»علم التصوف فقه واجتهاد«
`إذا كان علم التصوف فقها كالفقه الذي نعلم فلماذا قلدت يا أستاذ من تعلم أكثر من غيرك أنه لم يكن فقيها، بل لم يكن يعرف الكتابة والقراءة، بعبارة أخرى كان أميا، أم أن علم التصوف كما تراه يجعل للأمية شرفا في اعتقادك، إن الأمية منقبة وميزة وشرف في حق الرسولe وحده أما من سواه ((طلب العلم فريضة)) في حقه، نعم إن التصوف إذا كان محكوما بقيود الفقه المبني على الكتاب والسنة فلا جدال، فليحفظك الله يا أستاذ من الشر أن تخلع تصوف الجهل وترمي بنفسك في أحضان الفقه بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فإن ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) بل إن الإخلاص إذا فاتك في البداية يمكن أن تعود وتراجع فيه نفسك، كما فعل غير واحد من السلف، قالوا طلبنا العلم ولم تكن لنا نية ثم رزقنا النية بعد. ترى لو تاهوا بين الزوايا بجهل فمتى يعودون!؟ أحسن أحوالهم أن يتجاوز عنهم الحق سبحانه بمنه أما أن يكونوا لعباده قدوة وأسوة فمحال!.
` قال الأستاذ عبد السلام ياسين: »قصدي في هذه الصفحات أن أدل على الله وعلى الطريق إليه«.
ترى يا أستاذ لو قال لك غيرك تعالى أدلك على الله، وهو أعلم منك -وهذا حاصل- ولا نحسبه أقل صدقا وإخلاصا -نحسبه والله حسيبه، فهل تقبل هذا العرض-ولربما سبق مثله- أم أن المشيخة داء يؤخذ في الحساب.
تزيد يا أستاذ أن تدل غيرك على الله لما هذا الحرص وهذا التشبث بالأمانة والرئاسة!؟
~ يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: نستمع إليه لأمرين:»أحدهما أن كثيرا من معاصرينا يعتبرون شهادته هي الكلمة الفصل، فلا نحب أن نفجعهم وهم في مهد الإعجاب غير المشروط بوضع الفارس الجليل في مكان نسبيته« (ص:21).
من من المعاصرين صرح يا أستاذ أن ابن تيمية هو الكلمة الفصل، لا تتكتم على أحد فالمقام مقام الشهادة التي لا ينبغي أن تكتم، فأين العلماء قبل وبعد ابن تيمية!؟ فلا داعي لتقديمه كجواز مرور، لأن جواز المرور الحقيقي في كل مسألة هو الدليل. ثم هل التزم الأستاذ نفسُه أن يستمع إلى » الفارس الجليل« في المسائل الكبيرة والقضايا الخطيرة!؟ الجواب لا طبعا، بل حتى حين يذكر قوله أحيانا يدلس فيه ويُجْري عليه ما يريد من بتر أو نحوه..
` قال عبد السلام ياسين: » قسم ابن تيمية الصوفية إلى طائفتين منهم السابق المقرب بحسب اجتهاده والمقتصد من أهل اليمين «(الإحسان ص: 21).
كان على الأستاذ عبد السلام ياسين أن يكمل كلام ابن تيمية، إن ابن تيمية لم يكتف بذكر طائفتين من الصوفية أي السابق المقرب بحسب اجتهاده والمقتصد من أهل اليمين، كلا ذكر الظالم لنفسه أيضا العاصي لربه والذي انتسب إلى المتصوفة من أهل البدع والزندقة فبذلك يكون ابن تيمية أنصف القوم غاية الإنصاف، وحذر أيضا من الاغترار بالتصوف الذي لا يهتدي بالصراط المستقيم، فلم سكت الأستاذ مدلسا وجهة نظر ابن تيمية التي هي في حقيقتها وأصلها تناولت ثلاثة طوائف واكتفى هو بعرض طائفتين فحسب!؟.
ماذا يريد الأستاذ عبد السلام ياسين بهذا وماذا يسمى هذا العمل !؟ أَخْفَيْتَ يا أستاذ أكثر الطوائف انتشارا اليوم، إضافة إلى طائفتي صوفية الأرزاق وصوفية الرسم اللتين ذكرهما ابن تيمية بعد ذلك فما الغرض من هذا الفعل الذي يغرر بالقارئ الذي لا يرجع للتحقق بنفسه، إحسانا للظن بشيخه أنه يتحرى الأمانة في النقل...ونحن أيضا لا نجد إلا إحسان الظن أن نتجاوز عن هذا، ولكن ليعلم أن ابن تيمية لم يذم الصوفية مطلقا -كما هو شأن البعض ضد الحجج ولم يثنهم مطلقا- كما يوهمه ما نقل الأستاذ خطأ أو عمدا وإن أحسنا الظن فرأينا الأول- بل إن »كلا طرفي هذه الأمور ذميم« عنده، والصواب أن فيهم الخيِّرُ النافع وفيهم الضال المبتدع، وذكر نمودجا للمبتدع الحلاج الذي نحسب أن الأستاذ لا يوافقه عليه فهل عزَّ عليه أن يذكره شيخ الإسلام ضمن الظالمين لأنفسهم العصاة لربهم فبتر الكلام الذي يحشره فيهم برمته!؟ علم ذلك عند الله، ثم عند الأستاذ عبد السلام ياسين وما لنا إليه من سبيل! لكن الحلاج تبرأ منه العلماء، ولذا قال الذهبي في ترجمته في "الميزان": ((الحسين بن منصور الحلاج، المقتول على الزندقة ما روى ولله الحمد شيئا من العلم، وكانت له بداية جيدة وتأله وتصوف، ثم انسلخ من الدين، وتعلم السحر، وأراهم المخاريق، أباح العلماء دمه)) 2.فهل الأستاذ يوافق العلماء حكمهم، وما له لا يفعل وهم أهل الفتوى وأهل التقوى! قد يقال: إن معاصري الحلاج رأوا فيه ما رأوا لحاجة سلمنا! على مضض فما بال الذين جاؤوا من بعد..ندعو الأستاذ -ومن ورائه أتباعه- إلى نداء رجل عالم عارف بالله على علم نصيحة غالية في شأن الحلاج يقول رحمه الله: ((تدبر يا عبد الله نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة ودعاة الزندقة، وانصف وتورع واتق الله وحاسب نفسك فإن تَبَرْهَنَ لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام محب للرئاسة حريص على الظهور بباطل وبحق فتبرأ من نحلته -وإن تبرهن لك- والعياذ بالله- أنه كان -والحالة هذه- محقا هاديا مهديا فجدد إسلامك واستغث بربك يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم ولا قوة إلا بالله. -وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا))3 فهل من مجيب!؟ والحلاج أيضا كان من دعاة الطريق وكان يقول: »من هذب في الطاعة جسمه، وشغل بالأعمال قلبه، وصرف عن اللذات، وامتنع عن الشهوات يترق في درج المصفاة، حتى يصفو عن البشرية..الخ)).3
على كل حال كان على الأستاذ عبد السلام ياسين أن يذكر كلام ابن تيمية بأمانة علمية، وله أن ينتقده في ذكره الحلاج على أن لا يخرج عما نصح به الذهبي.
` قال عبد السلام ياسين: وقال -أي ابن تيمية- »وإنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في "الرأي"« (الإحسان ص: 21).
ومرة أخرى ثمة تدليس في الكلام لأن الأستاذ حين أورد هذه العبارة بعد الأولى التي تحدثت عن الصوفية، أصبح المعنى أن الصوفية بمنزلة الفقهاء في "الرأي" لأن الضمير لا يعود إلا على ما ذكر، ولم يذكر سوى الصوفية، والحقيقة أن الضمير في كلام ابن تيمية عائد إلى العلماء كما هو ظاهر في كلامه ليصبح المعنى أن العلماء في شأن التصوف بمنزلة الفقاء في شأن "الرأي" يوضحه ما جاء بعده مباشرة من ((أنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة)).4 وهذا المنسجم مع ما ذكره اختلاف العلماء حول »التصوف« فالمقارنة في كلام ابن تيمية إنما هي مقارنة كلام العلماء في »التصوف« بكلامهم في "الرأي" بخلاف المقارنة في المعنى الذي أورده الأستاذ عبد السلام ياسين فهي بين المتصوفة والفقهاء ولا يخفى الفرق بين المعنيين. إن الأستاذ في نقلين مباشرين أخطأ خطأين متتاليين قلنا أخطأ -إحسانا للظن- فأين الطريق!؟.
` وكما أخطأ الأستاذ ودلس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية دلس كذلك كلام تلميذه ابن القيم كما لو أن الإحسان لا يتم إلا بتزوير الكلام !. لننظر أولا ما نقله الأستاذ عن ابن القيم: ((وأما السابقون المقربون، فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولا من وَصْفِ حالتهم وعدم الاتصاف بها)5 ، بل ما شممنا لها رائحة، ولكن محبة القوم (أي الصوفية والكلمة مصطلح!) تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة (...) ومنها أن هذا العلم (يعني علم التصوف) هو من أشرف علوم العباد، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة)) (الإحسان ص: 22).
إن ابن القيم يتكلم عن السابقين بالخيرات مقابل المقتصدين والظالمين لأنفسهم الذين خصهم ببيانه من قبل، وهذا تقسيم المراتب لا تقسيم الأوصاف، فكما أنك تجد في الصوفية والفقهاء والمحدثين وأهل اللغة وغير ذلك من الأوصاف من هو في مرتبة المقتصد والظالم لنفسه فمنهم من هم من السابقين بالخيرات، فلماذا يوهم الأستاذ القارئ الكريم أن السابقين بالخيرات -وهم الذين عناهم ابن القيم بالقوم كما هو واضح من السياق -هم الصوفية! لماذا هذه الرغبة المستميتة في تطويع النصوص إن لم نقل تزويرها وتحريفها!؟..هل الطريق لا توصل إلا على جسر التدليس...؟ إن الاحتجاج بالأقوال بعد التصرف في محتواها ينم عن قلة ثقة بالنفس وضعف في المنهاج..وهذه السمة مطردة -مع الأسف- عند الأستاذ..إذا أردت أن تجعل الصوفية من درجات السابقين فلا تحتاج إلى تفسير كلام ابن القيم أو غيره تفسيرا يخدم قضيتك، بل لك أن تعرض عن كلامه كاملا ثم تقدم دليل دعواك، وقد نوافقك وقد نخالفك..لكننا لا نوافقك على تطويع معاني الأقوال التي تستشهد بها حسب ما تريد أنت أو حسب ما تفهم أنت...وعليه فما أظن ابن القيم يحفل بثنائك عليه بقولك حياك الله من رجل إذا علم ما فعلت به.
انظر ما قال قبل صفحات قليلة مما نقلت: ((ومن الناس من تكون له القوة العلمية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فَداءُ هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم))6.
فهل من يقول هذا يقول أن الصوفية هم السابقون المقربون بإطلاق وهو يرى أكثر أرباب الفقر والتصوف...لا يدري من يعبد، بعادة قومه و..الخ كلامه النفيس)7 -رحمه الله تعالى-...؟اللهم علمنا الإحسان..
`ونقل الأستاذ عبد السلام ياسين كلام الشاطبي وسار في ذلك على طريقة التصرف المخل. فهو مثلا يقول:
((نجد عند الفقيه الأصولي الإمام الشاطبي تفصيلا. فالتصوف عنده قسمان)) (الإحسان ص: 22).
والحاصــل أن الشــاطبي قـال: ((فلنـرجع إلى مـا قـال فيـه المتقدمـون: وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان))8 فهو تعريف الصوفية المتقدمين ذَكَرَهُ وشرحه الشاطبي لأنه ((أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين))9، لا يجوز أن يكون مثل هذا من الأستاذ عن عمد، وإلا فالعياذ بالله..
كما أن الأستاذ أسقط من كلام الشاطبي في مكان آخر ما هو أساسي وضروري وبإسقاط ما أسقط فقدَ كلامُ الشاطبي روحه وجوهره. نقل الأستاذ عن الشاطبي: ((أما بالمعنى الثاني: فهو على أضرب، أحدهما)10 يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجداني، فيتكلم فيها بحسب الوقت والحال، وما يحتاج [فيه])11 في النازلة الخاصة رجوعا إلى الشيخ المربي وما بُيِّنَ له في تحقيق مناطها بفراسته الصادقة في السالك بحسبه وبحسب العارض، فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية (...) فمثل هذا لا بدعة فيه لرجوعه إلى أصل شرعي))12.
وكان يجب الإبقاء على ما ترك الأستاذ مكانه ثلاث نقط، لأن الشاطبي ذكر ثمة كلاما نفيسا هو صمام أمان للسالك وهو قوله بعد تركيزه علة مداواة أصحاب العوارض مركزا كما رأينا على الوضائف الشرعية والأذكار الشرعية ليؤكد على أن الشريعة هي الدواء للأمراض أو الأعراض بلا زاد -وهذا ما أسقط الأستاذ وما كان ينبغي- إن هذه العوارض لا تطرأ ((إلا عند الإخلال ببعض الأصول الشرعية التي بني عليها في بدايته فقد قالوا: إنما حُرِمُوا الوصولَ بتضييعهم الأصول))13وحول هذا ندندن، وإلى المعصم الشرعي نقاضي أصحاب الأحوال وبميزان الأصول نفتش سلامة النقول، فلمَ أغفل الأستاذ هذا الكلام، أم لأنه شديد الوطأة على الذين يحبون الانفلات من الرقابة الشرعية بحجة الأذواق!؟ إن كلام الشاطبي كاملا هو الذي لا بدعة فيه ولكن أبى الأستاذ إلا أن يسلك لغة الغموض بدل التوضيح واستعمال التدليس مكان التصريح.
1( (1/548).
2("السير" (14/344-345).
3(نفسه (14/347).
4("مجموع الفتاوى" (10/370).
5( في الأصل عندي به و..له، (ص: 285) وهو صحيح أيضا فيكون الضمير عائدا على الوصف. ولكن يبدو أن الطبعة التي اعتمدها الأستاذ مغايرة لأن الصفحة التي أحال عليها تخالف ما عندي فالله أعلم.
6("طريق الهجرتين" (ص: 255).
7(نفسه.
8( "الاعتصام" (1/207).
9( "نفسه".
10(هكذا في "الإحسان" وفي الأصل عندي "أحدهما" ولعله الصواب.
11(هكذا في "الإحسان" وهو خطأ وصوابه "إليه" كما في الأصل. (الاعتصام: 1/208).
12("الإحسان" (ص: 23).
13("الاعتصام" (1/208).