بسم الله الرحمن الرحيم
أبتدؤها باسم الله العلي القدير .. والصلاة والسلام على رسول الله البشير النذير .. وبعد :-
إننا كثيراً ما نمر بقضايا من التاريخ تجعلنا نؤمن بأن الحكم على أقدار الناس يجب أن يكون قائماً على حسن الظن ؛ حتى يثبت خلاف ذلك ..
وإن الدراسة المثمرة للتاريخ الإسلامي يجب أن تكون لهدف صحيح ، لذا كان لزاماً أن يكون التاريخ المعتمد لذلك تاريخاً صحيحاً من حيث نقله ، وإلا فستكون الثمرة فاسدة ..
ولا يكون التاريخ صحيحاً إلا إذا استُمد من المصادر الموثوقة الصحيحة .. والتي في مقدمتها كتاب الله تعالى .. ففيه مادة تاريخية واسعة .. ويلي هذا المصدر الموثوق ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث .. ثم يلي ذلك دواوين التاريخ الموثوقة المسندة ..
والحديث عن تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم عريض الجوانب .. طويل المدى واسع الآفاق .. غزير المادة .. تسابقت الأقلام في حلبته وتنافست الأفكار في ديباجته .. فالقدماء من المؤرخين والرواة والعلماء حدثوا ورووا ، وكتبوا ما تناهت إليهم به الأحداث والوقائع من الحقائق .. وقد تعدد مناحيهم واختلفت طرائقهم وتباينت مذاهبهم .. فجمعوا في دواوينهم مما ناء به كاهل التاريخ .. فأطال بعضهم القصير ، وكثّر القليل ، ودعم المتهافت ، ولمّ المنتناثر ، وضم المتفكك ، واخترع ما لم يكن ، وقص ما لُقّن ، وحكى ما رُوّي .. فكانت دواوينهم مرجع لمن جاء بعدهم .. فالناقد الممحص تخير فكتب .. والعالم البصير حقق وتثبت .. والصحفي الغَمر تلقف وأتلف .. والمتعالم الجهول رمرم وضمضم .. والجحود الكنود الذي طوى كَشْحَه على مستكنه من الحقد الأسود للإسلام والمسلمين في الغرب والشرق أشاح عن الحق وأعرض ، وتولى وأدبر ، وعشى عن ضوئه فأدلج في دياجير الأباطيل وأوغل ، وقال للحق وتقول ، ونقل وتنقل ، وزوق وبهرج ، وزيف وهرّج ..
وكان في أغمار المسلمين سماعون لهم .. عباد لصنم جحودهم ، فركعوا سجداً بين أيديهم .. تباهياً بالعصرية ، وتفاخراً بالتجديد والمظهرية ، وتظاهراً بحرية التفكير الشخصية ، فتكلموا بلسان معبودهم ، وكتبوا بقلمه ، وترنموا بنغمه ، رقص على توقيعاتهم أتباع كل ناعق من ذوي الغرارة والجهالة ، وفتن بهم ذوو الثقافة الفجة ، والمعرفة الضحلة ، فتشابهت قلوبهم ، وتواءمت أفكارهم .. فأعرضوا عن بينات التاريخ الناصعة ، وراحوا يحفرون بأظافر عقولهم الحاقدة في أرض الأكاذيب ، ليصيدوا من غثاء الروايات والأقاصيص ما يرضي أحقادهم ، وتشبثوا بكل ما يخدش وجه الحقيقة التاريخية زوراً وبهتاناً .. وتأولوا بأهوائهم وسوء مقاصدهم أحداثاً كانت في سيرة الصحابة عنواناً على السمو والشرف والفضل والنبل ، فقلبوا حقائقها ، وغيروا معالمها . بتصرف من كتاب محمد رسول الله ( ص 18 – 19 ) .
لذا فإن دراسة التاريخ لا ينبغي أن تكون ميداناً للسلوة و تزجية الفراغ ، و مهما فصل عامل الزمن بين الحدث والحديث ، فالفرصة قائمة لأخذ الدرس و العبرة ، و على دارسي التأريخ بشكل عام و التأريخ الإسلامي على الخصوص ، أن يتجاوزوا سرد الحدث و الاكتفاء بإحصاء القتلى أو الجرحى لهذا الحدث أو ذاك .. فإن فقه المرويات ، و عبر الحوادث ، لهدف كبير من أهداف دراسة التاريخ ، و بدونه تصبح الدراسة تجميعاً لا يسمن و لا يغني من جوع .
و إذا أخذ المتقدمون على عاتقهم رصد الحدث بمروياته المختلفة ورسموا الصورة بشكلها الإجمالي ، فإن على المتأخرين استكمال هذا الجهد و سد هذا النقص ، و الخروج بنتائج تجعل من الحدث في الماضي ، عبرة للحاضر ، ومؤشراً لإصلاح المستقبل بإذن الله .. بتصرف من كتاب كيف دخل التتر بلاد المسلمين (ص5-6) .
و قد آن لنا أن نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء ، خاصة بعد أن أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق فبدأت تظهر لهم و للناس منيرة مشرفة ، و لا يبعد - إذا استمر هذا الجهاد في سبيل الحق - أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ، و يدركوا أسرار ما وقع في ماضيهم من معجزات .. بتصرف من تعليق محب الدين الخطيب على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي (ص179) .
وتلبية لرغبة أحد الإخوة الأفاضل الكرام تأتي هذه الحلقات تبياناً للحق .. ورداً لكثير من الشبهات والتهم التي أثيرت حول الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وبالأخص خال المؤمنين وأميرهم معاوية رضي الله عنه .. الذي يتلذذ بالطعن فيه بعض الجهلة تحت ستار النقد العلمي .. وما درى هؤلاء المساكين أن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ، من لابس الفتن منهم ومن اعتزل .. إحساناً للظن بهم ؛ لأنهم نقلة الشريعة .. والطعن في أحدهم مثل معاوية رضي الله عنه مدخلاً لأعداء هذا الدين للنيل من بقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .. وفي هذا يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله : معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم – يعني الصحابة - . البداية والنهاية لابن كثير (8/139 ) .
وما أعتقد أن شخصية في تاريخنا الإسلامي ، من الرعيل الأول من الصحابة الذين تربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قد نالها من التشويه والدس والافتراء والظلم ، ما ناله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما .. حيث امتلأت معظم المصادر التاريخية بعشرات الروايات الضعيفة أو المكذوبة على هذا الصحابي الكريم .. فكان لابد من الحديث عنه والكتابة عنه والذب عن عرضه وفق المنهج الصحيح ..
وسيكون هذا الموضوع مخصصاً للحديث عن معاوية رضي الله عنه وتفنيد التهم والافتراءات التي نالت منه .. والله أسال العون والرشاد ..
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..