يسمع من يعرفه بالحق من الباطل.
إن مجاملة المجتمع علناً، والاقتصار ببيان الحق من الباطل على الأفراد في المجالس الخاصة والأماكن المغلقة، لا يمكن – في يوم من الأيام ولم يحصل في التاريخ - أن يؤدي إلى التغيير الاجتماعي المطلوب الذي هو مهمة الإسلام الأولى، وينبغي أن يكون مهمة كل مسلم داع إلى الإسلام بحق.
إن الصدع بالحق يحرك السواكن ويثير العقول ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار، الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله - كما أوصى ربنا - بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك – وبقوة - إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية مما يعطي للأفراد فرصة اكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية كذلك.
لا بد إذن من التفريق بوضوح بين أسلوب الإعلان بالدعوة خطاباً للمجتمع، وبين الحوار الفردي في الزوايا الضيقة أو اللقاءات الخاصة أو عن طريق العلاقات الاجتماعية الفردية، الذي لن يؤدي – في أحسن أحوال – إلى أكثر من تغيير أفراد معدودين، مهما كثروا لن يحدثوا تأثيراً له وزنه في تغيير معادلة المجتمع المختلة، بالاتجاه الصحيح، نحو الهدف المطلوب.
4. التكامل
إن هذا التأثير - حتى يتم - يحتاج إلى تكامل دعوي يقترن فيه الصدع بالحق من قبل ما يكفي من الدعاة والكتاب والخطباء والمفكرين والمحاضرين، الذين يتقدمون الصفوف، بالحركة أمام الجمهور الواعي المساند، الحامل لـ(القضية)، بعد أن يكون قد أدرك أبعادها مسبقاً بواسطة أولئك المتقدمين. فالصدع بالحق لا بد أن يقترن بالحركة من قبل ذلك الجمهور نحو الآخر، متمثلة بالحوار الشخصي، وتقديم الوسائل البيانية من مثل الكتاب الهادف، والمطوية، والمنشور، والصحيفة والشريط المناسب: مسموعاً كان أم مرئياً، وغير ذلك من الوسائل. إن هذا كله ينشط التغيير الفردي ويكسب باستمرار مزيداً من الأنصار الحقيقيين، وليسوا أرقاما فارغة لا قيمة لها. وفي الوقت نفسه نكون قد قمنا بواجبنا تجاه المجتمع الذي نأمل أن يتغير باتجاه الهدف متى ما تكاملت فيه عناصر التغيير ضمن مدى معين من الزمن. فلا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج والتأثير.
ما أسهل أن يجلس أحدهم على أريكته الوثيرة، يعدد أخطاء العاملين، ويقول: ماذا فعل فلان؟ وماذا عمل فلان؟ إن (فشل) فلان وفلان – إن كان - بسببك أيها (الحكيم)!.. بسبب قعودك واختيارك الراحة على العمل المفروض أن تقوم به. إن أجزاء العمل الدعوي كأجزاء العربة: المحرك، والإطارات، والجسم، والمِقود وبقية الأجزاء. وما لم تكتمل وتتكامل هذه كلها مع بعضها، لن تتحرك السيارة مهما كانت الأجزاء الأخرى متقنة وصالحة للعمل. وقد قام فلان وفلان بأداء ما عليهم من نصيب، لكن العجلة لم تسر؛ لأن جزءاً مهماً كان مفقوداً، وفراغاً ظل شاغراً ينتظر وصولك الكريم.
5. فضح الباطل وبيانه بالتفصيل
من أسباب انتشار التشيع قلة المتصدين لفضحه وتعريته بتفاصيله التي هو عليها. على العكس! فلقد قعّد الدعاة في المنع من ذلك قواعد أشهرها: "بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة" ، و "بيان الحق كفيل بزوال الباطل" . وأسقطوا قاعدة الرفق على هذا الموضوع؛ فصار عندهم كل من تطرق إلى باطل الشيعة وخزعبلاتهم من المتشددين المتعنتين. وما دروا – أو دروا لا أدري – أن دين الله تعالى مبني على تقديم مبدأ إنكار الباطل على بيان الحق. وأن فضح الباطل جاء فيه مفصلاً، بينما بيان الحق جاء مجملاً. حتى إذا دخل المرء في الإسلام جاء دور بيان الحق له بالتفصيل. وهذا المبدأ مذكور من أول كلمة يطالب بها الإنسان للدخول في رحاب الإسلام : "لا إله إلا الله". والله تعالى يقول: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256). ويقول: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). ويقول: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37). فبيان الباطل، وفضح أهله مقصود إلهي مستقل بذاته، وهو شرط لبيان الحق لا يتم إلا به.
6. التأكيد على وجود عدو محدد
الحب لا يكفي: صحيح أن الحب أساس الدين، ولكن هذا لا يكفي وحده لاستثارة النفوس وتفجير الطاقات، بل لا بد لذلك من تهييج عاطفة الخوف من جهة معينة محددة؛ فإن غريزة حب البقاء أقوى الغرائز كلها في إثارة قوى الإنسان وتوظيفها في الهدف المطلوب. ومن أول سورة نزلت من القرآن العظيم كانت هذه القضية حاضرة فيه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى) (العلق:9،10). وما إن أهبط أبونا آدم  إلى الأرض حتى أنزل الله معه عدوه وخصمه إبليس، كما أخبر سبحانه فقال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). وشد القرآن أنظار المؤمنين إلى أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وحذرهم منهم، وأمرهم بمجاهدتهم.
وجود العدو سنة كونية: وهذا يعني أن وجود العدو سنة من سنن الكون. وفي ذلك يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان:31)، ويقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).
والسر في ذلك – والله أعلم - أن الإنسان إذا أمن خمد، وقل نشاطه واندفاعه. فإذا تعرض أمنه إلى الخطر تحرك وانطلق، وتفجرت طاقاته من مكامنها، وبحث عمن يعينه ويعزز أمنه وحياته؛ فتزداد القوة، ويحصل التماسك بين المجموع. وهذا هو الأساس الواقعي الذي يبنى عليه التجمع والتوحد، الذي هو الشق الآخر للدين بعد التوحيد. بل إن المجموع الذي لا يحس بوجود عدو معين يرتد عدوانه إلى داخله فيتمزق المجموع. يقول جي. إي. براون: من الملاحظ أن الجماعة توجه العدوان إلى داخلها حينما تتوقف الأعمال الحربية. ويقول: إن الناس في حال الضيق يحتاجون إلى الكراهية؛ لأن الكراهية إذا أصبحت منتشرة هي أنجع العواطف توحيداً للناس .
وليست هاتان الحقيقتان بعيدتين عن دعوة الإسلام وتوجيه القرآن : فنظرية الإسلام
في القتال تقوم على توجيه القوى متوازية إلى الخارج، وهذا هو الجهاد. وتحرم توجيه القوى متقاطعة إلى الداخل، وهذه هي الفتنة. والقرآن يقول: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة:4).
ولأن إبراز وجود الخصم، والتلويح به دوماً أمام أعين المؤمنين ضرورة من ضرورات العمل الصائب لهذا الدين، أكد القرآن على أهمية تحديد الخصم، ووضوح صورته في ذاكرتهم فقال: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101) وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الإسراء:53) وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) (فاطر:6). كما أنه قال: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). وما أجمل ما قاله الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال هذه الآية: (إن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق، ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحادده ويحاربه إنما هو على الباطل، وأنه يسلك سبيل المجرمين، الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم: ((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)) ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين. إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان، ولا بد من وضوح الألوان والخطوط .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلاماتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلاماتهم بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين).
وقد أجاد المجرمون دورهم في خدمة هذه المسألة العظيمة، والتلويح لشعوبهم وأتباعهم بخطر الأعداء والخصوم، من أجل تنفيذ مآربهم، وتحقيق أهدافهم، كما تفعل أمريكا اليوم. والحال لا يحتاج إلى شرح. كما أجاد أساطين الشيعة الدور في التلويح لشيعتهم بأن الخطر كل الخطر يأتي من ناحية العرب عموماً وأهل السنة خصوصاً. ولغتهم الخاصة غنية بالمصطلحات التي تعبر عن مقاصدهم مثل: نواصب، وهابيين، إرهابيين، تكفيريين، أُمويين...إلخ. هذا إن لم يذكروا أهل السنة باسمهم صراحة. بينما فشل أهل السنة – في العراق خصوصاً - فشلاً تاريخياً ذريعاً في تجلية الخصم أو العدو الحقيقي الذي يهدد وجودهم، ويريد ابتلاعهم وتدمير هويتهم الدينية والقومية، بل والوطنية ! ألا وهو الشعوبيون ، والمستعجمون ، وإيران وذيولها . أو – باختصار – أصحاب التشيع الفارسي الذين يمثلهم عموم الشيعة في عراقنا إلا من رحم ربك. وهذا الفشل الغبي هو الذي خدر أهل السنة خاصتهم وعامتهم، وساعد في تشتيت صفهم، وترسيخ تفككه، وضعف تماسكه؛ لأن قادتهم من الدعاة والمشايخ والعلماء والمفكرين والسياسيين – إلا أقل القليل - دس رأسه في الرمل عن رؤية الخصم الحقيقي، ونصيحة أهله في تشخيصه، وتحذيرهم منه. وظلوا يخادعون أنفسهم بالعبارات التقريبية الزائفة حتى وقعت الواقعة، فلم يبق بيت من بيوت أهل السنة إلا ودخلته الفتنة على يد عصابات الخيانة والغدر الشعوبي: بدءاً باستقدام الكافر المحتل، ومروراً بخدمته، وتقديم جميع أنواع العون والمساعدة له. وبعد (خراب البصرة) - كما يقولون عندنا في العراق – صاروا يتحدثون على استحياء ابنة شعيب إلى (الإخوة) الأعداء. فمن يتحمل المسؤولية؟!! وإذا كان الله جل وعلا قد حذر المؤمنين حتى من الزوجة والولد ووصفهم بالعدو في حالات معينة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14) فكيف بمن يغطي الحقيقة الصارخة ولا يحذر أبناء جلدته من العدو الحقيقي الذي انتشر كالسرطان في جميع مفاصل المجتمع؟!
السياسة اللادينية تسلك أسلوب ترهيب الجماهير من العدو المحدد، والسياسة الدينية أو الشرعية تسلك السبيل نفسه. الفرق بينهما في المصداقية والهدف النبيل، وليس في المبدأ نفسه. وبهذا يتبين أن أصحابنا لم يسلكوا لا سبيل الدين، ولا سبيل السياسة. وهذا هو المؤشر على عامة الحركات الدينية في زماننا التي دخلت معترك السياسة. إن أساليبها قديمة، أو لا يحسنون تنزيلها على مواردها، إلا من رحم.
إن العدو الأول لنا في العراق هو الشعوبية وأهلها من عموم الشيعة الموالين لإيران، والسائرين في ركب ذيولها عندنا من أمثال السيستاني وآل الخوئي وآل الحكيم وآل الصدر ومن لف لفهم، وسار في ركبهم. هؤلاء هم أعداؤنا، لا يختلف أحدهم عن الآخر إلا بالدور المكلف به في خدمة المسرحية الجامعة. فالمسرحية واحدة، والهدف واحد وإن تنوعت - أو توزعت - الأدوار بين أعضاء الجوقة. وإذا كنا نعذر أحداً من خارج العراق – لسبب أو آخر - في عدم الاهتداء إلى هذا التشخيص، فلا يمكن الاعتذار لأحد من أهل العراق إذا أخطأ فيه، خصوصاً بعد كارثة الاحتلال، وبروز العمالة الشيعية سافرة فيه إلى البلعوم. يقول د. ماجد العرسان: (الغرب هو التحدي الأكبر لدار الإسلام. وهو تحد عنيد مستمر كلما هلك جيل من الغرب خلَفه جيل آخر ذوي صبر على متطلبات المواجهة وتكاليفها... أما الخطر الشرقي الذي كانت تمثله فارس فقد انهار بعد نطحة أو نطحتين: مواجهة في القادسية وأخرى في نهاوند ثم لا فارس بعد، وإنما تحولت إلى منعطف جديد استمر في أيامنا الحاضرة) . وأنا وإن كنت لا أهون من شأن الخطر الغربي، لكنني لا أرى التهوين من شأن الخطر الشرقي يقوم على أسس علمية: لا واقعية ولا تاريخية. وأصحاب هذا التنظير إنما يحملهم عليه عدم اكتوائهم بنار المؤامرات الفارسية المستمرة على العراق وأهله. وذلك لبعدهم عنها، ما يؤدي إلى سهولة انخداعهم بمعسول كلام الفرس ودعاواهم الكاذبة. وهذا هو الذي يجعلهم في غير ما حاجة إلى قراءة تاريخ العراق القديم والحديث، وإذا قرأوه لا يركزون على المفاصل الحرجة الخاصة به؛ لأنهم ليسوا من أهله. وهذا شيء طبيعي، ولو كنتُ أنا من غير العراقيين لربما حذوت في ذلك حذوهم. فأنا لا أنتقد الشخص نفسه، وإنما أنتقد تقريره، وأعتذر له. كما أقول له ولغيره: إن التاريخ يشهد أن جميع الحضارات التي قامت في العراق منذ فجر التاريخ وإلى يوم الأربعاء الأسود (9/4/2003) كانت نهايتها على يد الفرس: إما مباشرة أو بالواسطة. أما الواقع فما عاد في حاجة إلى بيان! وأما (النطحة والنطحتان) الواردة في الحديث الشريف فلا تشير إلى أكثر من زوال دولة الفرس الرسمي، على غير ما كان عليه الأمر بالنسبة إلى الروم. وقد تحولت فارس بعدها إلى أكبر مستودع وأخطر حاضنة للنفاق والحركات النفاقية على وجه الأرض. وقد قامت بأخطر الأدوار في التاريخ في الكيد لدولة العرب والمسلمين. وكثيراً ما تحالف الفرس مع الصليبيين لمحاربة دولة الإسلام،
وهم الذين تآمروا معهم على عهد الصفويين فأوقفوا الفتح الإسلامي داخل أوربا.
وجود العدو ضرورة لتوحيد الجمهور: وأخيراً أقول لكل العاملين من أهل السنة وخصوصاً السياسيين: إن توحيد الجمهور وتجميعه لا يمكن أن يتم من دون أن تثار لديه غريزة الحياة وحب البقاء من خلال شعوره بخطر يتهدده من قبل عدو يتربص به. ومن أوضح الأدلة على ذلك موقف أهل السنة من الدستور وزحفهم بالملايين للتصويت ضده، يوم شعروا بالخطر الداهم الذي يستهدف وجودهم، ويغتال هويتهم. وكذلك موقفهم من الانتخابات التي تلته، واندفاعهم لها دفعاً للخطر الداهم. فالحب وحده والتسامح الأبله بضاعة الضعفاء الحالمين، وديننا دين القوة والواقع. وليس من خطر أكبر من خطر الشعوبية، التاريخ والواقع يثبت ذلك. ولسنا في حاجة ولن نرضى بمن لم يقرأ تاريخنا، ولا يعيش واقعنا.
فنصيحتي لكم إذا أردتم النجاح في الوصول إلى أهدافكم أن تجمِّعوا الناس في العراق حول هذه القضية الكبرى. وإلا فإن أخوف ما أخافه - إذا خرج المحتل - أن ترجع إليكم لوثتكم الترضوية القديمة، وعندها سينفض الناس عنكم كل إلى (حال سبيله)؛ فما عاد من خطر يجمعهم. في الوقت الذي يكون فيه جمهور الشيعة متحفزين تمام التحفز للإجهاز على البقية الباقية من جمهوركم. (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) (النجم:59-61).
كل عظماء العراق حاربوا الفرس: كما أعظكم بواحدة، وأذكِّركم بحقيقة عظيمة هي أن كل من برز من قادة العراق ورجاله في كل أدوار التاريخ إنما انبنت عظمته وشهرته على موقفه من المد الفارسي. واذكروا إن شئتم أوتوحيكال وسرجون وحمورابي ونبوخذ نصر وآشور بانيبال وسميراميس، والنعمان والمثنى وزياد والحجاج والمنصور والرشيد، وصلاح الدين. حتى الإمام أحمد فإنه لم يكن مجرد عالم قاده التطلع العلمي والواجب الديني المجرد إلى ما قاده إليه. إنما كان صاحب قضية لا تختلف عن قضيتنا اليوم، تصدى من خلالها للمد الشعوبي متمثلاً بهجمته على العروبة، والقرآن، والحديث النبوي، والعقيدة الإسلامية؛ فدافع عن فضل العرب، ونافح ضد الزمرة الشعوبية والبطانة الفارسية متمثلة بابن دؤاد وزمرته القائلين بخلق القرآن، ووقف ضد محاولات الزنادقة العجم واختلاقهم للأحاديث الباطلة ونشرها بين الناس ودسها في كتب الحديث. وكان في ذلك كأنه الشخص الذي تجمعت فيه أصالة العراقيين، وتاريخ بني شيبان فظهر – وما كان للعراق إلا أن يظهر فيه مثله - ليمثل كرم الأصالة، وعنفوان التاريخ. وقد كان صدام حسين قارئاً جيداً للتاريخ حين ابتدأ ولايته بالتصدي للهجمة الفارسية السوداء. ولولا بعض العوارض ومنها ما ارتكبه من أخطاء بعد ذلك، وما هو معلوم من سيرته لكان من أعظم القادة في تاريخ العراق. على أنني أقول: إن الشوط ما زال بعيداً ليقول التاريخ فيه قولته، ويحكم عليه بحكمه، ومن عاش فينا سيسمع عمن تصدى للريح الشرقية الصفراء وأذل خشم نافخ كيرها (لع)، وجرعه كأس السم، وحرر المحمرة والأحواز غير ما يسمعه اليوم. وهكذا فكل من أراد أن يقود العراق لا يمكن أن يقوده ما لم يتقدم بموقف كبير يتصدى به لإيران وذيولها من الشعوبيين والشيعة المتفرسين. والمستقبل بيننا حكم، إن لم ينفع المنطق والشرع والتاريخ. (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر:44).
7. العلاج بالصدمة
مما تعلمناه على عهد الدراسة الطبية أن بعض الأمراض النفسية لا يعالجها شيء مثل تعريض المريض إلى صدمة علاجية، أو رجة كهربائية. فالمريض الذي يعاني من رهاب بخصوص بعض الحشرات كالصراصر مثلاً يعالج بإدخاله إلى موضع يعج بالصراصر ويقفل عليه الباب وهو معها، وبعد أن يصرخ ويصرخ تتفرغ شحنته العُقدوية ويشفى مما به من مرض. والعلاج بالكهرباء معروف لكل الناس، سواء بالنسبة إلى الأمراض النفسية أو الجسدية، فالسكتة القلبية مثلاً لا ينقذ المصاب منها كما ينقذ بالرجة الكهربائية. وأعتقد أننا نحتاج لمثل هذا العلاج مع الشيعة، ومع السنة أيضاً. أن نصدمهم بالحقيقة المرة، ونصكهم بها في آذانهم، ودعك من صراخهم؛ فقد وصل المرض إلى حد الغيبوبة.
8. الهجوم
"الهجوم خير وسيلة للدفاع" حكمة معروفة في أوساط الناس، وإن كانت في الأصل قاعدة من قواعد العلم العسكري. كما أنه من المعروف عسكرياً أن الدفاع لا يحقق النصر، إنما النصر يكمن في التعرض للعدو والهجوم عليه. وغاية الدفاع هو رد الخصم دون دحره، ما لم يتبع ذلك بمطاردته، أي الهجوم عليه. وكذلك الشأن في المعارك العقائدية والثقافية. المهاجم يشغل خصمه بالدفاع عن نفسه، وبذل الجهد في تبرير مواطن الضعف التي وجهت إليها سهام النقد، ومحاولة سد الثغرات التي تنفذ منها تلك السهام. وكثيراً ما يركن إلى الموادعة والسكوت طمعاً في سكوت المقابل، واستجداءً لعطفه وموادعته. وهكذا يبدأ الانهيار الثقافي، وتغزى الأمم في ثقافاتها ومرتكزاتها الفكرية والعقيدية، تمهيداً لغزوها عسكرياً وهزيمتها ودحرها في ميدان القتال. وهذا هو شاهد حالنا اليوم في العراق.
والناظر في دعوات الأنبياء عليهم السلام، وكل الدعوات التغييرية الأخرى – الإصلاحية منها والإفسادية – يجد أنها لم تقف من مجتمعها أبداً موقف الدفاع، وإنما بدأت بتحديد مواطن النقد أو الخلل، ثم راحت تهاجمها علناً وعلى رؤوس الملأ. والقرآن الكريم وسيرة النبي  وغيره من الأنبياء عليهم السلام تشهد بوضوح على ذلك. وأكتفي بموضع واحد من القرآن هو قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4). وتأمل ما في هذا الأسلوب من نتائج تغييرية جماعية بشرط أن تأخذ استحقاقها الزمني، وتتوفر لها الأرضية الصالحة للتحرك، وذلك ما لم يحصل لسيدنا إبراهيم  : الإعلان القوي بالبراءة وإظهار العداوة وإبداء البغضاء والكراهة يؤدي إلى هيجان المجتمع، وزلزلته فتنتشر الدعوة وتصل إلى كل زاوية فيه، وتثور المناقشات والمجادلات، ويحصل تبادل في الأفكار والآراء. كل ذلك بسرعة لا تقارن بها سرعة حدوث هذه التفاعلات في حالة الأساليب الترضوية، فيكثر المؤمنون من طلاب الحقيقة، وتهتز قناعات الآخرين. يحدث هذا على مستوى المجتمع كله، وليس على مستوى أفراد معدودين. وعندها يمكن استغلال النتائج الحاصلة واستثمارها لإكمال الشوط إلى نهايته كما فعل الرسول  .
من هذه النقطة، من البراءة والعداوة تبدأ الخطوات المباركة نحو التغيير الجماعي كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سياق الآيات السابقة: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:7) لا كما هو ديدن الترضويين الذين يتطيرون من كل ما يمكن أن يثير إزعاج الآخر، أو يعكر صفو مزاجه الرائق، وذوقه الرفيع.
أما المدافع فيمثل الكفة الأضعف في المعادلة، ولولا ضعفه لما غزي في عقر داره؛ فإنما يغزى الضعاف. ولولا ضعفه لكان هو الذي يبدأ ويغزو ويهاجم.
حين رجعت من الحلة إلى بلدتي (المحمودية) أواخر عام 1997 كانت الأسئلة تنهال عليّ من قبل الشباب السني: هل صحيح أن الرسول  أخذ البيعة لعلي  عند غدير خم؟ ما معنى آية الولاية؟ وهل أن علياً تصدق في صلاته بخاتم فنزلت الآية بسبب ذلك؟ وما علاقتها بالإمامة؟ ما تقول في معركة الجمل؟ ولماذا (خرجت) عائشة على علي؟ هل صحيح أن عمر  قال عن النبي  : إنه يهجر؟ وأن ذلك في صحيح البخاري؟ ما دليل الأوقات الخمسة في الصلاة والله يقول: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78)؟ وكانوا يأتونني بأحاديث عديدة مشكلة في البخاري ومسلم يحتج بها الشيعة عليهم فلا يستطيعون الإجابة الشافية عنها. وغيرها وغيرها من الأسئلة والإشكالات التي صارت تشغل عقول أبناء السنة، ويتلفتون حولهم، ويذهبون إلى المساجد فلا يسمعون ما يُروي غليلهم ولا يشفي عليلهم، سوى كلمات (التقريب) وعبارات من مثل: لا فرق بين الشيعة والسنة، الدين واحد والرب واحد إلخ... ونحن نحب أهل البيت، وأهل البيت كذا.. وكذا. وما شابه ذلك من العبارات الانهزامية التي جرأت على حمانا صعاليك الأرض، وشذاذ الآفاق.
ومن خلال ذلك توصلت - بما يشبه القناعة – إلى أن الحال إذا استمرت على ما هي عليه فإن العراق سيتحول إلى شيعة خلال خمسين سنة! إن التقهقر إلى الدفاع أول الخطوات في طريق الهزيمة.
وكنت أوجه السائل - بعد أن أجيبه على سؤاله وأوضح له حقيقة الأمر – إلى أن يهاجم لا أن يدافع، وأن يورد هو الإشكالات على الآخر ولا يكتفي بتلقيها منه. وأزوده بمجموعة منها. وكنت أقول للسائل وغيره: بدلاً من أن يشغلوكم بعشرين حديثاً مشكلة في البخاري أشغلوهم بألوف من الروايات الساقطة في كتاب الكليني. وبدلَ أن يشغلوكم بعدة آيات مشكلة من القرآن قولوا لهم: (إن هذه الآيات كلها متشابهة، فأتونا بآية واحدة محكمة شاهداً على أعظم أصولكم ((الإمامة)) فما دون؛ ونحن نسلم لكم بما تقولون). خذوا زمام المبادرة واهجموا ولا تدافعوا. قولوا لهم: (إن أصولكم باطلة لا أساس لها من محكم القرآن، وإن رواياتكم موضوعة وصلتكم عن طريق الزنادقة والكذابين). لا تشغلوا أنفسكم بذكر حبكم لأهل البيت فإن هذا لن ينفع معهم، وألقوا في أحضانهم بفضيحة كراهة الصحابة وسبهم والطعن بأشرف النساء وأطهرهن أمهات المؤمنين. وبدل أن تدندنوا حول كونكم من محبي أهل البيت وأتباعهم قولوا لهم: (أنتم مخالفون لأهل البيت ولا علاقة لكم بهم ما دمتم تخالفون منهجهم ودينهم. إن أهل البيت بريئون ممن يغلو فيهم ويرفعهم إلى مصاف الأنبياء أو مرتبة الإله. إن هذه العقائد التي أنتم عليها فارسية مجوسية لا ينفع معها التستر ولا الترقيع). هاجموا إيران وكل من انتسب إليها من الشعوبيين والمستعجمين. دعوهم يشعرون بالنقص تجاه عقائدهم وعمالتهم وحبهم لإيران، وسترون النتيجة!
وتلقف الصادقون المخلصون الفكرة وساروا بها، فما مرت سنتان حتى انعكس الأمر وتغيرت الحال إلى الضد تماماً، إلى درجة أن أحدنا صار لا يكاد يجد شيعياً يقبل الوقوف معه للنقاش! بل إنه يهرب عند أول إشارة لتحول الحديث إلى الموضوعات الخلافية، ويطلب التوقف أو الانصراف متحججاً بأن مراجعه أمروه بعدم الخوض في مثل هذه المسائل. فكنت أضحك وأقول: لقد قطعنا شوطاً كبيراً باتجاه الهدف. هذا هو الطريق، فيا ليت قومي يعلمون!.
يقول أحد علماء الاختصاص الغربيين وهو جي. إي. براون: أكبر غلطة ارتكبتها الدعاية الألمانية (في الحرب العالمية الأولى) أنها كانت دفاعية باستمرار، باذلةً جهودها في التأكيد على أن الدعاية الموجهة من قبل الحلفاء كانت غير صحيحة وغير منصفة. وفي هذا انتهاك لواحدة من أُولى قواعد الدعاية وهي أن رسالة صاحب الدعاية ينبغي أن تكون إيجابية باستمرار. إن محاولة تصحيح أخبار الدعاية ((غير المنصفة)) تؤدي إلى شيء واحد وهو إحياء العبارات التي استعملتها الدعاية المعادية في أذهان من تلقوها، ونشرها بين الذين لم يكونوا ليسمعوها لولا تلك الطريقة .
لقد اعتمد الشيعة على مبدأ الهجوم والدعاية في نشر أباطيلهم . أما نحن فغاية ما فعلناه هو الدفاع والدفاع الضعيف وباستمرار خصوصاً في منابرنا العلنية التي هي المصدر الأهم في تثقيف المجتمع وتعرفه على الحقيقة .
9. النفرة
صحيح أن هذه الأساليب تتسبب في نفرة المجتمع في بداية الأمر ، وإثارة المشاكل
كما حصل لرسول الله  . ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم جدواها. بل العكس هو الصحيح. وليس العلاج بالترك والنكوص. ومن قال بذلك فإنه لا يعرف مراحل العلاج أو محطات السير.
لقد واجه الرسول  هذه المشكلة مشكلة نفرة الناس عنه، لكنه لم يسعَ إلى تجنبها
بكل وسيلة، حتى ولو كانت هي المجاملة أو التخلي عن الصدع بالحق والجهر بإنكار ما عليه النافرون من باطل طمعاً في تقريبهم كما هو حالنا اليوم. بل واجههم بما يزيدهم نفوراً حين شبههم بالحمير! فقال تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (المدثر:49-51). وحمّل نفوسهم المريضة بالكبر، وعدم الخوف من الآخرة مسؤولية الإعراض عن الحق فقال: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً * كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) (المدثر:52،53). ولعل في صيغة (استفعل) في كلمة (مستنفرة) ما يشير إلى أن النفرة عن الحق مركوزة في نفوسهم؛ فهي مطلوبهم ومبتغاهم، فالأمر كما قال سبحانه عن ثمود: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت:17) فجاء التعبير في كلمة (استحبوا) بصيغة (استفعل)، أي هم أرادوا واختاروا وطلبوا العمى وحملوا أنفسهم عليه!
ثم بيَّن من موقع الفوقية والعلو والعزة أن من شاء الهداية فليفعل، ومن لم يشأ فالأمر متروك له. على أن الهداية شيء عزيز لا يوفق الله إليه إلا من يستحقه. وقد لا يكون هؤلاء مستحقين لذلك، فقال جل شأنه: (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ
إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:54-56).
فمن قال: إن نفرة النافرين حجة على صحة الدعوة، ومقياس لخطئها من صوابها، فليس ممن يفقه سنة التغيير، ولا ممن قرأوا التاريخ جيداً، أو وقف يوماً يتمعن الآيات السابقة، وما في معناها من كتاب الله.
بل أستطيع أن أقول (وهذا ما ذكرته في كتابي السالف الذكر): إن التغيير الجماعي يبدأ من هنا؟! من الإثارة والنفرة وتحريك السواكن الجامدة والعقول الخامدة. وإنه ما من دعوة من الدعوات نجحت إلا وبدأت هذه البداية.
نعم! سينفر المجتمع أولاً. وهذا لا ينبغي أن يجرك إلى أن تغير خطتك أو تنحرف عن خطك. بل استمر في سيرك ودعوتك وأعلِ من نبرتك وهذا سيؤدي إلى.. نفور أكثر! فاستمر على ما أنت عليه وسترى!
سيأتي يوم فيه يصمتون. عندها أعلم أنهم أصيبوا بالذهول، وأن الصدمة قد بدأ مفعولها وأنهم بعد حين تتحرك خلايا أدمغتهم الجامدة المتحجرة وتتشكل من جديد لتبدأ بالانتباه بشيء من الجدية إلى ما تدعو إليه، والتفكر فيه. سيقولون في أنفسهم: لولا أن ما يدعو إليه هذا الداعي حق لما تمسك به هذا التمسك، فهل نحن حقا على باطل؟! وهذا أول علامات الوهن والانهيار في جدار الباطل. إنه الصمت والتأمل.
وهنا يتحول أهل الباطل من حالة الهجوم وإلقاء الشبهات والضجيج والمطالبة بعقد حلقات الجدل والنقاش إلى حالة أخرى تتمثل بالهروب وعدم المواجهة، والاكتفاء بحالة الدفاع عند الاضطرار. فاعلم أنك قد قطعت شوطا كبيرا في سيرك بالاتجاه الصحيح.
لقد انتهت مرحلة وبدأت مرحلة أخرى. انتهت مرحلة الهجوم، وبدأت مرحلة الدفاع. عليك هنا أن تستثمر الحالة وتحول دفاعك إلى هجوم لتقضي على آخر سواتر المقاومة لخصم قد انهزم نفسيا وفقد الحماس في الدعوة إلى أفكاره المنحرفة التي بدأت تتزعزع ثقته بها حتى مع أبنائه وعائلته. أي أن الجيل القادم سيكون ضعيف التعلق بباطله ويكون - هو والجيل الذي بعده - من حصة أهل الحق إن شاء الله.
إن الجيل الأول عموماً لا بد أن نقبل خسارته ونفرته - هذا على أسوأ الاحتمالات - ثمناً لربح الأجيال القادمة بشرط أنْ تتضافر الجهود للدعوة بهذا الأسلوب وأن لا يقف الترضويون حاجزاً أمامها يصدون ويوعدون مع أملنا بالمخلصين منهم أن يلتحقوا بالركب السائر في طريق الأنبياء.
على أن هذا لا يلزم منه أن لا تظل عصابة - لا سيما الرؤوس والمنتفعون والمغرضون - تثير الفتن وتحاول الكيد بشتى الوسائل والأساليب.
وهكذا فعل رسول الله  . وبغض النظر عن تفاصيل المراحل التي مرت بها دعوته - إذ لكل مرحلة ظرفها الذي يصنعها مما يؤدي إلى اختلاف أو تشابه المراحل بين الدعوات وقد تختلف في تفاصيلها تبعا لتشابه الظروف وتسلسلها – فإنه  صدع بالحق وجهر بالدعوة وسفه آراء المجتمع وضلل آباءهم وشتم كبراءهم وفضحهم وفضح أباطيلهم.
ولولا هذه الشدة وهذا الهجوم العنيف لما رضخ المشركون وجاءوا إليه صاغرين يتوسلون - للوصول إليه - بالملك والمال والنساء، مقابل شيء واحد هو أن يدعهم وشأنهم. بل كانوا يطلبون إليه أحيانا أن يسكت مجرد سكوت عن تضليل آبائهم وتسفيه
آرائهم، ولكنه يصر - في مقابل ذلك كله - على ما هو عليه! فماذا كانت النتيجة؟
تقربوا إليه أكثر فعرضوا عليه حلاً وسطاً أن يعبدوا إلهه وحده فترة ويعبد آلهتهم مثلها. لكنه يجيبهم بصراحة وغلظة ويرمي بها في وجوههم:قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
هذا هو المنهج. فمن وجد في نفسه القوة وعلو الهمة، فليمض على نوره وهداه، وإلا فليدع الخلق وشأنهم.
10. لا بد من المشكلة
قال لي أحد (ركاب المنابر) في مدينتنا منتقداً ومعنفاً: أنتم تعملون مشاكل، وتفقدون منابركم. لقد مر بي في مسجدي عشر سنين لم أعمل مشكلة. فأجبته: لأن أبقى في مسجد سنتين أقول فيهما (كلمتي) وأمضي، خير لي من أن أظل أدور في مكاني عشرين سنة وكلمتي في حلقومي، كلما أردت قولها غصصت بها حذر المشاكل. أما إنك لو بقيت مائة سنة ما قلت شيئاً، ولا فعلت. ما الفائدة من صعودكم المنابر، إذا كان اليوم الذي تغادرونها فيه كأنه هو اليوم نفسه الذي طرقتم فيه خشبتها أول مرة، لم يتغير من حالكم ولا حال الناس شيء؟!!
والحقيقة أن مكلمي هذا كثيراً ما حصلت له مشاكل، ومع المصلين، لا غيرهم! ولكن غالبها شخصية، وليست من أجل الدين أو (القضية).
ومن فوق منبر جامع (أم القرى) قال "الصميدعي" في خطبة جمعة في ربيع سنة (2006) متحدثاً عن المجازر التي يتعرض لها أهل السنة: "سنطالب الحكومة بوقف نزيف الدم، وإلا.. (وإلا ماذا أيها السميذع؟) وإلا سنرفع شكوى إلى المنظمات العالمية من أجل التدخل لعلاج الكارثة". وعلى طريقة (شر البلية ما يضحك) أقول: يذكرني هذا بطرفة تروى عن جحا. قيل: إنه ذهب يوماً إلى قرية بعيدة لا يعرفه أحد من أهلها، فسرق حذاؤه. فما كان منه إلا أن قال مهدداً: ائتوني به، وإلا فعلت بكم ما فعل أبي من قبل. ونظر القوم إلى عمامته وهيئته فهابوه، وحسبوه أميراً من الأمراء. فأجهدوا أنفسهم حتى وجدوا حذاءه، وجاءوه به. ولما لبسه وتحرك لينصرف قالوا له: هلا أخبرتنا عن أبيك ماذا فعل من قبل؟ وبكل بساطة أجابهم: لقد سرق حذاؤه، ولما لم يجده له أحد ذهب إلى بيته حافياً!
انظر إلى هذا. ثم انظر إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
قلت في ضوء هذه الآية وما في معناها من قبل: كل دعوة نجحت على مر التاريخ شكلت في زمانها مشكلة اجتماعية كبيرة في مجتمعها في أول مرحلة من مراحلها!
خذ الثورة العلمية الأوربية مثلاً: كم عانى العلماء من الاضطهاد والتشريد والقتل والتحريق على يد الكنيسة! لو لم يشكل أولئك العلماء الأفذاذ المناضلون مشكلة كبيرة هددت الوجود الباطل لدى (رجال الدين) هل كان يحدث هذا؟ ولو لم تمر تلك الدعوة أو الثورة بهذه المرحلة أو المشكلة أكان بالإمكان أن يكتب لها النجاح؟
تصور! لو أن كل عالم أسر بما عنده لمن يثق به فقط ، واقتصر بدعوته على مجالسه الخاصة. أما في العلن والمحافل والمنتديات فيجري تمجيد الخرافة على حساب العقل، ومجاملة الجهل على حساب العلم، ومداهنة الكنيسة تجنباً للمشاكل – هل كان قد حصل التغيير المطلوب؟! بل ستذهب دعواتهم هواءً في شبك، وصيحة في واد.
والأحناف الموحدون كانوا موجودين في المجتمع العربي. ولقد كانوا يتمنون الإصلاح ويقومون ببعض ما عليهم من بيان للتوحيد وإنكار للشرك ولكن.. بـ(هدوء) ودون إثارة، وبالقدر الذي لا يسبب (مشكلة). فهل استطاعوا إصلاح المجتمع وإحداث التغيير المطلوب؟ كلا.. هل تعلم لماذا؟ لأن الطبخة لم تنضج على نار (المشاكل) التي لا بد منها ليكون الطعام سائغ المذاق. لقد كانوا يدركون حجم ما يسببه لهم التغيير والإصلاح من مشاكل ما كان عندهم الاستعداد لمواجهتها وتحملها، فكانوا يتحاشونها لأنها كانت تمثل لديهم – كما لدينا اليوم - إشارة الخطر الحمراء التي لا بد عندها من تخفيف الضغط حتى ينزل السهم أو الإشارة دونها.
هذا ورقة بن نوفل رضي الله عنه - كما جاء في رواية البخاري - يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم حين أتاه يستعلمه حقيقة ما رآه من أمر الوحي، ويخبره قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بهذه الحقيقة الخطيرة والسنة التغييرية الاجتماعية أو العقبة التي لا بد من اقتحامها: (يا ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك فأنصرك نصرا مؤزرا) فيسأله مستغربا: (أوَمخرجيَّ هم؟!) فيجيبه: (ما جاء أحد قومه بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ وأوذي).
المشكلة أن الكثيرين لا يريدون أن يتسببوا في مشكلة، ولا يتحملوا الآثار الجانبية للعلاج. ويجعلون من أي حالة عارضة غير مرغوبة دليلاً على الفشل. وهذه عقبة ما لم نقتحمها ونتجاوزها لنذوق حلاوة عاقبتها فلن نصل إلى الهدف أبدا.
إن كثيراً من المشايخ اليوم والدعاة والمفكرين والمسؤولين يمثلون دور ورقة بن نوفل، ونحن بأمس الحاجة إلى دور محمد بن عبد الله. ولعل بعضهم لا يريد أن يكون في واجهة المواجهة، فإذا تقدم الصفوف غيره كان من ورائه ينصره ويؤازره.
افترض أن الأحناف قد كثروا في تلك المجتمعات حتى صاروا يعدون بالمئات، وظلوا عشرات السنين بل مئاتها يهمسون بدعوتهم هنا وهناك دون أن يرتقوا بها إلى مستوى (القضية)، ويبلغوا بها سطح الأحداث لتكون هي الأولى وهي (المشكلة)، هل كانوا يحققون هدفهم وأمنيتهم من التغيير المطلوب على مستوى المجتمع كله ما لم يخرج من بينهم (محمد)؟
ونحن..؟ لن نفلح ما دمنا نمجد محمداً بأقوالنا، ونصنع ما صنع ورقة بأفعالنا!
11. تغيير المجتمع مقدم على زيادة العدد
قد تؤدي المجاملة على حساب الحقائق المزعجة إلى كسب سريع لعدد من الأشخاص قلوا أم كثروا. هذا صحيح وواقع. وقد يغري هذا العدد البعض من (الدعاة) ويجعلهم يتوهمون النجاح دون أن ينتبهوا إلى أن الثمن المدفوع مقدما مقابل هذا النجاح الموهوم باهض جدا لا تعوضه كل الأرباح المتوهمة؛ لأنه هو المجتمع نفسه! فنكون قد ضيعنا الكل مقابل جزء لا قيمة له: لا من حيث الكمية ولا من حيث النوعية.
أما الكمية: فما قيمة عشرة أشخاص أو مائة أو حتى ألف في هذا المجتمع المتلاطم؟ ومن باب الطرفة غير البعيدة عن الواقع نقول: إن هذا العدد يمكن الحصول عليه بوسائل أخرى أكثر (هدوءاً)، وأبعد عن حصول المشاكل. مثل تشجيع الزواج المبكر، وتعدد الزوجات، دونما داع لهذه الجهود المضنية المزعجة.
وأما من حيث النوعية فإن أغلب هؤلاء الأفراد عادة ما يكون تغيرهم دون المستوى المطلوب. فيظلون يعانون من رواسبهم القديمة التي يعجز المنهج الترضوي عن إزالتها. فهم معرضون للاهتزاز والارتكاس بمجرد أن يسمعوا كلمة الحق والحقيقة المزعجة. أفنظل نكتم عنهم هذه الكلمة؟! فما قيمة الاجتماع على الباطل؟! ليس هذا فحسب، وإنما سيمارس هؤلاء دورهم بلا وعي في نقل أمراضهم ورواسبهم إلى المحيط السني.
إن أنصاف المتغيرين هؤلاء يشكلون خطراً على الصف الداخلي، وذلك من عدة نواح: أخطرها أن هؤلاء الأنصاف – إذا لم تتوفر لهم فرصة التغيير المطلوب – سيحسبون مستقبلا على أهل السنة، وسيكون منهم الخطيب والأستاذ والمحاضر والكاتب والمتدين العادي. ولا شك أن ما سوف يطرحونه من عقائد وسلوك وشعائر وطقوس سيكون مخلوطا وليس صافياً. وعندها - وبعد اكتسابهم الهوية بتأثير الزمن - سيستقبل الوسط السني هذا الخليط على أنه هو الدين الحق، لتبدأ مرحلة يمارس فيها هذا (الصنف - النصف) دوره - بقصد أو بغير قصد- في تنصيف أهل السنة إلى أن يتغير وجه السنة الحقيقي، ويصير غريبا حتى على أهله. وهي مرحلة متقدمة باتجاه التشيع. إن هذا (الصنف - النصف) - ما لم نقطع معه الشوط إلى نهايته طبقا إلى المنهج القرآني لنغيره التغيير المطلوب - يشكل علينا خطراً مستقبلياً لا يقل عن خطر الفرس حين دخلوا في الإسلام جملة واحدة، واكتسبوا الهوية على عجرهم وبجرهم، فقاموا بأخطر الأدوار في هدم دولة الإسلام. ناهيك عن تسلل المدسوسين فيما بيننا - إذ يوفر لهم المنهج الترضوي جميع أسباب الحماية ومظلات التستر والاختفاء - ليعملوا عملهم في تخريب الصف وكسب ما يستطيعون كسبه إلى جانبهم عن الطريق العلاقات الشخصية وإثارة الشكوك وإلقاء الشبهات في أوساط أهل السنة والتأثير عليهم بشتى الوسائل والحيل.
12. الرد بالمثل
يقول تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194). فالاعتداء يقابل باعتداء مثله. وإلا حصل التمادي؛ فكان الاعوجاج. وذلك بسبب الاعتدال والاستقامة التي لم توضع موضعها. والذين يحاكمون الأمور محاكمة ذهنية مجردة لا يعرفون متطلبات الواقع. ولا يفهمون الإسلام حق فهمه.
وهذه سطور اقتبستها من كتاب (تجديد الفكر الديني) للدكتور حسن الترابي، يتحدث فيها عن سنة من سنن التغيير الاجتماعي. يقول تحت عنوان: الاعتدال أم الإقدام:
أن يكون الاتزان بين الثبات والتطور حكمة مطلوبة، فإن مخاطبة المجتمع المسلم الحاضر بمعاني المحافظة والحذر من التغيير بقدر مساوٍ لمخاطبته بدواعي النهضة والحركة، إنما هو في مثل ظروفنا وضع للأمور في غير مواضعها، وسبب لإضرار بالغ بالمجتمع ودينه. والخطاب المناسب لمجتمع نائم خامد قرونا طويلة أن نبادره بالمنبهات ودواعي الحركة الحرة. وأن نصيح له أن تيقظ! جاهد! اجتهد! حتى إذا جاد بالحركة وتباركت نهضته لدرجة نخشى عليه فيها الجنوح والفوضى عندئذ يجوز أن ندعوه لما هو الأسلم والأحوط… وهذه الروح في تربيتنا الدينية لا بد من أن نتجاوزها الآن ولا نتواصى اليوم بالمحافظة بل لا ينبغي إطلاق الدعوة إلى الاعتدال لأننا لو اعتدلنا نكون قد ظلمنا ولو اقتصدنا نكون قد فرطنا.
أما وقع التجديد الديني من حيث اللطف أو العنف فإنه يأتي تبعاً لظروف التحول الاجتماعي. فحين تكون عهود الفترة قد تطاولت وآثار الجمود تراكمت لا يولد العهد التجديدي إلا بعسر شديد، ولا يتم إلا بمجاهدات عظيمة. ويمكن أن يسمى الأمر عندئذ بعثاً أو ثورة لعظم النقلة بين الموات القديم إلى الحياة المنبعثة وفور الحركة الطارئة على السكون القديم.
ولما كانت حدة المفارقة وشدة وقعها تستفز القديم المستقر وتزلزل قواعده الجامدة فإن التجديد يغلب أن يستصحب شيئاً من الحدة والشدة فتأتي لغته لاذعة صافعة وتأتي تدابير تنفيذه كثيفة عنيفة. وتؤدي المدافعة الجهادية إلى مجابهة بينة تنصب القديم وحلفاءه في وجه القائمين بالجديد.
والأولى بالمسلمين بالطبع أن يرفقوا في الجدال فلا يقولوا إلا التي هي أحسن، وأن يتجنبوا الفتنة والقتال إلا إذا استحكم البغي وصار الجهر بالسوء والانتصار بالقوة ضرورة يقتضيها الواجب من الدين.
إن الجمود والثورة كليهما سبب فتنة في الدين. بل يغري أيهما بالآخر. ذلك أن الجمود يؤدي إلى أن يخلد الإنسان في مقامه بينما يقتضي الدين مقاماً جديداً فتزداد الشقة والغربة بينه وبين دينه، ويزداد بانسلابه من الدين تصلباً في أوهامه وأهوائه حتى لا يترك رجاء للإنابة الرفيقة، ويصبح الإصلاح العنيف لزاما ليكسر حدة المقاومة ويستدرك كل القصور المتراكم ، وتنبعث الثورة التي تقع عندئذ بقوة اندفاع
هائل لتحقيق الإصلاح الشامل( ).
ومن شواهد ذاك في القرآن قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (البقرة:177) مع أن التوجه إلى الكعبة ركن من أركان الصلاة لا تتم إلا به، فكيف لا يكون من البر لولا أن الاعتدال والوسطية في وسط الجنوح والتطرف اعوجاج. ومن عرف ملابسات نزول الآية عرف ذلك بوضوح.
إن هذا يكشف لنا كشفاً واضحاً أن صيحات الوسطية لا تجدي مع الرافضة كثيراً. وأن علينا إعادة الحساب من جديد في كل ما قيل وطرح من أفكار أثبت الواقع فشلها.
13. تكوين جماعة تتقدم الصفوف
إن هذه القواعد الذهبية والتقريرات المنهجية التي استخلصناها من رحم المعاناة ،
وعصارة الفكر، وطول النظر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه  وسيرته وسيرة الأنبياء عليهم السلام والمصلحين، ستظل هائمة دون إحداث الأثر المطلوب، ما لم يتم تبنيها من قبل جماعة معينة ذات منهج فكري واضح وبرنامج عملي واقعي. أو تتأسس جماعة بناءاً على ذلك المنهج والبرنامج. لقد علمتنا الخبرة أن قوة الكلمة لا تنبع من ذاتها عند أكثر العالمين، ولا يشذ عن هذا المتدينون أو (الإسلاميون)، إنما تستمد قوتها من وزن قائلها، وكم وراءه من رجال وأتباع. إن صعلوكاً أحمق كمقتدى لا يزن في ميزان الله جل وعلا جناح بعوضة يذهب إليه علماء ودعاة (كبار) من أهل السنة يمتدحونه ويتزلفون إليه! ويكذبون في ذلك وهم يعلمون أنهم يكذبون! ويسمون ذلك سياسة!! هل يقترفون أمثال هذه السوءات لو كان مقتدى فرداً عادياً يقول كلمته ويمضي؟
علينا أن نفهم السنن، ونعمل ما استطعنا على الاستفادة منها. كما علينا أن نعلم أن المهزوم نفسياً لا يحترم أمثاله، ولا أتباعه، ولا يسمع لنصح ناصح إلا إذا شعر بنِدِّيَّته وعدم تبعيته له. على أن يكون التزام هذه الجماعة بأخلاقيات العمل قوياً، فلا تتعرض للعاملين الصادقين بالتشهير أو التجريح، ولا تختلق لها أعداءاً ليسوا هم في الحقيقة لها بأعداء. وإنما تسير في طريقها تزجي النصح، وتجهر بالحقيقة، وتصدع بالحق، وتستمر في تنفيذ برنامجها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. مع العمل على إزاحة المتقدمين في مسيرة الهزيمة، وإرجاعهم إلى أماكنهم اللائقة في الصفوف الخلفية.
واعلم أن كل جماعة – في العراق والدول الشبيهة - لم تقم على هذه الأسس العامة، والأسس الخاصة التي سيأتي بيانها – هي جماعة وهمية لن تصل بنا إلى المراد من حفظ بيضة أهل السنة، وقمع خطر الشيعة؛ فالبقاء فيها - دون البحث عن البديل المطلوب - مضيعة للجهد والعمر. ومقولة "التغيير من الداخل" في مثل هذه الجماعات أسطورة، لا يرتجى من ورائها نفع. ولربما هي كلمة حق أريد بها غيره. هي ليست أكثر من حقنة مخدر، يعرقل الساعين في التغيير، ويمنعهم من بناء نموذج يعتبره الآخرون منافساً لهم في الميدان. وقد جربنا – وبكل الوسائل والأساليب – فما عدنا بشيء. والله تعالى نسأل أن يوفق الجميع إلى خير ما يعلمه لهم. ولكن الأمر كما قال سبحانه: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) (النساء:123).
14. صنع النموذج القدوة
كل دعوة نجحت تمكنت من صنع نموذج لها في مكان ما. ثم تتابعت بقية المناطق تحذو حذوها، وتستنسخ تجربتها. ولا بد أن يكون هذا المكان بحيث يكون محطاً للأنظار، وتسليط الأضواء، وقريباً من ملتقى الناس، وفي مجمع الطرق. وله قدرة مناسبة على التعشق ببقية المناطق. ويمتلك جاذبية خاصة في حياتها: اقتصادية أو دينية أو سياسية أو غير ذلك؛ حتى تتهيأ للناس فرصة التأثر المستمر بما يحصل فيه من تغير جديد.
لهذا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف - واختارها من بين القرى أو المدن المجاورة في المنطقة - في محاولة منه لأن يجعل منها مركز انطلاق لدعوته الناشئة يضاهي به مكة، وينافسها على مركز القيادة. فهي القرية التي تأتي في المرتبة الثانية في سلم الأهمية في تأثيرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري، وحتى الديني بعد مكة. وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم مقترناً بمكة، إشارةً إلى مدى اهتمام الناس بها، ورفعة منزلتها لديهم في قوله تعالى: (وَقَالُواُ لَوْلا نُزِِّلَ هذَاْ الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31). ولبسط هذا المعنى موضع آخر. وللسبب نفسه اختار يثرب مكاناً بديلاً عوضاً عن بقية المناطق والأمكنة. بل لو تأملت الاختيار الإلهي لجزيرة العرب منطلقاً للرسالة الخاتمة، وقد أرادها أن تكون رسالة عالمية تصل للعالم أجمع، لتبين لك المقصود الإلهي في هذا الاختيار، بما يسلط الضوء على كلامنا في شروط وصفات التجربة النموذج، واختيار الموقع المناسب لها.
والناظر في أسباب نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، يجد ما ذكرناه أحد هذه الأسباب. فلم يكتف الشيخ - كغيره من العلماء - بأن يلقي ما عنده من علم على طلبة العلوم الشرعية، ويمضي. بل كان اهتمامه منصباً على أن يكسب إلى صفه أميراً من الأُمراء في مدينة مهمة، تصلح أن تكون نموذجاً ومنطلقاً لدعوته. وهكذا اتجه إلى أمير (العيينة). ولما تنصل عنه هذا بعد مدة، اتجه إلى أمير آخر، في مدينة أخرى مهمة، فكانت (الدرعية) هي المنطلق، وهي النموذج. ولك أن تلاحظ أن دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، لم يكتب لها هذا الانتشار والذيوع في العالم كله إلا بعد قيام هذا النموذج الماثل للعيان لها في جزيرة العرب.
وإذا كان الحديث من وحي التجربة الشخصية مفيداً أقول: إن لنا في ناحية (جبلة) تجربة دعوية ناجحة بكل المقاييس، إلا مقياس النموذج. فإن موقعها البعيد عن مراكز التأثير حال دون أن تكون نموذجاً مناسباً لانطلاق دعوة تريد أن تكون رائدة في العراق، أو المنطقة كلها. ولذلك اتجهت بنظري إلى قضاء المحمودية؛ واجهة بغداد ومدخلها الجنوبي، وتمثل ملتقى الطرق المؤدية شمالاً إلى بغداد، وجنوباً إلى عامة المنطقة الجنوبية للعراق. فهي أمام أنظار الجميع. وهناك أسباب أخرى مساعدة لا مجال لذكرها. إذن المحمودية تمتلك مواصفات المكان، وتصلح أن تكون منطلقاً للتجربة النموذج. في خطوة مهيئة للخطوة التالية، وهي العاصمة بغداد نفسها. التي كانت أنظارنا تتطلع إليها، وقد وضعناها في حساب الأيام القادمة. وقد صدقت الأيام ظننا، فقد تحققت - رغم قصر مدة العمل - أشياء كثيرة كان يمكن لها أن تؤدي إلى الهدف المطلوب. ولكن لم تأخذ التجربة مستحقها من الوقت. فقد بدأنا فيها أواخر عام 1997 وخرجنا منها أواخر عام 2002. وكانت سنوات خمساً مليئة بالمؤامرات وعوامل الإجهاض من الجميع، حتى وقعت كارثة الاحتلال. ولنا أمل في جولة أخرى في قابل الأيام. فإن لم يسعف العمر، نستودع الأمانة جيلنا القادم بإذن الله.
وقفة مع غوستاف لوبون مؤسس علم نفس الجماهير
يمكن تلخيص أهم الأفكار التي لفتت نظري في كتاب (سيكولوجية الجماهير) لغوستاف لوبون بما يلي كما جاء في المقدمة التي كتبها مترجم الكتاب هاشم صالح:
• الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية، وتخفض من مستوى الملكات العقلية. وهو يشبه ذلك بالمركب الكيمياوي الناتج من صهر عدة عناصر مختلفة. فهي تذوب وتفقد عناصرها الأولى نتيجة التفاعل ومن أجل تركيب المركب الجديد. إن المتغيرات التي تطرأ على الفرد المنخرط في الجمهور مشابهة تماماً لتلك التي يتعرض لها الإنسان أثناء التنويم المغناطيسي.
• الفرد يتحرك بشكل واعٍ ومقصود، أما الجمهور فيتحرك بشكل لا واع؛ ذلك أن الوعي فردي تحديداً، أما اللاوعي فهو جماعي.
• إن الجماهير أياً تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها بحاجة لأن تخضع إلى قيادة محرك. وهو لا يقنعها بالمحاجات العقلانية والمنطقية، وإنما يفرض نفسه عليها بواسطة القوة. كما أنه يجذبها ويسحرها بواسطة هيبته الشخصية تماماً كما يفعل الطبيب الذي ينوم المريض مغناطيسياً.
• إن الإشاعة أقوى من الحقيقة. وإن الدعاية ذات أساس لا عقلاني. يتمثل بالعقائد الإيمانية الجماعية. ولها أداة للعمل تتمثل بالتحريض من قريب أو بعيد. أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر اللاهبة فيشكلان عقبتين في وجه الانخراط والممارسة. ويمكن تجاوزها عن طريق التحريض والدعاية. ولهذا السبب ينبغي أن تستخدم الدعاية لغة الصور الموحية والمجازية، أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التي تفرض نفسها فرضاً دون مناقشة.
• إن هناك نمطين من الفكر: الأول يستخدم الفكرة المفهومية، فيعتمد على قوانين العقل والبرهان والمحاجة المنطقية. أما الثاني فيستخدم الفكرة المجازية أو الصورية، ويعتمد على قوانين الذاكرة والخيال والتحريض. وأكبر خطأ يرتكبه السياسي هو أن يحاول إقناع الجماهير بالوسائل العقلانية الموجهة إلى أذهان الأفراد المعزولين. فالجماهير لا تقتنع إلا بالصور الإيحائية، والشعارات الحماسية والأوامر المفروضة من فوق.
وإذا تجاوزنا المقدمة إلى الكتاب نفسه فإن مؤسس علم نفس الجماهير يقول:
• الروح الجماعية للجمهور
إن ذوبان الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد يشكل الخصيصة الأولى للجمهور ... والظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية: أياً تكن نوعية الأفراد الذي يشكلونه، وأياً يكن نمط حياتهم متشابهاً أو مختلفاً، وكذلك اهتمامهم ومزاجهم أو ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية. وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولاً... إنهم يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكل عن طريق تجمعها وتوحدها كائناً جديداً يتحلى بخصائص جديدة مختلفة جداً عن الخصائص التي تمتلكها كل خلية.
وعلى عكس الرأي الشائع الذي يدهشنا أن يتبناه فيلسوف في حجم وألمعية هيربيرت سبنسر فإنه لا يوجد في التجمع الذي يشكله جمهور ما حاصل ومتوسط العناصر، وإنما يوجد فقط تركيب وخلق للخاصيات. وهذا يشبه ما يحصل في مجال الكيمياء. فبعض العناصر المستخدمة في التركيب كالقواعد والحوامض مثلاً تتداخل في بعضها البعض وتتركب من أجل تشكيل مادة جديدة مزودة بخصائص مختلفة عن تلك الخصائص التي كانت تتحلى بها العناصر المفردة قبل تركيبها.
هكذا نلاحظ بسهولة إلى أي مدى يكون الفرد المنخرط في الجمهور مختلفاً عن الفرد المعزول .
• الحياة اللاواعية للروح الجماعية للجمهور
إن الظواهر اللاواعية تلعب دوراً حاسماً ليس فقط في الحياة العضوية أو الفزيولوجية،
وإنما أيضاً في طريقة اشتغال الذهن أو آلية العقل. والحياة الواعية للروح البشرية لا تشكل إلا جزأً ضعيفاً جداً بالقياس إلى حياتها اللاواعية... فأفعالنا الواعية متفرعة عن جوهر لا واعٍ مشكَّل من التأثيرات الوراثية بشكل خاص. وهذا الجوهر ينطوي على البقايا اللانهائية الموروثة عن الأسلاف، وهي التي تشكل روح عرق بشري ما. ذلك أنه وراء الأسباب الظاهرية لأعمالنا تربض أسباب سرية مجهولة من قبلنا. ومعظم أعمالنا اليومية ناتجة عن دوافع مخبوءة تتجاوزنا.
إن أفراد عرق ما يتشابهون خصوصاً بواسطة العناصر اللاواعية التي تشكل روح هذا العرق. وهم يختلفون عن بعضهم البعض بواسطة العناصر الواعية الناتجة عن التربية، ثم بشكل أخص عن الوراثة الاستثنائية. والبشر الأكثر اختلافاً وتمايزاً من حيث الذكاء لهم غرائز وانفعالات وعواطف متماثلة أحياناً. والرجال الأكثر عظمة وتفوقاً لا يتجاوزون إلا نادراً مستوى الناس العاديين في كل ما يخص مسائل العاطفة: من دين وسياسة وأخلاق وتعاطف وتباغض، إلخ... فمثلاً يمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية فإن الاختلاف معدوم غالباً، أو قل: إنه ضعيف جداً.
وهذه الصفات العامة للطبع التي يتحكم بها اللاوعي والتي يمتلكها معظم الأفراد الطبيعيين لعرق ما بنفس الدرجة تقريباً هي بالضبط تلك التي نجدها مستنفرة لدى الجماهير. فالكفاءات العقلية للبشر وبالتالي فرادتهم الذاتية تمَّحي وتذوب في الروح الجماعية. وهكذا يذوب المختلف في المؤتلف وتسيطر الصفات اللاواعية .
• ضعف جدوى المحاججات العقلانية مع الجمهور
إن الجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمـة العقلية. ولكنها مؤهلة جداً للانخراط في الممارسة والعمل. والتنظيـم يجعل قوتها ضخمة جدا . إن الجمهور هو دائماً أدنى مرتبة من الإنسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية .
إنه بمجرد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجمهور فإنه ينزل درجات عديدة في سلم
الحضارة. فهو عندما يكون فرداً معزولاً ربما يكون إنساناً مثقفاً متعقلاً ، ولكنه ما إن
ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقوداً بغريزتـه وبالتالي همجياً .
لا ينبغي علينا أن نعتقد أن مجرد البرهنة على صحة فكرة ما يعني أنها سوف تفعل مفعولها حتى لدى الناس المثقفين فعلاً. ويمكننا أن نتحقق من ذلك عندما نرى أن البرهنة الأكثر وضوحاً ليس لها تأثير على معظم البشر. صحيح أنه يمكن للحقيقة الساطعة أن تلقى أذناً صاغية لدى السامع المثقف، ولكنه سيعيدها فوراً بواسطة لا وعيه إلى تصوراته البدائية. حاولوا أن تروه بعد بضعة أيام فسوف ترونه يستخدم من جديد محاجاته القديمة وبنفس الألفاظ تماماً. وذلك لسبب بسيط هو أنه واقع تحت تأثير الأفكار السابقة التي تحولت إلى عواطف وترسخت. وهذه الأفكار هي وحدها التي تؤثر علينا وتحرك بواعثنا القديمة التي تربض خلف أعمالنا وكلامنا .
لا يمكننا القول بشكل مطلق أنه لا يمكن التأثير على الجماهير بواسطة المحاجات العقلية. ولكن الحجج التي تستخدمها وتلك التي تؤثر عليها تبدو من وجهة النظر المنطقية جداً متدنية إلى حد أنه لا يمكننا وصفها بالعقلانية إلا عن طريق القياس والتشبيه... وأما سلسلة المحاجات العقلانية الصارمة فلا يمكن أن تفهم إطلاقاً من قبل الجماهير. ولهذا السبب يمكن القول بأنها لا تفكر أو تفكر بشكل خاطئ، ولا يمكن التأثير عليها عن طريق التفكير العقلاني . لنذكّر هنا فقط بمدى عناد واستمرارية الخرافات الدينية طيلة قرون وقرون على الرغم من تناقضها مع أبسط حدود المنطق. فخلال ألفي سنة تقريباً اضطرت أعظم العبقريات للانحناء أما قوانينها .
• ضرورة تكرار الفكرة وتأكيدها
عندما نريد أن ندخل الأفكار والعقائد ببطء إلى روح الجماهير فإننا نجد أن أساليب
القادة تختلف. فهم يلجأون بشكل أساسي إلى الأساليب الثلاثة: أسلوب التأكيد، وأسلوب
التكرار، وأسلوب العدوى. لا ريب في أن تأثيرها بطيء، ولكنه دائم.
إن التأكيد المجرد والعاري من كل محاجة عقلانية أو برهانية يشكل الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في روح الجماهير. وكلما كان التأكيد قاطعاً وخالياً من كل برهان فرض نفسه بهيبة أكبر... ولكن الإعلان لا يكتسب تأثيراً فعلياً إلا بشرط تكراره باستمرار، وبنفس الكلمات والصياغات ما أمكن ذلك. كان نابليون يقول بأنه لا يوجد إلا شكل واحد جاد من أشكال البلاغة هو: التكرار. فالشيء المؤكد يتوصل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفوس إلى درجة أنه يقبل كحقيقة برهانية... فعندما نكرر الشيء مراراً وتكراراً ينتهي به الأمر إلى الانغراس في تلك الزوايا العميقة للاوعي حيث تصنع دوافعنا كل أعمالنا. فبعد أن تمر فترة من الزمن ننسى من هو مؤلف القول المكرر وينتهي بنا الأمر إلى حد الإيمان به. وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نفهم القوة الهائلة للإعلان... وعندما يتاح لتوكيد ما أن يكرر بما فيه الكفاية، وأن يكرر بالإجماع... فإنه يتشكل عندئذ ما ندعوه بتيار الرأي العام. وعندئذ تتدخل الآلية الجبارة للعدوى وتفعل فعلها. وفي الجماهير نجد أن الأفكار والعواطف والانفعالات والعقائد الإيمانية تمتلك سلطة عدوى بنفس قوة وكثافة سلطة الجراثيم. ويمكننا أن نلاحظ هذه الظاهرة لدى الحيوانات نفسها، وذلك عندما تتجمع على هيئة جمهور. فصهال حصان في إسطبل ما سرعان ما يعقبه صهال الأحصنة الأخرى في نفس الإصطبل. وأي خوف أو حركة مضطربة ما تصيب بعض الخراف سرعان ما تنتقل إلى بقية القطيع... والتقليد الذي تعزى إليه تأثيرات كثيرة في الظواهر الاجتماعية ليس في الواقع إلا مجرد أثر من آثار العدوى... إن الإنسان يشبه الحيوان فيما يخص ظاهرة التقليد. فالتقليد يشكل حاجة بالنسبة له بشرط أن يكون هذا التقليد سهلاً بالطبع.. ومن هذه الحاجة بالذات يتولد تأثير الموضة (أو الأزياء الدارجة). وسواء أكان الأمر يتعلق بالآراء أم بالأفكار أم بالتظاهرات الأدبية أم بالأزياء بكل بساطة فكم هو عدد الذين يستطيعون التخلص من تأثيره؟ فنحن نستطيع قيادة الجماهير بواسطة النماذج والموديلات وليس بواسطة المحاجات العقلانية .
• الزمن
إن الزمن بالنسبة للمشاكل الاجتماعية كما بالنسبة للمشاكل البيولوجية أحد العوامل
الأكثر تأثيراً ونشاطاً. فهو يمثل المولد الحقيقي والمدمر الكبير... وهو الذي يجعل كل العقائد تتطور وتموت فبه تمتلك قوتها وجبروتها، وبه تفقدها... إن الزمن هو الذي يطبخ آراء وعقائد الجماهير على ناره البطيئة، بمعنى أنه يهيء الأرضية التي ستنشأ عليها وتتبرعم. نستنتج من ذلك أن بعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما تبدو مستحيلة في فترة أخرى. فالزمن يراكم البقايا العديدة جداً للعقائد والأفكار، وعلى أساسها تولد أفكار عصر ما. فهذه الأفكار لا تنبت بالصدفة أو عن طريق المغامرة. وإنما نجد جذورها تضرب عميقاً في ماض طويل .
هذه بعض أهم الأفكار التي قررها لوبون في كتابه (سيكولوجية الجماهير)، وهي في عمومها توافق وتعمق ما قررناه سابقاً من قواعد في أصول وعوامل تغيير المجموع التي تختلف عنه فيما يخص الفرد.
والآن ننتقل للحديث عن الأساليب الجماعية الخاصة بتغيير الشيعة.

القسم الثاني
الأساليب والمبادئ الخاصة
بناءً على التركيبة النفسية التي يختلف بها الشيعة عن غيرهم، مع الأخذ بنظر الاعتبار تلك العقد النفسية التي أثبتناها سابقاً نقول: لا بد أن هذا الاختلاف وتلك العقد لها آثارها على الأساليب التي يراد لها أن تؤثر في جمهور الشيعة فتنقلهم خطوة أو خطوات إلى الأمام. وأنا في هذا القسم من الفصل أحاول الكشف عن هذه الأساليب الخاصة دون أن أدّعي أنني بلغت القول الفصل في كل ما أقرره من ذلك. لكنني قبل ذلك أتقدم بتمهيد مهم جداً بين يدي الموضوع. فأقول ومن الله العون والتسديد:
أ. تمهيد
الشيعة أكثر إدراكاً واستخداماً للأساليب الجماعية من أهل السنة
إن سر النجاح المطرد للشيعة على حساب تقهقر أهل السنة هو اعتماد الشيعة في نشر مذهبهم على الأساليب الجماعية في التغيير، دون أن يهملوا التعامل مع الأفراد. من هذه الأساليب المعتمدة:
• أسلوب الدعاية والإشاعة، وعلى طريقة غوبلز مدير دعاية هتلر: (اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس) الذي لا يعدو أن يكون قزماً قميئاً أمام عمالقة الكذب والدعاية الفارسية.
• أسلوب الإيحاء باستعمال مثيرات العاطفة والخيال كالصور والتمثيل وما يسمى بـ(الشعائر الحسينية) من النواح واللطم الجماعي وما يسمى بـ(التشابيه) وهي قصص المآسي الممثلة. واستعمال (الملايات) اللواتي يدرن على البيوت حيث تجتمع النساء فتقوم (الملاية) بقراءة أسطورة المقتل على مسامعهن بصوت حزين مع الدق على الصدور الذي يتطور إلى نواح ولطم وعويل.
• الاستعراض عن طريق تظاهرات المشي على الأقدام إلى المراقد في مناسبات خاصة تتكرر على مدار الأشهر خصوصاً في موسم محرم وصفر.
• قبب المراقد المبهرجة المذهبة، وما لها من تأثير نفسي كبير على عقول العامة.
• أسلوب الإعلان بدعوتهم بما فيها من أفكار شاذة وتهجم على الآخرين وتكفيرهم، مع أن أصل دعوتهم باطنية تعتمد على مبدأ (التقية)!
• أسلوب الهجوم المكشوف (ومنه السب والتشهير) أكثر من الدفاع.
• أسلوب التهجير والتطهير العرقي ومضايقة المخالفين من أهل السنة. وهذا قد حصل في إيران ولبنان والعراق وغيرها.
• أسلوب التخويف وإرهاب المخالف وتشكيل عصابات القتل والغدر والاغتيال على مر التاريخ. وبهذا أسكتوا الخصوم، وتسببوا في إصابتهم بعقدة (الرُّهاب Phobia) التي لم يسلم منها أشجع الرجال. وهي السبب في المجاملات والمداهنات السنية للشيعة. وهذا هو الذي أضاع الحق على عامة الناس، الذين لم يعودوا يدركون حقيقة الخطر ما داموا يسمعون من علمائهم عبارات التقريب الرنانة التي من أشهرها: (لا فرق بين شيعي وسني) وهي عبارة مجملة موهمة قد تسوغ في المزايدات السياسية، وليس في دائرة الدين القائمة على الوضوح والحق المبين. فسكت من سكت، وهاجر من هاجر ومن بقي ذاب إلا من رحم، خصوصاً مع التضييق عليهم في أرزاقهم وأشغالهم. ومن أبرز الأمثلة الناجحة على هذا الأسلوب في تاريخ الشيعة ما فعله الصفويون في إيران، وقتلهم الذريع لأهل السنة وإرعابهم وتشريدهم حتى تحولت إيران بفعل هذا الأسلوب من دولة سنية إلى أخرى شيعية. ولم يشغلوا أنفسهم بأي نقاش علمي، أو مناظرة كلامية أو غيرها من الأساليب العقلانية التي لا نحسن غيرها، هذا والماء – كما يقال – يجري من تحتنا.
أود التنبيه هنا على أن علماء الشيعة حين يقول أحدهم: (لا فرق بين شيعي وسني) وأمثالها من العبارات، فإن هذا ليس له تأثير في الوسط الشيعي لسببين:
1. الأول هو مبدأ (التقية) الذي به يعرف الشيعي أن مرجعه لا يعني ما يقول، وأن هذا الكلام التقريبي خرج مخرج (التقية) لا أكثر.
2. والثاني هو التعبئة النفسية لدى الشيعي، التي تقف حاجزاً بين هذه العبارات وبين حصول أثرها في نفسه.
وعلى هذا الأساس فإن النتيجة الوحيدة الحاصلة هي انخداع السني بكلام علماء الشيعة حين يسمعهم يطلقون هذه الكلمات، إضافة إلى صدورها في الوقت نفسه عن علماء السنة؛ فيثبت لديه الأمر على أنه حقيقة؛ فيزيده ذلك وهناً على وهن.
• أسلوب الهجرة والغزو السكاني الجماعي للمناطق السنية. فقضاء الزبير في البصرة لم تتغير صبغته السنية الصافية بسبب تحول أهله إلى شيعة، وإنما صار أهل الناصرية والعمارة وغيرهم يتحولون فيسكنون فيه بالجملة. وهكذا فبعد أن كان قضاء الزبير قبل أربعين سنة منطقة سنية مغلقة صار اليوم ما يقارب الأربعين بالمائة (40٪) من أهله شيعة. فهذا أسلوب تغييري جماعي ناجح غفلنا عنه وانشغلنا متفاخرين - بسذاجة نحسد عليها - بنتائج التغيير الفردي!
ونجح الشيعة في أسلوبهم هذا أيما نجاح خصوصاً في العاصمة بغداد قلب العراق وشريان العروبة النابض. فقبل خمسين عاماً لم تكن نسبة الشيعة في بغداد تتجاوز السدس (1/6) ارتفعت النسبة اليوم إلى ما يقارب الأربعين بالمائة (40٪) أو أكثر ، وذلك بعد أن قام الرئيس عبد الكريم قاسم بنقل مئات الآلاف من الشيعة من جنوب العراق وإسكانهم في بغداد في مدينة الثورة والشعلة وغيرهما. ويقال: إن لقاسم ميولاً شيعية بسبب والدته الشيعية. وأنا أرجح أحد أمرين فيما فعل: إما أنه استدرج من قبل الشيعة عن طريق أخواله. وإما أنه فعل ذلك لأسباب سياسية غير محسوبة. وأيّاً كانت الدوافع فإن هذا هو الذي حصل. كذلك فعل الشيعي صالح جبر حين تولى رئاسة الوزراء في العهد الملكي من قبل. وهكذا تغيرت بغداد لا بالدعوة وتشييع أهل السنة، وإنما بهذا الأسلوب الواقعي الذكي!
وبالأسلوب النفساني لا العقلاني تغير قضاء تلعفر في الموصل من أغلبية سنية كاسحة (أكثر من95٪ ) في منتصف القرن الماضي إلى أغلبية ضعيفة اليوم (60٪ ) وقد بدأ تشييعها في عام 1947م عندما استلم رئاسة الوزارة في العراق (رجل الدين) الشيعي (محمد الصدر) والذي تسلم من بعد (عام 1949) رئاسة مجلس الأعيان .
ذهب وفد من ( تلعفر) حينها لتهنئته بمناسبة تسلمه منصب رئاسة الوزراء، وكان الوفد برئاسة شيخ عشيرة (السادة الموسوية) محمد يونس عبد الله وهب آغا. وهي عشيرة سنية. أظهر (محمد الصدر) استغرابه من كون (السادة الموسوية) من أهل السنة. ولما رجع الوفد تأخر عنه رئيسه محمد يونس آغا لعدة أيام استطاع (محمد الصدر) فيها أن يقنعه بالعدول عن مذهب أهل السنة، والتحول إلى طائفة الإمامية الاثنى عشرية. واستعمل لذلك مؤثرات نفسية، منها وجود نزاع بين عشيرة محمد يونس وعشيرة أخرى، كان يدور حول اراض زراعية فساومه (محمد الصدر) على حسم قضية الأراضي لصالحه مع عشرة آلاف (000 10) دينار، كانت في ذلك الزمان تمثل ثروة كبيرة جداً. ليرجع بعدها إلى (تلعفر) شيعياً يمارس دور نشر التشيع في تلك المدينة. ومن يومها بدأ العد التصاعدي للشيعة فيها.
انظر إلى هذه الأساليب تجدها جميعاً ليست فكرية عقلانية، وإنما نفسانية واقعية.
نفسية معقدة وقيادة مقنَّعة فهل من سبيل؟
كلما نظرت إلى جموع المتظاهرين وهي تحمل الرايات الخضر وترفع صور المراجع الفارسية والعمائم الشعوبية التي تقطر حقداً على العرب والبلد وأهله، وتهتف لها بالعظمة والعزة والبقاء، وجلت ببصري في تلك الجموع المسكينة فرأيت اللباس العربي: العقال واليشماغ والعباءة، واستحضرت تلك التركيبة المتشابكة من العقد التي غزت نفوسها قلت في نفسي: متى يعرف هؤلاء الحقيقة؟ ويدركون أنهم مخدوعون مغرر بهم؟ وأنّى لهم ذلك وهم يسيرون معصوبي الأعين وراء من لا يريد لهم خيراً، ولا يرقب فيهم إلاً، وإنما ينفذ بهم مخططاً فارسياً لا يعلم غوره إلا الله والراسخون في العلم؟!
كيف نتعامل مع هذه النفسية المعقدة؟ وكيف نفصل هذه الجموع عن هذه القيادة المخادعة المقنعة؟ هذه هي مهمتنا إذا كنا جادين في مواجهة التشيع، وهذا هو السبيل الصحيح بمعالمه الكبرى.
هل من أمل بالشفاء ؟
في تاريخ الإسلام تجارب ناجحة، وأخرى لم تبلغ الغاية المرجوة من التغيير. لقد نجح الرسول  مع العرب فتغيروا بكاملهم من الكفر والشرك إلى الإيمان ودين الإسلام. لكن اليهود لم يتغيروا رغم كل المحاولات التي بذلت من قِبَله  ! وحين تدرس الأسباب المانعة تجدها كامنة في النفسية المعقدة التي يعاني منها اليهود. والتي لخصها القرآن الكريم بكلمة واحدة هي (الأهواء) فقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120) وقال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:145). وهي السبب في الصرف الرباني لهم عن الحق والطبع على قلوبهم فلا يهتدون كما قال سبحانه: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم:29)، وقال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146). فالهداية هدية الرب من السماء لا يمنحها إلا لمن يستحقها، وليست هي سِقْطاً ملقى على قارعة الطريق يمر به العابرون فيتكرم عليه بالأخذ بعض ويعافه الآخرون!
وقد لفت نظري آيات من القرآن في سورة (البقرة)، وقفت عندها كثيراً متفكراً متحيراً ! وهي ما جاء من قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ*أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ*وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ*فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ*وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:75-80).

يتبع







التوقيع :
دعاء : اللهم أحسن خاتمتي
وأصرف عني ميتة السوء
ولا تقبض روحي إلا وأنت راض عنها .
#

#
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله :
العِلمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسولُهُ *قَالَ الصَّحَابَةُ هُم أولُو العِرفَانِ* مَا العِلمُ نَصبكَ لِلخِلاَفِ سَفَاهَةً * بينَ الرَّسُولِ وَبَينَ رَأي فُلاَنِ

جامع ملفات ملف الردود على الشبهات

http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=83964
من مواضيعي في المنتدى
»» اردوغان يطلب من الاتراك «لدعم الأمة» انجاب «ثلاثة اطفال على الاقل»
»» جواب عن المنافقين قتلوا و لم يبقى الا 12 منافقا
»» تجربة
»» لعن الله من اوى محدثا خــــاص بالمدينة المنورة
»» إلى الشعوب الإيرانية الصديقة: تحية وتحذير / الدكتور سعد بن طفلة
 
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:35 AM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "