.
.
إن مسألة الرؤية من أشرف المسائل وأجلها , هي الغاية التي من أجلها شمّر المشمّرون وتنافس المتنافسون , وهي أعظم نعيم يلقاه المؤمن في الجنة , نسأل الله من فضله .
وهي ثابتة من القرآن الكريم والسنة المطهرة الشريفة والإجماع .
فأما القرآن , فالإستدلال من ستة أوجه :
الوجه الأول : التصريــح بالنـظر , قال تعالى وهو أصدق القائلين وأحسن حديثاً من غيره ( وجوه يومئذٍ ناضرة *** إلى ربها ناظرة ) .
وجه الإستدلال : أن الله قد أسند الفعل إلى الوجوه , والوجه محل النظر وهو محل العينين .
الوجه الثاني : نــفــي الإدراك , قال تعالى في محكم التنزيـل ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) .
وجه الإستدلال : أن الله - جل وعلا - نفي الإدراك ولم ينفِ الرؤية , لأن نفي الإدراك مدح ونفي الرؤية ذم - وهو محال على الله - لكن الله بعلمه الذي وسع كل شيء نفى الإدراك وأثبت الرؤية , وجه الدلالة من ذلك : أن نفي الإدراك في الرؤية دليل على أصل ثبوت الرؤية ( لا تدركه الأبصار ) يعني أن الأبصار تراه لكن لا تدركه وإلا لما كان للأبصار معنى .
الوجه الثالث : حجب الأعداء والمجرمين , قال تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ) .
وجه الإستدلال : أن الله جل وعلا قد ذم الفجار وجعل في أعظم عقاب لهم أنهم عنه محجوبون , فإن كان الله محجوباً عن الأتقياء والمجرمين فما فضل الأتقياء وما وجه الذم للأشقياء ؟ .. ولهذا قال الشافعي الإمام الذكي الألمعي ( ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل ) ..
الوجه الرابع : زيادة النعيم , في قوله تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) .و قوله ( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) .
وجه الإستدلال : ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّرها بالرؤية , وكذلك الصحابة كعلي رضي الله عنه وأنس رضي الله عنه .
الوجه الخامس : سؤال موسى ربه النظر إليه , في قوله تعالى ( رب أرني أنظر إليك ) .
وجه الإستدلال : أن موسى وهو أعلم أهل الأرض في زمانه بربه , سأل ربه النظر إليه , فلو كان النظر محالاً لما سأل موسى .
الوجه السادس : لقاء الله عز وجل , في قوله تعالى ( فمن كان يرجو لقاء ربه ..) , وقوله ( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة .. )
وجه الإستدلال : أن اللقاء لا تعرفه العرب إلا بالمقابلة والنظر , فهو دليل واضح على إثبات الرؤية .
التفصيل :
فأما الوجه الأول : فقد تأوله المعتزلة والجهمية والرافضة وغيرهم - تحريفاً - هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث الدالة على رؤية الله عز وجل , ومن أبى الإ تحريفها فتحريف نصوص المعاد والجنة والنار أهون وأسهل من تأويل هذه الآيات والأحاديث المتواترة , وهذا مافعله اليهود والنصارى وما حذرنا الله منه , وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم وإقتداء منهجهم , وإلا فما قتل عثمان رضي الله عنه إلا بتأويل فاسد , ذلك ابن سبأ اليهودي لم يقل نريد قتل الخليفة نحن نعادي الإسلام , إنما أتوا مطالبة بالعدل وبإحياء سنة عمر لأنهم يرون أن عثمان زائغ عن منهج عمر وعن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من الكذب الفاضح - قبحه الله - .
والتأويل له معنيين :
الأول : التفسير , فتقول العرب : تأويل ذلك ,.أي : تفسيره وتوضيحه , ومثل ذلك قاله الإمام الطبري في تفسيره , فيقول تأويل الآية , أي : تفسيرها
الثاني : صرف دلالة اللفظ من معنى راجح إلى معنى مرجوح , وهو التحريف حقيقةً , فيقولون في قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) يقولون : أي استولى , فحرّفوا ( استوى ) إلى ( استولى ) وفي قوله ( وجوه يومئذٍ ناضرة *** إلى ربها ناظرة ) أي : منتنظرة النعيم. , مثل تحريف الرافضة لقوله تعالى ( مرج البحرين يلتقيان *** بينهما برزخ لا يبغيان ) قالوا : البحرين هما علي وفاطمة , ( بينهما برزخ لا يبغيان ) أي : لا يبغي علي على فاطمة , ولاتبغي فاطمة على علي ,( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) أي : الحسن والحسين ( أنظر : بحار الأنوار 24/98 ).
وهكذا رد النصوص ورفضها لا يخلو من أمرين :
الأول : أن يكون رداً مباشرة واضحاً , وإنكاراً كلياً .
الثاني : تأويلها بمعنى تحريفها إلى معنى لم يُرده الله عز وجل ولا رسوله , وما فهمه على هذا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح .
وكلاهما رد , ولكن الأول هو منهج يجرؤ إليه الكفار والمحلدون , أما الثاني فهم الذين يزعمون أنهم ينزّهون الله مما وصف به نفسه فكانوا كأنهم يقولون : ربنا أثبتّ أنت الرؤية ونحن نفيناها لأن فيها نقص والله تعالى يقول ( قل أأنتم أعلم أم الله ؟ ) فالله أحسن حديثاً من خلقه كما أنه أعلم بنفسه منهم - جلّ وتقدّس - .
الحاصل أن تأويل آيات النعيم في الجنة والعذاب في الجحيم أسهل بكثير من تأويل آيات الرؤية , لما فيها من الوضوح لمن له لغة عربية سليمة , وعقل نقي صافي , وقبل هذا وذاك : منهج نبوي يسير عليه .
نعود إلى الآية الشريفة , يقول تعالى ( وجوه يومئذٍ ناضرة *** إلى ربها ناظرة ) .
الذي عليه سلف الأمة أن الله سبحانه وتعالى يُرى , وأن المؤمنين يرونه سبحانه من غير تكييف ولا تشبيه , بل هو سبحانه يُرى ولا يُدرك , فالله أعظم من أن يُدركه أحد من خلقه , كما قال سبحانه لا نعترض بآارءنا ولا نتوهم بأهوائنا , بل الله سبحانه يُرى ( إثبات ) من غير تكييف ولا تشبيه ( تنزيه ) , هذه قاعدة محكمة : الإثبات مع التنزيه , وهذه القاعدة هي التي سار عليها أهل السنة أهل الإستقامة فنجوا بحمد الله من مزالق الشيطان إلى الطريق المستقيم .
الزائغون عن الطريق .
ذهب المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من الخوارج والرافضة الإمامية والزيدية وغيرهم إلى أن الله سبحانه لا يُرى , زعموا أن هذا من العيب والنقص , وهذا خلل منهجي وإضطراب في العقيدة وسوء فهم , إذ كيف يثبت الله عز وجل لنفسه النقص والعيب ؟
قال تعالى ( وجوه يومئذٍ ناضرة *** إلى ربها ناظرة ) .
أهل السنة والجماعة : وجه الدلالة أن إضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية , وتعديته بأداة ( إلى ) الصريحة في نظر العين, وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته وموضوعه , صريحٌ في أن الله اراد بذلك نَظَر العين التي هي في الوجه إلى الرب جل جلاله .
الزائغون : إن الآية لا تدل على أن المؤمنين يرون الله عز وجل , بل هي تفيد أنها منتظرة لثواب الله ولنعمته , والدليل أن ( إلى ) مفرد ( آلاء ) وهي النعم ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) , فالآية أنها منتظرة نعمة الله .
الرد :
انظروا إلى هذا التلاعب بآيات الكتاب والتكلف في تأويله وتحريفه , والرد على أوجه منهــا :
أولاً : قول الله تعالى ( وجوه يومئذٍ ناضرة ) أي : حسنة بهيّة تعلوها النضّرة , كما قال صلى الله عليه وسلم ( نضّر الله امرؤ سمع مقالتي فأدّاها الى ما سمعها ) فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بنضارة الوجه وجماله وزينته وإنما هو لأهل الإيمان والتقوى , فإن قولكم أن معنى قوله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) منتظرة النعيم , فيه إخلال شديد بالمعنى , إنما تبهج النفوس وتطيب الخواطر ويعلو الوجه نضرّه إنما يكون بعد حصول النعمة , لا من الإنتظار الذي لا يدري أبعده سيكون النعيم , أم أن يكون مصيره بأن يلقى في جهنم مذموماً مدحوراً , ثم إن نعم الله لا تعد ولا تحصـى فلا تُفرد
ثانياً : إن ( إلى ) التي في الآية هي حرف جــر , وليس كما زعموا أنها مفرد ( آلاء ) . ( إلى ربِها ناظرة ) .
ثالثاً : أنه إذا تعدى النظر بإلى لم يكن بمعنى الإنتظار بلغة العرب , إنما أصبح بمعنى النظر إلى شيء .
وتفصيل ذلك :
يقول ابن ابي العز في شرح الطحاوية :
( ... فإن النظر له عدة استعمالات، بحسب صلاته وتعديه بنفسه. فإن عدي بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله: ( انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) وإن عدي بـ (في) فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: ( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: المعاينة بالأَبصار، كقوله تعالى: ( انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر ) فكيف إذا أضيف إِلَى الوجه الذي هو محل البصر؟ ... )
رابعاً : ورد بأدلة صحيحة من تفسير من هم أعلم منكم بالقرآن وبالسنة وبما أراده الله وبما وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هم أعلم منكم وافصح بلغة العرب أن المعنى هنا : رؤية الله عز وجل .
روي عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى ( وجوه يومئذٍ ناضرة ) أي : من البهاء والحُسن , ( إلى ربها ناظرة ) قال : في وجه الله عز وجل .
وقال بعضهم أنه مرفوع , ولا يثبت مرفوعاً , ولو ثبت فهو كأدلة السُنة الأُخر فيها من الوضوح الشديد ما يعجز ارباب التأويل عن تأويله , ولو لم يثبت مرفوعاً وثبت بتفسير ابن عمر فيكفي هذا والحمد لله .
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : تنظر إلى وجه ربها عز وجل .
وقال عكرمة - تلميذ ابن عباس - : تنظر إلى ربها نظراً , وحكي هذا عن ابن عباس مثله أيضاً .
نكتفي بهذا القدر , وننتقل إلى الوجه الثاني من أوجه الإستدلال من القرآن الكريم .
.
.
.