ففي كتاب قاموس الشريعة (3/198-199) لجميل بن خميس السعدي جاء فيه هذا الباب الكامل في الرد على القائلين بخلق القرآن :
" الباب الثاني والعشرون في الرد على من يقول بخلق القرآن من القدرية والمعتزلة .
ومن كتاب الكشف والبيان من كتاب [الأكلة!] وحقائق الأدلة :
قالت المعتزلة والقدرية:
ان كلام الله مخلوق ، وان كلام الله ليس بقديم ، وأنه لا يوصف بقدم الكلام ،
وسنشرح في كتابنا هذا ما يزول به الشبه والالتباس ، ويتجلى الغطاء لمن وفق من الناس ، ونبين لأهل الزيغ والاعوجاج ، قصد السبيل والمنهاج ، ونحتج عليهم إن شاء الله بما يبين به الحق الواضح ، والمنهج النير اللائح ، بتوفيق الله وعونه وقوته ومنه ،
نقول وبالله التوفيق:
أن كلام الله تعالى قديم ، لأنه قد ثبت أنه متكلم ، كما ثبت أنه عالم ، وأنه من صفة الكلام ، وهي صفة ذات ، وصفاته لم يزل موصوفا بها ، فوجب أن يكون متكلما ، وأن له كلاما ، والحقائق لا تختلف شاهدا أو غائبا ، كما وصفناه في مسألة إثبات العلم فوجب أنه متكلم.
والدليل على أن كلامه أزلي قديم قوله تعالى : {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقوله له كن فيكون } فبين أن قوله : { كن } يتعلق بما يخلق ما يخلقه ، فلو كان قوله مخلوقا لاقتضى أن يكون له قول آخر فيه كقول : { كن فيكون } ثم الكلام في ذلك الكلام مثل الكلام في هذا القول ، ثم كان يقتضي على كل قول قولا آخر به يقول : { كن فيكون } وكان يتسلسل إلى ما لانهاية له ، وذلك ما لا يصح به وجود قول في هذا أدل دليل على صحة ما قلناه من قدم الكلام ، ووصف الباري سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
مسألة : فإن قال قائل : ما الدليل على أن قولكم من قدم كلامه ؟
قلنا : الدليل من الكتاب قوله تعالى : { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } أن لو صار جميع ما في البحار مدادا ، وجميع نبت الأرض من أشجار أو غيرها أقلاما ، وجميع الحيوانات كتبة ، وجميع الجمادات قراطيس ، ثم امتدت أيامهم وطالت مدتهم حتى كتبوا بتلك الأقلام ، وتلك البحار التي صارت مدادا على تلك القراطيس ، كلام الله تعالى لفنت جميع تلك المخلوقات ، ولم يفن كلام الله تعالى ، فقد بين سبحانه وتعالى أن جميع المخلوقات تفنى ، وكلامه لا يفنى ، علمنا أنه لا يفنى لأنه قديم ، وتفنى المخلوقات بالإضافة إليه لأنها محدثة مخلوقة.
ودليل ثان على صحة ما قلناه من الكتاب قوله تعالى : { لله الأمر من قبل ومن بعد }، وقبل وبعد إذا لم يقيدا بشيء يقتضي الأزل ، وإذا قيد بشيء فقيل : قبل ذا وبعد ذا ، وقبل ذا وقبل ذا ، وبعد كذا وبعد كذا كان ذلك لما قيد له ، فأما إذا قيل قبل مطلقا وبعد مطلقا كان المراد به الأزل ، ولا بد ، والله سبحانه وتعالى أطلق القول فيه فقال : { لله الأمر من قبل ومن بعد } فيقتضي أن يكون الأمر له أزلا ، ولا يزال وما يوجد أزلا ولا يزال فهو قديم ، وأنه قبل الأشياء كلها وبعد الأشياء كلها كما قال سبحانه وتعالى ، وما كان قبل الأشياء وبعدها ، ولا يكون محدثا ، لأن المحدث ما كان له أول في الابتداء وآخر في الانتهاء.
والدليل الثالث من السنة : ما روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "فضل كلام الله على كلام المخلوقين كفضل الله على الخلق" ووجه الاستدلال من الخبر أن يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم جميع بين كلام الله وذاته في إثبات الفضل لهما ، والتسوية في الفضل بينهما يوجب أن يكون ذلك كذلك بمعنى يجمعهما ، ولا معنى يجمعهما إلا العدم ، فوجب أن يكون فضل كلامه على كلام الخلق كفضله على الخلق في معنى أن كلامه قديم ، كما أن ذاته قديمة ، والله أعلم .
والدليل الرابع من الإجماع : ما قد ثبت ورفع أن علي بن أبي طالب لما حكم الحكمين ، وجرى منهما ما جرى من خلعه على يد من حكمه قال : أنا ما حكمت مخلوقا ، وإنما حكمت القرآن ، وكان هذا الحديث بمشهد الفريقين جميعا ، فلم ينكر عليه أحد ، فصح أنه ما حكم مخلوقا وإنما حكم القرآن ، فقد صح من الكتاب والسنة والإجماع.
والدليل الخامس من العقل : أن شرط القيام قيامه بالمتكلم به ، فإذا صح ذلك وجب أن يكون الباري سبحانه محلا للحوادث ، ولا يجوز أن يكون الكلام الذي هو من شرط قيامه به حادثا ولا مخلوقا ، فإن استحالة القول بحدوث كلامه وقوله.
والدليل السادس على صحة ما قلناه أيضا : إنا نقول أن كلام الباري سبحانه لا يخلو إما أن يكون قديما أو محدثا مخلوقا ، ولا يخلو إما أن يكون جنسا أو عرضا أو جوهرا ، لأن الحوادث لا تخلوا من أن تكون من هذه الأقسام ، فإن كان جسما وجب أن يكون سائر الأجسام كلام الله سبحانه وتعالى ، لأن الأجسام جنس واحد يجوز على كل واحد منها جميع ما جاز على الآخر فيها ، وهذا يوجب أن تكون سائر الأجسام كلها كلام الله تعالى ، لأنه تعالى خالق الأجسام كلها بلا اختلاف في ذلك من جميع الأمة ، وهذا لا يقول به أحد وهو محال ، فاستحال أن يكون جسما.
ولا يجوز أن يكون عرضا ، لأن العرض يقتضي ذاتا تقوم به ، ولا يستقل بنفسه ولا يستغني عن محل يحله ، وإذا حل ذلك العرض ذاتا فيكون كلاما للذات التي حل فيها وقام بها ، كالسواد والبياض وغيره ، وكذلك الحركة فإنما هي حركة للذات التي خلق فيها وقامت به ، أو لا يجوز أن يخلق في ذات الصانع لاستحالته أن يكون محلا للحوادث ، فلا يجوز أن يخلق في جسم وجوهر ، لأن ذلك يوجب أن يكون كلاما لذلك الجوهر ، وذلك الجسم الذي خلق فيه وقام به كالسواد والحركة وغير ذلك من الأعراض المخلوقة في الجوهر والأجسام ، وذلك يوجب ألا يكون كلام الله تعالى ، فبطل أن يقوم بجسم أو جوهر أو عرض ، فإذا بطل أن يكون كلامه جسما أو عرضا ، فبطل أن يكون مخلوقا لأن هذه أقسام أجناس من المخلوقات ، ووجب وصح أن كلامه قديم أزلي غير مخلوق وبالله التوفيق.
فصل
الدليل على أن القرآن غير مخلوق قوله تعالى عز اسمه : { الرحمن . علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان } فأخبر سبحانه وتعالى عن القرآن بالتعليم ، وعن الإنسان بالخلق والتفهيم ، فلو كان القرآن مخلوقا لقال عز وجل : الرحمن خلق القرآن والإنسان ، وكان تقدير الآية : الرحمن خلق القرآن وخلق الإنسان.
والدليل ثان : أن الله سبحانه وتعالى إذا أخبر عن شيئين مختلفين الآخر منهما غير الأول فصل بينهما بالواو ولم يدعهما مرسلين ، الدليل على ذلك قوله عز اسمه : { ألا له الخلق والأمر } ففصل بين الخلق والأمر لما كان الأمر كلامه ، فجعل الخلق خلقا والأمر أمرا ، وجعل هذا غير هذا فقال عز وجل : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } فلو كان الأمر مخلوقا لكان تقدير الآية : ألا له الخلق الأمر ، وهذا لا يجوز في كلام أحد ، لأنه كلام عي ، والله سبحانه وتعالى قادر ولا يجوز في كلامه هذا سبحانه وتعالى.
ودليل ثالث : يؤيد ما ذكرناه ويقوي ما بيناه وهو قوله عز اسمه : { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا } ففصل بين الثيبات والأبكار بالواو ، كما فصل بين كلامه وخلقه بالواو .
الدليل الرابع : قوله عز اسمه : { ذلك أمر الله أنزله إليكم } ولم يقل ذلك خلق الله ، فأخبر تعالى أن القرآن أمره ، وأن أمره القرآن ، وهذه أخبار الله تعالى وقوله ، وصح ما قلناه ببعض التنزيل لا تأويل ولا تفسير.
ودليل خامس : وهو قوله عز اسمه : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } ولم يقل قضينا إليه الخلق ، وهذا دليل على قدمه وأنه قديم .
فصل
في نفي حدث القرآن
إن سأل سائل فقال : لم زعمتم أن كلام الله غير مخلوق ؟ وأن الله لم يزل متكلما ؟
قلنا له : وجدنا في كتاب ربنا وهو قوله : { إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } فلو كان القرآن مخلوقا لكان عز وجل قائلا له : كن ، وكذلك القول الثاني ، ولو كان مخلوقا كان حكمه حكم القول الأول ، وكذلك إلى ما لا غاية له ، فلما استحال ذلك ثبت أن كلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق ولا محدث وأنه عز وجل لم يزل متكلما .
مسألة : فإن قالوا : أليس قد قال الله عز وجل مخبرا عن السماء والأرض أنهما { قالتا أتينا طائعين }.
قيل له : نعم .
فإن قالوا : أفتزعمون أنهما قالتا ذلك في الحقيقة ؟
قال : نعم ، كذلك نقول .
مسألة : فإن قال : فأخبرونا عن قول الله عز وجل ذكره : { جدارا يريد أن ينقض } أفتزعمون أن الجدار يريد في الحقيقة ؟
قيل : هذه إرادة جوزتها العرب في لغاتها ، وهي بمعنى كاد ، كما قال الشاعر:
لا تعجبي مني ومن سواده = ومن قميص هم بانقداده
وقال الشاعر :
يريد الرمح صدر أبي براء = ويرغب عن دماء بني عقيل
فوصف الله تعالى الجدار بالإرادة ، كما وصف الشاعر القميص بالهم ، والرمح بأنه قد مال إلى صدر أبي براء ، وذلك أنه جدار مائل يكاد ينقض ، وقد [كاد] القميص ينخرق لبلائه ، ومن ذلك قول القائل : بل أردتُ والله أن أهلك نفسي ، أي كدت أهلكها لا أنه يريد بذلك هلاك نفسه ، فلا [يحب] هلاكها ، وأيضا فإن إرادة الجدار تنفيه الجماد به ، لأن الجماد لا يجوز أن يكون مريدا في الحقيقة.
فإن قال : وكذلك السماء والأرض لم ينطقا في الحقيقة على زعمكم ؟
قيل له : إن الجماد قد يحل فيه الكلام والصوت ، ويوجد فيه كنحو كلام الذراع ، وقولها للنبي صلى الله عليه وسلم : لا تأكلني فإني مسمومة.
فإن قالوا : الذراع ما تكلم ، وإنما تبين [فيه] دلائل على أنها مسمومة؟
قيل له : هل [كذا!] هذا غلط وقد أجمعت الأمة أنها تكلمت وهي من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر هذا أحد فيما علمناه ، وبالله التوفيق.
مسألة : فإن قال : فما الدليل على أن الله خلق الأشياء بقوله ، وأخرج قوله من الأشياء المخلوقة ، وبين أنه غيرها ؟
الجواب : قيل له : إن الله سبحانه وتعالى ذكر جميع الأشياء المخلوقة في آيات كثيرة من كتابه ، فأخبر عن خلقها ، وأنه خلقها بقوله وكلامه ، وأن كلامه وقوله غيرها وخارج عنها.
منها قوله عز وجل : { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } ، وقال عز من قائل : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل } ، وقال عز وجل : { وخلق الله السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين } ، وقال : { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } ، وقال سبحانه : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين . ما خلقناهما إلا بالحق } ، وقال عز وجل : { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } ، وقال سبحانه وتعالى : { وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون }.
وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ولم يدع شيئا من الخلق إلا ذكره ، وأخبر عن خلقه وأنه خلقه بالحق ، وأن الحق قوله وكلامه ، وأمره الذي به خلق كله ، وأنه غير الخلق وخارج عن الخلق ، فهذا نص التنزيل بلا تفسير ولا تأويل .
مسألة : فإن عارض معارض وقال : إن قوله تعالى : { أن يقول له } أدل على الاستئناف للقول ، وكل مستأنف مخلوق ؟
قلنا له : المراد بذلك المصدر ، أي قلنا : يتعلق به أن كن هو كما قال : { وأن تصوموا خير لكم } ، أي فالصيام خير لكم ، فهو كذلك ثم يقول أليس قال : { فسيرى الله عملكم } ، وليس يقتضي أن يكون الاستئناف في الرؤية ، لأن الرؤية قديمة ، وإنما الاستئناف في البدل الذي سيوجد ، وقد قال سبحانه وتعالى : { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } وليس يقع الاستئناف في وصف كونه عالما جهاد المجاهدين ووصفهم ، وكذلك قوله تعالى : { أن يقول له } ليس يقع الاستئناف في القول ، وإنما يقع الاستئناف فيما يخلق ويكون ، وهو سبحانه وتعالى أزلي أبدي .
وإن قال : قد وجبت بأشياء متباينات متفرقات ، فزعمت أن الله خلق الأشياء بقوله وبكلامه وبأمره فقد ناقضت قولك ؟
الجواب : قيل له : ما قلت ذلك إلا على صحة وبيان ، ولا خرجت من كتاب الله ، ولا أتيت ببهتان ، ولا أخبرت إلا بما أخبر الله به مما يوافق بعضه بعضا ، ويصدق بعضه بعضا ، فكل ما ذكر الله تعالى أنه حق خلق به الأشياء ، فهو شيء واحد وإن كثرت أسماؤه ، فهو كلام الله ، وهو قول الله ، وهو أمر الله ، وهو الحق ، وهي أسماء شتى لشيء واحد ، وكما سمى كلامه نورا وهدى وشفاء ورحمة وقرآنا وفرقانا ، وإنما أجرى الله هذا على كلامه ، كما أجراه على نفسه بأسماء كثيرة ، وهو واحد أحد ، فرد صمد سبحانه وتعالى.
فصل
الدليل على أن القرآن هو كلام الله
قوله عز وجل : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } يعني حتى يسمع القرآن لا خلاف بين أهل اللغة والعلم في ذلك ،
وقال عز وجل : { سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل } فسمى القرآن كلامه ، وسماه قوله ،
وأخبر أن قوله كلامه بقوله عز وجل : { يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل }.
والدليل على أن القرآن أنه الحق ، قوله عز وجل : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } فهذا خبر الله سبحانه وتعالى عن القرآن أنه الحق ،
وقال عز وجل : { وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } ، فأخبر سبحانه أن القرآن هو الحق ، وقال عز من قائل : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } فهذا خبر الله سبحانه وتعالى عن القرآن أنه الحق.
وقال عز وجل : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه أنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ، فهذا خبر الله سبحانه وتعالى عن القرآن أنه الحق ، وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } وقال سبحانه : { الر . تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ، وقال عز وجل : { الم . تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك } ، وقال عز وجل : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } ، وقال عز من قائل : { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا } ، فهذا وأمثاله في القرآن كثير .
أخبر الله سبحانه الحق فسماه باسم الحق ، وذكر عز وجل أن القرآن قوله ، وأن قوله الحق ، فقال عز وجل : { ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } ، وقال عز وجل : { ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ، وقال عز وجل : { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق } ،
فهذه أخبار الله تعالى أن الحق قوله ، وأن قوله الحق ، وأن الحق كلامه ، وأن كلامه الحق ، ومثله في القرآن كثير.
الدليل على أن الله سمى القرآن أمره ، قوله عز وجل : { حم . والكتاب المبين . إنا إنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمر من عندنا } يعني القرآن ، فأخبر سبحانه أن القرآن أمره ، وأن أمره القرآن ، وقال عز وجل : { ذلك أمر الله أنزله إليكم } يعني القرآن ، فبهذا أخبر الله أن القرآن أمره ، وأن أمره القرآن ،
فهذه أسماء شتى لشيء واحد ، وهو الشيء الذي خلق الله به الأشياء ، وهو غير الأشياء ، وهو خارج عن الأشياء ، وغير داخل في الأشياء ، وهو كلامه ، وهو أمره ، وهو الحق ، وهو قوله ، فهذا بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير.
مسألة : فإن قال قائل : في قول الله عز وجل : { كن فيكون } أن القول في قوله : { فيكون } يقتضي التعقيب ، وذلك دليل على خلق القرآن ؟
قيل له : إن الفاء في هذا الموضع لا تقتضي التعقيب ، الدليل على ذلك قول القائل : لا تسؤني فأسوءك فربما كانت الإساءة له بعد ذلك بزمان فصح أنها لا توجب التعقيب ، وكذلك أيضا لو أن رجلا قال : إن دخلت مكة فلأشرين مصحفا وكتابا ، فربما شراه بعد دخوله بمدة طويلة ، فوجب أن الفاء لا تقتضي التعقيب.
والذي يبين ما ذكرناه قوله عز وجل : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } والقرض من العبد إنما هو في دار الدنيا ، والضعف من الله للمقترض إنما هو في الآخرة ، فصح ما قلناه بدليل القرآن ، وكذلك قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } فهذا دليل على أن الفاء لم يوجب التعقيب ، لأن البأس قبل الهلاك.
ودليل ثان يدل على الصحة ما ذكرناه في قوله تعالى : { كن فيكون } إنما هو رفع على الابتداء ولم ينصبه على إعراب الأمر ، وجواب الأمر لا ينصب إلا بإضمار أن المفتوحة ، ولا تضمر أن إلا في فعل لم يمض معناه ، ألا ترى أنك تقول : ذهبت حتى أدخلها في معنى دخلتها ، فترفع أدخلها حين كان معناه ماضيا ، ولم تضمر أن ، وكان المعنى كن فكان هكذا يرفع عن أبي حاتم السجستاني ، ووجدنا عن أبي عبيدة في قوله : { كن فيكون } أنه رفع لأنه ليس هو عطفا على الأول ، ولا فيه شريطة فيجازى به ، إنما أخبر الله تعالى أنه إذا قال كن كان.
واعلموا أن الفاء يكون على أربعة أضرب : تكون متبعة عاطفة مثل قوله : دخلت البصرة فالكوفة ، ومتبعة غير عاطفة، وذلك يكون في باب الشرط والخبر، أو تكون زائدة كقولك : زيد فمنطلق ، أي زيد منطلق والدال على ذلك قول الشاعر :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم = وأكرومة الحيين خلق كما هيا
أراد خولان أنكح فتاتهم فعلى هذا يكون المعنى في قوله : { كن فيكون } أي كن وكان ، والله أعلم ." اهـ