اطلعتُ على هذا المقال، فأحببتُ نقله إليكم للاستفادة منه ، وأيضاً لتحرير المسألة بشكل أوضح وأكبر من حيث تشيّعه أو عدمه، خصوصاً وأن في بعض نقولات البحث ما يُثبت انتقاده للرافضة، وإليكم المقال:
حاول بعض المعاصرين إلصاق التشيّع بابن أبي الحديد, ولعل أول من نسب إليه ذلك هو ابن كثير، حيث قال في (البداية والنهاية): عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح (نهج البلاغة) في عشرين مجلداً، وُلد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد، فكان أحد الكُتّاب والشعراء بالديوان الخليفي، وكان حظيًّا عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيّع والأدب والفضيلة، وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة، وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلاً بارعاً أيضاً، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى([1]).
وكلام ابن كثير مردود من عدة وجوه نوردها تباعاً:
الأول: لم يأت ابن كثير بدليل على مدَّعاه, بل غاية ما ساقه هو علاقة ابن أبي الحديد بابن العلقمي الشيعي, ولعمري متى كانت صحبة الشيعي تدل على التشيّع، فإن كان الأمر كذلك فيجب على ابن كثير الحكم بتسنن ابن العلقمي؛ لأن هذا الرجل كان من المقرَّبين من خلفاء بني العباس الذين أجمع الكلّ أنهم كانوا على غير مذهب الشيعة.
الثاني: أن ابن كثير قد انفرد بهذه الدعوى, وإلا فكلّ من ترجم لابن أبي الحديد قبل ابن كثير نسبه للاعتزال، ويكفينا في هذا الصدد ذكر كلام الذهبي الذي يعتبر أكثر تضلّعا في التاريخ منه, فقد قال في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة الموفق أخي ابن أبي الحديد: مات في وسط سنة ست وخمسين، فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد، ثم مات بعده بقليل في العام، وكانا من كبار الفضلاء وأرباب الكلام والنظم والنثر والبلاغة، والموفق أحسنهما عقيدة، فإن العز معتزلي، أجارنا الله([2]).
الثالث: الطريق الصحيح لمعرفة عقيدة الشخص هو البحث في كلماته, فهو أعلم بنفسه من غيره, ومن استقرأ تصريحات ابن أبي الحديد جزم يقيناً أنه معتزلي حتى النخاع، بل مغالٍ في الاعتزال.
فقد قال في مقدمة شرحه على النهج: وقدَّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف، واختص الأفضل من جلائل المآثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه، ويجل عن التكييف([3]).
وهو الذي يقول في أول الكتاب تحت باب أسماه: (القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج): اتفق شيوخنا كافة المتقدِّمون منهم والمتأخرون، والبصريون والبغداديون، على أن بيعة أبي بكر الصدِّيق بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نصٍّ، وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع وبغير الإجماع كونه طريق إلى الإمامة([4]).
وهذا الكلام نصّ منه في كونه معتزليًّا, ولا أظن عاقلاً يقول أن شيعيًّا يعتقد بصحة بيعة الأول ويسمّيه بالصدِّيق!
وهو الذي يقول أيضاً: وتزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله ݕ بأمير المؤمنين، خاطبه بذلك جلة المهاجرين والأنصار، ولم يثبت ذلك في أخبار المحدِّثين، إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى وإن لم يكن اللفظ بعينه([5]).
وقد قال عند حديثه عن مولد أمير المؤمنين عليه السلام: واختلف في مولد علي عليه السلام أين كان؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة، والمحدِّثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي([6]).
وقال عند شرحه الخطبة الشقشقية: أما الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها، وتذهب إلى أنّ النبي ݕ نصّ على أمير المؤمنين ݠ، وأنّه غُصِبَ حقّه، وأما أصحابنا فلهم أن يقولوا.. ([7])
فها هو يأتي بآراء مسلّمة للشيعة لا يختلفون فيها، ويردّها، ويتبنى آراء المعتزلة فيها، فأي دليل أوضح من هذا؟
بل إنه كثيراً ما يطعن في الشيعة بطعون عظيمة، ومن ذلك قوله: وأعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، نحو حديث (السطل)، وحديث (الرمانة)، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وتُعْرَف كما زعموا (بذات العلم)، وحديث غسل سلمان الفارسي، وطي الأرض، وحديث الجمجمة، ونحو ذلك([8]).
والنتيجة أن كل من اطلع على هذا الشرح يجزم بما لا شك فيه أن ابن أبي الحديث كان معتزليًّا، وأنه أبعد ما يكون عن الشيعة الإمامية.
الرابع: كل من اطلع على كلمات علماء الشيعة يرى أنهم جازمون بأن ابن أبي الحديد لم يكن شيعيًّا، وسنورد بعض الكلمات التي تكفي لدفع هذا التوهم:
الشيخ الحر العاملي (رض): قال في كتابه (الجواهر السنية): وروى الشيخ العالم عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي أصولاً الحنفي فروعاً في كتابه شرح (نهج البلاغة) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ([9]).
الشيخ يوسف البحراني (رض): صنّف كتاباً أسماه (سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد)، تعرض فيه إلى الموارد التي ردَّ فيها ابن أبي الحديد على الشيعة، ونقض عليه بردود قوية وبعبارات قاسية، منها قوله: فانظر إلى هذا الشارح الضال التايه في أودية الضلالة كيف يدَّعي في غير مقام ما تقدَّم أن عثمان من أهل الجنة، ومن جملة العشرة المبشرة، وينقل هنا عن عمار مثل هذا الكلام المنادي عليه بالدمار، وقد عرفت آنفاً ما نقلوه في حق عمار من الأخبار([10]).
وقال في مورد آخر: إنّ الشيعة بحمد الله تعالى لكونهم على الحق الواضح المبين, قد أوضح الله لهم الحجة على ألسنة المخالفين, كما سيظهر لك من أخباره المنقولة، وليته كان مع نقله لهذه الأخبار يميِّز فيها بين الغث والسمين, والعاطل والثمين, ويجري فيها على جادة الإنصاف, ويتجنَّب الضلال والاعتساف, ولكنه يغمض عينه عما اشتملت عليه من المناكير الظاهر عاراً وشناراً المعلنة بالقدح في أئمته جهاراً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً([11]).
السيد هاشم البحراني (رض): ألّف كتاباً أسماه (سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد) ردّ على جملة من الأمور التي ذكرها ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة, ونسبه في أكثر من مورد إلى التعصب والعناد.
منها قوله: وهذا الحمل أبعد ابن أبي الحديد عن الحق كبعد ما بين السماء إلى الأرض، إذ لا موجب لهذا الحمل إلا التعصب والحمية المذهبية للمذهب الاعتزالي، إذ لا كتاب ولا سُنّة, ولا إجماع على صحّة حمله, بل من نظر في شرحه للنهج رأى الحق عياناً لأمير المؤمنين ݠ بالبراهين القطعية التي ذكرها في الشرح, كما ستقف عليه إن شاء الله؛ وإنما ذكرت هذا الفصل لئلا يظن ظان أن ابن أبي الحديد إمامي المذهب إذا رأى ما نقلناه عنه في الشرح, مما ذكره في النصوص الدالة أن عليًّا عليه السلام أمير المؤمنين هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله, ومما ذكره في فضله ݠ وفضل أهل البيت عليهم السلام, وذكره روايات تدل على الطعن على من تقدم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأتباعهم كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، فهو معتزلي المذهب لا شك في ذلك ولا ريب, ومن لاحظ شرحه رأى ذلك عياناُ([12]).
ومنها قوله: ما يكفي ابن أبي الحديد وأصحابه ما ذكره ورواه في منازعة أمير المؤمنين عليه السلام وتظلّمه, وغير ذلك مما ذكره ابن أبي الحديد ها هنا سابقاً، حيث قال: فإن هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة تدل على أنه قد كاشفهم، وهتك القناع بينه وبينهم, إلى آخر ما تقدم من كلامه, فكيف يقول عقيب هذا الحديث الأخير من قول شيوخه البغداديين أن الإمامة كانت لعلي عليه السلام إن رغب فيها ونازع عليها, فأي رغبة أظهر وأبين وأعظم مما ظهرت في هذا الحديث لمن تأمّله بأدنى تأمّل, وهل هذا إلا تعصب من ابن أبي الحديد على مذهبه الاعتزالي, واعترافه بالحق وإنكاره إياه, فماذا بعد الحق إلا الضلال([13]).
الشيخ محمد طه نجف (رض): قال: لو أوقف خصوم أمير المؤمنين عليه السلام بين يدي الله ما استطاعوا أن يعتذروا عن أنفسهم كما اعتذر عنهم ابن أبي الحديد([14]).
السيد عبد الزهراء الخطيب (رض): قال: هذا ويعد ابن أبي الحديد من خصوم الشيعة وأشد مناوئيهم رغم ما يُظهر من حبِّه لعلي عليه السلام وإظهار تفضيله([15]).
فبعد هذه الأقوال المتضافرة، هل هناك من يجرؤ ويقول: إنّ ابن أبي الحديد المعتزلي من الشيعة الإمامية؟!
ولكن ربما يورد هنا علينا إشكال: وهو أن بعض علماء الشيعة قد صرّحوا بأنّ هذا الرجل من الشيعة، مثل آغا بزرك الطهراني([16])، والسيد الخونساري([17])، والمجلسي الأول([18])، وغيرهم.
والجواب: أن كل هؤلاء لم يثبتوا أن ابن أبي الحديد كان شيعيًّا بالمعنى الأخص، أي أنه من الشيعة الإمامية، بل أثبتوا له التشيّع بالمعنى الأعم، وهو محبّة أمير المؤمنين عليه السلام, وتقديمه على من سبقه من الحُكَّام.
وهذه الصفة قد أطلقها جملة من علماء العامة على بعض الصحابة والتابعين وأئمة الحديث.
منهم: الصحابي الجليل أبو الطفيل: قال الذهبي فيه: واسم أبي الطفيل: عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني الحجازي الشيعي، كان من شيعة الإمام علي, مولده بعد الهجرة, رأى النبي صلى الله عليه وآله, وهو في حجة الوداع وهو يستلم الركن بمحجنه، ثم يقبل المحجن([19]).
بل قيل فيه: إن البخاري ترك حديثه لإفراطه في التشيع كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي، حيث قال: وسُئل لم ترك البخاري حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: لأنه كان يفرط في التشيّع([20]).
ومنهم: الصحابي الجليل حجر بن عدي: حيث نصَّ الذهبي على تشيّعه، فقال: وكان شريفاً، أميراً، مطاعاً، أمَّاراً بالمعروف، مقدماً على الإنكار، من شيعة علي ݡ، شهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبّد([21]).
ومنهم: أبو الأسود الدؤلي: فقد قال فيه الذهبي: قاتل أبو الأسود يوم الجمل مع علي بن أبي طالب، وكان من وجوه الشيعة، ومن أكملهم عقلاً ورأياً([22]).
ومنهم: الحافظ النسائي: قال الذهبي في السير: ولم يكن أحد في رأس الثلاث مئة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة، إلا أن فيه قليل تشيع، وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه([23]).
ومنهم: الحاكم النيسابوري: قال الذهبي في السير: عن ابن طاهر: أنه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي، عن أبي عبد الله الحاكم، فقال: ثقة في الحديث، رافضي خبيث؛ قلت - أي الذهبي -: كلا ليس هو رافضيًّا، بلى يتشيع([24]).
والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا من كتب المخالفين، وقد أتقن المجلسي الأول رحمه الله وصفه حين نسبه إلى فرقة التفضيلية([25])، أي غاية ما عندهم من التشيّع هو تفضيل أمير المؤمنين ݠ على غيره من الصحابة.
وهذا ما يجعلنا نجزم ونقطع أن نسبة الرجل إلى التشيع ليست إلا محاولة من الخصوم للتهرّب من إلزامهم بكلامه.
([1]) البداية والنهاية 13/233.
([2]) سير أعلام النبلاء 23/275.
([3]) شرح النهج 1/19.
([4]) شرح النهج 1/22.
([5]) نفس المصدر 1/26.
([6]) نفس المصدر 1/28.
([7]) نفس المصدر 1/116.
([8]) نفس المصدر 11/49.
([9]) الجواهر السنية: 306.
([10]) سلاسل الحديد 2/6.
([11]) سلاسل الحديد 2/303.
([12]) سلاسل الحديد: 92.
([13]) نفس المصدر: 221.
([14]) مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/217.
([15]) مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/217.
([16]) الذريعة 9/685.
([17]) روضات الجنات 5/20.
([18]) روضة المتقين 2/498.
([19]) سير أعلام النبلاء 3/468.
([20]) الكفاية في علم الرواية: 159.
([21]) سير أعلام النبلاء 3/463.
([22]) نفس المصدر 4/82.
([23]) نفس المصدر 14/133.
([24]) نفس المصدر 17/174.
([25]) روضة المتقين 2/498.