المبحث الثالث :ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في الفتنة التي حصلت ؟
"إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلاّ فيما يليق بهم رضي الله عنهم , لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا : إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم , ويحفظ لهم فضائلهم , ويعترف لهم بسوابقهم , وينشر مناقبهم , وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد , والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ , غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده , وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة, ولم يجوَّز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم, وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال بما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي:
1- قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (الحجرات:9)
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة , وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله – عز وجل- مؤمنين , وأمر بالإصلاح بينهم , وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين , ولم يخرجهم ذلك من الإيمان , فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذُكر في هذه الآية , فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيمانًا حقيقيًا , ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال , لأنه كان عن اجتهاد.
-2- من صحيح البخاري حديث(1767) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ", والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية , رضي الله عنهما , وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معًا بأنهما مسلمتان , وأنهما متعلقتان بالحق , والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام , وفيه الحكم بإسلام الطائفتين : أهل الشام وأهل العراق , لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام , وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق , وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن عليًا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدًا , وهو مأجور , إن شاء الله , ولكن عليًا هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري : "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر". المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج حديث رقم(3090)
3- وفي صحيح البخاري حديث ( 2505) وعن أبي بكرة قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين".
ففي هذا الحديث شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام, والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفّروا عليًا ومن معه, ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام, ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جدًا, قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمّاهم جميعًا مسلمين، وهذا خبر من رسول الله بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان.
فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي، وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان، وقد وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم من أمته, كما وصفهم بأنهم جميعًا متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان, ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم, وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا). [الحجرات:9].
وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم, رضي الله عنهم أجمعين, فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأوّلون, وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما مر معنا. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام, رضي الله عنهم, مسلك أهل السنة والجماعة, وهو الإمساك عما حصل بينهم, رضي الله عنهم, ولا يخوض فيه إلاّ بما هو لائق بمقامهم, وكتب أهل السنة مليئة ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك
الصفوة المختارة, وقد حدّدوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها:
1- سُئل عمر بن عبد العزيز, رحمه الله تعالى, عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال: تلك دماء طهّر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني؟ مثل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها, قال البيهقي معلقًا على قول عمر بن عبد العزيز, رحمه الله تعالى: هذا حسن جميل؛ لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب.
-2- سُئل الحسن البصري -رحمه الله تعالى- عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وغِبْنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا.
ومعنى قول الحسن هذا: أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا, وما علينا إلاّ أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه, ونقف عند ما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيًا منا, ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله -عز وجل- إذ كانوا غير متهمين في الدين.
-3- سُئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقوله: أقول ما قال الله عز وجل: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى). (طه: 52)
قال الإمام أحمد-رحمه الله- بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: ما أقول فيهم إلاّ الحسنى, وعن إبراهيم بن آرز الفقيه قال: حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (البقرة:141)
4- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يُذكروا به فقال: وألاّ يُذكر أحد من صحابة الرسول إلاّ بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب.
5- وقال أبو عبد الله بن بطة أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والعقيدة: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل, فقد غفر الله لهم وأمر بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم, وفرض ذلك على لسان نبيه، وهو يعلم ما سيكون منهم, وأنهم سيقتتلون, وإنما فُضّلوا على سائر الخلق؛ لأن الخطأ والعمد وُضع عنهم, وكل ما شجر بينهم مغفور لهم.
6- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: ويجب أن يُعلم أن ما جرى بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم, من المشاجرة نكف عنه، ونترحم على الجميع، ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان, ونعتقد أن علياً -عليه السلام- أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة -رضي الله عنهم- إن ما صدر منهم كان باجتهاد، فلهم الأجر ولا يُفسّقون ولا يُبدّعون, والدليل عليه قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:18], وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه؟! ويدل على صحة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين", فأثبت العظمة لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهما بصحة الإسلام, وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ). [الحجر: 47]. إلى أن قال: ويجب الكف عما شجر بينهم والسكوت عنه.
7- وقال ابن تيمية في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه, والصحيح منه هم فيه معذورون, إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون.
8- وقال ابن كثير: أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل, ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين, والاجتهاد يخطئ، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضًا: وأما المصيب فله أجران.
9- -وقال ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف الحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلاّ عن اجتهاد, بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا, وأن المصيب يؤجر أجرين.
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة-رضي الله عنهم- بعد قتل عثمان، والترحم عليهم، وحفظ فضائل الصحابة، والاعتراف لهم بسوابقهم، ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم." اهـ
انظر للاستزادة [ قضية التحكيم في موقعة صفين بين الحقائق والأباطيل ]
[ خاتمة ]
وبعد أخي القارئ , فقد أورد الخليلي في هذا المقطع القصير من كلامه الكثير من الشبهات التي لكل شبهة تحتاج لتفصيل ممل , ومما ذكره من الشبهات التي لم أرد عليها :
أ) أن معاوية رضي الله عنه قاتل عليًا رضي الله عنه من أجل الملك ومن أجل القضاء على الخلافة الإسلامية !
ب) أن الذين رفضوا التحكيم من أهل النهروان فيهم صحابة وذكر منهم حرقوص وعبد الله بن وهب الراسبي ! وهذا باطل لا تصح صبحتهما ولا يوجد صحابي واحد منهم .
ج) الكلام عن مبحث التحكيم .
وغير ذلك من الشبهات التي طرحها ولعلنا ننشط لإفرادها بردود بإذن الله عز وجل , وفي الختام الله أسأل أن يكون هذا الرد سببًا لتبصير كثير من الإباضية بحقيقة معتقدهم اتجاه الصحابة رضي الله عنهم .