[ALIGN=CENTER]بسم الله الرحمن الرحيم[/ALIGN]
[ALIGN=JUSTIFY]قال ابن القيم في مقدمة الكافية الشافية :
أما بعد : فإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته ن ويجمع قلبه على محبته ، شرح صدره لقبول صفاته العلى ، وتلقيها من مشكاة الوحي ، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول ، وتلقاه بالرضى والتسليم وأذعن له بالانقياد ، فاستنار به قلبه ، واتسع له صدره ، وامتلأ به سرورا ومحبة ، فعلم أنه تعريف من تعريفات الله تعالى تعرف به إليه على لسان رسوله ، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلة الغداء أعظم ما كان إليه فاقة ، ومنزلة الشفاء أشد ما كان إليه حاجة ، فاشتد بها فرحه ، وعظم بها غناؤه ، وقويت بها معرفته ، واطمأنت إليها نفسه ، وسكن إليها قلبه ، فجال من المعرفة في ميادينها ، وأسام عين بصيرته في رياضها وبساتينها ، لتيقنه بأن شرف العلم تابع لشرف معلومه ، و لا معلوم أعظم منها وأجل ممن هذه صفته ، وهو ذو الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، وأن شرفه أيضا بحسب الحاجة إليه ، وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها ، ومحبته وذكره والابتهاج به ، وطلب الوسيلة إليه ، والزلفى عنده ، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه ، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله اعرف وله أطلب وإليه أقرب ، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل وإليه أكره ومنه أبعد ، والله ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه ، فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضا وعنها نافرا ومنفرا ، فالله له أشد بغضا وعنه أعظم إعراضا وله أكبر مقتا ، حتى تعود القلوب إلى قلبين :
قلب ذكر الأسماء والصفات قوته وحياته ونعيمه وقرة عينه ، لو فارقه ذكرها طرفة عين ومحبتها لحظات لاستغاث : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فلسان حاله يقول : [/ALIGN]
[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يراد من القلب نسيانكم = وتأبى الطباع على الناقل
[/poet]
ويقول :
[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وإذا تقاضيت الفؤاد تناسيا = ألفيت أحشائي بذاك شحاحا
[/poet]
ويقول :
[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إذا مرضنا تداوينا بذكركم = ونترك الذكر أحيانا فتنتكس
[/poet]
[ALIGN=JUSTIFY]ومن المحال أن يذكر القلب من هو محارب لصفاته ، نافر من سماعها ، معرض بكليته عنها ، زاعم أنَّ السلامة في ذلك ، كلا والله إن هو إلا الجهالة والخذلان والإعراض عن العزيز الرحيم ، فليس القلب الصحيح قط إلى شيء أشوق منه إلى معرفة ربه تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه ، ولا أفرح بشيء قط كفرحه بذلك ، وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يُضرب على قلبه سُرَادق الإعراض عنها والنفرة والتنفير ، والاشتغال بما لو كان حقا لم ينفع إلا بعد معرفة الله ، والإيمان به وبصفاته وأسمائه .
والقلب الثاني : قلب مضروب بسياط الجهالة ، فهو عن معرفة ربه ومحبته مصدود ، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أنزلت عليه مسدود ، وقد قمش شبها من الكلام الباطل ، وارتوى من ماء آجن غير طائل ، تعج منه آيات الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجا ، وتضج منه إلى منزلها ضجيجا ، مما يسومها تحريفا وتعطيلا ، ويؤول معانيها تحريفا وتبديلا ، قد اعد لدفعها أنواعا من العدد وهيأ لردها ضروبا من القوانين ، وإذا دعي إلى تحكيمها أبى واستكبر وقال : تلك أدلة لفظية لا تفيد شيئا من اليقين ،قد أعد التأويل جنة يتترس بها من مواقع سهام السنة والقرآن ، وجعل إثبات صفات ذي الجلال تجسيما وتشبيها يصد به القلوب عن طريق العلم والإيمان ، مزجي البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء ، لكنه مليء بالشكوك والشبه والجدال والمراء ، خلع عليه الكلام الباطل خلعه الجهل والتجهيل ، فهو يتعثر بأذيال التكفير لاهل الحديث والتبديع لهم والتضليل ، قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب ، يتكفف أربابها فانثنى بأخسر المواهب والمطالب ، عدل عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد وغاية الإحسان ، فابتُلي بالوقوف على الأبواب السافلة المليئة بالخيبة والحرمان ، وقد لبس حلة منسوجة من الجهل والتقليد والشبهة والعناد ، فإذا بذلت له النصيحة ودعي إلى الحق أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ، فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان ، وما أشد الجناية به على السنة والقرآن ، وما أحب جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن ، وما اثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان ، والجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان ، ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد إنذارا وتعذيرا فقال تعالى : { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا }[الفرقان 52] ، وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم مع كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير ، فقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }[التوبة 73 ] فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق ، ( ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) ، وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان ، وجنود السنة والقرآن ، وقد لبسوا للحرب لامته ، وأعدوا له عدته ، وأخذوا مصافهم ، ووقفوا مواقفهم ، وقد حمي الوطيس ودارت رحى الحرب واشتد القتال ، وتنادت الأقران النزال النزال ، وهو في الملجأ والمغارات والمدخل مع الخوالف كمين ، وإذا ساعد القدر وعزم على الخروج قعد على التل مع الناظرين ، ينظر لمن الدائرة ليكون اليهم من المتحيزين ، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه أني كنت معكم وكنت أتمنى أن تكونوا انتم الغالبين ، فحقيق بمن لنفسه عنده قدر وقيمة أن لا يبيعها بأبخس الأثمان ، وأن لا يعرضها غدا بين يدي الله ورسوله لمواقف الخزي والهوان ، وأن يثبت قدميه في صفوف أهل العلم والإيمان ، وأن لا يتحيز إلى مقالة سوى ما جاء في السنة والقرآن ، فكأن قد كشف الغطاء ، وانجلى الغبار ، وأبان عن وجوه أهل السنة مسفرة ضاحكة مستبشرة ، وعن وجوه أهل البدعة عليها غبرة ترهقها قترة ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة الضالة ، فوالله لمفارقة أهل الأهواء والبدع في هذه الدار أسهل من مرافقتهم إذا قيل : { احشرو الذين ظلموا وأزواجهم }[الصافات 22] ، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وبعده الإمام أحمد أزواجهم أشباههم ونظراؤهم ، قال تعالى : { وإذا النفوس زوجت }[التكوير 7] ، قالوا : فيجعل صاحب الحق مع نظيره في درجته ، وصاحب الباطل مع نظيره في درجته ، هنالك والله يعض الظالم على يديه ، إذا حصلت له حقيقة ما كان في هذه الدار عليه ، يقول : { ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد اذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا }[الفرقان 27 29] . [/ALIGN]