الرسالة الجامعة تحقيق مصطفى غالب
السادسة : رسالة كيفية الدعوة إلى الله
و صفاء الأخوة و الوفاء ، و محض المودة و الصفاء ، و كيف يجب أن تكون الدعوة و حال من يعدو إليها و ينادي إلى إقامتها و الاستجابة إليها ،و الاطلاع عليها ،و طبقات الداعين ،و المدعوين ،و التابعين ، و المتبوعين .
و نريد أن نكشف لك عما ألقيناه إليك في هذه الرسالة مجملا ،و نفصله هاهنا لتعرفه و تقف عليه ، إن شاء الله تعالى .
قد قلنا لك في الرسالة ، رسالة كيفية الدعوة : إن لنا كتبا لا يقف على قراءتها غيرنا ، ولا يطلع على حقائقها سوانا (يعني الداعي يجب ان يكون على علم بالعلوم السرية)،و لا يعلمها الناس إلا من قبلنا ،و لا يتعلم قراءتها إلا من علمناه ،و لا يعرف صور حروفها إلا من عرفناه ،و هي صورة الموجودات بما هي عليه ظاهرة للحواس مرئية للناس و هي آيات بينات ، هم عنها معرضون ، منها حركات الأفلاك و الكواكب السائرات (الدعوة قائمة على علم التنجيم)،و أركان الأمهات وفنون أشكال النباتات و عجائب هياكل الحيوانات ،و لنا علم آخر لا يشاركنا فيه غيرنا و لا يفهمه سوانا و هو معرفة جواهر النفوس و مراتب انتقالها و استيلاء بعضها على بعض ، و سريان قوتها و تأثير أفعالها في الأجرام العالية السماوية و الأجساد السفلية الأرضية و الأركان و الأمهات و الحيوان و النباتو عالم الإنسانية ، أعني الأشخاص البشرية و ما يوجد منهم من الطبقات ،و تباينهم في الدرجات من الأنبياء و الحكماء و اتباعهم وغيرهم ممن دونهم حتى ينتهي إلى أخر طبقات الناس ،و قد أقمنا لكل طبقى من طبقات طوائف الأمة ، الذين عمتهم دعوة الأنبياء قوما يدعونهم إلينا ، و يدلونهم علينا و يعرفونهم بقدومنا و يعدونهم بظهور أمرنا و خروج مهدينا ،و قيام قائمنا ،و طلوع شمسنا و خروجنا من كهفنا ، فإن كان ذلك كذلك ، فيجب لنا أن نبتدئ و نأخذ في بناء المدينة التي تضم شملنا ،و تجمع جملتنا ،و نتخذها دارنا ،و نجعل فيها قرارنا ،و من استجاب إلينا ،و طرا بأمرنا علينا ،و قد وصفناها لك ،و عرفناك كيفية بنائها و لكن نكشف لك ، هاهنا ، عن حقيقة ذلك ، لتعلمه مبينا ، إن شاء الله تعالى .
من رسائل اخوان الصفا
الرسالة السابعة في كيفية الدعوة إلى الله
فصل :انتشار حركتهم بين مختلف الطبقات
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد،
، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين 6 والتجار والتناء 7
ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس. وقد ندبنا
لكل طائفة منها أحداً من إخواننا ممن ارتضيناه في بصيرته ومعارفه، لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة
والشفقة عليهم، وليكون عوناً لإخوانه بالدعاء لهم إلى الله سبحانه، وإلى ما جاءت به أنبياؤه، وما أشارت إليه أولياؤه من التتريل
والتأويل لإصلاح أمر الدين والدنيا جميعاً. وقد اخترناك أيها الأخ الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، لمعاونتهم، وارتضيناك
لمشاركتهم بما آتاك الله من فضله من العقل والفهم والتمييز وحرية النفس وصفاء جوهرها، لتكون مساعداً لهم ومعاضداً لإخوانك،
لأن جوهرك من جوهرهم، ونفسك من نفوسهم، فانظر بعقلك وميز ببصيرتك من ترى من إخوانك وأصدقائك من الكتاب
والعمال وأهل العلم والفضل وحملة الدين والأديان، ومن تبعهم من حاشيتهم وغلمام، ممن يمكنك الوصول إليهم بأرفق ما تقدر
عليه من اللطف والمداراة بأن تذكر لهم ما ألقيناه إليك من حكمتنا وأسرار علمنا، لتنبههم من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحييهم
بروح الحياة بإذن الله تعالى، فإن الله يؤيدك بنصره ويعينك بقدرته، إذا رأى منك الجد والاجتهاد كما وعد أولياءه، فقال عز من
قائل: "ولينصرن الله من ينصره" وقال تعالى: "فإن حزب الله هم الغالبون".
فإذا عرفت منهم أحداً وآنست منهم رشداً عرفنا حاله وما هو بسبيله من أمر دنياه وطلب معايشه وتصرفه في حالاته لكي نعرف
ذلك ونعاونه على ما يليق به من المعاونة، فإن كان ممن يخدم السلاطين ويتصرف في أعمالهم، أوصينا إخواننا ممن يكون بحضرة
السلاطين والملوك بالنيابة عنه والنصيحة له وحسن الرأي فيه لدى الملوك والسلاطين والوزراء. وإن كان من أبناء التناء والدهاقين
والأشراف وأرباب الضياع، أوصينا إخواننا ممن يتولى عمل السلطان بصيانته وحسن معاونته في ملته وكف الأذية عنه، وقبض
أيدي الظالمين عن البسط إليه.
وإن كان من أبناء أصحاب النعم وأرباب الأموال عاوناه بحسب ذلك. وإن كان من الفقراء المحتاجين واسيناه مما آتانا الله من
فضله.
وإن كان ممن يرغب في العلم والحكمة والأدب وأمر الدين وطلب الآخرة، علمناه مما علمنا الله، عز وجل، وألقينا إليه من حكمتنا
وأطلعناه على أسرارنا بحسب ما يحتمل عقله وتتسع له نفسه، وتتوق إليه همته إن شاء الله، عز وجل.
فصل :بناء أمرهم على السرية
واعلم، أيها الأخ البار الرحيم، أننا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفاً من سطوة الملوك ذوي السلطنة الأرضية، ولا حذراً من شغب
جمهور العوام، ولكن صيانة لمواهب الله عز وجل لنا كما أوصى المسيح فقال: "لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا
تمنعوها أهلها فتظلموهم".
واعلم أيها الأخ أنا لا نحسد ملوك الأرضين ولا نتنافس في مراتب أبناء الدنيا، لكن نطلب الملك السماوي ومراتب الملائكة الذين
هم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، لأن جوهرنا جوهر سماوي، وعالمنا عالم علوي، ونحن هاهنا أسرى غرباء في أسر الطبيعة،
غرقى في بحر الهيولى بجناية كانت من أبينا آدم الأول حين خدعه عده اللعين إذ قال: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"
"فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآما" وقيل لهم: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو" يعني أنتما وذريتكما "ولكم في
الأرض مستقر ومتاع إلى حين" وقال: "فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون".
واعلم أيها الأخ أنه كما أن المعاونة تكون بقوة الأجسام على أمور الدنيا من أبلغ ما يكون لأبناء الدنيا فيما يريدون، وأسهلها
عليهم فيما يقصدون، فهكذا نرى أن المعاونة بين إخواننا بالعلوم والمعارف على أمر الدين وطلب الآخرة من أبلغ ما يقصدون
وأسهلها عليهم فيما يريدون.
واعلم أننا لا نستعين بأحد من إخواننا على أمر الدين قبل أن نبذل له من المعاونة على أمر الدنيا، فإن كان مستغنياً عن معاونتنا
فذلك الذي نريد له، وإن كان محتاجاً إلينا فذلك الذي نريد منه، حتى إذا كفيناه ما يهمه من أمور دنياه، وأفرغ لنا قلبه وأجمع لنا
رأيه واستغنى عن ذلك بقوة نفسه وتمييز عقله وصفاء جوهره، فإن كان عنده علم ليس عندنا تعلمنا منه تعلم صبيان الكتاب،
واستمعنا منه استماع المنصتين لخطبة الخطيب يوم الجمعة، فإن كان حقاً ما يقول اتبعناه اتباع المأموم والإمام، وإن كان يرغب فيما
لدينا من العلم علمناه بحسب رغبته وطلبته.
مراتب إخوان الصفاء
مرتبة أرباب ذوي الصنائع
وتبدأ في سن الخامسة عشر
واعلم أيها الأخ البار الرحيم أن قوة نفوس إخواننا في هذا الأمر الذي نشير إليه ونحث عليه على أربع مراتب: أولها صفاء جواهر
نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور وهي مرتبة أرباب ذوي الصنائع في مدينتنا التي ذكرناها في الرسالة الثانية، وهي القوة
العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات، الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد، وإلى هذا أشار بقوله: "فإذا بلغ
الأطفال منكم الحلم" وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الأبرار الرحماء.
مرتبة الرؤساء في سن الثلاثين
وفوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسة وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض بالشفقة والرحمة والتحنن على
الإخوان، وهي القوة الحكيمة الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد، وإليه أشار بقوله تعالى: "ولما بلغ أشده
واستوى آتيناه حكماً وعلماً" وهم الذين نسميهم في رسائلها إخواننا الأخيار الفضلاء.
مرتبة الملوك في سن الأربعين والمرتبة الثالثة فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد
والخلاف، عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر، بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة على النفس بعد
مولد الجسد بأربعين سنة، وإليها أشار بقوله تعالى: "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي
أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه" الآية. وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الفضلاء الكرام.
مرتبة الواصلين في سن الخمسين والرابعة فوق هذه وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا وهي التسليم وقبول
التأييد ومشاهدة الحق عياناً وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهدة للمعاد، والمقربة بمفارقة
الهيولى، وعليها ترد قوة المعراج، وا تصعد إلى ملكوت السماء فتشاهد أحوال القيامة من البعث والحشر والنشر والحساب والميزان
والجواز على الصراط والنجاة من النيران ودخول الجنان ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام. وإلى هذه المرتبة أشار بقوله تعالى:
"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" الآية.
وإليها أشار إبراهيم، عليه السلام: "واجعلني من ورثة جنة النعيم".
وإليها أشار بقوله يوسف، عليه السلام: "رب قد آتيتني من الملك" الآية.
وإليها أشار بقوله المسيح، عليه السلام، للحواريين: "إني إذا فارقت جسدي وهو هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمين العرش
بين يدي الحق أبي وأبيكم، أستشفع لكم، فاذهبوا إلى الملوك في الأطراف وادعوهم إلى الله، عز وجل، ولا ابوهم، فإني معكم
حيث ما ذهبتم بالنصر والتأييد لكم".
وإليها أشار محمد، صلى الله عليه وسلم: "إنكم تردون غدا". وأحاديث مروية كلها مشهورة عند أصحاب الحديث.
وإليها أشار سقراط بقوله يوم سقي السم: إني وإن كنت أفارقكم إخواناً فضلاء فإني ذاهب إلى إخوان كرام قد تقدمونا، في
حديث طويل.
وإليها أشار فيثاغورث في الرسالة الذهبية في آخرها: "إنك إن فعلت ما أوصيك فإنك عند مفارقة الجسد تبقى في الهواء".
وإليها أشار بلوهر حيث قال: "إن الملك قال لوزيره: ومن أهل هذه المقالة؟ قال: هم الذين يعرفون ملكوت السماء" في حديث
طويل.
وإليها ندعو إخواننا جميعاً والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وآيات كثيرة في هذا المعنى وهي كل آية فيها صفة الجنان
وأهلها ونعيمها.