عرض مشاركة واحدة
قديم 27-03-13, 02:25 AM   رقم المشاركة : 1
سلالة الصحابه ...
عضو ذهبي







سلالة الصحابه ... غير متصل

سلالة الصحابه ... is on a distinguished road


بين البويهيين والمجوس (3)

بين البويهيين والمجوس

أما الحُكّام من بني بويه؛ فهم أحفاد رجلٍ يدعى بويه، ويلقّب بأبي شجاع، وكان له ثلاثة أبناء: علي والحسن وأحمد، وقد تولى ثلاثتهم الحكم فيما بعد في عهد الدولة البويهية، وكان الأول يلقب بـ «عماد الدولة»، والثاني بـ «ركن الدولة»، والثالث بـ «معز الدولة».
أما أصولهم؛ فقد اتفق أكثر المؤرخين والمحققين ــ من أهل السنة وغيرهم ــ أنهم من قبائل الديلم، خلافاً لما ذكرته بعض المصادر الشيعية أنهم من سلالة الملك (سابور)، وهذه كذبة اعتادها كل من حكم الإيرانيين، فإن ادعاء النسب إلى الملوك العظماء، كان عادة التزمها كل من حكم إيران في القرون الأولى، إذ أن عهد الساسانيين قريب، والشعب لم يزل معظماً لملوكهم ولتراثهم، وتواقاً لعودة المجد القديم البائد، فادعاء النسب إلى الملوك، يقوّي من شأن الحاكم ويعضده بالرجال.
وهذا ما فعله الطاهريون عند تأسيس دولتهم الطاهرية، والصفاريون في دولتهم الصفارية، والسامانيون في دولتهم السامانية، وكذلك البويهيون.
أما الطاهريون؛ فهم أبناء رجل اسمه مصعب بن زريق، من هراة، وزعموا أنهم من نسل رستم (تاريخ إيران بعد الإسلام ص14).
وأما يعقوب بن الليث الصفار ــ مؤسس الدولة الصفارية ــ ؛ فقد نسبه البعض إلى كسرى برويز الساساني، والحقيقة أنه من سيستان، وقد بدأ حياته كقاطع طريقلمصدر السابق ص 101).
وأما السامانيون؛ فزعموا أنهم من أبناء (بهرام جوبين) ــ القائد الأسطوري للساسانيين ــ ، وهم من قرية سامان، في نواحي سمرقند، وكان أبوهم يرعى الإبل.
قال المؤرخ الإيراني عباس اشتياني، تعليقاً على نسبة السامانيين المزعومة: «ولكن هذه النسبة، كسائر النسب التي كانت تلصق في القرنين الثالث والرابع، للأمراء وكبار الإيرانيين، محل نظر» (تاريخ إيران بعد الإسلام ص133).
وكذلك نسب البعض الصفويين إلى الإمام موسى الكاظم، وهم في الحقيقة؛ أبناء صفي الدين الأردبيلي، وهو شيخ تركي، صوفي.
وكذلك فعل البويهيون، وحاول البعض إيجاد نسب لهم، ذي عز، لتوطيد مكانة العائلة، فنسبوهم إلى الملك سابور، ومنهم من نسبهم إلى يزدجرد.
والحق؛ أنهم من قوم الديلم، وأبوهم اسمه بويه بن فناخسرو، وهو صياد سمك فقير ــ كما اتفقت عليه كل المصادر التاريخية ــ ، ولم يكن لهم شأن بين الديلم أنفسهم، وكانوا ينتمون إلى قبيلة (شيرزيل)الديلمية، وليس لها أية مكانة بين قبائل الديلم (تاريخ الدولة البويهية ، ص169).
ولا ريب أنه لو كان بويه هذا من نسل يزدجرد، لما اضطر علي بن بويه وأخواه، إلى دفع المال باستمرارٍ للقادة والجنود، لاستمالتهم ــ كما ذكر المؤرخون ــ، إذ كان يكفيهم تذكير الإيرانيين بنسبهم وسلالتهم، حتى يعظّمهم الناس.
ومما يدل على كذب هذه النسبة المزعومة، أنها لو صحّت، لكانوا معروفين ومبجّلين عند الإيرانيين، ولما كان حالهم كذلك، فأبوهم صياد سمك فقير، ولم يكن زعيماً، ولا معروفاً لأحد، وكذلك أولاده ــ عدا عن كونهم قادة في المعارك ــ، ولم يعرفهم الناس في عهدهم أنهم من سلالة الملوك.ولو عرفوهم بذلك لما رضوا لهم بأقل من الإمارة، وقد عملوا قادة عسكريين، لصالح قادة وزعماء ديلميين، أعظم وأشرف منهم، عند الديلم.
قال ابن خلدون، تعليقاً على نسب بويه المزعوم: «والحق؛ أنّ هذا النسب مصنوع، تقرّب إليهم به من لا يعرف طبائع الأنساب في الوجود، ولو كان نسبهم ذا خلل في الديلم، لم تكن لهم تلك الرئاسة عليهم، وإن كانت الأنساب قد تتغيّر، وتخفى، وتنتقل من شعب إلى شعب، ومن قوم إلى قوم، فإنما هو بطول الأعصار، وتناقل الأجيال، واندراس الأزمان والأحقاب. وأمّا هؤلاء؛ فلم يكن بينهم وبين يزدجرد وانقطاع الملك من الفرس إلا ثلاثمائة سنة، فيها سبعة أجيال أو ثمانية أجيال، ميّزت فيها أنسابهم، وأحصيت أعقابهم. فكيف يدرك مثل هذه الأنساب الخفاء في مثل هذه الأعصار. وإن قلنا: كان نسبهم إلى الفرس ظاهراً، منع ذلك من رياستهم على الديلم. فلا شك في هذه التقادير في ضعة هذا النسب. والله أعلم» (تاريخ ابن خلدون 563/4) .
قال ابن الأثير: «وأما ابن مسكويه؛ فإنه قال:«إنهم يزعمون أنهم من ولد يزدجرد بن شهريار، آخر ملوك الفرس».
ثم قال: «إنهم نسبوا إلى الديلم، حيث طال مقامهم ببلادهم» (الكامل 6/7) .
وقول ابن الأثير أنهم نسبوا إلى الديلم، حيث طال مقامهم ببلادهم، يعني أنهم عاشوا مع الديلم، وتطبعوا بطباعهم وأخلاقهم.
أما ابن مسكويه؛ فكان معاصراً للدولة البويهية، ومقرّباً إلى البويهيين، وعاش في بلاطهم، وأهدى نسخة من كتابه «تجارب الأمم وتعاقب الهمم» إلى عضد الدولة ــ أحد أشهر الحكام البويهيين ــ .
وبالرغم من محاولة ابن مسكويه التزام الحيادية في عرضه لتاريخ البويهيين، ومؤاخذته لبعض حُكّامهم، إلّا أنه قد تملّق لعضد الدولة، وحرص على مدحه، وبيان مناقبه، والإشادة بأعماله، وفضله على الأمة ــ كما يزعم ــ، وبدا هذا الأمر جلياًّ في كتابه، إلّا أنه لم يجزم بصحة هذه النسبة، بل اكتفى بالإشارة إلى الزعم.
وهذا يدل على عدم ثبوت صحة هذا النسب، فلو كان الأمر صحيحاً، يعرفه ابن مسكويه، لكان تأكّد من ذلك قبل كتابة كتابه، ليوثّق الأمر فيه، ولكان جزم بنسبهم، لكنه اكتفى بنقل الزعم، وهو يعلم أن عضد الدولة سيقرأ كتابه، فهذا كاف في عدم صحة النسب.
بل إن ابن مسكويه قد ذكر ما يشير إلى نسب البويهيين إلى الديلم، في أكثر من موضع من كتابه، فقال في موضع: «رجل من وجوه قوّاد الديلم، الذين كانوا مع مرداويج إلى نواحي (أرّجان)، يقال له: علىّ بن بويه»(تجارب الأمم وتعاقب الهمم 365/3) .
وقال في موضع آخر: «إلى أن ملك علىّ بن بويه الديلمي فارس، يوم السبت، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة» (المصدر 290/5).
وذكر الروذراوري، أن عضد الدولة تقدّم إلى أبى القاسم المطهر بالانحدار إلى البطيحة، فسأل حينئذ فى إطلاقه، والإذن له فى استخلافه بحضرته، لعناية أبى القاسم به، فقال:«أما العفو عنه؛ فقد شفّعناك فيه، وعفونا له عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا ــ يعنى الديلم ــ »(الذيل 33/7).
وهذا اعتراف صريح من عضد الدولة، يشهد كونهم من الديلم.
والديلم هم قبائل من قوم الجيل، وقيل من الفرس، وتكلّم بعض المؤرخين عن لغتهم، وأنها لم تكن فارسية، ولم تكن مفهومة عند الفرس، بينما ادعى البعض أنها كانت لغة فارسية، بلهجتهم الخاصة.
قلت: كون لغتهم فارسية لا يعني أنهم فرس، فقد اتخذ عدد كبير من الأقوام، اللغة الفارسية لغة لهم، بعد الدولة الأخمينية القديمة، حيث بسط الفرس نفوذهم على كامل الهضبة وما حولها، فلا يبعد أن يكونوا ممن تأثر بالفرس، وتأثروا بلغتهم.
وقد ذُكر عن الديلم أنهم أشد الناس حمقاً وجهلاً، بينهم قتال فإذا قتل واحد منهم، قتلوا من تلك القبيلة أي واحد كان(آثار البلاد وأخبار العباد 330/1).
وقال الاصطخري الجغرافي الفارسي حين ذكر الديلم: «وزعم بعض الناس أنّ الديلم طائفة من بنى ضبّة، ومواضعهم كثيرة الأشجار والغياض، وأكثر ذلك للجيل، فى الوجه الذى يقابل البحر وطبرستان، وقراهم مفترشة، وهم أهل زرع وسوائم، وليس عندهم من الدوابّ ما يستقلّون بها، ولسانهم مفرد، غير العربيّة، والفارسيّة. وفى بعض الجبل ــ فيما بلغنى ــ طائفة منهم، يخالفون بلسانهم لسان الجيل، والديلم. والغالب على خلقة الديلم النحافة، وخفّة الشعر، والعجلة، وقلّة المبالاة.وقد كان الديلم دار كفر، يسبى من رقيقهم، الى أيّام الحسن بن زيد، فتوسّطهم العلويّة، وأسلم بعضهم، وفيهم الى يومنا هذا كفّار»(المسالك والممالك ص205) .
وقال في موضع آخر: «وجميع أهل فارس يتكلّمون بلغة واحدة يفهم بعضهم عن بعض، إلّا ألفاظاً تختلف، لا تستعجم على عامّتهم» (المصدر السابق ص137).
فقوله الثاني، مع التصريح في قوله الأول أن لسانهم غير فارسي، يرجّح أن الديلم ليسوا بفرس.
كما أن موضع تجمعهم في جنوب بحر قزوين، يعزز هذا الفرض، إذ أن الفرس تركّزوا في غرب وجنوب الهضبة ــ كما هو معروف تاريخياً عنهم ــ .
ولعل هذا ما يفسّر تأثر لغتهم بلغة الفرس، حتى أخذت كثيراً من المفردات، وبعض خصائص اللغة.
على أن هذا لا يمنع انتماء الديلم لدولة الفرس، واعتزازهم بها، وارتباطهم بها وجدانياً وتاريخياً.
وكانوا يعتزون بديانتهم المجوسية ــ التي سادت المجتمع الفارسي طيلة قرون عديدة ــ اعتزازاً، منعهم من اعتناق الإسلام، وأخّرهم عنه لسنين كثيرة.
ولم يكن الاختلاط بين الرجال والنساء محظوراً عند الديلم، فكان الرجال والنساء يلهون معاً، وإذا هوى رجل امرأة، يستطيع أن يصاحبها ويزورها في بيتها، ويستقبله أهلها بالترحاب، على ما حكاه الرحّالة والجغرافي المقدسي، في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ص369) .
ومن عاداتهم الغريبة؛ الندب، والنواح، واللطم الشديد ــ على الخدود ــ على الموتى، وعلى المرضى منهم (المصدر السابق ص369).
ولم تكن لهم حضارة تلفت النظر، أو تبعث على التأمل، وكانوا بربراً، وعُرفوا بالقذارة. وهم قوم حروب، ومعارك، ومرتزقة يجرون فقط وراء الكسب المادي، ولم يكونوا يخفون هذا الأمر بينهم، حيث كانوا قد خدموا الدولة الساسانية القديمة، ثم خدموا عدوتها الدولة البيزنطية، ثم الدول الشيعية التي أقيمت في المنطقة بعد ذلك (تاريخ الدولة البويهية ص86).
وكذلك فعلوا مع محمد بن زيد العلوي، إذ كانوا يقاتلون تحت قيادته، دون أن يعتنقوا الإسلام.
ولعل هذا ما حذا بأبناء بويه بجزل العطاء لقادتهم، ودفع الأموال إليهم، فهم يعرفونهم، ويعرفون مكمن رضاهم وسخطهم.
ومن المعروف أن الديلم كانوا على دين المجوسية، وقد فتحت بلادهم سنة 181هجرية زمن أبي جعفر المنصور(تاريخ ابن خلدون 552/4)، وظل أهلها يدفعون الجزية، ويمتنعون عن دخول الإسلام.
وقد طرقت دعوة الإسلام أبواب الديلم منذ سنة 250 هجرية، إثر قيام الحسن بن زيد بحكم تلك البلاد، فلم يعتنقوا الإسلام إلا قليلا منهم، ثم تولّى أخوه الحكم من بعده.
ثم بدأت دعوة الأطروش لهم منذ سنة 287 هجرية، حيث بدأوا يعتنقون الإسلام، وكانوا قبل هذا كفاراً مجوسيين(تاريخ الإسلام 23/15)، وشرع يبني المساجد لهم سنة 302هجرية ولم يعرفوها من قبل، ولعل هذه الدعوات العلوية ساهمت في تشييع الديلم.
قال الذهبي عن سنة 302 هجرية: «وفيها خرج الحسن بن علي العلوي الأطروش، وتلقّب بالداعي، ودعا الديلم إلى الله، وكانوا مجوساً، فأسلموا، وبنى لهم المساجد» (المصدر السابق 23/15).
وقاله أيضاً ابن كثير في «البداية والنهاية» (441/4)، والسيوطي في «تاريخ الخلفاء»(ص269)، وجمال الدين ــ أبو المحاسن ــ في كتاب «النجوم الزاهرة» (185/3)، وابن خلدون في «تاريخه»(294/4).
وقد عمل أبناء بني بويه كجند مرتزقة، عند القائد(ماكان، ثم تركوه عندما ضعف شأنه، وذهبوا إلى عدوِّه (مرداويج)(تاريخ الدولة البويهية ص97) الذي كان قائداً من قواده عندما تسلّم (ماكان) الحكم، خلفاً لمحمد بن علي صعلوك.
ثم إن الدولة البويهية قد تأسست على يد أبناء بويه في فارس سنة 321 هجرية، ثم في العراق سنة 334 هجرية، مما يكشف عن قرب عهد الديلم ــ وأبناء بويه خاصة ــ بالمجوسية، مما كان له أكبر الأثر في نقل بعض شعائر المجوسية إلى مذهب التشيع ـ كما سنبين لاحقاً ــ .
فابتداء خروج علي بن بويه ــ أكبر أبناء بويه ــ كان عندما قدم مع إخوته على (مرداويج)، وكان هذا الأخير قائداً لـ (أسفار بن شيرويه) الذي أقام ثورته سنة 316 هجرية، وملك الجيل وطبرستان، واستولى كذلك على جرجان، وقزوين، والري، وقم.
ولم يكن قد أسلم بعد، وكان مجوسياً متعصّباً لدينه، وكان يسيئ معاملة المسلمين، حتى إنه أمر ذات يومٍ أن يلقي بمؤذن كان يؤذن للصلاة من فوق المنارة، وأمر بخراب المساجد(تاريخ إيران بعد الإسلام ص35).
وكان (مرداويج) أحد أتباعه، وقادته العسكريين.ولم يكن مرداويج في الأصل مسلماً، فكان مسلماً في الظاهر مجوسياً في الباطن، وكان متعلقاً بالآداب الفارسية القديمة، ومراسيم المذهب الزرادشتي. ولهذا كان شديد الكره للخليفة العباسي وولاته العرب (تاريخ إيران بعد الإسلام، ص40)، وكان يحتفل بأعياد المجوس، وخاصة عيد النيروز ــ أو النوروز كما ينطقونه في لغتهم ــ ، وعيد النور.
وعندما سيطر (مرداويج) على طبرستان، وجرجان، وأصفهان، أتاه رؤساء الديلم، وقدم عليه أبناء بويه، ففرح بهم، واحتفل بمقدمهم، وأمّر كل واحد منهم على ولاية من الولايات(تاريخ إيران بعد الإسلام ص40)، وعند ذلك ظهر أمر عليّ بن بويه.
والراجح أن علي بن بويه مات وعمره سبع وخمسون، فيكون مولده سنة 281 هجرية.
فالحاصل؛ أن اعتناق الديلم للمجوسية، وصفاتهم، وأحوالهم تجاه النساء ــ كما أسلفنا ــ يدل على أن لنكاح المتعة كثير من الحظ والاعتبار في مجتمعهم، وكذلك نكاح المحارم.
ويشهد له أن الدين المزدكي الإباحي قد انتشر في أذربيجان، وجنوب بحر قزوين، إلى ما بعد الفتح الإسلامي(تاريخ الدولة البويهية ، ص112)، وهذه المنطقة من الأرض، هي مكان وجود الديلم.
وإذا أضفنا إلى تلك الحقائق، حقيقة أن عهد الديلم بالمجوسية قريب، وأن الإسلام بدأ ينتشر فيهم في الفترة ما بين 250 و 287هجرية، واعتنق أكثرهم الإسلام في 301 هجرية، نجد لزاماً علينا القول أن أبناء بويه كانوا متأثرين بالمجوسية، وعهدهم بها قريب، عند دخولهم الإسلام.
إلا أننا قد نقول ما هو أعظم من هذا؛ وهو أن أبناء بويه كانوا إما مجوس في الباطن واعتنقوا الإسلام ظاهراً، وإما أنهم اعتنقوا الإسلام ظاهراً وباطناً، ولكن كان فيهم تأثراً وميلاً وتعاطفاً إلى المجوسية.
وما دعانا إلى هذا القول ليس تحاملاً منا عليهم، ولكن اعتماداً على المعطيات والشواهد التاريخية التي ذكرها المؤرخون.
فإضافة إلى قرب عهدهم بالمجوسية، فإن احتفاء مرداويج بهم، وتسليمهم ولاياتٍ، وثقته بهم، تبعث على الريبة في معتقدهم. فإذا كانت اليهود والنصارى لا ترضى عنا حتى نتبع ملتهم، فكيف بالمجوس ؟ وأين منهم قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ) ؟

ولم يكن لهذا القائد المحنك أن يضع ثقته فيهم، ويسلّمهم الولايات، لولا ما علم من أمر تقاربه معهم، في الفكر والدين والعقيدة.ولو التمس منهم حسن إسلامهم لما كان لهم الحظوة عنده، ولما فرح بقدومهم عليه.
وهذا يشير إلى مدى الثقة التي كانت تجمعه بهم، وقد علمنا حاله وشأنه ومجوسيته، فلا نستبعد أن يكونوا كلهم مجوساً، إذ أن أحوال عضد الدين، لا تنسجم مع من كان معتقداً دين الإسلام، متمسكاً بالشريعة.
وما يشهد لذلك أيضاً، ويؤكد ميل البويهيين للمجوس؛ هو سعيهم في الحفاظ على بيوت النار المجوسية، وعمارتها، ورعايتها.
وكانت بيوت النار كثيرة ومنتشرة في فارس، في ذلك الوقت، مما مكّنهم من الحفاظ على دينهم، ووحدتهم، وتماسك أتباعهم، مستفيدين من رعاية حكام بني بويه لهم.
فبالرغم من ضآلة عدد الزرادشتيين المجوس، إلا أن بيوت النار انتشرت بشكل كبير في فارس في ذلك الوقت (تاريخ الدولة البويهية ص277)، مما يدلل على الحظوة الكبيرة التي تمتعوا بها في العصر البويهي، حيث ذكر الجغرافيون أن معظم هذه البيوت بقيت في حوزة أتباعها، كما بقيت كتبهم وديانتهم محفوظة لهم(تاريخ الدولة البويهية ص108).
ولا شك أن كثيراً منها كان موجوداً من قبل الفتح الإسلامي المبارك، إلاّ أن انتشار بيوت نارهم بعد ثلاثة قرون من الفتح ــ مع ما يستتبع ذلك من قلة عددهم وانحسارهم ــ يدل على رعاية مميزة حظوا بها في ظل العهد البويهي، مكنتهم من إعادة إعمار كثير من بيوت النار، وترميمها وإصلاح ما خرب منها.
وذكر الاصطخري الفارسي في مشاهداته لفارس، أنها امتلأت ببيوت النار والمجوس، فلم تخل ناحية، ولا مدينة بفارس منها(المسالك والممالك، ص100).
وقال في موضع آخر: «وأمّا بيوت نيران فارس، فتكثر عن إحصائي وحفظي، اذ ليس من بلد، ولا رستاق، ولا ناحية، إلّا وبها عدد كثير من بيوت النيران» (المصدر السابق، ص118). ثم شرع في ذكر البيوت، وأسمائها.
وقد عاصر الاصطخري الفارسي الدولة البويهية، وتوفي سنة 346 هجرية.
ويبعد كل البعد أن تكون كل هذه البيوت من قبل الفتح الإسلامي ، بمعنى أنه مضى عليها أكثر من ثلاثة قرون من الزمان.
ولو كانت هذه البيوت من أطلال بيوت النار التي وجدت من قبل الفتح الإسلامي العمري المبارك، لخربت واندرست معالمها، وضاعت آثارها، ونُسيت أسماؤها.
وقال ياقوت الحموي عن شيراز: «وقد ذمّها البشّاري بضيق الدروب، وتداني الرواشين من الأرض، وقذارة البقعة، وضيق الرقعة، وإفشاء الفساد، وقلة احترام أهل العلم والأدب.
وزعم أن رسوم المجوس بها ظاهرة، ودولة الجور على الرعايا بها قاهرة، الضرائب بها كثيرة، ودور الفسق والفساد بها شهيرة، وخروءهم في الطرقات منبوذة»(معجم البلدان 380/3).
وقال الجغرافي ابن حوقل: «وأمّا بيوت نيرانها؛ فكثيرة أيضاً، ويعجز علمها من سوى الديوان، إذ ليس من بلد، ولا ناحية، ولا رستاق، إلّا وبها عدد كثير من بيوت النيران»(صورة الأرض 273/2).
ولم يكن يوجد أي تمييز في لباس أهل الذمة، كما ذكر ذلك الرحالة المقدسي أثناء زيارته لفارس ــ في ذلك الوقت ــ ، حيث قال: «ولا ترى على مجوسي غياراً، ولا لصاحب طيلسان مقداراً. ولقد رأيت أهل الطيالس سكارى، ويلبسه المكدون والنصارى، وبه دور الزنا ظاهرة، ورسوم المجوس مستعملة» (أحسن التقاسيم ص429).
وذكر الروذراوري في «ذيل تجارب الأمم» حادثة؛ تفيد أن عضد الدولة كان يحتفل بعيد النيروز مع العامة، فقد قال: «حضر النيروز، وأراد أن يقطع عضد الدولة فيه قباء سقلاطون يجلس فيه للتهنئة، فقال لى: أحضر من الخزانة ثوباً يصلح للقباء. فتقدّم بقطعه، وإعداده، ولبسه، فى يوم ذلك الفصل، ووهبه لبعض الديلم»(الذيل 86/3).
وقال ابن بابويه القمي: «وفي عام 363 هجرية، أمر عضد الدولة بنصب لوحٍ على تخت جمشيد، خطت عليه أسماء الأئمة الاثني عشر، مع عبارات السلام والتحيات عليهم»(الهداية في الأصول والفروع ص136). وهذا يدل على أنه كان مبجّلاً ومعظّماً لملوك المجوس.
وكتابته لأسماء الأئمة الاثني عشر على تخت جمشيد، يلمح إلى اعتقاده بوجود علاقة بين حبّه وتعظيمه للملوك المجوس الفرس، وللأئمة الاثني عشر، وكأنه يرى في الأئمة استمراراً لملك هؤلاء.
وهذا صحيحٌ في وجهة نظرهم، لأنهم يعتقدون أن الحسين بن علي ــ رضي الله عنه ــ قد تزوّج شهرنابو بنت كسرى ملك الفرس، وقد أنجبت زين العابدين، وسائر الأئمة من نسل شهرنابو، بمعنى أنهم من نسل ملوك كسرى.
كما ذكر عنه أنه أول من تسمى شاهنشاه(البداية والنهاية 341/11)، وهو لقب فارسي قديم، ومعناه: «ملك الملوك».
وقد ثبت في «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله؛ رجل تسمّى ملك الأملاك»(رواه البخاري ومسلم).
وقد ذكر غير واحد من المؤرخين؛ ما جرى من فتن بين المجوس والمسلمين، واقتتال بينهم (الكامل 374/7)، فلما سمع عضد الدولة بذلك، سيّر إليهم من جمع كل من له أثر في ذلك، وضربهم، وبالغ في تأديبهم، وزجرهم(الكامل 374/7).
وذكر البعض أن عضد الدولة كان قد زار ناحية (كازيرون)، وقرأ له الموبذ (ماراسفاند)، وهو كبير رجال الدين المجوس في كازيرون، النقوش البهلوية القديمة للأفستا(الزرادشتيون ص159)، وقد بيّنَتْ ذلك بعض النقوش الحجرية التي تم اكتشافها، حيث تصف زيارة عضد الدولة، وأنها كانت في عام 955 م(الزرادشتيون).
وقد كان حاجب عضد الدولة مجوسياً(المصدر السابق ص159). وكان المسلمون يعيّدون مع المجوس في النيروز (أحسن التقاسيم ص441)، مما يدل على اعتبار العنصر المجوسي، وعلو شأنه، وتغلغل ثقافته في فارس، وتأثر المسلمين الفرس بهم.
فنقول:إن رعايتهم للمجوس وبيوت نارهم في فارس، وعدم تمييزهم في التعامل مع غيرهم، واحترام تراثهم، وطقوسهم، والاحتفال بأعيادهم، كل ذلك يلقي بظلال من الشك حول عقيدة الرجال، فإما أنهم كانوا مجوساً في الباطن، ويخفون ذلك في الظاهر، وإما أنهم كانوا مائلين إلى المجوسية، متعاطفين معها.
تقول الباحثة البريطانية (ماري بويس) ــ المتخصصة في تاريخ الزرادشتية ــ : «تمتع الزرادشتيون بفترة هدوء عندما حكم البويهيون إيران، وادعوا أن سلالتهم ترجع إلى الملوك الساسانيين، وقد كانوا يكنّون حباً ولطفاً للدين القديم»(الزرادشتيون ص159).
وتكلمت عن أحوال الزرادشتيين في عهد البويهيين، فقالت: «لم يحصل الزرادشتيون على هذا الأمان والالتزام بأمنهم أبداً، في حكم الإسلام»(المصدر السابق ص159).
ولعل من أهم إنجازاتهم في ذاك الوقت، إعادة النظر في التقويم السنوي، حيث جرى تثبيت عيد النوروز في أول الربيع ــ كما ينبغي له أن يكون ــ ، وقد كانوا يحتفلون به تبعاً للشهور القمرية، فاتفق وقوعه في الشتاء في زمن عضد الدولة، فعملوا على تغييره، وتثبيته في يومه الحقيقي(المصدر السابق ص160).
ولعل ما يعزز هذه الشواهد أيضاً؛ أن حكام بني بويه قد التزموا الأسماء المجوسية الفارسية، فاسم عضد الدولة هو (خسرو)، وهو اسم مجوسي فارسي بامتياز، ويحب الإيرانيون والمجوس هذه الأسماء، لأنها تذكرهم بدينهم القديم، وأمجاد ماضيهم.
واسم ابنه (مزربان)، واسم ابنه الآخر (فيروز شاه)، واسم ابنه الثالث (شيرذيل)، وعز الدولة ابن أحمد معز الدولة، اسمه (بختيار)، واسم ابنه بهاء الدولة (خسرو فيروز)، كما نجد أيضاً من أسماء بنيهم: (فولادستون)، و(اسفنديار).
وهؤلاء كلهم أمراء حكموا الدولة البويهية، وأسماؤهم أعجمية مجوسية، وليست عربية إسلامية، مما يكشف عن تأثرهم الواضح بالديانة المجوسية، وماضي الفرس العريق.
ولا شك أن مجرّد التسمي بهذه الأسماء الأعجمية لا يشكّل لوحده دليلاً على فساد الدين، وذلك لورود بعض الأسماء الأعجمية لرجال حسُن إسلامهم، إلاّ أن تسمية حكام بني بويه بأسماء أعجمية فارسية، لها رمزية خاصة في الدين المجوسي، مع حداثة عهدهم بالإسلام، قد يعزز شواهد اعتناقهم أو ميلهم إلى المجوسية، إذا اقترن ذلك بما ثبت عنهم من ميلٍ ومحاباةٍ للمجوس.
وأمر آخر يتعلق بموضوعنا؛ وهو ما اشتهر عنه حكام بني بويه بالفسق وحب النساء، فلعل أبرز ما عرفت به فارس في ذلك الوقت، كان انتشار البغاء، وكثرة أماكن الفسق والمجون(تاريخ الدولة البويهية ص292).
وقد ذكر شمس الدين المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» عند زيارته لفارس في ذلك الوقت، أن فارس كانت أكثر الممالك الإسلامية فسقاً (أحسن التقاسيم ص33)، وأنها معدن الجور والفساد»(المصدر السابق ص421).
وقال:«أما شيراز؛ فعدولهم لوطة؛ وأكثرهم يقولون ما لا يفعلون»(المصدر السابق ص429).
وذكر أن دور الزنا كانت ظاهرة بشيراز(المصدر السابق ص441).
وعندما ذكر سيراف، قال: «سيراف هي قصبة (أردشيرخرّه)، وكان أهلها حين عمارتها يفضّلونها على البصرة، لشدّة عمارتها، وحسن دورها، وظرف جامعها، ولباقة أسواقها، ويسار أهلها، وبعد صيتها. وكانت حينئذ دهليز الصين دون عمان، وخزانة فارس وخراسان. وعلى الجملة؛ ما رأيت في الإسلام أعجب من دورها، ولا أحسن، قد بنيت من خشب السلج والآجرّ، شاهقة تشترى الدار الواحدة بفوق المائة ألف درهم. ثم أنها خفّت لمّا ولّى الديلم، وانجلوا الى سواحل البحر، وعمروا قصبة عمان. ثم جاءت زلزلة سنة66 أو 67 ، فقلقلتها، وحرّكتها سبعة أيّام، حتّى هرب الناس الى البحر، وتهدّم أكثر تلك الدور، وتفطّرت، وصارت آية لمن تأمّلها، وعبرة لمن اتّعظ بها. وسألتهم ما الّذي صنعتم حتّى رفع الله حلمه عنكم ؟ قالوا: كثر فينا الزنا، وفشا فينا الربا.قلت: فهل اعتبرتم بما أرى ؟ قالوا: لا. وحدّثت عن نسائهم بشيء قبيح، ورأيت أهل فارس مع كثرة فسقهم، يضربون بهم الأمثال»(المصدر السابق ص426).
وعندما ذكر ناحية كرمان، قال: «ويكثر الزنا والفساد بنرماسير حينئذ، وسمعت بعض الجمّالين يقول: ها هنا امرأة قد زنى بها جميع أهل النفر عن آخرهم، في هذه السفرة»(أحسن التقاسيم ص469).
وذكر المؤرخ الألماني (آدم متز) في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» ــ وهو أحد المراجع التاريخية المهمة ــ، أن عضد الدولة قد فرض ضريبة على الراقصات، والقحاب في فارس، وكان يضمن هذه الضريبة (الحضارة الإسلامية 174/2).
وضمان الضريبة، معناه أنه يضمن لها أن تزاول عملها ما دامت تدفع الضريبة.
ويؤكد ذلك؛ ما ذكره العالم الجغرافي البيروني ــ وهو إيراني، ولد في خراسان، وعاش فيها، وفي فارس، وجرجان ــ في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة»، بعد أن حكى عما كان عليه ملوك الهند، فقال: «فإنّ اللواتي تكنّ في بيوت الأصنام، هنّ للغناء، والرقص، واللعب، لا يرضى منهنّ برهمن ولا سادن بغير ذلك، ولكنّ ملوكهم جعلوهنّ زينة للبلاد، وفرحاً، وتوسعة على العباد. وغرضهم فيهنّ بيت المال، ورجوع ما يخرج منه إلى الجند إليه من الحدود والضرائب. وهكذا كان عمل عضد الدولة، وأضاف اليه حماية الرعيّة عن عزاب الجند»(تحقيق ما للهند من مقولة ص430).
وقد بنى عضد الدولة في شيراز داراً عجيبة، وصفها المقدسي فقال: «لم أر في شرقٍ ولا غربٍ مثلها، ما دخلها عامّىّ الّا افتتن بها، ولا عارفٌ إلا استدلّ بها على نعمة الجنّة وطيبها، خرّق فيها الأنهار، ونصب عليها القباب، وأحاط بالبساتين والأشجار، وحفر فيها الحياض، وجمع فيها المرافق والعدد. وسمعت رئيس الفرّاشين يقول: فيها ثلاثمائة وستّون حجرة وداراً، وكان مجلسه كلّ يوم واحدة الى الحول»(أحسن التقاسيم ص449).
وبنى عضد الدولة مدينة (كرد فناخسرو)، وكانت غاية في الحسن، وجعل لها عيداً في كل سنة، يجتمع فيها للفسوق واللهو(أحسن التقاسيم ص431).
وقال ياقوت الحموي عن مدينة كرد فناخسرو: «واتخذ بها القوّاد دوراً، وعقارات جليلة، وجعل لها عيداً في كل سنة، يجتمع إليه للفسق واللهو. والآن قد خربت بعد موته، وبطلت رسومها، وكان وصول الملك إليها لثمانٍ بقين من شهر ربيع الأول سنة 354، وجعل هذا اليوم عيداً يجتمع فيه الناس من النواحي للشرب، والقصف، ويقيمون فيها سبعة أيام، في أسواق تستعدّ لذلك»(معجم البلدان 450/4).
وعلى منواله سلك باقي أمراء بني بويه، بختيار، وبهاء الدولة، وفخر الدولة، ومجد الدولة.
أما بختيار؛ فقد اشتغل باللعب، واللهو، وعشرة النساء، والمغنيين (الكامل في التاريخ 268/7، المختصر في أخبار البشر 106/2).
وأما فيروز ــ بهاء الدولة ــ ؛ فقد جمع من الأموال ما لم يجمعه أحد من بنى بويه، وكان يبخل بالدرهم الواحد، ويؤثر المصادرات (المنتظم 95/15).
وأما فخر الدولة؛ فقد ذكر عنه أنه قال: «جمعت من الأموال لولدي ما يكفيهم، ويكفي عسكرهم، خمس عشرة سنة إذا لم يكن لهم مادة إلا من الحاصل»(المنتظم 394/14).
وكان قد ترك ألفي ألف، وثمانمائة ألف، وخمسة وسبعين ألفًاً، ومائتين وأربعة وثمانين ديناراً. وكان في خزانته من الجواهر، واليواقيت، واللؤلؤ، والبلخش، أربع عشرة ألف وخمسمائة وعشرين قطعة، قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن أواني الذهب ما وزنه ألف ألف دينار، ومن أواني الفضة ما وزنه ثلاثة آلاف ألف(المصدر السابق 39/14). وهذا مما يدل على حبهم الشديد لجمع المال والغنى.
وكانوا يستعملون المال في إرضاء الجند، لضمان استمرار حكمهم(تاريخ الدولة البويهية ص179) ، كما أنهم ــ ما عدا عضد الدولة ــ لم يولّوا العمران أهمية، خوفاً من نضوب المال لديهم.
وأما مجد الدولة، بن فخر الدولة بن بويه؛ فكان متشاغلاً بالنساء(الكامل في التاريخ 710/7)، وروى ابن الأثير ــ في أحداث سنة عشرين وأربعمائة ــ أن مجد الدولة البويهي ــ ملك الري ــ جمع بين خمسين امرأة حرة، ولما سئل عن ذلك، قال: «هذه عادة سلفي»(المصدر السابق 711/7).
وظاهر الكلام يوحي أنه تزوّجهن، ولم يقصد التسرّي. ولا يمكن بحال أن يكون جمع بينهن بنكاح دائم شرعي، فلا بد أن يكون تزوّجهن بنكاح المتعة، ومن المعلوم أن المنكوحة متعة ليست من ضمن الأربعة ــ كما شرحنا ذلك من قبل ــ ، فيجوز لرجلٍ أن يجمع بين خمسين منهن. وقوله: «هذه عادة سلفي»، تشير إلى أن هذه كانت عادة حكامهم.
فحبهم للنساء، وتشاغلهم بهن، وبجمع الأموال، وعنايتهم بدين المجوس، ودور عبادتهم، وتسمّيهم بأسماء مجوسية، وفارسية، ترجّح فكرة أن تكون المجوسية أثّرت على سلوكهم إلى حد كبير.
وتشاغلهم بالمتعة، وتعاطيهم لها ــ على ما ورد عن مجد الدولة ــ يدل على أن القول بتحليل المتعة، كان على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية لهم، إذ أنّى لهم التمتع في ظل تحريم المتعة؟
ونستطيع أن نقول: إن هذه هي المرّة الأولى التي يسجَّل فيها انتشار نكاح المتعة، في مجتمع من المجتمعات الإسلامية.
فقد يقال: إن هذا الكلام مردود، من وجوه:
الأول: إنه قد ذكر المؤرخون الكثير عن المناقب الحميدة، لعضد الدولة وباقي حكام بني بويه، وشهد لهم الناس بالدين والخلق، فقد ذكر المؤرخ أبو شجاع الروذراوري، في ترجمة عضد الدولة: «كان ملكاً كامل العقل، شامل الفضل، حسن السياسة، كثير الإصابة، قليل السقطة، شديد الهيبة، بعيد الهمة، ثاقب الرأى»(الذيل 53/7).
وقال غيره مثل ذلك. فكيف يحسن أن يقال عنه ما قيل من الكلام الجارح لدينه وخلقه؟
الثاني:إن حكام بني بويه كانوا معروفين بتعصّبهم للمذهب الشيعي الإمامي، وتمسكهم به. ومن كان هذا حاله، لا يسعنا القول بفسقه، ومجونه، وميله للمجوس.
والثالث:إن المجوس أهل كتاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب»، وهم بدفعهم الجزية يجوز الإبقاء على بيوت نارهم، وعدم التعرض لهم في دينهم.
والرابع:قد ذكرتم في كتبكم قبول علي بن أبي طالب هدية النيروز، وأنه أهدي إليه الفالوذج في يوم النيروز، فقال: «نورزونا كل يوم»(أخبار أبي حنيفة وأصحابه، ص16)، وذكره الخطيب البغدادي في تاريخه.
وقال العسكري في معاوية: «إنه أول من أمر بالنيروز والمهرجان». وكذلك فعل كافة خلفاء بني أمية وبني العباس.
فلم اسأتم الظن بأمراء بني بويه دوناً عن باقي الخلفاء ؟
والخامس:قد نُقِل عن عضد الدولة رعايته للأدباء والشعراء، وأضحت فارس في عهده مركزاً لنهضة الأدب العربي، ويرتادها الشعراء والأدباء من مختلف الأقطار، بينما لم تشهد اللغة الفارسية في عهده أي اهتمام، كما لم تقم فارس بدورها المفترض ــ كمركز نهضة للثقافة الفارسية ــ مما يدل على عدم تأثرهم بالأدب الفارسي وتاريخ الفرس ــ كما يقال ويشاع عنهم ــ .
والسادس:إن أسماء أبناء بويه الثلاثة: علي والحسن وأحمد، وهي أسماءٌ إسلاميةٌ عربيةٌ خالصة، وهذا ــ لوحده ــ براءة لهم من تهمة الانتماء للمجوسية، أو الميل لها.
والسابع:إن المسلم مأمورٌ بتقوى الله، وتحرّي الصدق في القول، وعدم الطعن في دين الآخرين، وتفسيقهم، خصوصاً إذا أظهروا إسلامهم. والإسلام يجُبّ ما قبله من الكفر والشرك، ولا يجوز قذف التهم إلاّ بأدلة دامغة لا تقبل الدحض، وعدا عن هذا، فالواجب الكف عن طعن الناس.
فنقول؛ جواباً عن الأول: إن الفعل أثبت ــ في الحكم ــ من القول، وإن ما يفعله الرجل أوكد في وصف حاله مما قيل عنه، أو قال هو عن نفسه. ولا سبيل إلى الحكم على خصال الرجل وخلقه من قوله، أو مما يقال عنه، بل من فعاله.
ثم إن المؤرخين الذين ذكروا مناقب حميدة لحكام بني بويه، هم أنفسهم من ذكر تلك المعايب والمفاسد، وهم إنما سلكوا مذهب الحياد والإنصاف، في ذكر كل ما ورد إليهم وبلغهم من الأخبار، وهذا لهو عين الإنصاف.
أرأيتم لو أنهم ذكروا معايب الحاكم، ولم يذكروا ما نُقل عنه من طيب الذكر، لعُدّوا متحاملين عليه، مناصبين له العداء.
ولو ذكروا مناقب الحاكم، وسكتوا عن ذكر معائبه، لعُدّوا من المجاملين، المنافقين، المتملقين له. فوجب الإنصاف والحياد، وذكر كل ما يُقال.
ولا عجب في أن يُذكر الحاكم بطيب الخصال، خاصة وأن العديد من الناس، والمؤرخين، والشعراء، والأدباء، يرتادون بلاطه، ويحرصون على ذكر مناقبه، وإشاعتها، وإن كان الحق خلاف ذلك. وتجد الحاكم في تعاملهم معهم غاية في الخلق والفضل، وهذا كله معروف معهود.
ولقد رأينا ما ذكر من مديح الكلام، وطيب الخصال، عن حكامٍ حكموا في زماننا الحالي، ثم تبين لنا بعد ذلك فسادهم، وخيانتهم لدينهم، وشعبهم، وفحش أخلاقهم.
وقد اشتهرت أبيات عن عضد الدولة، نقلها عنه العديد من المؤرخين والأدباء(البداية والنهاية 300/11، المنتظم 293/14، الكامل 390/7)، ويقول فيها:
ليس شرب الكأس إلا في المطر وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ناعمات في تضاعيف الوتر
راقصات زاهرات نجّل رافلات في أفانين الحبر
مطربات محسنات مجّن رافضات الهم إبّان الفكر
مبرزات الكأس من مخزنها مسقيات الخمر من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ملك الأملاك غلاب القدر
ونلاحظ ركاكة الأبيات، وعدم مناسبتها لبحور الشعر، وهذا معلّل بكونه ليس من أهل العربية الفصحى.
وهي تكشف عن عشقه للخمر، وللنساء، وعن فساد عقيدته، فإنهم ذكروا أنه لم يفلح بعد قوله البيت الأخير، وفيه «غلاب القدر»، ولازمه المرض، حتى هلك بعلّة الصرع(شذرات من ذهب في أخبار من ذهب 390/4).
فالحاصل؛ أن العديد من المصادر المختلفة، استقيناها من مؤرخين، متباينين في مذاهبهم، ودياناتهم، وأصولهم، وجغرافيين فارسيين، وعرب، أجمعت على أن فارس كانت في ذلك الوقت وكر فساد ومجون، وأن حكام بني بويه سهّلوا هذا الفساد، وأعانوا عليه بفسقهم.
وعن الثاني نجيب: إن تمسك حكام بني بويه بالتشيع غير صحيح، وإنما هو قول أشاعه الشيعة أنفسهم، ولم يتفق عليه المؤرخون.
وقد تكلم كثير من المؤرخين عن بني بويه، وعن عدم استقامتهم، وصلاح أمرهم في الدين.
أما عن تشيعهم؛ فأغلب الظن أنه كان تشيّعاً في الظاهر، ولم يكن تعصباً للمذهب، وما جرى من فتنٍ أيام معز الدولة، إنما كان لحساسية خاصة، كونه في بغداد، ويقيم فيها الخليفة العباسي.
ثم إنه لم تكن هناك إشارة تدل على تديّنهم، فعلي بن بويه مثلاً تظاهر بالتشيع، وحكم أغلبية سنية في فارس، ومال إلى المجوس.
وقد نقل ابن الجوزي عن أحد القرامطة، قوله: «لو فطنا لما فطن له ابن بويه الديلمي، لاستقامت أمورنا، وذلك أنه ترك المذاهب جانباً، وطلب الغلبة والملك، فأطاعه الناس»(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 283/13).
ويُفهم من هذا الكلام عدم تمسكه بمذهب معين، قدر تمسكه بالسلطة، والقوة، والحرص عليهما.
وقال ابن الأثير الجزري: «لقد بلغني؛ أن معز الدولة استشار جماعة من خواص أصحابه، في إخراج الخلافة من العباسيين، والبيعة للمعز لدين الله العلوي، أو لغيره من العلويين. فكلهم أشار عليه بذلك، ما عدا بعض خواصه، فإنه قال: «ليس هذا برأيٍ، فإنك اليوم مع خليفة، تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلوييين خليفة، كان معك من يعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه. فاعرض عن ذلك»(الكامل 160/7).
وذكر ابن سعد القرطبي قريباً من هذا، فقال:«وعزم معز الدولة على أن يبايع أبا الحسن ــ محمد بن يحيى ــ الزيدي العلوي، فمنعه الصيمرى من ذاك، وقال: إذا بايعته استنفر عليك أهل خراسان، وعوام البلدان، وأطاعه الديلم، ورفضوك، وقبلوا أمره فيك. وبنو العباس قوم منصورون، تعتل دولتهم مرة، وتصح مراراً، وتمرض تارة، وتستقل أطواراً، لأن أصلها ثابتٌ، وبنيانها راسخ»(صلة تاريخ الطبري 354/11).
فقد أراد المعز أن يبايع لإمامٍ علويٍ، وهذا مخالفٌ لمذهب الإمامية، ثم ترك الأمر، وأعرض عنه لما أدرك أن هذا قد يؤثر على ملكه.
وهذا مما يدلل أن مسائل الحكم والسياسة، كانت خاضعة عندهم لمقاييس أهوائهم، ومصالحهم الشخصية، لا لمبادئ اعتنقوها، ودين التزموه.
والجواب عن الثالث: إن المجوس ليسوا بأهل كتاب، ودليل ذلك أنهم لم تشملهم الآيات التي ذكرت أهل الكتاب.
فليس لنا أن نلحقهم بأهل الكتاب إلّا في ما دلّ عليه النص، كأخذ الجزية منهم، كما صحّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر (رواه البخاري حديث رقم 3157)، إلا أنه لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.والجزية تؤخذ منهم عوض أمانهم، وسكناهم بين أظهر المسلمين.
أما ما ورد عن حديث «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب»، فهو حديث معلولٌ بانقطاع سنده، لأن محمد بن علي ــ أبا جعفر ــ لم يلق عمر، فلا يصح عندنا(نصب الراية 170/3، إرواء الغليل 88/5).
وإن صحّ، فلا دلالة فيه، إذ أن قوله «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» يدل أنهم ليسوا أهل كتاب، ولو كانوا كذلك، لقال فيهم: «هم من أهل الكتاب». وبالتالي؛ لا يمكن لنا القياس على الجزية، ولا أن نعاملهم كما نعامل أهل الكتاب، في أكلهم، ونكاح نسائهم، ودور عباداتهم.
ثم إن فارس، وسائر أراضي الامبراطورية الساسانية، فتحت عنوة، ومنها مدنٌ أنشئت بعد الإسلام ــ كشيراز ــ ، وكل مصرٍ مصره المسلمون، فليس لأهل الكتاب أن يحدثوا فيه بيعة، أو كنيسة، أو يظهروا خمراً، أو خنزيراً، أو يدقوا ناقوساً. ولا يجوز للإمام أن يقرّهم عليه، وإن شرط ذلك بينهم وبين المسلمين، كان الشرط فاسداً.
وكتب عمر ــ رضي الله عنه ــ لنصارى الشام ــ لمّا صالحهم ــ أن لا يبنوا في بلادهم ــ ولا فيما حولها ــ ديراً، ولا كنيسة، ولا صومعة راهب.
وقال أحمد: حدّثنا عبد الرزاق، أخبرني عمي قال: «كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة بن محمد، أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين. قال: فشهدت عروة بن محمد ركب حتى وقف عليها، ثم دعاني، فشهدت على كتاب عمر، وهدم عروة إياها، فهدمها»(رواه عبد الرزاق ، حديث رقم 9999).
وقال المحقق أبو القاسم الحلّي ــ من الشيعة الإمامية ــ : «لا يجوز استئناف البيع والكنائس في بلاد الاسلام. ولو استجدت وجب إزالتها، سواء كان البلد مما استجده المسلمون، أو فتح عنوة، أو صلحاً، على أن تكون الأرض للمسلمين. ولا بأس بما كان قبل الفتح، وربما استجدّوه في أرض فتحت صلحاً، على أن تكون الأرض لهم. وإذا انهدمت كنيسة، مما لهم استدامتها، وجاز إعادتها. وقيل: لا، إذا كانت في أرض المسلمين، وأما إذا كانت في أرضهم، فلا بأس»(شرائع الإسلام ص253 ).
فهذا مما اتفق عليه فقهاء السنة والشيعة، فقد اختلفوا بشأن بيوت النار المجوسية، فقال البعض: تعامل معاملة دير اليهود وكنائس النصارى، ومن ثم لا تهدم ما كان قائماً قبل الفتح. وقال آخرون: هي بيوت عبادة وثنية، ويجب هدمها. إلّا أن الكل اتفق على عدم جواز استحداث دور العبادة، في أمصار المسلمين، بعد الفتح.
ولا يقال: إن بيوت النار في فارس كانت موجودة في زمن ما قبل الإسلام، فقد اتفق الجغرافيون، كياقوت الحموي، والاصطخري، وابن حوقل، وابن البلخي، أن مدينة شيراز بنيت بعد الفتح. واختلفوا في بانيها؛ فمنهم من قال:هو محمد بن القاسم ــ ابن عم الحجاج ــ ، ومنهم من قال: هو محمد ــ أخو الحجّاج ــ(تاريخ الدولة البويهية ص303).
قال الاصطخري: «فامّا مدينة شيراز؛ فإنّها مدينة اسلاميّة ليست بقديمة، وإنّما بنيت فى الإسلام، بناها محمّد بن القاسم بن أبى عقيل، ابن عمّ الحجّاج بن يوسف، وسمّيت بشيراز»(المسالك والممالك ص124).
وقال ابن حوقل: «فأمّا مدينة شيراز؛ فمدينة إسلاميّة بناها محمّد بن القسم بن أبى عقيل، ابن عمّ الحجّاج»(صورة الأرض 279/2).
وذهب إلى ذلك أيضاً الإدريسي (نزهة المشتاق 406/1) ، والحميري(الروض المعطار ص351).
وقد ذكر الاصطخري أسماء ثلاثة بيوت نار في شيراز، هي: (كارنيان)، و(هرمز) و(المسوبان) (المسالك والممالك ص119)، وهذا يدلل أنه جرى بناءها بعد الفتح، فلا بد أن يكون زمن بنائها في عهد البويهيين، لما رأيناه من تلطفهم للمجوس، واحتفالهم بأعيادهم، وسائر ما حدّثنا عنهم.
قال الرحّالة الإدريسي: «وكان بأرض فارس بيوت نيران كثيرة، تعطّلت برجوع أكثر الفرس إلى دين الإسلام، وبقي أكثر أماكنها إلى الآن بلاقع» (نزهة المشتاق ص425).
وهذا يشير إلى أن بيوت النار قد تعطلت بعد الفتح، ودخول الإسلام فارس، فكل ما جرى ترميمه وتحديثه، إنما كان بعد الفتح، وفي عهد البويهيين، وليس الأمويين والعباسيين، لما عرف عنهم من حزمٍ وشدةٍ في التعامل مع المجوس، وأهل الكتاب، ودور عباداتهم.
وكنّا قد أشرنا إلى أسماء بيوت النار، ووضوح معالمها، مما يدلّ على عمارتها، ولو أنها لم تعمّر، لاندرست، ومحيت وأسماؤها من الذاكرة.
وقد ذكر الاصطخري بيت نار عند بركة جور ــ ويسمّى بارين ــ ، وقال: «حدّثنى ــ من رأى به ــ قد كتب عليه بالفهلويّة «أي اللغة البهلوية» أنّه أنفق عليه ثلاثون ألف درهم»(المسالك والممالك ص118).
ويدل هذا على أنه جرى تحديثٌ وترميمٌ لهذا البيت، في عهد قريب منه، ولا بد أنه عهد البويهيين.
ويعزز هذا؛ ما ذكره المقدسي في زيارته لشيراز، ومشاهدته أهلها، فذكر أن رسوم المجوس ظاهرة(أحسن التقاسيم ص421)، وقال: «ولا ترى على مجوسيّ غياراً، ولا لصاحب طيلسان مقداراً، ولقد رأيت أهل الطيالس سكارى، ويلبسه المكدّون والنصارى، وبه دور الزنا ظاهرة، ورسوم المجوس مستعملة، ولا تسمع الخطبة من صياح السّوّال، وفي المقابر مجتمع الفسّاق، وفي أعياد الكفرة تزيّن الأسواق»لمصدر السابق ص429).
وهذا كان زمن البويهيين، مما يبيّن أن المجوسي في شيراز كان في منعة وسعة في دينه، ويحتفل في أعياده جهاراً، ويحتفل المسلمون معه، وهذا كله يكشف عن الحظوة التي تمتع بها المجوس، زمن البويهيين.
أما الجواب عن الرابع: فقصة عليّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ من رواية اسماعيل بن حماد، عن جد جده النعمان بن المرزبان، واسماعيل هو ابن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، فتكون الرواية معلولة بالإرسال، إذ أنه لم يسمع من جد جده. وقد ضعّف ابن عدي اسماعيل(المغني في الضعفاء 180/1)، وهو سبب آخر يقدح بالرواية.
والرواية معارضة بما ذكره البخاري في «تاريخه» عن أيوب بن دينار، عن أبيه، أن عليّ كان لا يقبل هدية النيروز(التاريخ الكبير 414/1)، وهو الأليق بعلي بن أبي طالب، أن لا يقبل هدية من عيد المشركين.
أما معاوية ــ رضي الله عنه ــ ، فلم يرد عنه سندٌ صحيحٌ يفيد قبوله هدية النيروز، وكذا في سائر الخلفاء، إذ اقتصرت الروايات على قصص القصاصين، وكتب الأدب وغيرها.
وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز، أنه نهى أن يذهب إليه في النيروز والمهرجان بشيء(الطبقات الكبرى 291/5).
وروى الخطيب البغدادي عن زياد بن عبيد الله، أنه رأى عبد الجبار بن وائل، وعلقمة بن مرثد، وطلحة الإيامي، وزيد الإيامي، يصومون يوم النيروز، ويعتكفون في المسجد الأكبر، وكانوا يقولون: «هذا يوم عيد للمشركين» (تاريخ بغداد 476/8).
وكذلك ثبت عن الخليفة المعتضد أنه أبطل النيروز، سنة 282 هجرية(تاريخ الخلفاء للسيوطي 269/1)، وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي في مصر.
ثم إنه لم يرد احتفال الخلفاء به، بل بقبول هداياه. ولا ريب أن الاحتفال بالعيد، ومشاركة الناس أفراحهم، ولبس الجديد فيه، ليس كقبول هديته، ولا يخفى أن الثاني لا يستلزم الأول.
أما الجواب عن الخامس: فإن ارتياد الشعراء والأدباء إلى بلاط عضد الدولة صحيح، وإنما كان ذلك لسخائه، وجزله العطاء ــ كما كان معروفاً عنه ــ .
قال الروذراوري عن عضد الدولة: «كان باذلاً في مواطن العطاء كأن لا سخاء بعده» يل تجارب الأمم 53/7).
وقد شوهد فى كثير من تذاكيره، وما كان يوقّعه فى تقاويمه: «نذرنا للأمر الفلاني كيت وكيت، وكذا وكذا ألف درهم، للصدقة»، فى مواضع كثيرةلمصدر السابق 86/7).
وكان يكرم العلماء أوفى إكرام، وينعم عليهم أهنأ إنعام(المصدر السابق 87/7)، بل كان يجري الرسوم للفقهاء، والأدباء، والقراء، وسائر العلماء(المنتظم 293/14).
فلا جرم أن نرى الأدباء والشعراء يتقاطرون عليه، من كل حدب وصوب، فكان أحدهم يلقي قصيدته في بلاطه، أو يهديه نسخة من كتاب له، طمعاً في المال، والرسم، أو الحظوة.
أما عن اللغة الفارسية؛ فقد تقدّم ذكر أن البويهيين ليسوا بفرسٍ على القول الصحيح من المؤرخين.
وحتى وإن كانت أصولهم القديمة ترجع إلى الفرس، إلّا أنهم احتفظوا بهويتهم الديلمية المميزة وثقافتهم، وساهم موقعهم الجغرافي على هذا التميز، فلم يكونوا مرتبطين بالثقافة الفارسية إلا ما كان من تأثرهم بالدين المجوسي، ولم تكن اللغة الفارسية والأدب الفارسي تعني للبويهيين، قدر ما عناهم رفع شأن دولتهم واستقرارها، وجعلها مركز جذب للعرب والمسلمين.
ثم إن قلة عدد المجوس في فارس ــ نسبة إلى عدد المسلمين ــ ، إضافة إلى خضوع فارس لتأثير الحضارة العربية والإسلامية، وقربها من مركز الخلافة العباسية، كل هذا قلّل من أهمية الدافع لذلك.
وقد وُجد هذا الدافع عند السامانيين، في دولتهم في خراسان، حيث أقيمت بعيداً عن مركز الخلافة، ونشأت فيها حركات معادية للعرب، فكان المناخ ملائماً لإحياء الثقافة الفارسية القديمة، خصوصاً أن السامانيين فرسٌ متعصبون، ويهمهم إعادة إحياء لغتهم وثقافتهم.
والجواب عن السادس: إن الاسم العربي الإسلامي لا يدل على إسلام المرء، فطبيب عضد الدولة هو علي بن عباس، وهو مجوسي معروف، واسمه عربي إسلامي، وكان عبيد الله بن الفضل مجوسي، وهو أحد قادة الجيش في فارس ــ زمن بهاء الدولة ــ ، وقيل عنه أنه كان نصرانياً. وفي الحالين؛ اسمه إسلامي عربي.
وكذلك عمرو بن أخت المؤيد مجوسي(الوافي بالوفيات 89/13)، ومهران بن أبي عمر مجوسي(الثقات لابن حبان 205/9) ، ووكيع بن حسان (المعارف 621/1) ، وهي كلها أسماء عربية خالصة.
ثم إن الكثير من المجوس وأهل الذمة، قد دخلوا الإسلام في الظاهر ــ كما ذكرنا سابقاً ــ لتجنب دفع الجزية، وللحصول على بعض الامتيازات التي يتمتع بها المسلم في الدولة.
وغلبة الدين واللغة، تدفع الناس للتسمي بأسماء عربية وإسلامية، حتى وإن لم يعتنقوا الإسلام في الباطن.
وقد جرت العادة عند الأقوام التي تعتنق ديناً ما، عدم التسمي بأسماءٍ خاصةٍ بدين آخر، فلا نجد مسلماً اسمه كوهين، أو جورج، كما لا نجد نصرانياً، أو يهودياً، اسمه محمد، كما لا نجد شيعياً اسمه عمر، أو معاوية.
واسم «خسرو»، أو «فناخسرو»، من الأسماء المميزة، والخاصة في الديانة المجوسية، وتراثها، وتاريخ الفرس، ومعناه: المخلّص، وهو مصطلح يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعقيدة المجوس، وسمة مميّزة من سمات دينهم، ولذا؛ نجد تراثهم يعجّ بعدد كبير من الرجال العظماء باسم خسرو، وذلك على سبيل التفاؤل، منهم الملوك، ومنهم الكهنة، ومنهم القادة.
فالاسم له رمزية دينية عند المجوس، كرمزية اسم محمد عند المسلمين، ولا ريب أن الديلم مدركون لهذا، كونهم كانوا مجوساً، ولم يزل تراث المجوسية عالقاً في أذهانهم. وكذلك الأمر بالنسبة لاسمي (فيروز)، و(مزربان).
وكان الأوْلى بمن أسلم وآمن بالوحدانية، ونبذ مظاهر الشرك والوثنية، أن يسلك مسلك المسلمين في الأسماء والكنى والألقاب، لا أن يتسمى بـ (خسرو)، ويكنّي نفسه بـ (شاهنشاه)ــ وهو لقب فارسي أصيل ــ ، وهذا يدل على تعلقه بدين المجوس وتاريخهم.
أما الجواب عن السابع: فلا أحد يجزم أنهم مجوس، بل إننا نرجّح أن يكونوا مجوساً، متخفّين تحت ستار الإسلام، أو مسلمين لهم ميل وحب للمجوسية.
وهذا ليس من باب التخرّص في القول، بل بما دلت عليه المعطيات التاريخية، وهي شواهد تعزز الزعم وتقوّيه. والعمل بالشواهد يفضى إلى الترجيح بين الاحتمالات.
أما وجود الدليل القاطع، المؤدي للجزم، فأمر عسير في مواضع التاريخ والسير، والشواهد تقوم مقام الإثبات، وتصلح للاستدلال.
وقد قدمنا من الشواهد التاريخية الصحيحة ما يعزّز طرحنا، ويرجّح زعمنا، فلا غضاضة من ذكره.
ثم إن النصيحة للمسلمين واجبة، ولا ريب أن نصحهم، وتنبيهم من خبيثٍ مستترٍ يريد شراً بهم، أولى عند الله من الستر عليه، وانخداع المسلمين به.
وإن المسلم مأمور بالستر إذا ابتلي بالفسق، وهؤلاء لم يستروا على أنفسهم حتى نفضحهم ونكشف عوراتهم، بل أشاعوا الفسق في دولهم، وأعلنوه إعلاناً، فطعنوا في أنفسهم قبل أن نطعن فيهم، فكانوا مستحقين للريبة التي أثيرت ضدهم.
والإسلام يجُبّ ما قبله، إذا حسن إسلام المرء، وندم على ما فات، وهؤلاء لم يظهر منهم ما يدل على حسن إسلامهم، بل بدا منهم ما يشير إلى خلافه.




ونستكمل حديثنا، بذكر علاقة البويهيين بشيوخ الشيعة، ومراجعهم آنذاك، وهم الكليني، وابن بابويه القمي، والمفيد والطوسي.
فقد ذكرت الكتب رعاية حكام بني بويه لعلماء الشيعة، ويقر الشيعة بذلك.
فأما الكليني؛ فقد قال عبد الرسول الغفاري عنه، في كتابه «الكليني والكافي»: «أقول: لقيام بعض الإمارات الشيعية في بعض نواحي إيران، كان له الأثر الكبير لتعزيز مواقع الشيعة في قم، وبلاد الري، ثم لظهور آل بويه على الساحة السياسية كان هو العامل الآخر، مما شجع بعض العلماء في الهجرة الى العراق، حيث نزل بعضهم مدينة بغداد، لكونها بلد العلم، ومركز الخلافة فيها. ففي ظل إمارة عماد الدولة، ومعز الدولة، وركن الدولة، هاجر الشيخ الكليني إلى بغداد، وسكن الكرخ، حيث موطن الشيعة هناك. لقد عرفت من الفصل السابق، قول النجاشي في حق الشيخ الكليني، إذ قال: «شيخ أصحابنا ــ في وقته ــ بالريّ، ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديث»، فلست أدري هل للشيخ الكليني ــ قدس سره ــ دور سياسي لتشييد إمارة بني بويه - سواء كان في ايران أو في العراق -أم ليس له دور حقيقي؟ من خلال بعض النصوص، وما قاله النجاشي في حق الشيخ، يتضح أن شهرة الكليني لم تخف على أمراء آل بويه في وقتهم، وأن منزلته بين العلماء لا تنكر ــ وبالخصوص في الوسط الشيعي ــ فهل يعقل أن لا يتصل به عماد الدولة، وأخويه: ركن الدولة، ومعز الدولة، في الوقت الذي كان هؤلاء يظهرون تشيعهم، ويتودّدون الى أهل العلم والعلماء، بل ويهتمون بهم، ويصلونهم بالمال، ويبذلون لهم ما أمكنهم، وإقامة صرح الدين وتعضيد المذهب؟»(الكليني والكافي 265/1).
وهو يصرّح هنا ببذل البويهيين المال لشيوخ المذهب الشيعي الإمامي، والتودد إليهم، ودعمهم، والاتصال بهم من قبل تأسيس دولتهم، كما يرجح فكرة أن يكون للكليني دور في إمارة بني بويه، ويرجح إحتمال وجود علاقة بينه وبين الحكام المؤسسين للدولة.
أما المفيد؛ فقد ذكروا أن عضد الدولة كان يزوره في داره، ويعظّمه كثيراً (أوائل المقالات ص262).
وقال ابن بابويه القمي ــ عند ذكره لعضد الدولة ــ : «وكان يعظّم الشيخ المفيد غاية التعظيم»(الكنى والألقاب 26/3).
وقال ابن حجر ــ في ترجمة المفيد ــ : «له صولة عظيمة بسبب عضد الدولة»(لسان الميزان 368/5).
أما ابن بابويه، والطوسي، فقد عاشا برعاية وحماية البويهيين ودعمهم(تاريخ الدولة البويهية ص283)، وقد ذكر ابن بابويه ما يشير إلى تمتعه بالحظوة عند ركن الدين الحسن بن بويه أمير الري، وحسن علاقته (عيون أخبار الرضا ص312). وقد نزل ابن بابويه الري، وعاش هناك، ومات ودفن هناك.
وهنا تكمن لُبّ الحكاية، وأصل الغواية، فالديلم حديثوا عهدٍ بالإسلام، وتأثروا بالمجوسية دينهم القديم، وظهر منهم من حكم وأسس الدولة البويهية، وقد علمنا حالها، ودعمها للمجوس، وميل حكامها لهم، وتأثرهم بهم، وقد غرقوا في ملذات الدنيا، وشاع منهم الفسق وزواج المتعة، وارتبطوا بعلاقات متميزة مع شيوخ الشيعة الإمامية، وكللوهم برعايتهم، وأمدوهم بالمال، وانتشر الفسق والرذيلة في عهد حكام بني بويه، حيث كانوا غارقين في ملذاتهم وشهواتهم.
ولا شك أن هذه البيئة التي تحمل كل هذا الفساد والمجون، تشجّع إلى حد كبير، ظهور مثل هذه الأفكار التي تنادي بتحليل المتعة.
بل إن المتعة تكاد تكون فضيلة عند الناس، بالمقارنة مع الفجور مع العاهرات في دور الزنا، فالحاكم مغموس في شهواته، وجُلّ ما يهمه انغماس الشعب معه، وأن لا يخلو قصره من النساء، والفتيات الحسان.
أضف إلى ذلك؛ تأثر الحكام الظاهر بالمجوس وعاداتهم، وثقافتهم، وقد علمنا أن نكاح المتعة جزءٌ منها.
وغالب الشعب يألف هذا الزواج، ومنهم من مارسه إلى عهد قريب، فلا غرابة أن يكون أمر مرأمرأمرلا الاعتقاد بتحليله سهلٌ عندهم، لا سيّما إذا علموا أن له أصلٌ في التشريع الإسلامي، وأنه كان مباحاً أول الإسلام.
فتشريع نكاح المتعة أعاد إحياء تعاليم هذا النكاح في دينهم القديم، وخوّل لهم التزوّج بما يشاؤون من النساء بالمتعة، وانغمس الشعب في الملذات، فيلهو وينشغل بنفسه عن حاكمه، فكانوا حريصين عليه، وحرص مراجع الشيعة على تشريعه وتحليله أكبر.
ولقد رأينا انفراد ابن بابويه القمّي برواياتٍ ذكرها في كتابه لم يذكرها من هو قبله ــ الكليني ــ ، ولا من بعده ــ الطوسي ــ ، وكذلك التناقض الكبير بين الروايات، وغرابة بعضها عن روح الإسلام وأصوله ومقاصده، كما سنكشف عن بعضها، مما يرجّح أن المرجع لهذه الروايات ليس القرآن الكريم، ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أقوال الأئمة،كما يزعمون.
ولعل ما يجدر بنا ذكره هنا؛ أن نكاح المتعة مارسه أهل فارس وإيران، من مسلمين وغيرهم، فقد ذكر (السير ويلسون) في كتابه «جنوب غرب فارس» ــ عن مذكراته في الفترة من ١٩٠٧ إلى ١٩١٤ ــ أن الأهالي في فارس، وخصوصاً المسيحيين الأرمن والأشوريين، كانوا ينتظرون حلول البريطانيين، والأوربيين، ليعرضوا عليهم نكاح المتعة، وكان موسماً جاذباً لهم، وكان يتم ذلك عبر تنسيقٍ مما يسميهم «مرتبي الزيجات»(جنوب غرب فارس ص290).
وهذا يدل على أن نكاح المتعة في إيران لا يختص بدين الاسلام، بل هو من التقاليد القديمة للشعب الفارسي كما بينّا، ومن موروثات المجوسية القديمة التي سادت إيران في عصور ما قبل الاسلام، مما يعزز فرضية أن المجوسية وعادات الفرس، هي التي أثّرت على التشيّع لاحتضان فكرة المتعة وتبنّيها، لا العكس.
ومما يؤكد صحة رأينا؛ أن العرب قد بعد عهدهم بنكاح المتعة من بعد تحريمه، ولم يعودوا يمارسونه، ولم يرد في تراثهم، أو كتبهم، ما يشير إلى ممارستهم له، بعد زمن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ ، بينما الفرس عهدهم بالمتعة قريب، ولم يزل المجوس ــ من الفرس والديلم وغيرهم ــ يفعلونه، ويمارسونه، من قبل الدولة البويهية، وفي زمنها كذلك.
وقد ذكرنا أن الكليني قام بتأليف كتابه في الفترة بين 294 إلى 300 هجرية، وكان ذلك بمدينة الري، وكذلك ابن بابويه عاش فيها ومات فيها. وقد شهدت مدينة الري وما حولها في تلك الحقبة من الزمن، أحداثاً عاصفة، وحروباً طاحنة، أفضت إلى تقلب السلطة، وكثرة الصراعات عليها.
فقد استولى عليها محمد بن هارون سنة 289 هجرية. وكذلك استولى عليها محمد بن إبراهيم صعلوك، ثم أحمد بن علي صعلوك، ثم يوسف بن أبي الساج سنة 311، ثم نصر بن أحمد الساماني سنة 314، ثم ليلي بن النعمان الديلمي سنة 315، ثم (ماكان بن كالي)، ثم استولى عليها (أسفار بن شيرويه)سنة 316، ثم تملكها (ميرداويج) سنة 318.
ثم تأسست الدولة البويهية في (الري)، على يد ركن الدولة الحسن بن بويه، وذلك سنة 321 هجرية.
وهؤلاء الذين ذكرناهم، كانوا إما ديالمة أو فرساً، وكانوا متأثرين بالمجوسية. بل منهم من كان مجوسياً في الباطن ومسلماً في الظاهر، مثل (أسفار)، و(ميرداويج)، والله أعلم بالآخرين.
وفي مدينة الري، ألّف الكليني كتابه، في خضم هذه الحقبة الزمنية. ولا بد أن الجو العام قد تأثر بمزاج هؤلاء الحكام، وأفكارهم ومشاعرهم نحو المجوسية، لا سيما إذا عرفنا، أن مدينة الري كانت مدينة زرادشتية، التزمت عبادة النار (المصدر السابق ص131).
وقد علمنا ما كان من دور الكليني، في تأسيس هذه الدولة الشيعية المجوسية، التي اتخذ أمراؤها الإسلام ستاراً، ومدى الرعاية التي حصل عليها الكليني، هو وغيره من شيوخ الشيعة، على أيدي هؤلاء.
وقد علمنا، ارتباط أبناء بويه بالقائد (ميرداويج)، و(ماكان)، ومجوسية هؤلاء في الباطن. فلا نبعد مطلقاً حصول الرعاية لأمثال الكليني، في فترة ما قبل عهد البويهيين، ثم له ولابن بابويه القمي من بعدهم.
فلنا أن نقول: إن هذه الحقبة الزمنية، شهدت حالة تزاوج، ومصالح متبادلة، بين شيوخ الشيعة من جهة، والحكام الديالمة والفرس، الذين حكموا الري وقم وطبرستان، ممن كانوا مجوساً، أو ممن قرب عهدهم بها وتأثروا بها، من جهة أخرى.
هذه الشرذمة من الأمراء والحكام، كلّلت شيوخ الشيعة بالرعاية، والشيعة أمدت هؤلاء الحكام بالدعم. وكتاب «الكافي»، ما كان إلا نتاجاً لتلك الحقبة.
وبدء تحوّل الديلم إلى الإسلام في تلك الفترة، وتغلّب حكام مدينة الري وطبرستان وقم، ممن تأثروا بالمجوسية، أو كانوا مجوساً في الباطن، وما يتبع ذلك من تغلّب المجوسية على الأرض، تشير إلى إمكانية وقوع التأثير المفضي إلى تسريب الأفكار والاعتقادات.
وساعد ذلك؛ حقيقة أن الشيعة والمجوس اختلطا ببعضهما البعض، وتعايشا جنباً إلى جنب في مجتمعاتهم. وهذا التعايش والاندماج بين أصحاب المعتقدات، غالباً ما ينشأ عنه التأثير المفضي إلى تسريب المعتقدات.
والتأثير يكون من الأقوى. والمجوس في تلك الحقبة الزمنية، وفي تلك الناحية من بلاد فارس، كانوا هم الأقوى جانباً، ولهم الغلبة على الأرض.
فلا أجد غضاضة ــ في ضوء ما ذكرنا ــ في التصريح بأن الكليني كان ضحية لهذا التأثير من المجوسية.
وعدم وجود ذكرٍ لهذه المرويات عن أهل البيت، حول المتعة في ما قبل عصر الكليني، يرجّح ذلك ويقويه، إذ لو كانت موجودة لاشتُهر أمرها، ولأشيع قولهم فيها، عبر ديار الإسلام.
وحتى لو ثبت قولهم بالمتعة، في ما قبل ذلك العصر، فلا يلزم منه وجود تلك الروايات التي ذكرها الكليني في كتابه، والتي بموجبها اتفقت كلمة الشيعة الجعفرية على إباحة المتعة.
ولنا أن نقول أيضاً: قد ابتدأ قول الشيعة بالمتعة في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، ودون وجود أثر لتلك المرويات، بل تمسكاً بآية الاستمتاع، وعناداً لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم قاموا باختلاق هذه الروايات لتدعم حجج مذهبهم، تماماً كما آمنوا بإمامة أهل البيت، دون وجود النصوص عليها، وآمنوا بوجود المهدي الغائب، بالأدلة العقلية الافتراضية، واستناداً إلى نظرية اللطف الإلهي، ثم شرعوا بعد ذلك، في اختلاق الروايات التي تثبت صحة أقوالهم، وساعدهم في ذلك، اختلاطهم بالمجوس، واندماج الاثنين، وتعايشهم جنباً إلى جنب.
إن استقاء الكليني، وسائر من تبعه من شيوخ الشيعة المتقدمين، فكرة المتعة من المجوسية، ومن عادات الإيرانيين، وإعادة إحيائها في كتبهم، لهي أقرب إلى المنطق من استقائهم لها من الإسلام ومن عادات العرب، فالتاريخ، والجغرافيا، يستبعدان ذلك، بل يمنعانه.
أما التاريخ؛ فإنه قد مضى على ترك المتعة، أكثر من ثلاثة قرون عند العرب والمسلمين، بينما لم يمض على تركه زمان، عند الفرس والمجوس المعتنقين للإسلام، كالديلم وغيرهم.
بل إن القرن الثالث الهجري، كان قرناً حرِجاً، حاسماً، تخلّله كثير من مظاهر التحوّل إلى الإسلام واعتناقه، من قبل كثيرٍ من الديلم، والفرس، وما استتبع ذلك من التأثر بالأديان، وتسريب الأفكار، واختلاطها على البعض، نتيجة تغيير العقائد، وأحكام الشرائع.
وفي خضم هذه الفترة، ظهر القول بإباحة المتعة في الإسلام، وهي التي تجيزها الديانة المجوسية، ويألفها المجتمع الإيراني بكافة أقوامه، ثم راج هذا القول وأشيع، مع أواخر القرن الثالث الهجري، وبداية القرن الرابع، حتى ظهر في المجتمع الشيعي الأعجمي، وأصبح سمة بارزة من سماته، في عهد البويهيين.
أما الجغرافيا؛ فإن الكليني والقمي من أهل إيران، وولدا وعاشا فيها، وتأثرا ــ تبعاً لأحكام الجوار ــ بمعتقدات أهلها وتراثهم. وأوّل ما ظهرت المتعة في ثوبها الإسلامي كانت في مجتمعهما، مما يرجّح احتمال اقتباسهما لفكرة المتعة منهم.
وهذا المنحى طبيعيّ في الأمم والأفراد، فإن الناس يتأثرون بمن دنا أكثر من تأثرهم بمن بعد عنهم، ومما قرب عهدهم به أكثر مما طال به العهد.
فإن دخول الفرس إلى الإسلام، استتبعه مخالطة دينهم القديم المجوسي للدين الجديد، فحدث التأثير على المسلمين.
وقد قوي نفوذ الفرس أبان الدولة العباسية، وتوسّع الخليفة المنصور في الاستعانة بالفرس في إدارة الدولة، وزاد نفوذهم في عهد الرشيد، فلم ينته القرن الثاني الهجري، حتى بات الفرس يتحكمون في كثير من مقدّرات الدولة، لدرجة أن الجاحظ وصف دولة العباسيين أنها دولة أعجمية خراسانية(البيان والتبيين ص237).
وقد تزوّج هارون الرشيد من فارسية اسمها مراجل، وهي من الفرس البرامكة، وهي أم المأمون.
وعُرف عن المأمون في عهد خلافته ميله للفرس واعتماده عليهم، وكانت أكثر إقامته في بداية خلافته في مرو (عاصمة خراسان)، حيث تضم أنصاره ومؤيديه، قبل أن يستقر في بغداد، بعد تعاظم الثورات والقلاقل.
إضافة إلى ذلك، فإن ازدهار حركة الترجمة، أسفر عنها ترجمة عددٍ هائلٍ من الكتب الفارسية، في مختلف العلوم والمعارف، مما نشأ عنه تأثر الكثيرين بعلوم الفرس، وآدابهم، وثقافتهم.
وقد فسد اللحن العربي كذلك، من جملة ما تأثر بالفرس ولغتهم. وقد بدا واضحاً تأثر اللغة العربية بالفرس، وتعلّق الألفاظ العجمية فيها، بسبب اختلاط العرب بالفرس، فسمّوا البطيخ خربز، وسمّوا القثاء خيار، بالرغم من أن البطيخ والقثاء لفظتان عربيتان، فصيحتان، والخربز والخيار عجميتان فارسيتان، وغيرها الكثير من الألفاظ(المصدر السابق ص41).
وكل هذا؛ كان له أثره الكبير في شيوع عقائد الفرس القديمة، خصوصاً ممن كان يعتنقها قبل أن يتحوّل إلى الإسلام، وعهده بها لم يزل حديثاً، تماماً كما حدث عند زيادة النفوذ الروماني واليوناني على المسيحية، مما كان له أثره في شيوع عقائدهم، وتغلغلها، واختلاطها بالديانة المسيحية، وتأثر اللغة الواضح، حتى أضحت اللغة اليونانية اللغة الدينية للمسيحية، بدلاً من اللغة الآرامية القديمة، والعبرية.
فحاصل القول؛ أن المتعة من نفايات الزرادشتية، وابتدأت التغلغل في المذهب الشيعي الجعفري، في ما بعد النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، دون أن تشكّل رأياً عاماً للمذهب، متفقاً عليه.
وإن تحول الكثير من المجوس للإسلام عبر القرن الثالث، كان له الأثر الكبير في ظهور بعض الرواسب من دينهم القديم، ومن بينها المتعة.
ولا يبعدأن يكون الديلم وراء هذا التغلغل، إلّا أننا لا يمكننا الجزم بذلك. ولعلهم ممن ساهم بإشاعتها، خصوصاً أنه تزامن بداية اعتناقهم الإسلام، مع بداية إشاعة القول بالمتعة عند الشيعة.
ثم أصبح القول بالمتعة عندهم مشهوراً، في أواخر القرن الثالث الهجري. ولكنهم لم يتّفقوا عليها، إلّا بعد ظهور الروايات التي ذكرها الكليني عن المتعة، ونسبها إلى الأئمة. وحالها في ذلك، حال كثيرٍ من الأحكام الشرعية التي لم يكن يتبنّاها الشيعة، قبل أن يذكر فيها الكليني روايات منسوبة إلى الأئمة.
ثم ساهم البويهيون في إشاعة القول بها، ورواجها في المجتمع الشيعي، من خلال تبنّيها، وممارستها، ودعمهم لشيوخ الشيعة.
وبعد ذلك؛ أضحت من ضروريات مذهب الشيعة الإمامية، وغدت من الشعائر الأساسية التي يجب توافرها في أي مجتمع شيعي، والفضل كله يعود للكليني، وابن بابويه القمي من بعده، والديالمة والبويهيين من ورائهما.
ولكن هذا لا يمنعنا من التطرق قليلاً إلى بعض الشواهد والأدلة، التي تؤكد استقاء المذهب الشيعي لكثيرٍ من عقائده وأحكامه من المجوسية، ليزداد اعتقادنا رسوخاً، أن المتعة صنيعة مجوسية.

النكاح في فارس القديمة (1)
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=160987

المرأة بين الشيعة والمجوس (2)
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=161113






التوقيع :
قال ابن القيم -رحمه الله-:
احترزْ مِنْ عدُوَّينِ هلكَ بهمَا أكثَر الخَلق:
صادّ عن سبيلِ الله بشبهاتهِ وزخرفِ قولِه، ومفتُون بدنيَاه ورئاستِه .
من مواضيعي في المنتدى
»» هام / حول كيفية كتابة "الصلاة" على الرسول الكريم
»» (بين الشيعة والمجوس) لأبي يحيى الخنفري (1)/ [النكاح في فارس القديمة]
»» الرسالة الخنفرية في الرد على الشيعة الجعفرية / لأبي يحيى الخنفري
»» لا إله إلا الله لا تفيد بدون إمام ... ؟!!!!
»» انتحار النجل الأصغر لشاه إيران السابق في أمريكا ...