الليبرالية لا تتمدد في الفراغ ,وهكذا هو شأن المشاريع الأيديولوجية الكبرى والطموحة للتغيير والاحتواء ,سيما إذا احتكمت على وسائل القوة الناعمة المدعومة عن بعد أو كثب من القوة الخشنة ,ولن تبلغ مأمولها على نحو متهور أو عشوائي ,إنما تدريجي مدروس يجس الثغرات ومكامن الخلل والاستفادة منها خصوصاً إذا كان التغيير ممكنا مكاناً وزماناً.
ومع نهوض النشاط الحقوقي في منطقتنا عمدت الأنظمة السياسية إلى أنماط من التفاعل والتفاهم مع هذه النشاطات ,فمنها ما سهلت سبله ومنها ما احتوته ومنها ما توجست منه وتجاهلته على قلق.وأحسب أن دول الخليج كانت تعمد إلى الخيارات ذاتها ,ولكن الحالة جدّ مختلفة في أبو ظبي التي تستند إلى منطقها الخاص في إدارة شأنها ,حيث سلكت أبو ظبي مسارها الخاص في ترسيخ الليبرالية التي راهنت عليها للبقاء على خلاف أنظمة أخرى رأت سبيلاً آخر للاستمرار.
أبو ظبي راهنت على مقاومة ما يعطل استقلاليتها عن السعودية والمنظومة الخليجية ,فكان من شروط استقلاليتها أن تنفرد لنفسها بخط فكري خاص يساهم في نقلة تنموية وليبرالية لا تتحقق بحضور سلفي ينكر بعضاً من هذه الإرادة الجديدة ,فكان أن مارست أبو ظبي نوعاً من التضييق على السلفية الاجتماعية والشرعية غير أنه لن ينجح دون الحد من تأثيرها الفكري والعقدي على شعب أبو ظبي بوصفه قاعدة قبول لإرادة الحكومة في تجاوز الشريعة لتحقيق تنميتها ونجوميتها الاقتصادية والحضارية.
عمدت بعدها حكومة أبو ظبي لتحجيم السلفية وسلفية الشيخ ابن باز بوصفه رمزية كبرى تستوعب السلفية العلمية والدعوية بكل أبعادها ,فانصب التحجيم على رمزية ابن باز وعقيدته وسلفيته ,فقام مشروع توطين الصوفية واستضافة علي الجفري كمقاوم ومحارب قوي لابن باز مع توفر شرط النعومة الدرامية في خطابه الشفهي الذي يحتوي المحايد وتصويفه ودمجه في الخندق المحارب لابن باز وسلفيته .وكان أن اختار المشروع الصوفي مرحلية تدريجية لحرب ابن باز باعتماد كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي بوصفه كتاباً يحقق النقلة المرجوة من سلفية ابن باز إلى صوفية الجفري ,حيث الكتاب متداول عند السلفية والصوفية لما يحويه من أفكار ترضي الصوفي الطموح لاستدراج السلفي البازي أو المحايد. هذا غير ما أمدت أبو ظبي به الجفري من
دعم وتسهيل لنشر التصوف علناً باسم حب الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يرعاها مسؤول بارز بنفسه في مواجهة صريحة لسلفية ابن باز, وأنها منقرضة عن أبو ظبي ولا مكان لها ,سيما أن الجفري صرح أن ابن باز وسلفيته يكرهون رسول الله ناهيك عن أنه يكثر من وصف السلفية بالوهابية من قبيل الانتقاص ووكذا تصريحه الخندقي ضد سلفية ابن باز بأن الشيعة إخواننا وترحمه على الخميني واتهامه لابن باز وسلفيته بالتجسيم بالإضافة إلى قوله إن لعن الكبيسي لمعاوية لا يبرر التطاول على الشيخ وأن سب معاوية من مذاهب أهل السنة وقد حسم الشيخ صالح الفوزان القول في الجفري بقوله إنه من عباد القبور ويسخر من أهل التوحيد.
الجفري محل حفاوة وإجلال من لدن أبو ظبي لما يقدمه من خدمة في حرب ابن باز وسلفيته العقدية والاجتماعية. وتبرهن أبو ظبي مرة أخرى على مشروعها في حرب ابن باز بتكريم شيخ الأزهر أحمد الطيب الصوفي في جائزة الشيخ زايد (شخصية العام الثقافية) حيث أكدت الجائزة غير مرة على أهلية الطيب بالجائزة لاستنارته ووسطيته أي أنه يمثل الإسلام الصحيح وهذه الحرب على ابن باز وسلفيته تتمثل في إقناع شعب أبو ظبي بهذه القدوة والمثال الذي يحتذى (شيخ الأزهر) ,ولا شك أن أبو ظبي تعي أن شيخ الأزهر خصم لابن باز وسلفيته ومحارب شرس ضده ,ولم يتم تكريمه ووصفه البراغماتي المتكرر بالوسطية والاعتدال إلا بعد أن وصف هو ابن باز وسلفيته بالتجسيم وتصريحاته بأنه سيصلي خلف إخوانه الشيعة في النجف وأن سلفية ابن باز منحرفة عن الإسلام.
أكتفي بهذين النموذجين فقط لتأكيد أن أبو ظبي أعلنت المواجهة لابن باز وإزاحته عن مثال القدوة لشعب أبو ظبي, بل لتربي الشعب على أن القدوة هم خصوم ابن باز وهم الأولى بالحفاوة والاقتداء.. هذه هي مواجهة أبو ظبي الناعمة على رمزية ابن باز بالتصوف وتعظيمه وتكريم نماذج أفتت بانحراف سلفية ابن باز عن الإسلام وتقديمها كنماذج للاعتدال والوسطية.
====== محمد عبد الله الهويمل ======
http://www.al-muthaqaf.net/index/new...on=show&id=275