الفصل في الملل والنحل
لإبن حزم الاندلسي
يقول إبن حزم في كتابه : وأما قولهم (اي النصارى) في دعوى الروافض تبديل القراآت
فإن الروافض ليسوا من المسلمين إنما هي فرق حدث أولها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة وكان مبداؤها أجابة ممن خذله الله تعالى لدعوة من كاد الإسلام وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر
وهي طوائف :
أشدهم غلواً يقولون بإلهية علي بن أبي طالب والإهية جماعة معه
وأقلهم غلواً يقولون إن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين
فقوم هذا أقل مراتبهم في الكذب أيستشنع منهم أي كذب يأتون به وكل من لم يزجره عن الكذب ديانة أو نزاهة نفس أمكنه أن يكذب ما شاء وكل دعوى بلا برهان فليس يستدل بها عاقل سواء كانت له أو عليه
ونحن إن شاء الله تعالى نأتي بالبرهان الواضح الفاضح لكذب الروافض فيما افتعلوه من ذلك
قال أبو محمد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم ماراً إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعة ماراً إلى الفرات ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما لا يعرف عدده إلا الله عز وجل كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطايف ومكة كلهم قلنا أسلم وبنوا المساجد ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قرأ فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون كذلك ليس بينهم اختلاف في شيء أصلاً بل كلهم أمة واحدة ودين واحد ومقالة واحدة
ثم ولي أبو بكر سنتين وستة أشهر فغزى فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس للقرآن وجمع الناس المصاحف كأبي وعمر وعثمان وعلي وزيد وأبي زيد وابن مسعود وسائر الناس في البلاد فلم يبق بلد إلا وفيه المصاحف ثم مات رضي الله عنه والمسلمون كما كانوا لا اختلاف بينهم في شيء أصلاً أمة واحدة ومقالة واحدة إلا ما حدث في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول خلافة أبي بكر رضي الله عنه من ظهور الأسود العنسي في جهة صنعا ومسيلمة في اليمامة يدعيان النبوة وهما في ذلك مقران بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم معلنان بذلك ومن انقسام العرب ومن باليمن من غيرهم أربعة أقسام إثر موته عليه السلام
فطائفة ثبتت على ما كانت عليه من الإسلام لم تبدل شيئاً ولزمت طاعة أبي بكر وهم الجمهور والأكثر
وطائفة بقيت على الإسلام أيضاً إلا أنهم قالوا نقيم الصلاة وشرايع الإسلام إلا أنا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر ولا نعطي طاعة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هؤلاء كثيراً إلا أنهم دون من ثبت على الطاعة ويبين هذا قول الحطيئة العبسي
أيورثها بكراً إذا مات بعده ،،، فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
وإن التي طالبتم فمنعتم لكا ،،، لتمر أو أحلى لدي من التمر
يعني الزكاة
ثم ذكر القبائل الثابتة على الطاعة فقال فباست بني سعد واسناه طيٌ وباست بني دودان حاشى بني النضر
قال أبو محمد لكن والله باستاه بني نضر وباست الحطيئة حلت الدائرة والحمد لله رب العالمين
وطائفة ثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وسائر من ارتد وهم قليل بالإضافة إلى من ذكرنا إلا أن في كل قبيل من المؤمنين من يقاوم المرتدين فقد كان باليمامة تمامة بن أثال الحنفي في طوايف من المسلمين محاربين لمسيلمة وفي قوم الأسود أيضاً كذلك وفي بني تميم وبني أسد الجمهور من المسلمين
وطايفة رابعة توقفت فلم تدخل في أحد من الطوائف المذكورة وبقوا يتربصون لمن تكون الغلبة كمالك بن نويرة وغيره
فأخرج إليهم أبو بكر البعوث فقتل مسيلمة وقد كان فيروز وذاذوية الفارسيان الفاضلان رضي الله عنهما قتلا الأسود العنسي فلم يمض عام واحد حتى راجع الجميع الإسلام أولهم عن آخرهم وأسلمت سجاح وطليحة وغيرهم وإنما كانت نزعة من الشيطان كنار اشتعلت فأطفأها الله للوقت
ثم مات أبو بكر وولي عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضاً وفتحت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد ونسخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن وعلمه الصبيان في المكاتب شرقاً وغرباً وبقي كذلك عشرة أعوام وأشهراً والمؤمنون كلهم لا اختلاف بينهم في شيء بل ملة واحدة ومقالة واحدة وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن فما بين ذلك فلم يكن أقل
ثم ولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر فلو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الإسلام ما قدر وبقي كذلك اثني عشر عاماً حتى مات
وبموته حصل الاختلاف وابتداء أمر الروافض واعلموا أنه لو رام اليوم أحد أن يزيد في شعر النابغة أو شعر زهير كلمة أو ينقص أخرى ما قدر لأنه كان يفتضح الوقت وتخالفه النسخ المثبوتة فكيف القرآن في المصاحف وهي من آخر الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودان إلى آخر السند وكابل وخراسان والترك والصقالبة وبلاد الهند فما بين ذلك فظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بالكذب
ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق وعند بعضهم نبي ناطق وعند سائرهم إمام معصوم مفروضة طاعته ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر ساكناً بالكوفة مالكاً للدنيا حاشى الشام ومصر إلى الفرات والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به والمصاحف معه وبين يديه فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك
ثم إلى ابنه الحسن وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك فكيف يسوغ لهؤلاء النوكي أن يقولوا إن في المصحف حرفاً زايداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في رأي يسير رأوه ورأي خلافة فقط فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه والحمد لله رب العالمين