من المسائل المتعلقة بالقطعيات مسألة قبول أخبار الآحاد في القطعيات، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على أقوال أبرزها ما يأتي:
القول الأول
((خبر الآحاد في القطعيات يجب قبوله))
قال ابن عبد البر:
((أكثر أهل الفقه والأثر، وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة))
وقال ابن حزم:
((وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرئ واحد أو محدث واحد أو مفت واحد، فنقول لمن خالفنا: ماذا تقولون؟ أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرئ أن يؤمن بما أقراه، وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى، ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك ولا يصدق بأنه كلام الله عزوجل؟ فإن قالوا: يلزمه الإقرار بأنه كلام الله تعالى، قلنا: صدقتم... ون قالوا: عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف أتوا بعظيمة في الدين))
وفي المسودة:
((تثبت مسائل الأصول بخبر الواحد... وبه قال أكثر الفقهاء والمتكلمين))
وقال ابن النجار:
((ويعمل بآحاد الأحاديث في أصول الديانات))
واستدلو على ذلك بعدة أدلة أهمها ما يأتي:
الدليل الأول:
عموم الأدلة المفيدة وجوب قبول أخبار الآحاد، قال تعالى:
((فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيِتَفَقَّهُوا فِي الدّيِنِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحذَرُونَ))، فأوجب الحذر بقبول الواحد.
وقال تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))
وجه الدلالة:
أنه أوجب قبول خبر الآحاد، وهذا يشمل القطعيات مثل شموله للظنيات.
الدليل الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل إلى ملوك زمانه كتبا يدعوهم فيها إلى أمور قطعية ومن ذلك دعوتهم إلى الإسلام، وحصل بهذه الكتب إبلاغ الرسالة التي كلفه الله بها، والكتاب إنما تولاه شخص واحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خبر الواحد لا يقبل في القطعيات للزمه أن يبعث إلى كل ملك جماعة يبلغون حد التواتر ليحصل العلم بخبرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا، ولو فعل لم يبق معه أحد في المدينة، ولما لم يفعل ذلك استفدنا اكتفاءه بخبر الواحد في تبليغ القطعيات، مع وجوب التزام خبر الواحد فيخا وصحة الاحتجاج به فيها.
الدليل الثالث:
الاخبار المتواتر المفيدة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة لتبليغ جميع أحكام الدين قطعيها وظنيها إلى أطراف البلاد، بل كان يأمرهم بالبداءة بأصل الأصول وهو التوحيد كما في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن قال له:
((إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)) فقدم الدعوة إلى التوحيد ثم أركان الاسلام العظام، ولم ينقل أن أحداً من أولئك الرسل اقتصر على تبليغ الظنيات فقط.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1-أن غاية هذه الأخبار كونها آحاداً ولا يستدل بالشيء على نفسه.
وأجيب:
بأن بعض هذه الأخبار روي من طرق عدة تبلغ حد الشهرة والاستفاضة، وهذه الأحبار وإن كانت بأفرادها إلا أنها لكثرتها وتعددها أصبحت متواترة في المعنى المشترك.
2-أن إرسال الآحاد إنما هو للإخبار بالدلائل العقلية والتنبيه عليها فيتبعوا الدلائل العقلية بتنبيه الآحاد، لا لأن أخبار الآحاد حجة في القطعيات.
وردت هذه المناقشة من وجوه:
-أن ما يعرفونه بعقولهم لا يكفي في قيام الحجة عليهم وإلا لقائل قائل:
<<لا حاجة لبعث الرسل، لأن الدلائل العقلية تكفي في إقامة الحجة وهذا باطل بالاتفاق>>
-أنه ورد التصريح بتقديم الدعوة إلى التوحيد كما سبق بيانه.
-ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه بدأ بالتنبيه على الأدلة العقلية قبل الدعوة إلى الشهادتين.
3-أن هذا كان في أول الاسلام لقلة اتباعه.
ويمكن أن يجاب بأن هذا تفريق بلا مفرق.
الدليل الرابع:
قول الله تعالى:
((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ))
وجه الاستدلال:
أن الله أمر بسؤال أهل الذكر -ولو لم يوجد إلا واحد- عن الرسل ودعوتهم وما أوحي إليهم وعن كون الرسل من جنس البشر، ولا شك أن هذا من الأمور القطعية مما يدل على وجوب قبول قوله ويلزم اعتقاد مقتضاه.
الدليل الخامس:
أن سلف الأمة من الصحابة فمن بعدهم كانوا يتلقون أخبار الآحاد في القطعيات والظنيات وييثبتونها بدون رد لأي منها لمجرد كونه خبر آحاد في القطعيات، ويدل لذلك رواياتهم لتلك الأخبار وتناقلها وتلقيها وتحصيلها ثم الاشتغال بمذاكرتها وإثباتها في المؤلفات، وأيضا تعليمها وتفسيرها بمقتضى اللغة بما يليق بها والقول بمدلولها بل إنهم أدخلوا مفاد تلك الأخبار في معتقداتهم وصرحوا بتبديع أو تفسيق أو تخطئة مخالفها.
الدليل السادس:
أن الإجماع منعقد على قبول خبر الآحاد في الظنيات، فكذلك تقبل في القطعيات، وإلا للزم من ذلك رد بعض أخبار الآحاد وقبول بعضها الآخر وهذا تفريق بين متماثلين.
ونوقش هذا الدليل:
بأن هناك فرقا بين ما هو ظني وما هو قطعي فلا يصح قياس بعضها على بعض.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن ترتيب حكم شرعي على التفريق بين القطعيات والظنيات في مسألة لابد له من دليل شرعي ولا دليل على التفريق بينهما في هذه المسألة.
الدليل السابع:
إجماع الأمة على الاحتجاج بأخبار الآحاد في القطعيات مع اختلاف طرائقهم وعقائدهم، تستدل كل فرقة على صحة مذهبها بأخبار الآحاد:
-فأهل القدر يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
((كل مولود يولد على الفطرة))
ويستدلون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: قال الله عزوجل:
((خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)) وهما أخبار آحاد.
-وأهل الإرجاء يستدلون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قيل وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق))
-والرافضة يستدلون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
((أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا هويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب، أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك))
-والخوارج يستدلون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))
وبقوله عليه الصلاة والسلام:
((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))، إلى غير ذلك من أخبار الآحاد التي تستدل بها الفرق على اختلاف طرائقهم.
-أما استدلال أهل السنة بأخبار الآحاد في القطعيات من إثبات الشفاعة والنزول ونحوها مشهور معلوم.
فهذا إجماع منهم على قبول أخبار الآحاد في القطعيات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثاني
((أن أخبار الآحاد لا تقبل في القطعيات مطلقاً))
قال أبو الحسين البصري:
((والأول إما أن نكون تعبدنا فيه بالعلم فلا نقبل خبر الواحد))
وقال أبو يعلى:
((مسألة الأصل تتضمن علما وعملا، فيجب أن يثبت العمل فيه بالخبر، ويكون العلم دليله شيء آخر، لأن العلم مسألة والعمل به مسألة أخرى))
وقال الرازي عن خبر الواحد المقتضي للعلم إذا لم يكن في الأدلة القاطعة ما يدل عليه:
((وجب رده سواء اقتضى مع العلم عملا أو لم يقتضه))
وقال السمرقندي عن خبر الواحد:
((يوجب الظن وعلم غالب الرأي لا علما قطعيا، فلا يكون حجة فيما يبتنى على العلم القطعي والاعتقاد حقيقة))
وقال القرافي:
((إذا ورد الخبر في مسألة علمية وليس في الأدلة القطعية ما يعضده رد، لأن الظن لا يكفي في القطعيات))
وقال صفي الدين الهندي:
((المطلوب فيه القطع والعلم، وقول الواحد غير مفيد وفاقا))
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
الدليل الأول:
أن أخبار الآحاد إنما تفيد الظن فلا تقبل في القطعيات.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال بما يأتي:
-أن أخبار الآحاد في القطعيات قد اقترن بها قبول السلف لها ونقلهم لها مع روايتها واعتقاد مقتضاها وتبديع مخالفها مما يجعلها تفيد القطع.
-أن الأدلة الدالة على وجوب قبول أخبار الآحاد قطعية، فنن عند الاحتجاج بخبر الآحاد في القطعيات إنما نحتج بالأدلة القاطعة الدالة على حجية أخبار الآحاد.
-أن أخبار الآحاد مفيدة للقطع.
الدليل الثاني:
أنه لا يتصور أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ واحد من الناس دون غيره أمراً قطعيا من أمور الشرع، لأن جميع الناس محتاجون إلى العلم به، ومن ثم فلا يمكن أن يقتصر نقله على الآحاد.
ويرد هذا الدليل بأن غايته إما تخطئة الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكذيب الصحابة رضوان الله عليهم وكلا الأمرين ممتنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، والصحابة عدول بالنص والإجماع فبطل الاستدلال بالدليل.
الدليل الثالث:
أنه لو قبلت أخبار الآحاد في القطعيات للزم منه التسوية بين القطعيات والظنيات.
ويمكن الإجابة عن ذلك بأن التشابه بين أمرين واتفاقهما في بعض الأحوال لا يدل على اتفاقهما في جميع الأحوال.
الدليل الرابع:
أن الأمة متفقة على أن ألقراءة الشاذة ليست من القرآن، وذلك لأنها خبر آحاد ورد في القرآن وهو من القطعيات لأن ثبوته قطعي، فلم يصح الاستدلال فيه بأخبار الآحاد فكذلك بقية القطعيات لا يصح الاستدلال فيها بأخبار الآحاد.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه لم يعمل بأخبار الآحاد في هذه المسألة لأنه قابلها أدلة أقوى منها تفيد أنها ليست من القرآن برواية أهل التواتر لألفاظ القرآن، فإن راوي القراءة الشاذة يخالف أهل التواتر الذين يحصرون القرآن في قراءتهم ويرون أن هذه اللفظة بذاتها ليست من القرآن، ومن ثم فهي تفسير سمعها الصحابي من النبي صلى الله عليه وسلم فظنه قرآنا وهو ليس كذلك، أو تفسير من الصحابي للقرآن ظنه الراوي عنه من التابعين داخلا ضمن ألفاظ القرآن.
الدليل الخامس:
أن القطعيات لابد فيها من القطع، فلو وقع التعبد في القطعيات بأخبار الآحاد مع أنها لا تفيد إلا الظن، لكان ذلك تكليفا بالمحال.
ويمكن أن يجاب بأنه لا مانع من التكليف بالعمل بأخبار الآحاد في القطعيات ولا محال في ذلك، كما يجاب بأن أخبار الآحاد تفيد القطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثالث
((يجب قبول خبر الآحاد في القطعيات إذا تلقته الأمة بالقبول))
اختاره بعض الحنابلة.
واستدلوا بأن خبر الآحاد الذي تلقته الأمة بالقبول يفيد اليقين والقطع بمدلوله، لأن الأمة أجمعت على صحته وقبوله والأمة لا تجتمع على ضلالة.
ويمكن أن يجاب بأن سلف الأمة قد تلقوا أخبار الآحاد في القطعيات وقبلوها قبل علمهم بتلقي الأمة لها بالقبول مما يدل على وجوب قبولها، ثم إن تلقي الأمة إما بالنص عليه كتلقيها أحاديث الصحيحين بالقبول أو بالسكوت عن تضعيفها والأمة لا تسكت عن وقوع خطأ في أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الترجيح
نتركه لكل منصف طالب للحق،،
كانت هذه الخلاصة من كتاب ((القطع والظن عند الأصوليين حقيقتهما وطرق استفادتهما وأحكامهما)) تأليف الدكتور سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري،،
والحمدلله رب العالمين،،