الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوارج
الخوارج كغيرهم من الفرق الإسلامية يرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الأمة التي يخاطب بها كل فرد من أفرادها، لكن الخوارج غالوا في تطبيق هذا الواجب وتحقيقه بأي صورة كانت، حتى ولو بسل السيوف في سبيل إقامته، وهم في ذلك متفقون مع بعض أهل السنة، كما يقول ابن حزم:
( ذهبت طوائف من أهل السنة، وجميع المعتزلة، وجميع الخوارج، والزيدية، إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك)([1]).
فهم تعدوا بهذا الواجب الغرض الذي شرع له، حتى طبقوه في كل صغيرة وكبيرة، فصار علامة مميزة لهم ( فالله يطلب من المسلمين ألا يسكتوا إذا رأوا منكرا على الأرض، فهم لا يقصرون على أنفسهم فعل الخير وترك الشر، بل عليهم أيضا أن يعملوا حتى يكون الأمر كذلك في كل مكان، وعند سائر الناس، أعني أن عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغيير المنكر واجب على كل فرد بلسانه وبيده، وهذا المبدأ مبدأ إسلامي عام، ولكن تحقيقه بمناسبة وغير مناسبة كان علامة دالة على الخوارج)([2]).
فتغيير المنكر عند الخوارج اتخذ بعدا جعله من أهم الواجبات المنوطة بهم، مما خرج به عن كونه وظيفة دينية أناط الله عباده بها إلى أن صار أداة سياسية لتحقيق مطلب يسعون إليه (جعلوا لهذا الأصل صلة وثيقة بالفكر السياسي، والتغيير للظلم والجور الذي طرأ ويطرأ على المجتمعات، كما جعلوا القوة [قضية السيف] أداة أصيلة وسبيلا رئيسيا من أدوات النهي عن المنكر، وسبيل التغيير للجور والفساد )([3]).
والمباينون لمنهج أهل السنة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريقان: فريق اتسم بالإفراط في استعماله، وفريق اتسم بالتفريط والتقصير، وكان الخوارج أصحاب المنهج الأول الذي أفرط في استعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأدنى مناسبة ممكنة.
يقول ابن تيمية معقبا على قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة : 105]).
يقول: ( وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما لا يقدر عليه... فيأتي الأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله، وهــو معتد في حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه )([5]).
وقد كان الخوارج أول من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الصورة المبالغ فيها التي تعدت منهج أهل السنة والجماعة، حتى قال فيهم أحد الإباضية: (إنهم أول من أنكر المنكر على من عمل به، وأول من أبصر الفتنة وعابها على أهلها، لا يخافون في الله لومة لائم)([6]).
وقد كان خروجهم أول ما خرجوا على الإمام عليّ بن أبي طالب t إنكارا لمنكر –في زعمهم- وهم لا يستطيعون أن يروا منكرا دون أن ينكروه، وهذا ما أعلنه عبد الله بن وهب الراسبي أول أمير لهم في خطبته التي حثهم فيها على الخروج، قال: ( أما بعد، فو الله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها والركون إليها والإيثار إياها عناء آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق)([7]).
ومن هذا النص يتضح منهجهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفارقة الدنيا وشهواتها، وخوض المعارك والاستشهاد في سبيل تغيير ما يعتقدونه منكرا.
وفي خطبة لأحد زعمائهم أيضا "حيان بن ظبيان" يحثهم فيها على الخروج، وإنكار المنكر، يقول: انصرفوا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا عذر لنا في تركه وولاتنا ظلمة، وسنة الهدي متروكة)([8]).
فهم قد أَوْلُوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عناية عظيمةواعتبروا كل مخالفة منكرا يجب إنكاره دون هوادة أو روية، لا سيما إذا كان المخالف أو صاحب المنكر من الحكام، وهم في ذلك لهم دوافع أخذوها مما يرونه من شيوع المنكرات، وانتشار المظالم بين الناس والحكام، وغياب معالم الدين عند كثير من الناس. ويرى ابن القيم أن الخوارج قد استباحت قتال الناس ومحاربتهم في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)([9]).
لكن يمكننا القول: إن دوافع الخوارج للأمر وبالمعروف والنهي عن المنكر كانت دوافع دينية، وإن غالوا في تطبيقها، لكنها لم تكن دوافع سيئة، كما كانت – مثلا – عند عبد الله بن سبأ الذي (أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه فأظهر النسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله)([10]). واستعمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تأليب الناس على الخليفة، فكان يقول في خطبه ورسائله إلى أعوانه وأنصاره (ابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس)([11]). أما الخوارج فليسوا كذلك، بل كانت بغيتهم إصلاح ما رأوه من فساد، وتغيير ما شاع في المجتمع من منكرات، فأخطأوا الطريق، أو كما عبر الإمام عليّ t " طلبوا الحق فأخطأوه".
لكن ليس معنى ذلك أن النية الحسنة تبرر الخطأ الذي وقعوا فيه، لأنه بمقياس المصالح والمفاسد المترتبة على سلوكهم تكون المفاسد أكبر، والأضرار التي لحقت بالأمة نتيجة سلوكهم كانت لها آثار ممتدة وعواقب وخيمة.
([1])الفصل لابن حزم 3/100.
([2])الخوارج والشيعة. فلهوزن. صـ 41.
([3])تيارات الفكر الإسلامي. محمد عمارة صـ 20.
([4])سورة المائدة من الآية 105.
([5])الحسبة في الإسلام. ابن تيمية، ص65 – 66. المكتبة العلمية – المدينة المنورة.
([6]) "الأديان" لمؤلف إباضي مجهول، 67 نقلا عن: آراء الخوارح لعمار طالبي ص148.
([7])تاريخ الطبري 3/115.
([8])تاريخ الطبري 5/194.
([9])إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان. ابن قيم الجوزية، 2/444، تحقيق الشيخ: محمد بيومي. دار الفجر – الطبعة الأولى 1416هـ 1996 م.
([10])منهاج السنة النبوية. ابن تيمية، 8/479.
([11])تاريخ الطبري 2/647.