قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله عن وسائل دفع الهوى وخطر متابعته
وأن الدنيا كما شبهها النبى بما يخرج من الإنسان نهايتها بلا لذة ونهايتها مرار
وأن من ابتلى بداء عشق النساء فاليتذكر مناتنها وكذلك من عشقت رجل تتذكر مناتنه
وأن متابعة الهوى سبب الحسد والبغى والتنافس
يقول فى كتابه روضة المحبين
وينبغي أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرا في الأحيان غير أن العادة مقتضية ذلك فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما تطالبه به العادة ولو زال عنه رين الهوى لعلم أنه قد شقي من حيث قدر السعادة واغتم من حيث ظن الفرح وألم من حيث أراد اللذة فهو كالطائر المخدوع
بحبة القمح لا هو نال الحبة ولا هو تخلص مما وقع فيه فإن قيل فكيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه قيل يمكنه التخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور
أحدها عزيمة حر يغار لنفسه وعليها
الثاني جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة
الثالث قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة والشجاعة كلها صبر ساعة وخير عيش أدركه العبد بصبره
الرابع ملاحظته حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة
الخامس ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه
السادس إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى
السابع إيثاره لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية
الثامن فرحه بغلبة عدوه وقهره له ورده خاسئا بغيظه وغمه وهمه حيث لم ينل منه أمنيته والله تعالى يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه كما قال الله تعالى في كتابه العزيز[ ولا يطؤن موطئا يغبط الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ]وقال[ ليغيظ بهم الكفار] وقال تعالى [ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرة وسعة] أي مكانا يراغم فيه أعداء الله وعلامة المحبة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم
التاسع التفكر في أنه لم يخلق للهوى وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيت للهوى كما قيل
قد هيأوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
العاشر أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه فيؤثر النافع على الضار والإنسان أعطي العقل لهذا المعنى فإذا لم يميز به بين ما يضره وما ينفعه أو عرف ذلك وآثر ما يضره كان حال الحيوان البهيم أحسن منه ويدل على ذلك أن البهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح مالا يناله الإنسان مع عيش هنيء خال عن الفكر والهم ولهذا تساق إلى منحرها وهي منهمكة على شهواتها لفقدان العلم بالعواقب والآدمي لا يناله ما يناله الحيوان لقوة الفكر الشاغل وضعف الآلة المستعملة وغير ذلك فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ووفر منه حظ البهائم وفي توفير حظ الآدمي من العقل والعلم والمعرفة عوض عن ذلك
الحادي عشر أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كما أفاتت معصيته
من فضيلة وكم أوقعت في رذيلة وكم أكلة منعت أكلات وكم من لذة فوتت لذات وكم من شهوة كسرت جاها ونكست رأسا وقبحت ذكرا وأورثت ذما وأعقبت ذلا وألزمت عارا لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء
الثاني عشر أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر وما فاته وما حصل له
فأفضل الناس من لم يرتكب سببا ... حتى يميز لما تجني عواقبه
الثالث عشر أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور ثم ينزل نفسه تلك المنزلة فحكم الشيء حكم نظيره
الرابع عشر أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشيء قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه إذا أعجب أحدكم امرأة فليذكر مناتنها وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
لأن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر الحال الحاضرة الملازمة والشاعر حال على أمر متأخر
الخامس عشر أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلا ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذل الناس بواطن قد أجمعوا بين فصيلتي الكبر والذل
السادس عشر أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه ونيل اللذة المطلوبة فإنه لا يحد بينهما نسبة البتة فليعلم أنه من أسفه الناس ببيعه هذا بهذا
السابع عشر أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمة وميلا إلى هواه طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاسا وسرقة
الثامن عشر أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه ويعزل بهواه وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة فما قارن شيئا إلا أفسده
نتابع...