ترجمة شيخ الإسلام من ذيل تاريخ الإسلام للذهبي
اسمه ونسبه :
قال رحمه الله تعالى :
ابن تيمية ، الشيخ ، الإمام ، العالم ، المُفسر ، المُجتهد ، الحافظ ،
المحدث ، شيخ الإسلام ، نادرة العصر ، ذو التصانيف الباهرة والذكاء المفرط ، تقي الدين ، أبو العباس ، أحمد ، ابن العالم المفتي شهاب الدين عبدالحليم ، ابن الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبدالسلام مؤلف " الأحكام " ، ابن عبدالله بن أبي القاسم الحراني ، ابن تيمية ، وهو لقب جده الأعلى .
ولادته وهجرته :
مولده في عاشر ربيع الأول ، سنة إحدى وستين وست مائة بحرَّان ، وتحول أبوه وأقاربه إلى دمشق في سنة سبع وستين عند جور التتار ؛
منهزمين ؛ يجرون الذرية والكتب على عجلة ؛ فإن العدو ما تركوا في البلد دواب سوى بقر الحرث ، وكلَّت من ثقل العجلة ، ووقف الفرار، وخافوا من أن يدركهم العدو ، ولجأوا إلى الله ، فسارت البقر بالعجلة ، ولطف الله تعالى ، حتى انحازوا إلى حد الإسلام .
شيوخه :
فسمع من: ابن عبدالدائم ، وابن أبي اليُسر، والكمال ابن عبد ، وابن
أبي الخير ، وابن الصيرفي ، والشيخ شمس الدين ، والقاسم الإربلي ، وابن علان ، وخلق كثير ، وأكثر وبالغ .
وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب ، ونسخ عدة أجزاء ، و " سنن أبي
داود " ، ونظر في الرجال والعلل .
علمه ومكانته :
وصار من أئمة النقد ، ومن علماء الأثر ، مع التدين والنبالة ، مع الذكر والصيانة .
ثم أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده وحججه والإجماع والاختلاف ؛ حتى كان يقضي منه التعجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف ، ثم يستدل ويرجح ويجتهد ، وحق له ذلك ؛ فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه ؛ فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات ـ الدالة على المسألة التي يوردها ـ منه ، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث وعزوها إلى الصحيح أو إلى المسند ، أو إلى السنن ـ منه ؛ كأن الكتاب والسنة نصب عينيه ، وعلى طرف لسانه ، بعبارة رشيقة ، وعين مفتوحة ، وإفحام للمخالف .
وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير ، والتوسع فيه ، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين .
وأما أصول الديانة ، ومعرفتها ، ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة ؛ فكان لا يُشق فيه غباره ، ولا يلحق شأوه .
مكارم أخلاقه :
هذا مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط ، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل ، والفراغ عن ملاذِّ النفس من اللباس الجميل ، والمأكل الطيب ، والراحة الدنيوية .
تصانيفه :
ولقد سارت بتصانيفه الركبان في فنون من العلم وألوان ، لعلَّ تواليفه وفتاواه في الأصول ، والفروع ، والزهد ، والتفسير ، والتوكل ،
والإخلاص ، وغير ذلك ـ تبلغ ثلاثمائة مجلد ، لا بل أكثر .
صفاته :
وكان قوَّالاً بالحق ، نهاءً عن المنكر ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ذا سطوة وإقدام ، وعدم مداراة الأغيار .
ومن خالطه وعرفه ؛ قد ينسبني إلى التقصير في وصفه ، ومن نابذه وخالفه ؛ ينسبني إلى التعالي فيه ، وليس الأمر كذلك .
مع أنني لا أعتقد فيه العصمة ، كلا ! فإنه مع سعة علمه ، وفرط شجاعته ، وسيلان ذهنه ، وتعظيمه لحرمات الدين ، بشرٌ من البشر ، تعتريه حدة في البحث ، وغضب وشظف للخصم ؛ يزرع له عداوة في النفوس ، ونفوراً عنه .
وإلا ؛ فلو لاطف الخصوم ، ورفق بهم ، ولزم المجاملة وحسن المكالمة ؛ لكان كلمه إجماعاً ؛ فإن كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه ، معترفون بشفوفه وذكائه ، مقرون بندور أخطائه .
موقف الحاقدين منه :
لست أعني بعض العلماء الذين شعارهم وهجيراهم الاستخفاف به ، والازدراء بفضله ، والمقت له ، حتى استجهلوه وكفروه ونالوا منه ، من غير أن ينظروا إلى تصانيفه ، ولا فهموا كلامه ، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف ، والعالم منهم قد ينصفه ويرد عليه بعلم .
اعتذار وتنويه :
وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران ـ رحم الله الجميع .
وأنا أقل من أن ينبه على قدره كلمي ، أو أن يوضح نبأه قلمي ؛ فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه ، مقرون بسرعة فهمه ، وأنه بحر لا ساحل له ، وكنز لا نظير له ، وأن جوده حاتمي ، وشجاعته خالدية .
ولكن قد نقموا عليه أخلاقاً وأفعالاً ؛ فمنصفُهم فيها مأجور ، ومقتصدهم فيها معذور ، وظالمهم فيها مأزور ، وغاليهم مغرور ، وإلى الله ترجع الأمور .
وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك ، والكمال للرسل ، والحجة في الإجماع .
فرحم الله امرأً تكلم في العلماء بعلم ، أو صمت بحلم ، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم ، ثم استغفر لهم ، ووسَّع نطاق المعذرة ، وإلا ؛ فهو لا يدري أنه لا يدري .
وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم ، ولا تعذر ابن تيمية في مفرداته ؛ فقد أقررت على نفسك بالهوى وعدم الإنصاف .
دعوى تكفيره وبطلانها :
وإن قلت : لا أعذره ؛ لأنه كافر ، عدو الله تعالى ورسوله ! قال لك خلق من أهل العلم والدين : ما علمناه والله إلا مؤمناً محافظاً على الصلاة ، والوضوء ، وصوم رمضان ، معظماً للشريعة ظاهراً وباطنا ً .
لا يؤتى من سوء فهم ، بل له الذكاء المفرط ، ولا من قلة علم ، فإنه بحر زخار ، بصير بالكتاب والسنة ، عديم النظير في ذلك .
ولا هو بمتلاعب بالدين ؛ فلو كان كذلك ؛ لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه ، وموافقتهم ، ومنافقتهم .
ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهي ، ولا يفتي بما اتفق ، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن أو بالحديث أو بالقياس ، ويبرهنها ويناظر عليها ، وينقل فيها الخلاف ، ويطيل البحث ؛ أسوة من تقدمه من الأئمة ، فإن كان قد أخطأ فيها ؛ فله أجر المجتهد من العلماء ، وإن كان قد أصاب ؛ فله أجران .
وإنما الذم والمقت لأحد رجلين : رجل أفتى في مسألة بالهوى ولم يبد
حجة ، ورجل تكلم في مسألة بلا خميرة من علم ولا توسع في نقل ؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل .
بين الأعداء والمحبين :
ولا ريب أنه لا اعتبار بذم أعداء العالم ؛ فإن الهوى والغضب بين الأعداء والمحبين يحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه .
ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه ؛ فإن الحب يحملهم على تغطية
هناته ، بل قد يعدونها محاسن .
وإنما العبرة بأهل الورع والتقوى من الطرفين ، الذين يتكلمون بالقسط ، ويقومون لله ولو على أنفسهم وآبائهم .
فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً ، مع خبرتي التامة به ، ولكن لا يسعني في ديني وعقلي أن أكتم محاسنه ، وأدفن فضائله ، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه ، مغمورة في بحر علمه وجوده ؛ فإن الله يغفر له ، ويرضى عنه ، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه .
مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية ، قد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور ، بل قد يثيبه الله تعالى فيها على حسن قصده ، وبذل وسعه ، والله الموعد .
مع أنني قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه وأضداده ؛ فحسبي الله .
وصف خَلْقه :
وكان الشيخ أبيض ، أسود الرأس واللحية ، قليل الشيب ، شعره إلى شحمة أذنيه ، كأن عينيه لسانان ناطقان ، ربعة من الرجال ، بعيد ما بين المنكبين ، جهوري الصوت ، فصيحاً ، سريع القراءة .
يعتريه حدة ، ثم يقهرها بحلم وصفح ، وإليه المنتهى في فرط الشجاعة ، والسماحة ، وقوة الذكاء .
ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى ، وكثرة توجهه .
وقد تعبت بين الفريقين : فأنا عند محبه مُقصِّر ، وعند عدوه مُسرف مُكثر ، كلا والله !
وفاته وجنازته :
توفي ابن تيمية إلى رحمة الله تعالى معتقلاً إلى قلعة دمشق بقاعة بها ، بعد مرض حدَّ( ) أياماً ، في ليلة الإثنين ، العشرين من ذي القعدة ، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة .
وصُلِّي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر ، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة ، حتى طلع الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد ، وأقلُّ ما قيل في عداد من شهده خمسون ألفاً ، وقيل أكثر من ذلك ، وحُمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية ، ودفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين ، رحمهما الله وإيانا والمسلمين . إهـ .(*)
قصيدة في رثاء شيخ الإسلام ابن تيمية للإمام الذهبي :
[poet font="Simplified Arabic,4,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا موت خذ من أردت أو فدع = محوت رسم العلوم والورعِ
أخذت شيخ الإسلام وانفصمت = عرى التقى واشتفى أولو البدعِ
غيبت بحراً مفسراً جبلاً = حبراً تقياً مجانب الشبعِ
فإن يحدث فمسلم ثقة = وإن يناظر فصاحب اللمعِ
إن يخض نحو سيبويه يفُهْ = بكل معنى في الفن مخترعِ
وصار عالي الإسناد حافظة = كشعبة أو سعيد الضبعي
والفقه فيه فكان مجتهداً = وذا اجتهاد عار من الجزعِ
وجوده الحاتمي مشتهر = وزهده القادري في الطبعِ
أسكنه الله في الجنان ولا = زال علينا في أجمل الخلعِ
مع مالك والإمام أحمد والنعـ = ـمان والشافعي والنخعي
مضى ابن تيمية وموعده = مع خصمه يوم نفخة الفزعِ
[/poet]