الاستعمار الروسي
واعتبارًا من القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي تعرَّض العالم الإسلامي عمومًا بقيادة الخلافة العثمانيَّة، وروسيا، وأوروبا، وإيران، لمتغيِّرات هائلة، كان لها أثرها المباشر على عَلاقات الخلافة العثمانيَّة مع مناطق آسيا الوسطى بعد سقوط القرم وقفقاسيا حتى بحر قزوين في يَدِ الروس، ويأتي على رأس هذه المتغيِّرات ضَعْفُ الخلافة العثمانيَّة، وتقسيم أملاكها إلى مناطق حماية بين الدُّول الاستعماريَّة، وانفتاح الطريق أمام الروس لاحتلال ممالك آسيا الوسطى الإسلاميَّة.[1]
فقد بدأت روسيا القيصريَّة في التكالب على المسلمين في هذه المناطق، لمَّا ضَعُفَت الخلافة العثمانيَّة، وخاضت معهم حروب إبادة جماعيَّة، بدءًا من عهد إيفان الثالث (885هـ = 1480م) الذي نكَّل بالمسلمين، وقاد حملة كبيرة أخرج فيها المسلمين التتار من موسكو بعد أن دامت في أيديهم قرابة 240 عامًا، ثم جاء عهد فاسيلي الثالث ابن إيفان الثالث، فطلب منه البابا أن يعجِّل بطَرْد المسلمين إلى سيبريا وتشتيتهم، واعدًا إيَّاه بملكوت السماء بالقسطنطينيَّة التي فتحها محمد الفاتح العثماني عام 857هـ، لكنَّ أخطر هؤلاء القياصرة كان إيفان الرابع أو "الرهيب" كما أَطْلَق عليه المسلمون هذا الاسم؛ وذلك بسبب حرب الإبادة الشاملة التي شنَّها ضدَّهم؛ فقد فرض عليهم أن يتنصروا أو يتركوا أوطانهم ويُهاجروا مثلما فعل الأسبان بمسلمي الأندلس.
كما فعل الروس ذلك مع التتار المسلمين على ضفاف نهر الفولجا ومع البشكير، وقد تحوَّل كثير من البشكير والتتار إلى النصرانيَّة؛ خوفًا على أنفسهم وأولادهم، محافظين على إسلامهم سرًّا مدى ثلاثة قرون، حتى أُتِيحَت الحريَّات الدينيَّة عام (1323هـ=1905م)، فأظهروا إسلامهم.[2]
روسيا القيصرية تفرض التنصير على المسلمين
وبعد إيفان الرهيب جاء بطرس العظيم، فكانت سياسته كسلفه، ففرض التنصير على المسلمين بالقوَّة أو الْفِرَار من أراضيهم وأوطانهم، وقد بدأ بطرس العظيم (1092 - 1138هـ = 1682 – 1725م) بالاتِّجاه جنوبًا إلى شمال البحر الأسود في منطقة أزوف واحتلَّها عام (1108هـ - 1696م)، ولكن الخلافة العثمانيَّة استعادتها سنة (1112هـ - 1700م)، ولم يتمكَّن من الاستيلاء على القوقاز سنة (1135هـ - 1722م)؛ بسبب المواجهة الشرسة التي وُاجِهَهَا من مسلميها الأشداء بقيادة رجال الطريقة النقشبنديَّة الصوفيَّة.
وقد سارت الإمبراطورة الروسيَّة "حنا" (1151 – 1169هـ = 1738 – 1755م) على نهج إيفان الرهيب، ففرضت التنصير على المجرى الأوسط لنهر الفولجا، وصادرت الأوقاف، وأغلقت المدارس، وقد أصدرت أمرًا بإعفاء المرتدِّين عن الإسلام إلى النصرانيَّة من الضرائب والخدمة العسكريَّة، ومعاملتهم معاملة حسنة، وقد مُنِعَ المسلمون في عهدها من إقامة شعائرهم الدينيَّة، وأُغْلِقَت جميع مدارسهم ومساجدهم، حتى إن أطفالهم الصغار كانوا يُخطفون ويُوضعون في المدارس التبشيريَّة، حتى يَنْشَئُوا على النصرانيَّة الأرثوذكسيَّة.
وفي عهد كاترين (1176 - 1211هـ = 1762 – 1796م) تمَّت أضخم عمليَّات التوسُّع على حساب أرض المسلمين، ففي فترة حكمها قامت بمصادرة مئات الألوف من أخصب أراضي تتار القرم، رغم السياسة المتسامحة التي أبدتها مع المسلمين، ومنحهم الحرِّيَّة الدينيَّة سنة (1187هـ - 1773م)، ومِن بعدها لم يَسِر القياصرة الروس على نهجها في التسامح مع المسلمين؛ فنجد نيقولا الأوَّل يلجأ إلى سياسة الكبت والضغط على المسلمين، فلا يسمح ببناء المساجد، بل ويُصادر كثيرًا من أراضيهم، وتحتلُّ جيوشه إقليم طشقند عاصمة إقليم الشاش، وسمرقند عاصمة تيمورلنك.[3]
الإمام منصور رافع راية الجهاد
والذي يمكن تسجيله هنا هو أن المقاومة الإسلاميَّة لم تُعْدَمْ في أي من عصور القياصرة السابقِينَ ولا غيرهم، وقد ظهرت في أبهى صورها في عهد كاترين، حيث ظهرت شخصيَّة إسلاميَّة قوقازيَّة حملت على عاتقها راية الجهاد، تمثَّلت في الإمام منصور، الذي استطاع أن يُلْحِق الهزائم المتتاليَّة للروس في كُلٍّ من الشيشان والداغستان، لكنَّه هُزِمَ سنة 1785م في معركة "تتارتوب"، ولكنها لم تكن هزيمة كاملة؛ لأن الإمام منصور انسحب من المعركة بعد أن شعر بأنه سيخسر نتيجة التفوُّق العدديِّ الكبير للروس، وعاد لمسقط رأسه في الشيشان.
وعندما بدأت بوادر الحرب الروسيَّة التركيَّة في عام 1787م استنجد الأتراك بالإمام منصور فلبَّى النداء، وبدأ بمهاجمة القوَّات الروسيَّة من الخلف في الذكرى السنويَّة لمعركة "تتارتوب"، فانتصر الإمام منصور، واستطاع بمعاونة ثلاثة أفواج من قوازق الدون في إبادة الروس وهزيمتهم، إلا أن الروس استطاعوا أن ينالوا من الإمام منصور في قلعة "أنابا" على ساحل البحر الأسود، فخرَّ البطل شهيدًا في سبيل الله في عام 1794م بعد جهاد ضدَّ القيصريَّة الروسيَّة دام ما يقرب من عشر سنين.[4]