الأساس في فهم أثر ابن عباس
"رضي الله عنه"
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
كفر دون كفر
ليس بالكفر الذي تذهبون إليه
إن الأمة الإسلامية اليوم تمر بأسوأ أحوالها على الإطلاق حيث التمزق والتشرذم وإتباع الهوى وحب الدنيا وسيطرة الشهوات وانتشار الشبهات وارتفاع صوت المنافقين هذا من جهة، وتكالب الأعداء من صليبيين ويهود (أمريكا - إسرائيل - أوربا - الفرس) من جهة أخرى، و استبداد حكامها وتنحيتهم لشريعة الإسلام من واقع الحياة من جهة ثالثة. هذا مع الأسف هو حال الأمة الإسلامية اليوم.
الأمة التي كلفها ربها سبحانه تعالى بأن تحمل نور التوحيد للناس أجمعين: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس)، الأمة التي اكتسبت الخيرية عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (كُنْتُم خَيْرَ أُمُّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ)، الأمة التي خرجت ولأول مرة من جزيرة العرب فحكمت الأرض بلا إله إلا الله فنشرت العدل والمساواة بين الناس وحققت الأمن حتى سار الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، وقهرت الجوع والفقر حتى بُذل المال و لم يأخذه أحد, نعم أمة سادت بدينها وعقيدتها ثم بادت بعد أن تركت هدي ربها وابتغت الهدى في اتباع الغرب النصراني العلماني خصوصا بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية واحتلال البلاد العربية والإسلامية وتغيير التشريعات الإسلامية بالتشريعات الوضعية وإفساد وسائل التلقي والتعليم وتسخير الإعلام لإفساد الأمة وإبعادها عن دينها وطمس هويتها حتى أصبح حالها كما أسلفنا.
تشرذم، تمزق، فرق، جماعات متناحرة، ضعف، غياب بل تغييب لحكم الله تعالى بين الناس في معظم شئون الحياة مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يرفع من دينكم الحكم وآخر ما يُرفع من دينكم الصلاة) أو كما قال. والحكم بغير ما أنزل الله من أكبر المصائب التي أصابت الأمة الإسلامية في آخر عهدها فقام الصادقون من أبناء الأمة بواجبهم في بيان الحكم الشرعي تجاه القوانين الوضعية والحكم بها بين المسلمين وجعلها بديلا للشريعة الإسلامية والأمر واضح وبين لمن فتح الله بصيرته وما ينبغي للمسلمين أن يختلفوا في هذه المسألة البينة فالقوانين الوضعية كفر أكبر مخرج عن الملة والحكم بها والتحاكم إليها كفر أكبر ينقل عن الملة والدليل على ذلك: ﴿وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم...)، وكذلك الإجماع الذي ذكره بن كثير في البداية والنهاية في كفر التتار لحكمهم بالياسق, ونحن هنا لا نتحدث عن تكفير المعين (أي زيد أو عمر من الناس) لكن نتحدث بالعموم وفي أصل المسألة، أما تكفير المعين فلا يكون إلا بعد إثبات شروط وانتفاء موانع بعد بيان الحجة.
اقتضت حكمة الله أن يكون للحق أنصار وأتباع وللباطل أنصار وأتباع ليتم الابتلاء ويستمر الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة فوقف أنصار القوانين الوضعية (هيئة الدفاع عن حكام الردة)وقفوا مستميتين في وجه الحق يحشدون الشبهات ليخفوا الوجه الحقيقي للحكم بغير ما أنزل الله (الكفر والظلم والفسق) وليصنعوا علاقة مودة بين المسلمين وحكام الردة والخيانة، وليلزموا المسلمين بطاعة المرتدين حتى بلغ الأمر بهم أن يُبَدِّعُوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين وقفوا في وجه الظلم مثل الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين! ولهم شبهات كثيرة في دفاعهم عن حكام الردة والخيانة أهمها الأثر الذي ذكره ابن جرير وابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه كفر دون كفر). هذا الأثر أنزلوه منزلة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وضللوا كل من خالفهم في الرأي وكالوا له السباب والشتم واتهموه بوسواسهم الجديد (السرورية) في محاولة مكشوفة لصد الناس عن التحاكم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الشبهة رغم ضعفها إلا أنهم استطاعوا أن يلبسوا بها على كثير من عباد الله خصوصا المبتدئين بالاستقامة على دين الله ولما كان الأمر كذلك وجب علينا أن نبين ونرد على هذه الشبهة بالشرع وبالواقع ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. وهذه السطور هي ردٌ علمي وشرعي وواقعي يرفع الالتباس عن أثر ابن عباس والله نسأل التوفيق والسداد.
تمهيد
قبل أن نناقش هذا الأثر في صحته أو ضعفه أو حجيته نريد أن نتساءل متى قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هذا الكلام: (كفر دون كفر) أو (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه)؟ وماذا عنى به إن صح عنه هذا الأثر؟وهل قول الصحابي حجة ملزمة للأمة واجب الإتباع؟وهل قول الصحابي يخصص عموم القرآن؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة ستكون رداً شافياً يعري هذه الشبهة ويفضح منهج القوم بإذن الله.
ولد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنوات أي قبل الهجرة بثلاثة أعوام. انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى رفيقه الأعلى وكان ابن عباس يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، واستقل بحياته في العلوم الشرعية والفقه والفتوى في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتوفي ابن عباس في خلافة عبد الملك بن مروان سنة 68 من الهجرة النبوية وكان عمره ما بين السبعين والواحد وسبعين عاما. مما سبق يتبين لك أن هذا الأثر قيل في الفترة التي بدأت من خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحتى خلافة عبد الملك بن مروان وهذه هي الفترة التي عاش فيها ابن عباس.
لعل السؤال الذي يتبادر للذهن هو: ما علاقة هذا السرد التاريخي بالأثر (كفر دون كفر)؟ فإن قيل أن ابن عباس رضي الله عنهما قصد بقوله: (كفر دون كفر، ليس بالكفر الذي تذهبون إليه) قصد به الحكام الحاكمين بالقوانين الوضعية وأن الحكم بغير الشرع ليس بكفر أكبر على حد زعم المدافعين عن حكام الردة والخيانة فيلزم من هذا القول أن يكون أحد الحكام الذين عاصرهم ابن عباس رضي الله عنهما حَكَم بغير ما أنزل الله (بغير الشرع) فهو كافر كفر أصغر. بناء على القول السابق فمن المتهم بهذه التهمة هل هو الصديق أم الفاروق أم عبد الملك بن مروان؟ أم من تتهمون بالكفر الأصغر من الخلفاء الذين بايعهم ابن عباس رضي الله عنهما؟ هذا زعم معلوم الفساد و لا يتجرأ أحد أن يطعن في هؤلاء الخلفاء. هذا إن صح الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهنا يبرز سؤال تاريخي مهم، وهو متى عَرفت القوانين الوضعية سبيلها إلى بلاد المسلمين؟ من المعلوم أن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لم يعرفوا تشريعا غير الإسلام والأمة الإسلامية ما عرفت القوانين الوضعية في تاريخها إلا مرتين؛ الأولى في عهد التتار الذين حكموا بالياسق وهو مجموعة قوانين من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية وبعضها من الإسلام ومن أهواء الرجال وهنا أجمعت الأمة على كفر التتار لحكمهم بغير ما أنزل الله ولم يحتج أحد على تكفيرهم بأثر ابن عباس بل أوجب علماء الأمة قتال التتار في القرن السابع الهجري، هذه المرة الأولى. أما الثانية فمنذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا. وهي الفترة التي شهدت تنحية شاملة للشرع واستبدال كامل للقوانين الإسلامية بالقوانين الوضعية وهي الفترة التي ظهر فيها المدافعون عن حكام الردة والخيانة محتجين بأثر ابن عباس رضي الله عنه دون النظر للواقع الذي قيل فيه إن صح الأثر عن ابن عباس.
حيثيات الأثر
لماذا قال ابن عباس هذا الكلام وفيمن قاله؟ وهذا إشكال يجب توضيحه، فالأثر إن صح عن ابن عباس فقد رد به على الخوارج الذين كَفَّرُوا المسلمين بالمعاصي والكبائر التي لا يكفر من وقع فيها إلا أن يجحد واجباً من الواجبات أو يستحل محرماً من المحرمات، واحتجوا أي الخوارج على تكفير مرتكب الكبائر بآية سورة المائدة: (وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) زعماً منهم أن كل من عصى الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر والدليل الآية المذكورة، وهذا ما نقله عن الخوارج ابن حيان الأندلسي في كتاب البحر المحيط، حيث قال: «احتجت الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة بآية المائدة...» أو كما قال الأندلسي. وهنا رد عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما على الخوارج بقوله ليس بالكفر الذي تذهبون إليه أي المعاصي ليست كفرا كما تذهبون إلى ذلك وصياغة الكلام تدل على الحوار بين ابن عباس والخوارج وثبت أنه رضي الله عنه ناظر مجموعات من الخوارج وأرجع الله الكثيرين منهم إلى الحق على يديه.
وعقيدة أهل السنة أن مرتكب الكبيرة لا يكفر إلا بجحود أو استحلال وهذا ابن أبي العز الحنفي في الطحاوية: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) والمقصود الذنوب غير المكفرة إذ يكفر من سب الله أو رسوله دون استحلال ويكفر من ترك الصلاة دون جحود. هذا إن صح الأثر عن ابن عباس فمحمول على هذا المحمل ولا يُفهم منه الحصانة للطواغيت الذين بدلوا شريعة الله بالقوانين الأوروبية الوضعية. هناك ملاحظة مهمة وهي أن تلاميذ عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أمثال سعيد بن جبير وعطاء بن رباح كفروا الحجاج بن يوسف فلو فهموا من كلام ابن عباس(أي الأثر) أنه حُكمٌ عام يمنع وقوع الكفر على الحكام ولو بدلوا الملة ونحوا الشريعة عن واقع المسلمين، لو فهموا ذلك من ابن عباس كما فهم المدافعون عن حكام الردة والخيانة لما كفروا الحجاج بن يوسف، ولو قارنت الحجاج مع حكام بلاد العرب والمسلمين اليوم لوجدت الحجاج أفضل منهم جميعا. على الأقل الحجاج لم يبدل الشريعة الإسلامية ولم يستورد القوانين الوضعية من الشرق أو الغرب وغاية ما وقع فيه الحجاج – على عظمه - أنه قتل الصحابة وسفك دماء المسلمين وهذا مهما عَظُم لا يبلغ حد الحكم بغير ما أنزل الله وتبديل الشرع الإسلامي.
إذا أردت أن تقارن حكام اليوم مع غيرهم فلا شبيه لهم سوى التتار. فالتتار يشهدون أن لا إله إلا الله وهؤلاء يشهدون أن لا إله إلا الله، والتتار يحكمون بغير ما أنزل الله (الياسق: قانون وضعي) وهؤلاء يحكمون بغير ما أنزل الله (القوانين الوضعية: الفرنسية، الهندية، الرومانية، ...إلخ)، التتار كفار بالإجماع وقاتلهم المسلمون وهؤلاء كفار بالإجماع دافع عنهم المدافعون بل إنهم (أي حكام بلاد العرب والمسلمين) أشد شرا من التتار لأن التتار كانوا يحكمون المسلمين بالشريعة الإسلامية وفيما بينهم يحتكمون للياسق، ذكره ابن تيمية رحمه الله في المجلد الثامن والعشرين أما حكام اليوم فيحكمون المسلمين بغير الشريعة الإسلامية، فالأمر واضح وجلي.
التأصيل
لنفرض جدلا أن ابن عباس رضي الله عنه قصد الحكام المبدلين للشرع وأنهم لا يكفرون كفراً أكبر إلا إذا جحدوا أو استحلوا، فهل قوله حجة ملزمة للأمة في عقيدتها؟ وهل قوله يخصص قول الله تعالى أو قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم يقل أحد من المسلمين بهذا القول من قبل لأنه مخالف للإجماع والأصول، اللهم إلا مرجئة العصر الحديث (هيئة الدفاع عن حكام الردة والخيانة) وهو قول مردود ولا يسنده دليل.
قال الآمدي: «مذهب الصحابي إذا كان على خلاف ظاهر العموم فلا يكون مخصصاً للعموم»؛ الأحكام للآمدي.
وقال الشوكاني: «اجتهاد الصحابي لا يخصص ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين»؛ السيل الجرار.
وقال الشنقيطي: «واعلم أن التحقيق لا تخصص النصوص باجتهاد أحد إذ أنها حجة على من خالفها» مذكرة أصول الفقه للشنقيطي.
متى يكون قول الصحابي حجة؟
إذا توفرت فيه جميع الشروط التالية:
1) إذا كان له حكم الرفع؛
2) إذا لم يخالف ظاهر القرآن؛
3) إذا سلم من المعاريض (أي لم يخالفه أحد من الصحابة).
وهذا الأثر عن ابن عباس ليس بمرفوع بالاتفاق، ولم يكن جاء بصيغة الرفع المعلومة كأن يقول: (أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السنة كذا أو كنا نقول كذا...) كما في حديث عبد الله البجلي: (كنا نعد التجمع بعد الدفن من النياحة)؛ مذكرة أصول الفقه للشنقيطي. إذاً من هذه الناحية لا حجة في هذا الأثر.
أما كونه خالف ظاهر القرآن، الأمر فيه لا يحتاج إلى بيان فالآية تكفر من ترك الحكم بالشرع والأثر يقيد ذلك ويصرفها عن ظاهرها ويشترط الجحود أو الاستحلال لكفر من بدل الشرع هذا لو صح الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومن ناحية أخرى، القول المنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما ما لم يسلم من المعارضة والمخالفة فقد خالفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: (إن الرشوة تبلغ بالحاكم الكفر)، وخالفه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما جاء في الطبري وابن كثير: (وعن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة قال: من السحت فقالا: وفي الحكم؟ قال ذلك الكفر وتلا قول الله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ). كما خالف هذا الأثر الكثير من التابعين رحمة الله عليهم إذاً الأثر لا حجة فيه ولا به إن صح كيف وهو ضعيف كما سنبين ذلك إنشاء الله. والروايات الصحيحة لهذا الأثر هي عن طاووس أنه قال: (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه) وكذلك عن عطاء بن رباح أنه قال في هذه الآية (44) المائدة: (كفر دون كفر) وهي رواية ابن جرير ونقل عنه ابن كثير رحمه الله، وهذه أقوال التابعين ومن المعلوم أن قول التابعي ليس بحجة بالاتفاق.
ضعف الأثر
ونقل عنه روايتان:
الأولى: (وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله)، وعلى التحقيق فهذا القول ليس لابن عباس رضي الله عنهما وإنما ابن طاووس أدرجه في رواية سفيان عن معمر عن ابن عباس. وبيان ذلك أن الطبري روى عن طريق سفيان بن عيينة عن معمر بن راشد عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: ﴿وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ قال: (إنه بها كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله)، وروى الطبري من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قول الله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ قال: (هو به كفر). وقال ابن طاووس ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وظهر في الرواية الثانية رواية عبد الرزاق أن كلمة ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله ليست من كلام ابن عباس بل الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنه به كفر، هكذا على إطلاقه دون تقييد، فلا يصح أن ينسب هذا الكلام إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
الثانية: أما القول الآخر المنسوب إلى ابن عباس وهو: (ليس الكفر الذي تذهبون إليه)، هذا الأثر أورده ابن كثير رحمه الله نقلاً عن أبي حاتم والحاكم وكلاهما عن سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، كفر لا ينقل عن الملة، كفر دون كفر، رواه الحاكم وهذا اللفظ في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وهذا الأثر وإن صححه الحاكم فهو ضعيف من جهة الرواية والعلة فيه هشام بن حجير المكي فقد اتفق جهابذة أهل الحديث على تضعيفه وبالتالي فهذا الأثر ضعيف، وهشام بن حجير يصح حديثه للمتابعة إذا توبع على روايته، أما إذا انفرد كما هو الحال في هذا الأثر فلا يصلح للاحتجاج ومن هذا روى له البخاري ومسلم في المتابعات لا ما انفرد به، ولعل رواية الشيخين له هو ما جعل الحاكم رحمه الله يتكلم بصحة هذا الأثر ظنا منه أن هشام قد تجاوز القنطرة، وهذه الجملة نبه عليها الزيلعي في «نصب الراية».
غلط الحاكم*
إن بعض الرواة يكون قويا إذا روى عن شيخ معين معروف بملازمته له ولا يكون قويا في غيره من الشيوخ فيخرج البخاري ومسلم لهذا الراوي من الوجه القوي فقط فظن الحاكم أن هذا توثيقٌ مطلق من الشيخين له فأخذ يعتمد جميع أحاديثه ويحملها على الصحة. وهنا روى الشيخان لهشام بن حجير متابعة فاعتبر الحاكم أن هذا توثيقٌ له وهشام بن حجير ضعفه الأئمة الثقاة ولم يتابع هذه الرواية عليه أحد، قال الإمام أحمد بن حنبل: إن هشام ليس بالقوي وقال: مكي ضعيف الحديث، وهذا طعن من جهة الرواية. وضعفه يحيى بن سعيد القطان وصوب على حديثه، وضعفه علي بن المديني وذكره العقيلي في الضعفاء وكذلك ابن عدي. وهشام صالح في دينه لذا قال ابن شبرمة: ليس بمكة مثله وقال ابن معين صالح، فهذا في الدين أو العبادة بدليل أن ابن معين نفسه قال فيه: ضعيف جدا، وقال الحافظ بن حجر: صدوق له أوهام. قلت: ولعل هذا من أوهامه لأن مثل هذا القول مروي ثابت عن ابن طاووس فلعله وهم فنسبه إلى ابن عباس وقال علي بن المديني زعم سفيان بن عيينة أنه قال لم نأخذ منه إلا ما لم نجده عند غيره فصح أن هذا الأثر مما تفرد به هشام لأنه من رواية ابن عيينة عنه.
وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه وهذه أيضا من صيغ التعريض والتضعيف لأن هذا يعني أن حديثه لا يقبل استقلالا وإنما يأخذ به في المتابعات فقط، ولذلك لم يرو له البخاري ومسلم إلا متابعة أو مقرونا مع غيره لذا كانت أحاديثه من الأحاديث المنتقدة على الصحيحين.
أما البخاري فلم يرو له إلا حديثاً واحداً، هو حديث سليمان بن داود عليه السلام: (لأطوفن الليلة على تسعين امرأة). الحديث أورده البخاري في باب كفارة الأيمان، فهذا الحديث من طريق هشام وتابعه في كتاب النجاح برواية عبد الله بن طاووس ومن المعلوم أن الحافظ ابن حجر من عاداته في «مقدمة فتح الباري» أن يذب عمن تكلم فيه بغير حق ويدافع عنه بكل ما أوتي من علم، أما من ظهر له ضعفهم وأن البخاري لم يعتمد عليهم وحدهم إنما أوردهم في المتابعات أو مقرونين، فمثلا هؤلاء لا يكلف نفسه عناء الرد عليهم بل يذكر المتابعات الواردة لهم في الصحيح وكفى. كذلك فعل مع هشام بن حجير (راجع المقدمة). أما مسلم فكذلك ليس له عنده إلا حديثين ولم يرو له مقروناً وراجع في هذا ما قاله الشيخ الهروي في كتابه: «خلاصة القول المفهم على تراجم رجال الإمام مسلم»، والخلاصة أنه عرف مما سبق أنه لا حجة لمن حاول تقوية هشام بالاحتجاج برواية البخاري ومسلم له لأنهما لم يرويا له استقلالا ولكن متابعة، وهذا من الأدلة على تضعيفه إذا انفرد.
ومن أجل هذا كله لم يوثق هشام بن حجير إلا المتساهلون كابن حبان فإنه مشهور بالتساهل في التوثيق ومثله العجلي قال المعلمي اليماني توثيق العجلي وجدته في الاستقراء كتوثيق ابن حبان تماما أو أوسع . (الأنوار الكاشفة )قال وكذا توثيق ابن سعد إن اغلب مادته من الواقدي المتروك كما ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح عند ترجمة عبد الرحمن بن شريح فإذا كان هذا حال من وثقوه فإن روايته لا تقوم بها حجة بتوثيقهم هذا فكيف وقد عارضهم وقال بتضعيفه الأئمة الجبال الرواسي كأحمد بن حنبل وابن معين ويحي بن سعيد القطان وعلي بن المديني رحمهم الله وغيرهم من الأئمة.
وخلاصة القول أن هشام بن حجير ضعيف لا تقوم به حجة استقلالا وحده. نعم هو يصح في المتابعات كما عرفت وليس على رواية ابن عباس رضي الله عنها هذه متابعة فصح ضعفها وعدم جواز الجزم بنسبتها لابن عباس.
[* نقلاً عن كتاب الجامع لطلب العلم الشريف للعلامة عبد القادر بن عبد العزيز].
بل قد ثبت بإسناد صحيح عن ابن عباس في تفسيره لهذه الآية غير ذلك فقد روى ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره ثنا هناد ثنا وكيع حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن سفيان عن معمر بن راشد عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: (وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) قال: هو به كفر. وعبارة (وليس كمن كفر بالله) ليست من قول ابن عباس وهو مدرج من قول ابن طاووس والدليل على ذلك ما رواه الطبري قال ثنا الحسين بن يحيى قال أخبرنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن طاووس عن أبيه سُئل ابن عباس عن قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) قال: هو به كفر. قال ابن طاووس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
ومما سبق يتبين لك أن الأثر ليس بحجة وحجته ميتة وليس من دين الله في شي وأنه ضعيف وأنه معارض لأقوال الجهابذة من أصحاب رسول اللهوأنه مخالف نص القرآن وبعد هذا لا يقول قائل في مسألة أنظمة الحكم في هذا الزمان بأنها ليست كفرية اعتماداً على هذا الأثر الذي وضح بطلان الاستدلال به. واعلم أخي طالب الحق أن كفر أنظمة حُكم هذا الزمان لا يستند على ترك الحكم بالشرع والذي يعني في أذهان الكثير من الناس عدم تطبيق الحدود المتعلقة بالجنايات فحسب بل يكفرون بوجوه عديدة بما فيها الحكم بغير ما أنزل الله والذي دليله الآية (44) من سورة المائدة.
.......................................