الفصل الثالث
عصمة غير الأنبياء
تعتقد بعض فرق أهل القبلة بـ(عصمة) مجموعة من الأشخاص من غير الأنبياء، يطلقون عليهم لقب (الأئمة). على اختلاف في عدد هؤلاء (الأئمة) وأعيانهم.
ونحن نقول: إن الأمة متفقة على ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق. فـ(الأئمة) بالاتفاق دون رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة. فكيف ننزههم عن أمور وقع فيها من هو خير منهم –الأنبياء عليهم السلام ؟! لا سيما وقد انقطع الوحي الذي كانت به عصمة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: وَمَا يَنْطقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى النجم/2-5.
فلا وحي ولا خبر من السماء بعد موت رسول الله . وقد جاء ذلك في نهج البلاغة عن سيدنا علي وهو يغسل رسول الله: ( بأبي انت وأمي … لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء)( 1). وحيث لا وحي فلا عصمة لأحد من بعده. لا سيما وأن العصمة التي جعلت لغيره هي عصمة لاهوتية تكوينية تنسب الكمال المطلق الى (المعصوم).
وصية علي لولده الحسن
وإليك مقتطفاتٍ من وصية ( 2) سيدنا علي لابنه الحسن فيها شواهد واضحة ودلالات بينة على بطلان عصمة غير الأنبياء فتأملها:
جاء في بداية الوصية: (وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت).
هذه الكلمات تدل على ان المقصود بالوصية الحسن لا غيره. وكذلك قوله: ( أي بني! إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً، بادرت بوصيتي إليك وأوردت خصالاً منها قبل ان يعجل بي أجلي دون ان أفضي إليك بما في نفسي، وان أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك) . والذي يخاف أن ينقص رأيه بكبر سنه لا يعتقد في نفسه العصمة. وتأمل كيف يخاف على ولده من قسوة القلب بتقادم العهد وطول العمر فيبادره ما دام قلبه خالياً قبل ان ينشغل بما يزاحم الموعظة. ومن كانت هذه حاله لا يكون معصوماً!
وانظر قوله: (أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا)! فهو يخاف على ولده الهوى والفتن أن تسبق موعظته الى قلبه!
( ودع القول فيما لا تعرف). وهذا لا يستقيم مع وصف (المعصوم) بأنه يعرف كل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء.. وغير ذلك من الصفات التي تعج بها كتب الشيعة( 3) التي منها أن (الإمام) علمه من دون معلم إلهاماً أو وحياً من الله، في حين يوصي سيدنا علي خيرة ذريته من بعده الحسن قائلاً: (وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خيرٌ من ركوب الأهوال .. وتفقه في الدين .. فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به فإنك اول ما خلقت جاهلاً ثم علمت. وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك .. ثم أشفقت ان يلتبس عليك ما اختلفت الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة … فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون ان تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم لا بتورط الشبهات وعلو الخصومات وابدأ قبل نظرك في ذلك الاستعانة بإلهك والرغبة في توفيقك وترك كل شائبة أولجتك في شبهة او أسلمتك الى ضلالة فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً فانظر فيما فسرت لك. وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك إنما تخبط العشواء وتتورط الظلماء وليس طالب الدين من خبط أو خلط. والإمساك عن ذلك أمثل. فتفهم يا بني وصيتي .. وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك –وإن أجتهدت– مبلغ نظري لك. ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ).
ثم يحذره من المعاصي والمهلكات قائلا: (فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك .. ولا تظلم كما لا تحب ان تُظلم .. واستقبح من النفس ما تستقبح من غيرك .. واعلم ان الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب. فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته. وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها وتكالبهم عليها، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا .. وإياك أن تجفو بك مطايا الطمع فتوردك الهلكة .. وإياك واتكالك على المنى فإنها بضائع الموتى .. ولا تكونن
على الإساءة أقوى منك على الإحسان).
فإن كان ولا بد ان يقع في شيء من هذه الذنوب فإنه ينصحه بالتوبة سريعاً قبل الموت قائلاً: (فكن منه –الموت– على حذر ان يدركك وانت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك فإذا أنت قد أهلكت نفسك … وأعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة ولم يمنعك أن أسأت التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة. بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب)( 4).
ولست في مقام مناقشة هذا الأمر . وإنما أردت الإشارة إلى أن العصمة لم يكن يدعيها علي لنفسه ولا لولده. وإنما أضافها إليهم الناس بآرائهم وأهوائهم ليس إلا. أليس هو القائل: (ما أهمني ذنب أمهلتُ بعده حتى أصلي ركعتين)؟( 5)
فكيف ننفي ما أثبته هو لنفسه؟!
ــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة 2/228.
( 2) الوصية تناقض العصمة والا فما حاجة المعصوم لها وهو معصوم؟!
(3) يروي الكليني عن أبي عبد الله (ع) وهو يتحدث مولد الإمام أو الوصي قال : وإذا وقع على الأرض من بطن أمه وقع واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه الى السماء؛ فأما وضعه يديه على الأرض فإنه يقبض كل علم لله أنزله من السماء إلى الأرض .. فإذا قال ذلك أعطاه الله العلم الأول والعلم الآخر)! أصول الكافي: ج1ص386.
ويروي كذلك عن أبي عبد الله وقد سئل عن العلم أهو علم يتعلمه العالم من أفواه الرجال؟ أم في الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب أما سمعت قول الله عز وجل : (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)! أصول الكافي:ج1 ص274. أي إن علمه لا بتعلم ولا من كتاب وإنما يوحى اليه مباشرة من الله!!
( 4) نهج البلاغة ج3ص37-57. مقتطفات منها.
( 5) نهج البلاغة، ج4 ص72.