نصيحة للأمة في جواب عشرة أسئلة مهمة
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وأصحابه , ومن اتبع هداه , أما بعد:
فهذه أسئلة مهمة وأجوبتها رأيت تقديمها لإخواني المسلمين للاستفادة منها , وأسأل الله أن ينفع بها عباده , وأن يتقبل منا جهدنا , وأن يضاعف لنا الأجر , وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويصلح أحوال المسلمين , وأن يولي عليهم خيارهم , وأن يصلح قادتهم , إنه ولي ذلك والقادر عليه .
س1 : سماحة الشيخ : هناك من يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي والكبائر موجب للخروج عليهم ومحاولة التغيير ، وإن ترتب عليه ضرر للمسلمين في البلد , والأحداث التي يعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة , فما رأي سماحتكم؟ .
ج1 :
بسم الله الرحمن الرحيم :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد :
فقد قال الله عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)(1)
فهذه الآية نص في وجوب طاعة أولي الأمر , وهم : الأمراء والعلماء , وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن هذه الطاعة لازمة , وهي فريضة في المعروف .
والنصوص من السنة تبين المعنى وتقيد إطلاق الآية بأن المراد : طاعتهم في المعروف , ويجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف ، لا في المعاصي , فإذا أمروا بالمعصية فلا يطاعون في المعصية , لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابها; لقوله صلى الله عليه وسلم :" ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة"(2) ،
ولقوله صلى الله عليه وسلم : "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية "(3)،
وقال صلى الله عليه وسلم : " على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"(4) .
وسأله الصحابة رضي الله عنهم - لما ذكر أنه يكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون - قالوا : فما تأمرنا؟ قال "أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم "(5)
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وقال : "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"(6) .
فهذا يدل على أنه لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور , ولا الخروج عليهم ، إلا أن يروا كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان; وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فسادا كبيرا وشرا عظيما , فيختل به الأمن , وتضيع الحقوق , ولا يتيسر ردع الظالم , ولا نصر المظلوم , وتختل السبل ولا تأمن , فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كثير ,
إلا إذا رأى المسلمون كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان , فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة , أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا , أو كان الخروج يسبب شرا أكثر فليس لهم الخروج; رعاية للمصالح العامة .
والقاعدة الشرعية المجمع عليها :
( أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه , بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه ) .
أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين , فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفرا بواحا عندها قدرة تزيله بها , وتضع إماما صالحا طيبا من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين , وشر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس , أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير , واختلال الأمن , وظلم الناس , واغتيال من لا يستحق الاغتيال ... إلى غير هذا من الفساد العظيم , فهذا لا يجوز , بل يجب الصبر , والسمع والطاعة في المعروف ,
ومناصحة ولاة الأمور , والدعوة لهم بالخير , والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير .
هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك; لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة , ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير , ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر .
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية .
س2 : سماحة الوالد : نعلم أن هذا الكلام أصل من أصول أهل السنة والجماعة , ولكن هناك - للأسف - من أبناء أهل السنة والجماعة من يرى هذا فكرا انهزاميا , وفيه شيء من التخاذل , وقد قيل هذا الكلام; لذلك يدعون الشباب إلى تبني العنف في التغيير ؟.
ج2 : هذا غلط من قائله , وقلة فهم; لأنهم ما فهموا السنة ولا عرفوها كما ينبغي , وإنما تحملهم الحماسة والغيرة لإزالة المنكر على أن يقعوا فيما يخالف الشرع كما وقعت الخوارج والمعتزلة , حملهم حب نصر الحق أو الغيرة للحق , حملهم ذلك على أن وقعوا في الباطل حتى كفروا المسلمين بالمعاصي كما فعلت الخوارج , أو خلدوهم في النار بالمعاصي كما تفعل المعتزلة .
فالخوارج كفروا بالمعاصي , وخلدوا العصاة في النار , والمعتزلة وافقوهم في العاقبة , وأنهم في النار مخلدون فيها ، ولكن قالوا : إنهم في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين , وكله ضلال .
والذي عليه أهل السنة - وهو الحق - أن العاصي لا يكفر بمعصيته ما لم يستحلها , فإذا زنا لا يكفر , وإذا سرق لا يكفر , وإذا شرب الخمر لا يكفر , ولكن يكون عاصيا ضعيف الإيمان فاسقا تقام عليه الحدود , ولا يكفر بذلك إلا إذا استحل المعصية وقال : إنها حلال , وما قاله الخوارج في هذا باطل , وتكفيرهم للناس باطل; ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : "إنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه , يقاتلون أهل الإسلام , ويدعون أهل الأوثان"(7) .
هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم , فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة , بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية , فيقفوا مع النصوص كما جاءت , وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه , بل عليهم المناصحة بالمكاتبة والمشافهة , بالطرق الطيبة الحكيمة , وبالجدال بالتي هي أحسن , حتى ينجحوا , وحتى يقل الشر أو يزول ويكثر الخير .
هكذا جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , والله عز وجل يقول ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(8)
فالواجب على الغيورين لله وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا حدود الشرع , وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور , بالكلام الطيب , والحكمة , والأسلوب الحسن , حتى يكثر الخير ويقل الشر , وحتى يكثر الدعاة إلى الله , وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن , لا بالعنف والشدة , ويناصحوا من ولاهم الله الأمر بشتى الطرق الطيبة السليمة , مع الدعاء لهم بظهر الغيب : أن الله يهديهم , ويوفقهم , ويعينهم على الخير , وأن الله يعينهم على ترك المعاصي التي يفعلونها وعلى إقامة الحق .
هكذا يدعو المؤمن الله ويضرع إليه : أن يهدي الله ولاة الأمور , وأن يعينهم على ترك الباطل , وعلى إقامة الحق بالأسلوب الحسن وبالتي هي أحسن , وهكذا مع إخوانه الغيورين ينصحهم ويعظهم ويذكرهم حتى ينشطوا في الدعوة بالتي هي أحسن , لا بالعنف والشدة , وبهذا يكثر الخير , ويقل الشر , ويهدي الله ولاة الأمور للخير والاستقامة عليه , وتكون العاقبة حميدة للجميع .
مجموع فتاوى ومقالات العلامة الإمام عبد العزيز بن باز - الجزء الثامن
(الجزء رقم : 8، الصفحة رقم:202 ـ 211)
----------------------------
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
1) سورة النساء الآية 59
2) صحيح مسلم الإمارة (1855),مسند أحمد بن حنبل (6/24),سنن الدارمي الرقاق (2797)
3) صحيح مسلم الإمارة (1848),سنن النسائي تحريم الدم (4114),سنن ابن ماجه الفتن (3948),مسند أحمد بن حنبل (2/296).
4) صحيح البخاري الأحكام (6725),صحيح مسلم الإمارة (1839),سنن الترمذي الجهاد (1707),سنن أبو داود الجهاد (2626),سنن ابن ماجه الجهاد (2864),مسند أحمد بن حنبل (2/142).
5) صحيح البخاري الفتن (6644),صحيح مسلم الإمارة (1843),سنن الترمذي الفتن (2190),مسند أحمد بن حنبل (1/387).
6) صحيح البخاري الفتن (6647),صحيح مسلم الحدود (1709),سنن النسائي البيعة (4162),سنن ابن ماجه الجهاد (2866),مسند أحمد بن حنبل (5/325),موطأ مالك الجهاد (977),سنن الدارمي السير (2453).
7) سنن النسائي الزكاة (2578).
8) سورة آل عمران الآية 159