العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتـــــــــديات العـــــــــــامـــة > الــــحــــــــــــوار العــــــــــــــــــام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29-11-10, 03:02 AM   رقم المشاركة : 1
عيسى سالم
عضو







عيسى سالم غير متصل

عيسى سالم is on a distinguished road


Lightbulb مفتاح الإستقامة


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
حمدًا لك اللهم كما يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك، نستجلب به عفوك وغفرانك، ونتوب إليك من حوباتنا، ونستقيل بك عثراتنا، وصلاةًَ وسلامًا على خير التوابين، وإمام المستغفرين، سيدنا محمد خاتم أنبيائك، وتاج أوليائك، وعلى آله وصحبه المستغفرين بالأسحار، المنيبين في الليل والنهار، ومن درج على طريقتهم المثلى، فأنلته الكرامة وحسن العقبى.
أما بعد:
فإن من أقدار الله سبحانه على عباده أن جعلهم عرضة للخطأ والزلل، ومحلاًّ للخلط والخلل، بيانًا لنقصهم وكماله، ولحاجتهم إليه وغناه عنهم.
وفتح لهم مع ذلك باب الرجوع إليه من الوقوع في الزلل والمعصية، وهو بذلك يفرح لتوبة عباده إليه، وهو أرحم بهم من أنفسهم.
قال ربنا سبحانه: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( [النور: 31]، وقال تعالى وتقدس: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( [الحجرات: 11].
وقال سيدنا رسول الله (: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»().
وكان يستغفر ربه قائلاً - في مجلسه -: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور» مائة مرة ().
فإذا كانت التوبة بهذه المكانة - لدى الشارع، وهي مواتية لحال العبد الدائم الوقوع في الزلل والخطيئة - كان الحديث عنها حديثًا سلوكيًّا وعظيًّا لازمًا، إذ لا يكاد يعرف حال التوبة وأحكامها سلوكيًّا إلا الندرة من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ووضع معالم السلوك مهمة جدًا لهذه العبادة الشريفة العظيمة.
إن أول الخطوات هي ولوج منزلة التوبة على وجد صحبة لا فساد فيها، فـ (منزل التوبة) أول المنازل، وأوسطها، وآخرها؛ فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل معه، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك)()، (فهي إذًا أول العبادات والأساس الذي تبنى عليها المقامات)().
إذًا، لزِمَ العبد أن يبادر عمره بالتوبة لأن (شؤم الذنوب يورث الحرمان، ويعقب الخذلان، وإن قيد الذنوب يمنع من المشي إلى طاعة الله عز وجل والمسارعة إلى خدمته، وإن ثقل الذنوب يمنع من الخفة للخيرات، والنشاط إلى الطاعات، وإن الإصرار على الذنوب يسود القلوب)()، ولا نجاة من ذلك إلا بالأوبة الصادقة إلى الله تعالى، وبالرجوع القوي إلى عفوه ورضاه.
فإن وفق الله العبد إلى هذه المرحلة، وأتى بها على وجه مرض، وداوم ملازمتها حتى الوفاة، فقد لاحت له بوادر الصفاء، وبزغ له فجر المسير إلى الله تعالى والمعرفة به تعالى وتقدس..
* * *
قبل التوبة
إن التوبة حينما يعزم العبد عليها يكون قد سبقها من العبد شيء يقوي ورود تلك العزيمة.
يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في «تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس»() (ص9): فإن أردت التوبة فينبغي لك أن لا تخلو من التفكر طول عمرك، فتفكر فيما صنعت في نهارك، فإن وجدت طاعة فاشكر الله عليها، وإن وجدت معصية فوبخ نفسك على ذلك، واستغفر الله وتب إليه؛ فإنه لا مجلس مع الله أنفع لك من مجلس توبخ فيه نفسك). اهـ.
فهذه حالة ينبغي للعبد أن يراعيها مراعاةً كبيرة، وهي المحاسبة للنفس، إذ إن التفكر في الحال المعاش من العبد عند إحداث التوبة، حتى الحال السابق واللاحق، مما يجعل العبد محدثًا توبة ذات وقع كبير على القلب، وذات أثر في حاله بعد.
إن نظر العبد إلى زمانه وحاله الذي أوقع فيه طاعة وقربة إلى الله سبحانه يوجب له أن يكون شاكرًا لتلك النعمة العظيمة، ويكون ذلك محفزًا له نحو الازدياد منها، كذلك: يكون لديه صنع توبةً مما قد يعتري الطاعة من آفة معلومة أو غير معلومة.
ولذلك كانت تقول رابعة العدوية رحمها الله: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي: «أستغفر الله».
وإن نظر العبد إلى ما أوقعه في زمانه من انقياد لشهوة نحو معصية الله تعالى، أو إهمال لطاعة لازمة له، فإن هذه مخالفة لله تعالى، يوجب أن يحدث العبد حيالها أوبةً ورجعةً، ولكن لا يتحصل له الرجوع ولا تتم التوبة إلا بعد أن يَزَعه واعظ القلب بأنه أتى شيئًا من مخالفاته لربه تعالى، وذاك الوازع هو توبيخ النفس وعتابها على ما كان منها، وهو حصيلة للعلم بما كان من حيث استقر لديه أن توبيخه إنما هو على ما ليس بحسن ولا محمود، فيكون بعد ذلك امتلاء قلب الصادق بندم وحسرة على ما كان من تفريط في حق ربه تبارك وتقدس.
فهذه مرحلة سابقة لإيقاع التوبة على وجهها المقبول عند من يدرك حقائق ومعاني هاتيك الوظيفة الشريفة.
* * *
تعريف التوبة
إن معرفة معنى (التوبة) في لسان العرب، والعلم بمعناها عند أهل التربية والسلوك يوقفنا على ملاحظة لحقيقة المراد من التوبة حقيقة، إذ قد يختلف فهم قوم للتوبة عن مراد أهل الشأن فيقع خلط كبير جدًا يورث ما لا يُرتضى من تأويلات جانحة عن الصواب.
تعريف التوبة لغة:
قال ابن فارس: «توب: التاء والواو والباء كلمة واحدة، تدل على الرجوع»().
وأما تعريفها اصطلاحًا:
فإنه لا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، لكن في الاصطلاح مزيد تعلق بالمعاني الشرعية، ولأجل ذلك اختلفت عبارات القوم في الإبانة عن معنى التوبة، إلا أنها كلها تعود لأصل واحد، وهو: الندم على المعصية، مع العزم على عدم الرجوع إليها إذا قدر عليها().
وهذا المعنى هو حقيقة التوبة، إذ حقيقتها: الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل ().
فهذا التعريف الوجيز لـ (التوبة) حوى ركنين عظيمين فيها:
الأول: الندم على المعصية، وفي الحديث يقول رسول الله (: «الندم توبة»().
قال المناوي رحمه الله معلقًا: أي: هو معظم أركانها؛ لأن الندم وحده كافٍ فيها من قبيل الحج عرفة، وإنما كان معظم أركانها لأن الندم شيء متعلق بالقلب والجوارح تبع له، فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي فرجعت برجوعه الجوارح (). اهـ.
وللإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله كلام نفيس في: «الإحياء» (4/4) فيقول: وكثيرًا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده، ويجعل العلم () كالسابق والمقدمة، والترك كالثمرة والتابع المتأخر، وبهذا الاعتبار قال عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة» إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره، وعن عزم يتبعه ويتلوه، فيكون الندم محفوفًا بطرفيه، أعني: ثمرته ومثمره. اهـ.
فالندم على الذنب وارتكابه، ووقوع العبد فيه ركن عظيم في التوبة (لا تتحقق التوبة إلا به، إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به، وإصراره عليه)().
وكيف لا يكون ركن التوبة الأكبر، وفيه إشعار للنفس بعظمة الجرم المرتكب، والإسراف في حق الرب تعالى وتقدس.
إن صدود القلب عن الله تعالى - موت له، وملازمة الاتصال به حقيقة حياته، والذنب أعظم قاطع للقلب عن الاتصال بربه تعالى، فإذا ما صرف العبد ذلك القاطع بندم في القلب على مصيبة القطع عن الله، وبندم على الإساءة في حق الله - كان له ذلك توبة تحيي فؤاده، وتأخذ بروحه بعزيمة قوية نحو تجديد العهد مع الله في عدم معاودة ملابسة القاطع.
وكم لنا من ذنوب نتلبسها ليلاً ونهارًا، ونأتيها سرًّا وجهارًا، أقصتنا عن الله، وأبعدتنا عن قربه، ولا تستشعر قلوبنا ذلك، ولا عجب في هذا، فإن رَيْنَ القلب أعمى بصير القلب عن استبصار حقيقة الذنب، وعن معرفة عظمة الله. فهما شيئان:
أولهما: حقيقة الذنب، ولا يراد بها: تعريفًا واحدًا، وإنما يراد بها الحقيقة التي تبين منها خطورة هذا الذنب على القلب، وآفته الآتية على النفس بالهلكة، فإن الذنوب إذا وقعت من العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا كثرت أصبحت رينًا على القلب، والرين حجاب كفيف عن الوصول إلى رب العزة والجلال.
فهنا تكمن خطورة الذنب، وتظهر حقيقته القبيحة على العبد، والمفسدة لقلبه، ولخطورته هذه كان سيدنا رسول الله ( يكثر من الاستغفار تعليمًا لأمته مبدأ ملازمة التوبة كل وقت، لكثرة واردات الذنوب على القلوب.
وعلى هذا كان سير الصالحين من أمته، فكانت لهم مع الذنب أحوال ووقائع، أبانوا فيها عن غائب من حقيقته.
وأما الشيء الثاني: فعظمة الله تبارك وتقدس، فإن الذنب ليس وقوعًا في مخالفة فحسب، بل هو غفلة عن معرفة عظمة الرب تعالى جده، ومن غفل قلبه عن ذلك فليعزَّ وليبكَ عليه.
فرؤية العبد لعظمة من عصاه وخلافه دليل على يقظة القلب وانتباهته، وفي هذا يقول أنس بن مالك (: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله ( من الموبقات.().
فصحابة رسول الله ( لاحظوا أن المذنب ينظر إلى من عصاه وخالفه وهو الله سبحانه ولا ينظر إلى الذنب، إذ النظر إلى الذنب قد لا يشعر المرء بخطر جريمته، ولا فرق بين كبير الذنوب وصغيرها، وأما النظر إلى عظمة من عصي فإن عظمته والخوف من نقمته تورث استعظامًا للذنب أيًّا كان.
فالذنب يلاحظه المذنب من هاتين الجهتين فيعرف بعد ذلك القدر الذي فاته من القرب إلى الله تعالى، ومن مواصلة السير إليه، وهذه المعرفة توجب ندمًا على التفريط في الذنب.
وأما الركن الثاني من أركان التوبة: فهو الإقلاع عن الذنب، هذا الركن ثمرة الركن الأول، إذ الندم على ما كان من تفريط في جنب الله يثمر عزيمة على الإقلاع والترك للذنب.
ولذا قال سهل بن عبد الله التستري: التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة.
وهذا التبديل طريقه الإقلاع عن ملازمة المذموم، مع دافع العزم على ذلك قبل، فصار شأن الركن الثاني إلى شيئين:
الأول: عزيمة وقصد على الترك، وهذا يورثه التألم الوارد على القلب بفوات القرب من الله تعالى فإن هذا التألم يجعل القلب عاملاً في سلوك ما يصحح ما فاته في ماضيه، وما يحسن حاله، وما يلزمه إصلاح مستقبله، وذلك كله داخل في: القصد والعزيمة على تغيير الحال إلى أحسن منها.
الثاني: الإقلاع عن الذنب، وهذا هو الثمرة المتحققة من: الندم والعزيمة، وهي آخر التوبة، أي: التي بها يكون الانتهاء من الإتيان بحقيقة التوبة شرعًا.
إذا علم هذا فإن التوبة قد آل أمرها إلى ثلاثة أشياء هي شروطها:
الأول: الندم.
الثاني: العزيمة.
الثالث: الإقلاع.
فبتحقق هذه الأشياء الثلاثة في أي توبة يكون تحقق التوبة بمعناها الشرعي.
وليعلم بأن هذه الشروط الثلاثة مترابطة فيما بينها، فلا ينفك أحدها عن الآخر، سواء كان ترابطها مطابقة أم تضمنًا أم تلازمًا().
(ومن تفقد نفسه وجدها مشحونة بهذا السم - أي الذنب - فإذا وفق انبعث من خوف هجوم الهلاك عليه فيبادر بطلب ما يدفع به عن نفسه ضرر ذلك، فحينئذ ينبعث من الندم على ما سبق، والعزم على ترك العود عليه)().
* * *
فضائل التوبة
جاء في فضل التوبة نصوص كثيرة، وفي فضل التوابين، وذكر ثواب ذلك، وكذلك جاءت أخبار عن الصالحين في هذا.
والنصوص الآتية في ذلك إما: تكون أمرًا، وإما ذكرًا لثواب، وإما مدحًا، إلى غير ذلك من أصناف تنويع الخطاب.
قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( [النور: 31].
وقال تعالى وتبارك: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( [الزمر: 53].
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا...( [التحريم: 8].
وقال رسول الله (: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة» [رواه مسلم].
وقال (: «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المفتن التواب»().
قال المناوي رحمه الله في «فيض القدير» (2/389): (التواب) أي: الكثير التوبة، أي: الذي يتوب ثم يعود، قم يتوب ثم يعود، ثم يتوب وهكذا، قال الحرالي: وهذا تأنيس لقلوب المجروحين من معاودة الذنب بعد التوبة منه. اهـ.
وقال (: «لله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحتله عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته»().
فهذا الحديث فيه بيان لفرح الله تعالى وتقدس بتوبة عبده إذا تاب إليه، ومتى وقع العبد في خطيئة فتاب إلى ربه قبل من الله تعالى تلك التوبة.
قال القرطبي رحمه الله: هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب، وأن يقبل عليه بمغفرته، ويعامله معاملة من يفرح بعمله. اهـ ().
وقال ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين» (1/386): «والقصد: أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، لا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته، وما يليق بعز جلاله. اهـ ().
* * *
حكم التوبة
التوبة إلى الله تعالى واجبة على كل امرئ مسلم، ودل على ذلك دلالتان:
الأولى: الأخبار والنصوص الواردة في ذلك، وقد مر ذكر شيء فيها.
الثانية: الإجماع على ذلك، قال الإمام الغزالي: والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها ().
هذا بيان لحكم التوبة من جهة شرعية، ويدخل في ذلك التوبة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها ().
لكن هناك وجوبًا سلوكيًّا، وهو الذي لا يبلغه إلا الخلص من الصالحين - سلك الله بنا في دربهم - وحقيقته إيجاب للرجوع إلى الله تعالى في كل حال كان بها انقطاع عن ذكره، ذلك لأن أعظم شيء يحيا به القلب هو ديمومة التعلق بالله تعالى ذكرًا له.
ولقد بين ذلك الإمام الغزالي رحمه الله حيث قال: معنى الواجب ما هو واجب في سعادة الأبد، والنجاة من هلاك الأبد، فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن لوصفه بكونه واجبًا معنى، وقول القائل صار واجبًا بالإيجاب حديث محض، فإن ما لا غرض لنا آجلاً وعاجلاً في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه.
فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد، وعلم أنه لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى، وأن كل محجوب عنه يشقى لا محالة، محول بينه وسببين ما يشتهي، محترق بنار الفراق ونار الجحيم، وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات، والأنس بهذا العالم الفاني، والانكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعًا، وعلم أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم، والإقبال بالكلية على الله طلبًا للأنس به بدوام ذكره، والمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته، وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله، واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته، سبب كونه محجوبًا مبعدًا عن الله تعالى.
فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب. اهـ ().
فتحصل من ذلك أن الواجب نوعان:
الأول: واجب فقهي، وهو: الرجوع عن الذنب إلى الله تعالى منه. الثاني: واجب سلوكي، وهو: الانصراف عن كل ما يحجب العبد عن الله تعالى.
ولا يكون الثاني إلا بعد الإتيان بالأول على تمامه وكماله، وهو عائد إلى يقظة القلب، وحياته وسلامته.
وأما من لم يكن آتيًًا بالأول على وجه صحة فبعيد عليه نوال مقام السلوك، في الثاني، وبلوغ ذلك يفتقر إلى بذل لمجاهدة عظمى للنفس على مفارقة الذنوب وعدم مقارفتها.
شروط التوبة
إن العبد إذا تاب إلى ربه تعالى وأناب إليه من حوبته، فإنه يكون راجيًا قبول تلك التوبة من الله سبحانه، إذ إنه آيب إلى رب رحيم تواب، يعاود عبده بالقبول كلما آب إليه وتاب.
إلا أن التوبة حتى تقع موقع الصحة، ومن بعده القبول لها - لها شروط لتكون صحيحة، وهي ():
الأول: الندم على الذنب، فإنه ركنها الأعظم، وهو الباعث على ما يليه من أحوال تعقبه.
وحقيقة الندم: (أن لا يعاود إلى مثل ما وقع الندم عليه)()، ويكون ندمه على المعصية من حيث كونها معصية ().
وإنما كان الندم شرطًا في التوبة لمعنى تضمنه وهو أنه (لتعظيم الله سبحانه، وخوف عقابه، مما يبعث على التوبة النصوح، فإن ذلك من صفات التائبين وحالهم»().
الثاني: الإقلاع عن الذنب، فإن التوبة تستحيل مع مباشرة الذنب ()، فعلى العبد أن يكون مقلعًا عن الذنب تاركًا له وأما إن كان متلبسًا به، أو مباشرًا له فلا أثر للتوبة حينئذ.
والمقصود: أن يكون مقلعًا عن الذنب الذي تيب منه، ولو كان مواقعًا لذنب آخر من غير نوعه ().
الشرط الثالث: العزم على عدم العودة إلى الذنب، إذ إن الباعث على التوبة يثمر عزيمة على عدم العود في الذنب الذي تاب منه العبد واستغفر ربه منه.
والمقصود أن يعقد النية، ويصح العزم على أن لا يعود في الذنب الذي وقع منه وتاب من فعله مرة أخرى على وجه عمد وتقصد.
فأما إن كان واقعه بعد التوبة سهوًا أو خطًأ فلا محل للحديث عنه هنا، إذ ذاك معفو عنه مغفورًا له، والحمد لله ().
إن معرفة العبد بخطورة ما أصاب من ذنب وخطيئة، ومعرفته بالمفاسد الناتجة عن ذلك، وأنه خاسر أعظم مطلوب له في عيشه؛ وهو: رضا الله تعالى. والقرب منه سبحانه، وأحدث ذلك العلم وتلك المعرفة في قلبه ندمًا على الخير الذي فاته، وندمًا على ما فرط في جنب ربه تبارك وتقدس، ولازم فؤاده ذلك الندم فإنه يحدث في نفسه عزيمة قوية على أن لا يعاود مباشرة ذلك القاطع له عن الله تعالى.
ويقطع الخوف من العودة فيه في مقتبل أيامه وأحواله بالعزيمة القوية في ذلك، بالصدق مع الله تعالى في التوبة، ولن يخيب الله سبحانه عبدًا صدق معه في شيء.
فبتحقيق العبد هذه الشروط الآنفة الذكر يكون وقوع توبته صحيحًا في حق الله تعالى، وأما إن كان ثمة لآدمي فقد زيد.
الشرط الرابع: التبرؤ من حقوق الآدميين.
قال الإمام النووي رحمه الله في «رياض الصالحين» (1/79-80 دليل الفالحين): وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة؛ هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها.
وقد ذكر هذا الشرط ابن القيم رحمه الله في سياق لأحكام تتعلق بالتوبة ()، واستدل على ذلك بحديث: «من كان لأخيه عنده مظلمة من مالٍ أو عرض، فليتحلله اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات»().
فائدة: ذكر الإمام الغزالي رحمه الله في «منهاج العابدين» (ص89) أقسام الذنوب التي يتخلص منها التائب، إذ هي في الجملة ثلاثة أقسام:
الأول: ترك واجبات الله تعالى على العبد، من صلاة أو صيام، أو زكاة، أو كفارة، أو غيرها. فعلى العبد أن يقضي ما أمكنه منها().
الثاني: ذنوب بين العبد وربه سبحانه وتعالى، فيندم العبد عليها، ويوطن قلبه على ترك العود إلى مثلها أبدًا.
الثالث: ذنوب بينه وبين العباد، فهذه أقسام:
أ- إن كان في المال، وجب رده إن أمكن، فإن لم يمكنه استحله إن كان حيًا، وإن كان ميتًا تصدق عنه إن أمكن، وإلا فيكثر من الطاعات والحسنات، ويدعو الله أن يرضيه عند يوم القيامة، لكونه حقًّا له.
ب- وإن كان الذنب متعلقًا بالنفس، يمكن من القصاص، فإن عجز عن ذلك فالابتهال إلى الله أن يرضيه عنه يوم القيامة
واحتج لذلك بالحديث السابق: «من كانت لأخيه عنده مظلمة».
ج- وإن كان الذنب في العرض كـ: غيبة أو بهت أو شتم، أو قذف فعليه بأمور:
1- تكذيب نفسه عند من فعل ذلك عنده.
2- الاستحلال من صاحب الحق، إن أمكن ما لم يخش فتنة تهيج وتقع.
واختار شيخ الإسلام عدم اشتراط الإعلام وإنما تكفي التوبة فيما بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف بضد ما ذكر عنه، وذلك في المواطن التي اغتابه فيها أو قذفه ونحوها ().
د- وإن كان الذنب يتعلق بحرمة الشخص؛ كالخيانة في أهله وولده ونحو ذلك، فإن يتضرع إلى الله تعالى أن يرضيه عنه يوم القيامة، ويفعل من الخير كثيرًا مقابلة لذلك.
ولا يخبر بما كان لأن ذلك يثير فتنة، ومولدٌ شرًا أكبر، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم والتعاطف والتحاب ().
وأما إن كان إخباره لا يثير فتنة بل تؤمن فيخبره، وهو نادر().
(وجملة الأمر فما أمكنك من إرضاء الخصوم عملت، وما لم يمكنك راجعت الله سبحانه وتعالى بالتضرع والصدق، ليرضيه عنك، فيكون ذلك في مشيئة الله تعالى يوم القيامة، والرجاء منه بفضله العظيم وإحسانه العميم، أنه إذا علم الصدق من قلب العبد فإنه يرضي خصماءه من خزانة فضله، ولا حكم، فاعلم هذه حقها راشدًا. فهذه هذه.
فإذا أنت عملت ما وصفناه وبرَّأت القلب عن اختيار مثلها في المستقبل، فقد خرجت من الذنوب كلها، وإن حصلت منك تبرئة القلب، ولم يحصل منك قضاء الفوائت، وإرضاء الخصوم، فالتبعات لازمة وسائر الذنوب مغفورة)().
هذه شروط التوبة، وما يصح به وقوعها ومن ثم قبولها، فبإتيانها جميعها يكون مجيء التوبة على وجه صحيح شرعًا، وبتخلفها أو أحدها فلا تصح منه التوبة ().
ومما يلحق بالشروط السابقة أن تقع التوبة في زمن الإمكان، إذ إن لها وقتًا لا تقبل فيه إن وقعت، وهو قسمان:
الأول: زمن خاص بكل أحدٍ من الناس، وهو قبل الغرغرة، لحديث: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»().
الثاني: زمن عام، وهو قبل طلوع الشمس من مغربها.
* * *
متعلقات التوبة
إن وقوع التوبة من العبد لها أشياء تتعلق بها، يؤتى بها حال التوبة وقبلها وبعدها، وهذه الأشياء بها تمام حقيقة التوبة المطلوبة من العبد السائر إلى ربه تعالى، والمبتغي رضاه وحبه.
وتلك المتعلقات عشر خصال ():
الأولى: فرض على العبد أن لا يعصي الله تعالى، إذ إن الواجب على العباد لزوم طاعة الله في كل حال وزمان، وعدم مخالفة أمره وارتكاب نهيه.
والنصوص بالأمر بطاعة الله تعالى كثيرةً جدًّا، وهي من أشهر أن تذكر في هذا المقام.
إلا أن الفرض هنا نوعان:
الأول: فرض واجب، وهو ملازمة طاعة الله، وعدم مقارفة نهيه.
الثاني: فرض مستحب، وهو كمال، ويتعلق بحفظ الخواطر السيئة من أن ترد على الذهن والفكر، ومجاهدة هم السوء.
الثانية: أن لا يصر على معصية إن ابتلي بها؛ لأن الإصرار على الذنب إيذان بالرضا به، وإعلام بقبوله، ومما يعظم شأن الذنب فيجعله كبيرةً إن كان صغيرًا.
وقد يورد العبد إلى الكفر إذا اعتقد استحلاله، والإصرار على الذنب سوء أدب مع الله تعالى، وكأنه قنوع بالمخالفة وركوب النهي.
والمقصود بالإصرار أحد شيئين:
الأول: الإصرار على الذنوب عامة، كمن يتوب من ذنب وهو مصر على ذنب آخر، فهذا ينافي التوبة العامة.
الثاني: الإصرار على الذنب الذي تيب منه، كأن يتوب وهو مصر على فعله لم يقلع عنه، فهذا منافٍ لحقيقة التوبة، وإخلال لشرط من شروطها التي لا تصح إلا بها().
والكمال في كون العبد تائبًا من كل ذنب ظاهرًا وباطنًا.
الثالثة: التوبة إلى الله تعالى من التوبة.
والمراد (أن يتوب من رؤية التوبة، فإنها إنما حصلت له بمنة الله ومشيئته، ولو خلي ونفسه لم تسمح بها ألبتة. فإذا رآها وشهد صدورها منه ووقوعها به، وعقل عن منة الله عليه تاب من هذه الرؤية والعفة)().
ويتحصل مما ذكره ابن القيم رحمه الله أن التوبة من التوبة تحمل على ثلاثة أوجه:
الأول: أن تكون التوبة من نقصان التوبة وعدم توفيتها حقها.
الثاني: أن تكون توبة من عدم التوبة.
الثالث: أن تكون توبة من النزول من الصفاء إلى الجفاء، لـ (أن من حصل له مقام أنس الله، وصفا وقته مع الله؛ بحيث يكون إقباله على الله، واشتغاله بذكر آلائه وأسمائه وصفاته أنفع شيء له حتى نزل عن هذه الحالة، واشتغل بالتوبة من جناية سالفة قد تاب منها، وطالع الجناية واشتغل بها عن الله؛ فهذا نقص ينبغي له أن يتوب إلى الله منه، وهو توبة من هذه التوبة)().
الرابعة: الندم على التفريط، وقد مضى كلام عنه.
الخامسة: عقد الاستقامة على الطاعة إلى الموت، وهي داخلة ضمن العزيمة على عدم العودة.
وكون العبد دائب الحض والتذكير لنفسه بملازمة الطاعة والاستقامة عليها هو شأن من يراقب الله في كل أحواله، ويرى أنه مقصر في حق ربه فيجدد العقد بالطاعة.
فعقد الاستقامة، والمعاهدة على لزوم الطاعة من علائم صدق التائب وتوبته.
السادسة: خوف العقوبة، فيكون قلبه مطلعًا ببصيرته إلى قدرة الله تعالى على عقوبته على ارتكاب الذنب، وركوبه للخطيئة، فيدفعه ذلك إلى إدامة الندم، ولزوم التوبة والاستغفار وتجديدهما، والابتهال إلى الله بالمنة منه على العبد بقبوله في التائبين.
وهذا الخوف هو الذي قطع نياط قلوب التائبين، وأوردهم كثرة البكاء وطول الحزن على فائت أحوالهم، وذلك من تعظيمهم لله تعالى وإجلالهم له.
والعقوبات الواردة على العبد بسبب ذنوبه كثيرة، لكن أعظمها وقعًا، وأشدها خطرًا عقوبة القطع عن الله تعالى، وأن تحجبه ذنوبه عن لذة الأنس بربه سبحانه، وما بعد هذه العقوبة يهون، ولو لم يكن إلا هي مُخِّوفة لكفى بها أن تُخاف.
أي شيء بقي للمذنب إن سلم من عقوبة محسوسة وأصيب بهذه العقوبة الكبرى؟
السابعة: رجاء المغفرة، وهذه منية التائبين، وغاية الآيبين، أن يتجاوز الله تعالى عن زلاتهم، وأن يعفو عن خطيئاتهم.
قال أبو بكر بن عياش: وددت أن صفح لي عما كان مني في الشباب وأن يدي قطعتا ().
الثامنة: الاعتراف بالذنب، فيقرر على نفسه أنها أصابت ذنبًا في حق الله تعالى؛ إما تركًا لأمر وإما ارتكابًا لنهي، وهذا من حقائق التوبة.
التاسعة: الاعتقاد بأن ذلك الذنب وقع قدرًا من الله تعالى، فيلاحظ في ذلك ضعفه، وأنه عبد لرب تجري عليه أقداره، وأن ذلك الذنب لم يكن باختياره محضًا.
ويلاحظ في ذلك سرًا لطيفًا وهو أن تظهر عليه عبودية العبد الذليل المذنب في الرجوع إلى ربه طالبًا غفرًا لذنبه، وعفوًا 
عن زلته.
ولا يعني ذلك أن يكون محتجًا بالقدر إعذارًا لنفسه؛ لأن الاعتذار بالقدر (مخاصمة لله، واحتجاج من العبد على الرب، وحمل لذنبه على الأقدار، وهذا فعل خصماء الله)().
العاشرة: المتابعة بالعمل الصالح ليعمل في الكفارات، لقوله (: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» [رواه الترمذي].
فإنه (لا يستغني العبد في حال من أحوالها عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها تلك السيئات)().
* * *
دوام التوبة
إن حدوث التوبة من العبد العاصي تختلف باعثًا وتختلف بقاءً ودوامًا، حيث إن التائبين على طبقات أربع في التوبة ():
الطبقة الأولى: المستقيم على التوبة، وهو الذي استقام على التوبة إلى آخر عمره، ولم يحدث نفسه بالعودة إلى الذنوب، سوى ما يعتريه من زلات لا ينفك عنها بشر.
وتوبتهم هي التوبة النصوح، وهم أهل النفس الزكية المطمئنة، وإليهم الإشارة بقوله (: «سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟. قال: المستهترون في ذكر الله تعالى يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافًا»().
وهم على قسمين:
الأول: مَنْ سكنت شهواته تحت قهر المعرفة، ففتر نزاعها، ولم يشغله عن السلوك صرعها.
الثاني: من لا ينفك عن منازعة النفس، ومشتغل بمجاهدتها.
الطبقة الثانية: تائب عن ترك الواجب ومقارفة الكبائر إلا أنه مبتلى بذنوب، كلما واقعها لام نفسه وعزم على عدم العودة إليها.
وهذه الطبقة هي أغلب التائبين، وإليهم الإشارة بقول النبي (: «خياركم كل مفتن تواب» [رواه البيهقي].
قال ابن القيم رحمه الله: وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه(). اهـ.
وقال الغزالي رحمه الله: أي: كبير الابتلاء بالذنب، كثير التوبة منه والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بالندامة والاستغفار ().
الطبقة الثالثة: من يتوب ويستقيم على توبته زمنًا، وتغلبه شهوة أو شهوتان فيواقعها، ويندم، ويسول ويسوف توبته.
وأهل هذه الطبقة من الذين قال الله فيهم: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا( [التوبة: 102].
فأمره وحاله مرجو من حيث مواظبته على الطاعة فترجى له التوبة من الله عليه، ومن حيث تسويف وتأخيره ففي خطر فربما اختطفه الموت قبل التوبة.
الطبقة الرابعة: من يتوب ويستقيم، ثم يعود إلى ذنوبه دونه تحديث لنفسه بالتوبة، ودون تأسف على فعله.
فهذا من المصرين، ونفسه الأمارة بالسوء الفرارة من الخير، ويخشى عليه سوء الختام.
هذه طبقات التائبين، وبيان أحوالهم مع الاستقامة على التوبة وملازمة الطاعات، ومباينة الذنوب ومفارقتها، وبينها تفاوت كبير واختلاف كثير، وأرفعها حالاً الأولى، ثم التالية، فالتالية.
* * *
مراحل التائب
قال الإمام الغزالي رحمه الله: «منهاج العابدين» (ص95): (فصل): وجملة الأمر أنك إذا ابتدأت فبرأت قلبك عن الذنوب كلها، بأن توطنه على أن لا تعود إلى الذنب أبدًا ألبتة، فليكن ما كان منك على وجه علم الله سبحانه وتعالى، تصدق عزمك من قلب نقي، وترضي الخصوم بما أمكنك، وتقضي الفوائت بما تقدر عليه، وترجع في الباقي إلى الله سبحانه وتعالى بالابتهال والتضرع ليكفيك ذلك.
ثم تذهب فتغتسل، وتغسل ثيابك، وتصلى أربع ركعات كما يجب ()، وتضع وجهك بالأرض في مكان خال حيث لا يراك إلا الله سبحانه، ثم تجعل التراب على رأسك، وتمرغ وجهك، الذي هو أعز أعضائك في التراب بدمع جار وقلب حزين وصوت عال ونداء خفي، وتذكر ذنوبك واحدًا واحدًا - ما أمكنك - وتلوم نفسك العاصية على فعلها، وتوبخها وتقول: يا نفس، أما تستحي، أما آن لك أن تتوبي وترجعي؟ ألك طاقة بعذاب الله سبحانه؟ ألك حاجة بسخط الله سبحانه؟ وتذكر من هذا كثيرًا وتبكي.
ثم ترفع يديك إلى الرب الرحيم سبحانه وتعالى، وتقول: إلهي عبدك الآبق رجع إلى بابك، عبدك العاصي رجع إلى الصلح، عبدك المذنب أتاك بالعذر فاعف عني بجودك وتقبلني بفضلك، وانظر إلي برحمتك، اللهم اغفر لي ما سلف من الذنوب، واعصمني فيما بقي من الأجل، فإن الخير كله بيدك، وأنت بنا رءوف رحيم.
ثم تدعو دعاء الشدة وهو: يا مجلِّي عظائم الأمور، يا منتهى همة المهمومين، يا من إذا أراد شيئًا إنما يقول له: كن فيكون، أحاطت بنا ذنوبنا أنت المذخور لها يا مذخور لكل شدة، كنت أدخرك لهذه الساعة، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
ثم أكثر من البكاء والتذلل وقل: يا من لا يشغله سمع عن سمع، يا من لا يبرمه إلحاح المسلمين، أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك، برحمتك يا أرحم الراحمين، إنك على كل شيء قدير.
ثم تصلى على النبي ( وتستغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات، وترجع إلى طاعة الله جل جلاله، فتكون قد تبت توبة نصوحًا، وقد خرجت من الذنوب طاهرًا كيوم ولدتك أمك، وأحبك الله عز وجل، ولك من الأجر والثواب، وعليك من البركة والرحمة، ما لا يحيط به وصف الواصفين، وحصل لك الأمن والخلاص، ونجوت من غصة المعاصي وبليتها في الدنيا والآخرة. اهـ.
هذا البرنامج الذي رسمه الإمام الغزالي رحمه الله حوي بياتًا لكيفية تحقيق حقيقة التوبة من العبد، وبيان مدى وصوله إلى عظم ذنبه بالنسبة لله تعالى.
* * *
أقسام الذنوب ()
ذنوب العباد مختلفة ومتنوعة، وليست كلها على حال واحدة، ولا في مرتبة واحدة، ولكن جماع أنواعها وأقسامها شيئان:
الأول: كبائر، وفيها مسألتان:
الأولى: تعريف الكبيرة، إذ هي: كل ما فيه حد في الدنيا أو وعيدٌ في الآخرة ().
الثانية: تقسيم الكبائر، إذ إن الفقهاء اختلفوا في قسمة الكبائر وتنوعت طرائقهم في ذلك، وهذه أربع طرائق في تقسيم الكبائر:
الطريقة الأولى: وقد قسمت إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بترك فرض أوجبه الله؛ كمعصية إبليس فإنها ترك الأمر.
الثاني: ما يتعلق بفعل موبقة أو محرم؛ كمعصية آدم ( فإنها فعل لنهي.
الطريقة الثانية: تقسيمها إلى قسمين:
الأول: قسم يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى؛ كالتوحيد والسلامة من الشرك.
الثاني: قسم يتعلق بحق المخلوق.
الطريقة الثالثة: تقسيم الكبائر إلى أربعة أقسام:
الأول: كبائر ربوبية، كأن يتصف بشيء مما هو من خصائص الله تعالى.
الثاني: كبائر شيطانية: وهي: أن يتشبه المرء بالشيطان؛ كالاتصاف بالحقد والحسد وغيرهما من الصفات الشيطانية.
الثالث: كبائر بهيمية، وهي: ما يفعله الإنسان مما تفعله البهائم، من شهوة الفرج وشهوة الباطن.
الرابع: كبائر سبعية، وهي التي فيها تشبه بصفات السباع؛ كالقتل والعدوان ونحوها.
الطريقة الرابعة: تقسم الكبائر إلى قسمين:
الأول: كبائر باطنة، وهي الأعمال القلبية.
الثاني: كبائر ظاهرة، وهي أعمال الجوارح؛ كالكذب والغيبة، ونحوها مما يقوم به بعض الجوارح.
الشيء الثاني: صغائر، وهي كل ما لم يأت عليه تعريف الكبيرة، ولا عبرة بما أدخل في الكبائر وليس منها وإنما مبني على آراءٍ خاصة، أو اعتماد على عمومات النصوص.
فائدة: خالف في هذا التقسيم أبو إسحاق الإسفرائيني رحمه الله حيث جعل المعاصي كلها كبائر، وليس فيها صغائر، فهذا له جهتان:
فأما الأولى: إن كان من حيث تعلق الحكم الشرعي، ووقوع الإثم فلا يتجه إليه وهو قول مطرح ومتروك لدى الفقهاء.
وأما الثانية:
إن كان من حيث تعلقها بالله تعالى، فمتجه، وهو ما حمله عليه ابن القيم رحمه الله().
ما تعظم به الذنوب
من المسائل المذكورة المتعلقة بالتوبة ذكر الأسباب التي بها تصير الصغيرة كبيرةً، وجملة ذلك ستة أسباب ():
الأول: الإصرار والمواظبة، ومعنى الإصرار: الإدمان على المعصية، بمعنى: أن تكون الأكثر والغالب على الإنسان.
وعفو الله عن كبيرة انقضت ولم يتبعها مثلها أرجى من عفو عن صغيرة يواظب عليها العبد.
الثاني: استصغار الذنب، فبقدر استصغار العبد للذنب عظم عند الله، وبقدر استعظامه واستكباره له يصغر عند الله تعالى؛ لأن من استصغر ذنبه لم يكن في قلبه حاضرًا تعظيمه لله تعالى، ولا رعاية قدره وجلاله سبحانه، فكان الجزاء بالنقيض.
ومن استعظم ذنبه إجلالاً لله تعالى، ورعاية لعظمته صغرت معصيته عند ذلك؛ لأن صاحب هذه الحال رأى إلى عظمه من عصى، ولم ير إلى معصيته، بخلاف الأول.
(وههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر؛ بل يجعلها في أعلى رتبها.
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل().
الثالث: الفرح بالذنب، والتمدح به، فإن الواجب على العبد أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه، وبسبب بعده من الله، فإن غلبت حلاوة الصغيرة عند العاصي أصبحت كبيرة، وعظم أثرها في تسويد قلبه.
الرابع: الاستهانة بستر الله عليه، وحلمه عنه، وإهماله إياه.
الخامس: المجاهرة بالذنب، قال النبي (: «كل الناس معافى إلا المجاهرين، يلبث أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه» [متفق عليه].
وهذا الشيء يجر إلى جنايتين:
الأولى: هتك ستر الله عليه، وهذا من كفر هذه النعمة الكبرى من الله تعالى.
الثانية: تحريك رغبة الستر فيمن يسمعه خبر معصيته، أو يشهده عليها، وقد قال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية ثم يهونها عليه.
وتعظم هذه الثانية إذا رغب في المعصية وهيئت أسبابها.
تنبيه: لا يدخل في هذا الإخبار بالذنب من أجل شيئين:
أولهما: طلب الاستبراء من الحق الذي لآدمي، وقد مر معنا ما يخص هذا.
ثانيهما: السعاية بالعلاج لدي مربٍ يتربى لديه الشخص، فيكشف له علاجًا لذنبه تخلصًا منه.
السادس: أن يكون الذنب صادرًا من عالم يقتدي به، إذا علم به منه، كلبس الحرير ونحوه، فإن ذلك يبقى بعده ويكون بذلك شر عظيم عليه، وفي الحديث: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئًا». [رواه مسلم].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ويل للعالم من الأتباع، يزل زلة فيرجع عنها، ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق.
إلا أن العالم إذا كان منه ذنب أن يحرص ما استطاع على إخفائه عن الناس، ولا يظهره حتى لا يكون ذريعة لتهوين الذنب في أعين الناس.
على أن الواجب على العلماء مجانبة الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
هذه أسباب يعظم بها الذنب فيكون كبيرة من الكبائر، ويعظم بها جرم الكبيرة فيعظم إثمها ووزرها، جيء بها على وجه إيجاز واقتضاب.
وبهذا نكون قد أتينا على ذكر لمعالم خطوة الخاطئ نحو الغاية الكبرى، وهي الوصول إلى رضى الله تعالى بتزكية النفس، وتصغية القلب، وذكر نتف من متعلقاتها ومسائلها.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها.
اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك أنت الغفور التواب، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه
عبد الله بن سليمان العتيق
9/2/1425هـ
الرياض - 11527
ص.ب-6898

الفهرس
المقدمة 5
قبل التوبة 8
تعريف التوبة 10
فضائل التوبة 16
حكم التوبة 18
شروط التوبة 20
متعلقات التوبة 26
دوام التوبة 31
مراحل التائب 33
أقسام الذنوب 35
ما تعظم به الذنوب 37
الفهرس 40







 
قديم 29-11-10, 07:48 AM   رقم المشاركة : 2
معين السهلي
موقوف






معين السهلي غير متصل

معين السهلي is on a distinguished road


بحث جميل
شكر الله لك







 
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:27 PM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "