العودة   شبكة الدفاع عن السنة > منتدى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم > الدفاع عن الآل والصحب

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-04-17, 06:06 PM   رقم المشاركة : 11
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


حفظ أبي هريرة:

رأيت أنَّ أُفْرِدَ هذه الفقرة، تحت عنوان «حفظ أبي هريرة» لنعرف ضبطه لما يرويه، ومقدار تثبُّته في حفظ حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرُسُوخِ قدمه، وجلال قدره، وكان من الممكن إدراج هذا فيما سبق مِمَّا ذكرته في كثرة حديثه وسِعَةِ علمه، إلاَّ أنَّ كثرة الحديث وسِعَةِ العلم قد لا تدلان على قوة الحفظ والاتقان، فقد يكون الراوي كثير الحديث غير ضابط لما يروى، فإذا اجتمع العلم الكثير، والحفظ المتقن، كان ذلكغاية ما يتمنَّى أولو العلم.

ونحن الآن بين يَدَيْ حفظ أبي هريرة راوية الإسلام، ومُحَدِّثِ الأُمَّة في القرن الأول، الذي حفظ على الأمَّة حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال عب الله بن عمر.

لقد دعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحفظ، وبسط له رداءً كان على ظهره، وحدَّثَهُ، ثم أمره أنْ يضُمَّهُ إليه، فلم ينس بعد ذلك مِمَّا حدَّث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً، وكان أبو هريرة، يدعو الله أنْ يهبه علماً لا ينسى، فأمن له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد عرفنا حرصه على الحديث النبوي، حُبَّهُ العظيم للرسول الكريم، الذي وجد عنده الخير كله، فانكبَّ على طلب العلم، من بيت العلم ومنزل الوحي، ومعين المعرفة، وتعلَّق بهذا طيلة حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعد وفاته، فكان يحاول أنْ يعي كُلَّ ما يُحَدِّثُ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي ذلك يقول أبو هريرة: «صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلاثَ سِنِينَ مَا كُنْتُ سَنَوَاتٍ قَطُّ أَعْقَلَ مِنِّي، وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَعِيَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي فِيهِنَّ» (1).

فقد اجتمع لأبي هريرة عاملان عظيمان هُمَا حُبُّهُ للرسول الكريم وتعلقه به، واندفاعه وراءه في سبيل كلمة يعلِّمُهُ إياها، أو حكمة ينتفع بها، ونحن نعلم ما لهذا العامل النفسي من أثر بعيد في تثبيت تلك الأحاديث في نفس طالبها، والعامل الآخر هو دعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بالحفظ، وتشجيعه إياه على ذلك، ونحن نعلم ما لأثر المُرَبِّي والمُعَلِّمِ في توجيه طلابه وتفوُّقهم ونجاحهم، فكيف يكون توجيه معلم الإنسانية وتشجيعه، وخاصة من حيث إنه رسول رب العالمين!!؟ فقد تعاضد هذان العاملان ليجعلا من أبي هريرة راوية الإسلام حافظ السُنَّة، وإني أومن بالأثر العظيم الذي تركه دعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفس أبي هريرة على طلب الحديث بنفس صافية وعزيمة قوية، وهِمَّةٍ عاليةٍ، أومن بذلك إيمان اليقين، وإنَّ سيرته وحياته تؤكِّدان ذلك.

وما كان أبو هريرة ليكتفي بما يسمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في نهاره أو ليله، بل كان يراجع حديثه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، ويُكرِّرُ في المسجد، وفي الطريق، وفي بيته، ليلاً ونهاراً، لأنه يرى في ذلك نوعاً من أنواع العبادة، قال أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «جَزَأْتُ اللَّيْلَ ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ: ثُلُثًا أُصَلِّي، وَثُلُثًا أَنَامُ، وَثُلُثًا أَذَكَرُ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (1).

وهذا عامل ثالث من عوامل تثبيت الحديث في صدر أبي هريرة وحفظه، وذاك غاية ما يفعله المتعطِّشُون للعلم المُحِبُّون له، الساعون وراءه، فكيف بأبي هريرة الذي عرفنا عزيمته وإقدامه على حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!؟.

ويذكر لنا أبو الزعيزعة، كاتب مروان، ما يُثْبِتُ اتقانه وحفظه، فيقول: «دَعَا مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ، وَأَجْلَسَنِي خَلَفْ الْسَّرِيرِ، وَجَعَلْتُ أَكْتُبُ عَنْهُ، حَتَّىَ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ، دَعَا بِهِ، فَأَقْعَدَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ وَلاَ نَقَصَ، وَلاَ قَدَّمَ وَلاَ أَخَّرَ» (2)!!.

ومن هذا أيضاً أنه لقي رجلاً، فَقَالَ لَهُ: بِأَيِّ سُورَةٍ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَارِحَةَ فِي الْعَتَمَةِ؟ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي. فَقُلْتُ: أَلَمْ تَشْهَدْهَا؟
قَالَ لَهُ: بَلَى. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «إِنِّي أَدْرِي، قَرَأَ بِسُورَةِ كَذَا وَكَذَا» (1).
وقد شهد له بذلك الصحابة والتابعون وأهل العلم من بعدهم (2).

...

حَضُّهُ على صيانة الحديث من الكذب:

أجل لقد كان أبو هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحرص على نشره، ومع هذا فإنه كان حريصاً حرصاً شديداً على ألاَّ يدخل حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ليس منه، وألاَّ يكذب أحد على الرسول الكريم، لهذا كان كثيراً ما يُحَذِّرُ الناس من ذلك، ويُنذرهم بعذاب الله تعالى، ويُذَكِّرَهُمْ بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَمُرُّ فِي السُّوقِ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ .. مَنْ كَانَ يَعْرِفُنِي فَأَنَا الَّذِي عَرَفْتُمْ , وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ , سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (3).

...


http://shamela.ws/browse.php/book-29967#page-120






 
قديم 28-04-17, 06:33 PM   رقم المشاركة : 12
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


الثناء على أبي هريرة:

قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ» (1).
وفي رواية: «لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ» (2).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبُو هُرَيْرَةَ وِعَاءُ الْعِلْمِ!!» (3).

قال زيد بن ثابت: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا لاَ يُنْسَى، فَقَالَ: «سَبَقَكُمْ بِهَا الْغُلاَمُ الدَّوْسِيُّ»!! (4).

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «مَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنِّي عَنْهُ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ , وَكُنْتُ لاَ أَكْتُبُ» (5).

كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد نهى أبا هريرة من الإكثار عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما نهى غيره، لأنَّ سياسة عمر وبعض الصحابة الإقلال من رواية الحديث، لأنَّ في الإكثار مظنة الخطأ، وخوفاً من أنْ يشغل الناس بالحديث عن القرآن، ومع هذا فقد سمح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبي هريرة بالتحديث، بعد أنْ عرف ورعه وتقواه.


روى الذهبي عن أبي هريرة قال: «بَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ فُلاَنٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ لأَيِّ شَيْءٍ سَأَلْتَنِي. قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". قَالَ: أَمَا لاَ، فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (1). وفي رواية قال عمر: «حَدِّثْ الآنَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شِئْتَ» (2)، وفي رواية أخرى قال: «أَمَا لِي، فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (3).

وهذا السماح توثيق لأبي هريرة، من أمير المؤمنين.
قال عبد الله بن عمر: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْفَظَنَا بِحَدِيثِهِ» (4).
وَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ: هَلْ تُنْكِرُ مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ شَيْئًا؟ قَالَ: «لاَ، وَلَكِنَّهُ اجْتَرَأَ، وَجَبُنَّا» (5). وفي رواية قال ابن عمر: «أَبُو هُرَيْرَةُ خَيْرٌ مِنِّي، وَأَعْلَمُ بِمَا يُحَدِّثُ». وكان يكثر الترحُّم عليه ويقول: «كَانَ مِمَّنْ يَحْفَظُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ» (7). قال أُبَيٌّ بن كعب: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَرِيئاً عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ لاَ نسَأَلُهُ عَنْهَا» (8).

قالت السيدة عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: «صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ» (9)،


حين أرسل ابن عمر يستفهم عن حديث الجنازة الذي رواه أبو هريرة.

قال طلحة بن عبيد الله: «لاَ نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ» (1). وفي رواية: «قَدْ سَمِعْنَا كَمَا سَمِعَ، وَلَكِنَّهُ حَفِظَ وَنَسِينَا» (2).

قال زيد بن ثابت لرجل سأله عن شيء: «عَلَيْكَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ» (3).

جاء رجل إلى ابن عباس في مسألة، فقال ابن عباس لأبي هريرة: «أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ» (4).

قال مروان بن الحكم: «إِنِّي رَأَيْتُكَ اليَوْمَ حَبْراً» (5). وذلك حين عاده في مرضه وسمعه يدعو قائلاً: «اللهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ لِقَاءَكَ، فَأَحِبَّ لِقَائِي».

قال كعب الأحبار: «مَا رَأَيْتُ أَحَداً لَمْ يَقْرَأِ التَّوْرَاةَ أَعْلَمَ بِمَا فِيْهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» (6).

وقال محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم: «فَعَرَفْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ أَحْفَظُ النَّاسِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (7). وذلك يحين حضر مجلسه الذي كان فيه مشيخة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يُحَدِّثُهُمْ، فلا يعرف بعضهم الحديث، ثم يتراجعون فيه فيعرفونه.

قال أبو صالح السمان: «كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (8).

وعنه أيضاً قال: «ما أزعم أنَّ أبا هريرة كان أفضلهم - يعني الصحابة - ولكنه كان أحفظ» (1).

ويعرف سيرين الأنصاري - أبو محمد ويحيى ابني سيرين - مكانة أبي هريرة، فيبعث بَنِيهِ إليه ليُعَلِّمَهُمْ (2). وكان صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذٍ كثرة، مِمَّا يدل على شهرة أبي هريرة، وحفظه وإتقانه، ولولا هذا ما بعث إليه أبناءه الذين أصبحوا من أعلام رجال الحديث بعد ذلك ..

قال الإمام الشافعي: «أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ» (3).
قال الإمام البخاري: «رَوَى عَنْهُ نَحْوَ ثَمَانِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَكَانَ أَحْفَظَ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي عَصْرِهِ» (4).

قال حافظ المغرب يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر [368 - 463 هـ]: كَانَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وفي (نسخة أخرى من كتابه): «كَانَ أَحْفَظَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ يَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُ سَائِرُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، لاِشْتِغَالِ المُهَاجِرِينَ بِالتِجَارَةِ، وَالأَنْصَارِ بِحَوَائِجِهِمْ» (5).

وقال المُؤَرِّخُ علي بن محمد (ابن الأثير) الجزري [555 - 630 هـ]: «أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْثَرُهُمْ حَدِيثاً عَنْهُ» (6).

ويقول الإمام الحافظ الذهبي [673 - 748 هـ]: «أَبُو هُرَيْرَةَ الفَقِيهُ المُجْتَهِدُ الحَافِظُ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْثَرُهُمْ حَدِيثاً عَنْهُ، أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ اليَمَانِيُّ. سَيِّدُ الحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ» (1).
وقال في موضع آخر: «أَبُو هُرَيْرَةَ: إِلَيْهِ المُنْتَهَى فِي حَفِظِ مَا سَمِعَهُ مِنَ الرَّسُوْلِ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وَأَدَائِهِ بِحُرُوْفِهِ» (2) وقال أيضاً: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَثِيقَ الحِفْظِ، مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ» (3).

وقال الذهبي: «هُوَ رَأْسٌ فِي القُرْآنِ، وَفِي السُنَّةِ، وفي الفِقْهِ» (4).
وقال: «أَيْنَ مَثَلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حِفْظِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ» (5).

ويقول الحافظ ابن كثير [701 - 774 هـ]: «قد كان أبو هريرة مِنَ الصِّدْقِ وَالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ» (6)، وقال: «رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَثِيرَ الطَّيِّبَ، وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الصَّحَابَةِ» (7).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني [773 - 852 هـ]:
«إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ أَحْفَظَ مِنْ كُلِّ مَنْ يَرْوِي الحَدِيثَ فِي عَصْرِهِ، وَلَمْ يَاْتِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَحَابَةِ كُلِّهِمْ مَا جَاءَ عَنْهُ» (8).

قال يحيى بن أبي بكر العامري [816 893 هـ]:
«أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ عَرِيفَ مَسَاكِينَ الْصُّفَّةِ، حُلَفَاءَ الفَقْرِ وَالْصَّبْرِ، وَكَانَ شَدِيدَ الحُبِّ لِرَسُولِ الْلَّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مُلاَزِمًا لَهُ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، لاَ يَشْغَلُهُ عَنْهُ دُنْيَا، وَلاَ أَهْلٌ وَلاَ مَالٌ، وَلِمُلازَمَتِهِ وَخُصُوصِيَّتِهِ
الأُخْرَى فِي الحِفْظِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَكْثَرَ الْصَّحَابَةِ رِوَايَةً عَلَى الإِطْلاَقِ وَأَحْفَظهُمْ».
وَقَالَ: «وَكَانَ حَافِظاً مُتَثَبِّتاً ذَكِيّاً مُفْتِياً، صَاحِبَ صِيَامٍ وَقِيَامٍ» (1).

قال المؤرِّخُ عبد الحي بن أحمد (ابن العماد) الحنبلي [1032 - 1089 هـ]: «كَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْذِّكْرِ، حَسَنُ الأَخْلاقِ، وَلِيَ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ حَافِظَ الْصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ رِوَايَةً» (2).

وإلى هنا أكتفي بما ذكرته من شهادات رؤوس العلم في أبي هريرة، وإنَّ ثناء العلماء عليه وتوثيقه يحتاج وحده إلى مجلد، وإنَّ مكانة أبي هريرة، وسعة علمه، وكثرة حديثه، وفضله وورعه، وضبطه وإتقانه، لا تخفى على مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وما سُقْتُهُ من ثناء عليه إنما كان على سبيل الذكرى، وإلاَّ فإني أظلم راوية الإسلام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - إذا حاولت أنْ أُحَدِّدَ أو أحصر من أثنى عليه، وهل هناك أحد من أهل العلم والمعرفة يجهل أبا هريرة ومنزلته!!؟.

http://shamela.ws/browse.php/book-29967#page-146






 
قديم 28-04-17, 08:12 PM   رقم المشاركة : 13
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


أبو هريرة وبعض الباحثين:

ذلكم أبو هريرة الذي عرفناه قبل إسلامه وبعد إسلامه، عرفناه في هجرته وصُحبته للرسول الكريم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الصاحب الأمين والطالب المُجِدُّ، يدور مع الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - في حِلِّهِ وترحاله، ويشاركه أفراحه وأحزانه، وعرفنا التزامه للسُنَّة المُطَهَّرة، وتقواه وورعه، في شبابه وهرمه، وفي غناه وفقره، وقرأنا كثيراً عن تواضعه وكرمه، ورأينا مواقفه المُشَرِّفَةَ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتزاله الفتن وحُبَّهُ للجماعة وسيعه للخير، وكشفنا عن روحه الطيِّبة المرحة، ونفسه الصافية، وأخلاقه الكريمة، وزُهده في الدنيا وتفانيه في سبيل الحق، وعرفنا مكانته العلميَّة، وكثرة حديثه، وقوة حافظته، ورأينا منزلته بين أصحابه، وثناء العلماء عليه.

ذلكم أبو هريرة الذي صوَّرهُ لنا التاريخ من خلال البحث الدقيق إلاَّ أنَّ بعض الباحثين لم يسرَّهم أنْ يروا أبا هريرة في هذه المكانة السامية، والمنزلة الرفيعة، فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى أنْ يصوِّرُوهُ صورة تخالف الحقيقة التي عرفناها، فرأوا في صُحبته للرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، غايات خاصة لأبي هريرة، ليشبع بطنه ويروِي نهمه، وصوَّرُوا أمانته خيانة، وكرمه رياء، وحفظه تدجيلاً، وحديثه الطيِّبَ الكثير كذباً على رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - وبُهتاناً، ورأوا فقره مطعَناً وعاراً، وفي تواضعه ذُلاًّ، وفي مرحه هذراً، وصوَّرُوا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لوناً من المؤامرات لخداع العامة، ورأوا في اعتزاله الفتن تحزُّباً، وفي قوله الحق انحيازاً، فهو صنيعة الأمويين الذين طووهُ تحت جناحهم فكان أداتهم الداعية لمآربهم السياسية، فكان لذلك من الكاذبين الواضعين للأحاديث على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتراءًا وزُوراً!!.

هكذا أراد أنْ يُصَوِّرَهُ بعض أهل الأهواء، كالنظَّام، والمريسي، والبَلْخي، وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولدتسيهر)


و (شبرنجر) وأغرب من هذا أنْ يطعن فيه وفي السُنَّة بعض من يُنسبُ إلى العلم، فقد عثرتُ أثناء بحثي على كتاب تحت عنوان " أبو هريرة " ألَّفه عبد الحُسين شرف الدين العاملي، وهو إماميٌّ، والإمامية يتَّخذون أبا هريرة هدفاً لكي يُوَهِّنُوا أحاديث أهل السُنَّة ويرفضوها، ويُرَوِّجُوا أخبارهم، وقد لَفَّ لَفَّهُمْ من كان لهم تابعاً مُجَرِّباً على تبعيَّته. ولم أكد أتصفَّحُهُ حتى دهشتُ لما جاء فيه من الافتراءات والطعون، والتأويلات التي لا تتمشَّى مع البحث العلمي، ولا توافق التاريخ .. وقد استقى من هذا الكتاب أيضاً محمود أَبُو رِيَّة صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة المحمَّدية "، فكان أشدَّ على أبي هريرة من أستاذه، وأكثر مجانبة للصواب، فرأيت من واجبي أنْ أَرُدَّ تلك الشُبُهات التي أثارها بعض أهل الأهواء و المستشرقين وبعض الباحثين، الذين كشفوا عن جوانب من سيرة أبي هريرة، وتركوا الجوانب الأخرى، كما حدث للباحث الأستاذ أحمد أمين، ورأيتُ أنْ أَرُدَّ على بعض ما جاء في كتاب " أبو هريرة " وأتناول خلال ذلك بعض النقاط التي اشترك فيها هؤلاء جميعاً، مُبيِّناً في ذلك كله وجه الحق بالأدلَّة والبراهين، معتمداً على الله - عَزَّ وَجَلَّ - طالباً منه التوفيق والسداد.

...

مقدمة كتاب " أبو هريرة ":

قال عبد الحسين شرف الدين: «هذه دراسة لحياة صحابي روى عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأكثر حتى أفرط وروت عنه صحاح الجمهور وسائر مسانيدهم فأكثرت حتى أفرطت أيضاً، ولا يسعنا إزاء هذه الكثرة المزدوجة إلاَّ أنْ نبحث عن مصدرها لاتصالها بحياتنا الدينيَّة والعقليَّة اتصالاً مباشراً ولولا ذلك لتجاوزناها وتجاوزنا مصدرها إلى ما يُغْنِينَا عن تجشُّم النظر فيها وفيه.
ولكن أسلات هذه الكثرة قد استفاضت في فروع الدِّين وأصوله، فاحتجَّ بها فقهاء الجمهور ومُتَكَلِّمُوهُمْ في كثير من أحكام الله - عَزَّ وَجَلَّ - وشرائعه ملقين إليها سلاح النظر والتفكير.
ولا عجب منهم في ذلك بعد بنائهم على أصالة العدالة في الصحابة أجمعين.
وحيث لا دليل على هذا الأصل كما هو مُبَيَّنٌ في محلِّه بايضاح».

http://shamela.ws/browse.php/book-29967#page-153






 
قديم 28-04-17, 08:47 PM   رقم المشاركة : 14
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


على عهد عَلِيٍّ [صفحة 21 - 26]:

بَيَّنْتُ فيما سبق اعتزال أبي هريرة جميع ما جرى من حوادث بعد استشهاد عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، إلاَّ أنَّ المؤلف يأبى إلاَّ أنْ يعتمد على روايات ضعيفة ليشرك أبا هريرة في بعض الحوادث، وليته يكتفي بذلك، بل يعرض ما يريد مستهزئاً مُزدرياً. فيقول: «خَفَتَ صوت أبي هريرة على عهد أمير المؤمنين، واحتبى برد الخمول، وكاد أنْ يرجع إلى سيرته الأولى، حيث كان هيان بن بيان، وصلعمة بن قلعمة قعدا عن نصرة أمير المؤمنين فلم ينضو إلى لوائه بل كان وجهه ونصحته إلى أعدائه».
ثم ساق رواية واهية مفادها أنَّ معاوية أرسل أبا هريرة والنعمان بن بشير ليفاوضا عليًّا ويأخذا قتلة عثمان إلى معاوية، لتجتمع كلمة المسلمين بعدها. وأقام النعمان بن بشير عند عليٍّ وعاد أبو هريرة إلى معاوية وأخبره بما حدث في محاولتهما. قال المؤلف: «فأمره معاوية أنْ يعلم الناس ففعل ذلك وعمل أعمالاً ترضي معاوية» وهذه الرواية لم ترو بسند صحيح قط ولم أجدها إلاَّ في " نهج البلاغة ".

ثم إنْ صَحَّتْ الرواية فهل يعاب على أبي هريرة أنْ يكون وسيط خير وداعياً إلى جمع كلمة المسلمين!!؟ وأما ما ذكره ابن قتيبة من قدوم أبي هريرة وأبي الدرداء على معاوية وعليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - ومناصحتهما معاوية لحقن دماء المسلمين ثم اتصالهما بعليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من أجل قتلة عثمان، فإنها تدل على اعتزال أبي هريرة الفتنة ومحاولة جمع كلمة المسلمين بالرغم من ضعف هذه الرواية (1).

ثم يقول الكاتب: «وحين جد الجد، وحمى وطيس الحرب، ورد على أبي هريرة من الهول ما هزم فؤاده وزلزل اقدامه، وكان في أول تلك الفتنة لا يشك بأنَّ العاقبة ستكون لعليٍّ. فضرب الأرض بذقنه، قابعاً في زاويا الخمول يثبط الناس عن نصرة أمير المؤمنين بما يُحَدِّثُهُمْ به سراً وكان مِمَّا قاله يومئذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ» [صفحة 24].

هل بعد هذا النص شك في أنَّ الكاتب متحامل على أبي هريرة؟ إنه يدَّعي البحث العلمي والذوق الفنيَّ، ثم يسيِّرُهُ هواهُ أنَّى يشاء ضارباً بما ادَّعى عرض الحائط!! ويأبى أنْ يقبل ما دلَّ من النصوص على اعتزال أبي هريرة جميع الحوادث، التي دارت بين عليٍّ ومعاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -.

ويحاول الكاتب أنْ يستنتج من غزوة بسر بن أرطأة الحجاز واليمن قبول أبي هريرة ولاية المدينة. فيقول: «وفي ختام هذه الفظائع أخذ

(بُسر) البيعة لمعاوية من أهل الحجاز واليمن عامة، فعندها باح أبو هريرة بما في صدره واستراح بُسْرُ بن أرطأة بمكنون سره، فوجد بسر منه إخلاصاً لمعاوية ونُصحاً في أخذ البيعة له من الناس فولاَّهُ على المدينة حين انصرف عنها وأمر أهلها بطاعته» [صفحة 25]. وهذا لم يثبت قط وقد بيَّنْتُ الصواب فيما سبق من حياة أبي هريرة (1).

...

7 - على عهد معاوية [صفحة 26 - 31]:

قال الكاتب: «نزل أبو هريرة أيام معاوية الى جناب مريع، وأنزل آماله منه منزل صدق، لذلك نزل في كثير من الحديث على رغائبه، فحدَّث الناس في فضل معاوية وغيره أحاديث عجيبة». ثم تكلم عن وضع الحديث في عهد الأمويِّين وكثرة الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وادَّعى أنَّ أبا هريرة كان في الرعيل الأول من هؤلاء فحدَّث بأحديث منكرة ذكرها ابن عساكر وغيره، وساق أحاديث موضوعة لا يقبلها عقل ولا يرضاها ضمير، وضعها أتباع الأمويِّين بعد عهد معاوية، نكاية بأتباع أمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وجميع ما ادَّعاهُ يعرف أهل السُنَّة مفتريه ووُضَّاعه، ويقول الكاتب [صفحة: 29 - 31]: «غير أنهم لم يجعلوا الآفة فيها من أبي هريرة نفسه إنما جعلوها مِمَّنْ نقلها عنه .. وكذلك فعلوا في سائر ما صنعته يدا أبي هريرة مِمَّا ضاق ذرعهم .. وله في " صحيحي البخاري ومسلم " أحاديث أفرغها على هذا القالب وحاكها على هذا المنوال».
إنَّ الكاتب يتَّهم أبا هريرة اتِّهامين خطيرين؛ الأول أنه تشيَّع لنبي أمية، والثاني أنَّ حُبَّهُ لبني أمية حمله على وضع الحديث لهم (أي الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).

ولهذا يعقد فصلين من كتابه ليُبَيِّنَ (أيادي بني أمية عليه) ثم (تطوُّرُهُ في شكر أياديهم) وسَنَرُدُّ هذين الاتِّهامين بنقض حُجَجِهِ، وبيان وجه الحق في ذلك فنبدأ بِرَدِّ الشبهة الأولى.

أولاً - هل تشيَّع أبو هريرة للأمويِّين؟:

إنَّ أهل العلم جميعاً يعلمون أنَّ أبا هريرة كان مُحبًّا لأهل البيت ولم يناصبهم العداء قط، ومشهور عنه أنه تمسَّك بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فكان يحب من أحبه رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - وأبو هريرة هو الذي كشف عن بطن الحسن بن علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وقال: «أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ»، وَقَبَّلَ سُرَّتَهُ (1).

ثم إنَّ أبا هريرة لم يكن دائماً على صلة حسنة بمعاوية، فقد كان يعزله عن المدينة ويُعَيِّنُ مروان بن الحكم، ومن العجيب أنْ يدَّعِي إنسان نهل من العلم بعضه أنَّ أبا هريرة يكره عليًّا وأهله، بعد أنْ سمع ما دار بين مروان بن الحكم وأبي هريرة، حين أراد المسلمون دفن الحسن مع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فكان مِمَّا قاله: «وَاللَّهِ مَا أَنْتَ بوالٍ، وَإِنَّ الْوَالِيَ لَغَيْرُكَ فَدَعْهُ، وَلَكِنَّكَ تَدَخَّلُ فِيمَا لاَ يَعْنِيكَ، إِنَّمَا تُرِيدُ بِهَذَا إِرْضَاءَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْكَ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ ... »!! (2) ولكن الكاتب المتحامل على أبي هريرة والذي امتلأ قبله ضغناً وحِقداً عليه يرى هذا مُجَرَّدَ رياءٍ ومُؤامرة مُدَبَّرَةٍ بينهما.!! (3) ونرى أبا هريرة ينكر على مروان بن الحكم في مواضع عِدَّةٍ، فهل هذا الإنكار أيضاً من باب المؤامرات التي يُدَبِّرُها مرواة وأبو هريرة لمخادعة العامة - كما زعم مؤلف كتاب " أبو هريرة "؟، لقد أنكر عليه عندما رأى في داره تصاوير فقال: سمعتُ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي! فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» (1) وأبطأ مروان بن الحكم يوماً بالجمعة فقام إليه أبو هريرة فقال له: «أَتُظَلُّ عِنْد ابْنَة فُلاَنٍ تُرَوِّحَُِك بِالمَرَاوِحِ وَتَسْقِيَك الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَأَبْنَاء الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يُصْهَرُونَ مِنَ الْحَرِّ؟ لََقََدْ هَمَمْتُ أََنْ أَفْعَلَ وَأَفْعَلَ»، ثُم قَال: «اسْمَعُوْا مَن أَمِيرِكُمْ» (2).

فهل هذا موقف المُتشيِّع لبني أمية، النازل على رغباتهم في الحديث، الدَّاعي لهم!! أم أنَّ هذا موقف ملتزم الحق؟ إنه أنكر على الأمير تأخُّرهُ، وحفظ له حقه فأمر المسلمين بالسماع إليه. وهذا دليل آخر على مكانة أبي هريرة بين المسلمين. فلو كان حقيراً مهيناً ما سمع منه المسلمون وما تحمَّله مروان. ومع هذا فإنَّ المؤلف لكتاب " أبو هريرة " قد يرى في هذه القصة لوناً جديداً من المؤامرات لتثبيت ملك الأمؤيِّين كما يتخيَّلُ المؤلفُ أبا هريرة في تفكيره وعلمه وذوقه الفنيَّ، واستنتاجه واستقرائه .. !!

وكان يجدر بالمؤلف أنْ يتَّهِمَ أبا هريرة بالتشيُّع لأهل البيت، لما رُوِيَ عنه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مناقبهم ومدحهم مِمَّا ورد في صحاح السُنَّة المُطَهَّرَةِ (3)، وهذا أولى له من أنْ يتتبَّع الأحاديث الضعيفة، والموضوعة على أبي هريرة في مدح الأمويِّين، ليتَّهمه بموالاتهم وتأييدهم، بالرغم من وضوح وضع تلك الأحاديث، ومعرفة الكَذَبَةِ الواضِعِين لها. وجلاء أمرها ..

ولو كان أبو هريرة مُتَشَيِّعاً للأمويِّين لأَبَى أنْ يروي بعض فضائل أهل البيت، وبوجه خاص فضائل أمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ولكن شيئاً من هذا لم يقع، وكان أبو هريرة أسمى وأعلى من أنْ يكتم حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لميل أو هوى، وأرفع من أنْ يكذب على حبيبه الصادق المصدوق محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإننا نراه يروي في فضائل عَلِيٍّ ما لا يخفى، من هذا ما أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " بسنده عن أبي هريرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ». قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ: «امْشِ، وَلاَ تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ». قَالَ: فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: «قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (3).

إننا نرى المُنصفين من أهل العلم لم يتَّهِمُوا أبا هريرة - لروايته هذا الحديث - بالتشيُّع لعليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وبالعداء لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأبو هريرة لا يتحزَّبُ لأحد ولا يمالئ أحداً، ولا يسير وراء هوى مُتَّبعٌ أو شهوة جامحة، إنما هو ذلك الصحابي العظيم الذي عرفنا استقامته وعدالته، وتقواه وورعه وأمانته.

http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-173






 
قديم 28-04-17, 08:51 PM   رقم المشاركة : 15
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


ثانياً: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذباً على رسول الله؟:

لقد افترى المؤلف على أبي هريرة افتراءات لا يتصوَّرُها إنسان من مستشرق متجاهل أو من عدوٍّ متحامل، قال: «فتارة يفتئتُ الأحاديث
في فضائلهم، ... وتارة يُلَفِّقُ أحاديث في فضائل الخليفتين، نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغية، إذ كانت لهم مقاصد سياسية ضد الوَصِيِّ وآل النبي ... وحسبُك حديثه في تأمير أبي بكر على الحج سَنَة براءة - وهي سَنَةُ تسع للهجرة - وحديثه في أنَّ عمر كان مُحْدِثاً تكلِّمه الملائكة (1).
وقد اقتضت سياسة الأمويِّين في نكاية الهاشميِّين تثبيت هذين الحديثين وإذاعتهما بكل ما لمعاوية وأعوانه .. من وسيلة أو حيلة .. حتى أخرجتهما الصحاح .. وتارة يقتضب أحاديث ضد أمير المؤمنين جرياً على مقتضى تلك السياسة كقوله: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَمْ تُحْبَسِ الشَّمْسُ أَوْ تَرد إِلاَّ لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمُقَدّس .. » [صفحة: 36 - 37].

لقد سيطر على المؤلف هواهُ، حتى أصبح لا يرى في أبي هريرة إلاَّ الكذوب الوضَّاع، فتنكب سبيل الحق، وقذف الصحابة بالكذب، وتجاهل ما أجمع عليه المؤرِّخُون الثقات، واعتمد على روايات الضعفاء، فكان كلام الطبرسي عنده كالتنزيل الحكيم، وضرب بصحاح الكتب عرض الحائط، فيحاول طمس الحق، وتحريف الصواب، وإنني قبل أنْ أجيب عن زعمه أنَّ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزل أبا بكر عن ولاية الحج أتساءل كيف حبست الشمس أو ردت لأمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -؟ وهل أمسكت الشمس عن الغروب ليتمكَّن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من أداء صلاة العصر في وقتها؟ إنَّ هذه معجزات لا تكون في كل وقت، ولا يمن الله بها إلاَّ على رسله!! ثم لِمَ تُرد الشمس له أو تمسك، ويمكنه أنْ يقضي الصلاة!! والصحاح لم تذكر شيئاً عن هذا الخبر، فأترك المؤلف أنْ يُبَيِّنَ لنا كيف حبست الشمس ومتى كان ذلك علناً نفيد منه؟ لقد ادَّعَى هذا قبله ابن المطهر الحلي، ورد عليه ابن تيمية ردًّا قوياً، وبَيَّنَ كذب هذا الادِّعاء (2).
وأما حديث أبي هريرة في تأمير أبي بكر على الحج سَنَةَ براءة، فإنه جاء من طرق كثيرة لا يرقى إليها الشك، ولا يتناولها الظن، والمؤرِّخُون مجمعون على أنه كان أمير الحج ذلك العام، وأنَّ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث علياً بأول سورة براءة، ليقرأها على الناس، وقد سأل أبو بكر علياً عندما أتاه: «اسْتَعْمَلَكَ رَسُوْلُ الْلَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَىَ الْحَجِّ؟» قَالَ: «لاَ وَلَكِنْ بَعَثَنِيَ أَقْرَأُ بَرَاءُة عَلَىَ الْنَّاسِ» (1)، ويقول الإمام الشافعي: «وَبَعَثَ رَسُولُ الْلَّهِ أَبَا بَكْرٍ وَالَياً عَلَىَ الحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَحَضَرَهُ الْحَجُّ مِنْ أَهْلِ بُلْدَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَشُعُوْبٍ مُّتَفَرِّقَةٍ، فَأَقَامَ لَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ رَسُوْلِ الْلَّهِ بِمَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ.
وَبَعَثَ عَلَيَّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ فِي تِلْكَ الْسَّنَةِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ فِيْ مَجْمَعِهِمْ يَوْمَ الْنَّحْرِ آيَاتاً مِنْ سُوْرَةُ (بَرَاءَة)، وَنَبَذَ إِلَىَ قَوْمٍ عَلَى سَوَاءٍ وَجَعَلَ لَهُمْ مُدَداً، وَنَهَاهُمْ عَنْ أُمُوْرٍ».

ولكن المؤلف الذي اتَّبع المنهج العلمي، والذوق الفني السليم، - كما ادَّعى - أبى إلاَّ أنْ يساير أصول عقيدته، ورفض هذه الروايات، وقبل رواية الطبرسي وفيها أنه أعطى علياً أول سورة براءة «وعهد إليه بالولاية العامة على الموسم، وأمره بأنْ يُخَيِّرَ أبا بكر بين أن يسير مع ركابه أو يرجع إلى المدينة» (3).
الأول: أنها شاذة ومنكرة لمخالفتها الروايات الصحيحة الموثوق بها.
الثاني: أنها غير مسندة فلا يقوم دليلاً؛ وكيف نحكم بصحَّتها، ونقبلها من غير أنْ نعرف الأمناء الذين نقلوها إلينا؟.

ولو فرضنا أنها صحيحة السند، ولم يذكره الكاتب، فهي مردودة من حيث المتن، لأنها تخالف إجماع الروايات الموثوق بها، التي لم يستشهد بها المؤلف (1) ثم حاول الكاتب أنْ يدعم رأيه هذا بروايات ضعيفة تطعن في كبار الصحابة، وهي تتنافى مع المنطق السليم، ويرفضها الذوق الفني، ويردُّها المنهج العلمي، ويدحضها الواقع التاريخي بما يعارضها وينفي صّحتها. فمِمَّا استشهد به ما رواه عن ابن عباس في الصفحة [166] من كتابه قال: «قَالَ مَرَّةً: إِنِّي لأُمَاشِي عُمَرَ بِنَ الْخَطَّابِ فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَاسٍ مَا أَرَىَ صَاحِبَكَ إِلاَّ مَظْلُوماً، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَالْلَّهِ لاَ يَسْبِقُنِي بِهَا. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيْرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَارْدُدْ إِلَيْهِ ظُلاَمَتَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَمَضَىَ يَهُمُّهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ وَقَفَ فَلَحِقْتُهُ؛ قَالَ: يَا ابْنَ عَبَاسٍ، مَا أَظُنُّهُمْ مَنَعَهُمْ عَنْهُ إِلاَّ أَنَّهُمْ اسْتُصْغْرُوهُ، فَقُلْتُ: وَالْلَّهِ مَا اسْتُصْغْرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ حِينَ أَمَرَاهُ أَنْ يَأْخُذَ بَرَاءَةً مِنْ صَاحِبِكَ فَأَعْرِضْ عَنِّي وَأَسْرع». الْحَدِيْثِ (1).

إنَّ هذا الخبر مردود من وجوه ينطق بها النص نفسه، منها:


أولاً متى ماشى الخليفة الفاروق ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؟ ومتى دار بينهما هذا الحوار؟ يفهم من النص أنَّ هذا الحاديث كان في خلافة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أي بين سنة (13 و 23) فإنْ كان خطابه هذا في أول خلافته - أي حين كان عمر ابن عباس ست عشرة سَنَةً وعُمْرُ أمير المؤمنين ثلاثاً وخمسين سَنَةً، لأنَّ عُمَرْ ولد قبل الهجرة بأربعين سَنَةً وابن عباس ولد قبلها بثلاث سنين - فهو غير معقول، ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يناقش عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ابن عباس - وهو فتى يافع في مقتبل العمر - في أمور الخلافة، وفي الأمَّة أكابر الصحابة!!

وإنْ كانت الحادثة في آخر عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يكون له ثلاث وستون سَنَةً ولابن عباس ست وعشرون سَنَةً، يبعد معها أنْ تجري مثل هذه

المناقشة بينهما، لما عرف من أدب ابن عباس ووقار عمر؛ ورجوعه إلى الحق.
ثانياً - إنَّ علائم الوضع ظاهرة على هذا الخبر، ذلك أنَّ عليًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم تقم له بعد جماعة وأصحاب، حتى يقول أمير المؤمنين عمر لابن عباس: «مَا أَرَىَ صَاحِبَكَ إِلاَّ مَظْلُوماً» ولِمَ كان مظلوماً؟ وما هي المناسبة التي تدعو أمير المؤمنين لأنْ يتعطَّف ابن عباس ويسرِّي عنه باعترافه بظلامة أبي الحسن؟.

ثم هل يتصوَّر من عمر أنْ يعرف ظلامة الإنسان ولا يردها؟ وكيف يكون هذا ولا يَرُدُّ ظلامة صاحبه عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؟.
ولو سلَّمنا بوقوع هذه المحاورة، فمن هؤلاء الذين ظلموه؟ ومن يعني في قوله: «مَا أَظُنُّهُمْ مَنَعَهُمْ عَنْهُ إِلاَّ أَنَّهُمْ اسْتُصْغْرُوهُ؟».

ثم إنَّ من الذين منعوا عنه الخلافة، ومن الذي استصغره، وهل كان صغيراً حقاً؟؟ لم يمنع أحد الخلافة عنه أيام بيعة الصِدِّيقِ، بل أجمع الناس على خلافة أبي بكر، ولم يُبْدِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَيَّ استياء منها وسرعان ما أعلن بيعته؛ ولا يمكن أنْ يقصد عمر بقوله هذا أحقية عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بالخلافة من الصِدِّيقِ، والتاريخ دليل على ما ذهب إليه جمهور المسلمين. ثم إنَّ عَلِيًّا نفسه لم يكن صغيراً آنذاك، وكما وافق على خلافة أبي بكر وافق على خلافة عمر وأعلن بيعته، والإمام عَلِيٌّ نفسه يشهد للعُمَرَيْنِ بمكانتهما فيدحض كل افتراءٍ وكذبٍ، وينقض ما ورد في هذا الخبر. ويأبى اللهُ إلاَّ أنْ يظهر الحق على لسان ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: وُضِعَ عُمَر عَلَى سَرِيره، فَتَكَنَّفَهُ النَّاس، يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَحَسِبْتُ إِنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» (1). فرضي الله عن الصحابة جميعاً وأرضاهم، فقد كانوا خير قُدوة للناس في حياتهم وإخوتهم، ولكن أهل الأهواء أَبَوْا إلاَّ أنْ بيعدوا الشقَّة بينهم، ويصطنعوا الخلافات، ويستغلُّوا بعض الحوادث، يدفعهم إلى ذلك الضغائن والحقد الذي في نفوسهم ضد الإسلام والمسلمين، كل ذلك لتفريق الكلمة وتحقيق مآربهم وإشباع ميولهم.

ومعاذ الله أنْ يروي ابن عباس ذاك الخبر، ولكن يد الوضع صنعته، لتثبت بالفقرة الأخيرة منه أحقية عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بالخلافة .. ولتثبت ولايته العامة على الحج سَنَةَ براءة.

ثالثاً: إنَّ هذا الخبر لم يرد في كتاب موثوق به، وقد نقله الكاتب عن كتاب " الموفقيات " للزبير بن بكار المشهور، وهو ثقة قد ألَّف تاريخه هذا للموفق بالله بن المتوكِّل الخليفة العباسي. إلاَّ أنه لم يذكر إسناده فسقط الاحتجاج به.

وهكذا تبيَّن لنا ضعف هذا الخبر سنداً ومتناً: إلاَّ أنَّ المؤلف لم يأخذ ما ذكرناه مأخذاً سليماً ولم يعتبره، ورأى في هذا الخبر ما يُشفي غليله، ويشبع رغبته بتوجيه الطعن، لا إلى أبي هريرة وحده، بل إلى الخليفتين الراشدين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً - فعقَّب على تلك الرواية بقوله: «فلله أبوه كيف استظهر على الخليفة بهذه الحُجَّةِ البالغة فأخذه من بين يديه ومن خلفه ومن جميع نواحيه حتى لم يبق في وسعه أنْ يثبت فأعرض وأسرع ولو أنَّ صاحبه كان هو الأمير في ذلك الموسم ـ كما يزعم أبو هريرة ـ ما لاذ إلى الاسراع بل كانت له الحُجَّةُ على ابن عباس وعمر كان مع أبي بكر إذ توجه ببراءة وإذ رجع من الطريق فهو من أعرف الناس بحقائق تلك الأحوال» (1).

هذه إحدى النتائج التي يرمي إليها الكاتب من وراء ذاك الخبر؛ ولكن ابن عباس لم يأخذ الخليفة من بين يديه ومن خلفه ومن جميع نواحيه، لأنَّ شيئاً من هذا كله لم يكن، وإني على يقين من عدم صحة ذاك الخبر الذي بيَّنْتُ ضعفه، ومنافاته للذوق السليم والمنطق والمنهج العلمي، لوجود روايات صحيحة ثابتة ترده، وتقوم حُجَّةُ على المؤلف، وتبرِّئ ابن عباس مِمَّا ألصق به، وتنزه الخلفاء الثلاثة عن تلك التُّهم الباطلة التي وجهت إليهم، وتثبت مقام عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وحُبَّهُ لهم، وتنفي كل افتراء عليه وعليهم، وإنَّ هذه الروايات ستأخذ الكاتب من بين يديه، وتسدُّ عليه كل منفذ، وتقوِّض كُلَّ حُجَّةٍ يدَّعيها في هذا الموضوع.

http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-179






 
قديم 28-04-17, 08:58 PM   رقم المشاركة : 16
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


تخيَّل المؤلف أنَّ أبا هريرة كان يسير بتوجيه الأمويين، وينزل على ما يحبون ويضع الحديث، وأدلى بِحُجَّتِهِ على ذلك فساق أخباراً لا ترقى إلى الصِحَّةِ والحقيقة فقال: «قال الامام أبو جعفر الاسكافي: إنَّ معاوية حمل قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عَلِىٍّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا له ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمُغيرة بن شُعبة، ومن التابعين عُروة بن الزيبر إلى آخر كلامه».

وقال: «لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على رُكبتيه ثم ضرب صلعته مراراً!! وقال: " يا أهل العراق .. أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله (1) وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَرَمًا وَإِنَّ الْمَدِينَةُ حَرَمِي فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ". قال: (واشهد بالله أنَّ عَلِياً أَحْدَثَ فيها!! فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاَّهُ إمارة المدينة» [صفحة: 38 - 39].

وروى في هامش ص 39: «عن سفيان الثورى عن عبد الرحمن بن قاسم عن عمر بن عبد الغفار: أنَّ أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات بباب كِنْدَةَ، ويجلس الناس إليه فجاءه شاب من الكوفة ـ لعلَّه الأصبغ بن نباتة ـ فجلس إليه فقال: يا أبا هريرة .. أنشدك بالله أسمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم وَالِ من والاه وعَادِ من عاداه؟ فقال: اللهم نعم. قال: فأشهد بالله لقد واليت عَدُوَّهُ وعاديت وَلِيَّهُ ثم قام عنه وانصرف» (2).

هذه أخبار مختلفة استشهد بها المؤلف ليدعم زعمه أنَّ أبا هريرة كان عميلاً للأمويِّين، وَضَّاعاً للحديث. إلاَّ أنَّ هذه الأخبار مردودة سنداً ومتناً.
أولاً: أما من حيث السند. فإنَّ ابن أبي الحديد صاحب " شرح نهج البلاغة " نقل هذه الأخبار عن شيخه محمد بن عبد الله أبو جعفر الإسكافي (- 240 هـ) وهو من أئمة المعتزلة المتشيِّعين، والعداء مستحكم بين المعتزلة وأهل الحديث من أواخر القرن الأول الهجري وأصبح متوارثاً. وأترك التعريف بأبي جعفر وتزكيته لتلميذه ابن أبي الحديث فيقول: ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وكان من المُحقِّقين بموالاة عليٍّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - والمُبالغين في تفضيله وإنْ كان القول بالتفضيل عاماً شائعاً في البغداديِّين من أصحابنا كافة إلاَّ أنَّ أبا جعفر أشدُّهُمْ في ذلك قولاً، وأخلصهم فيه اعتقاداً» (1).

هذه شهادة تليمذ لأستاذه لا يرقى إليها الشك، ولا يعتريها الظن والتأويل، فالأستاذ من أهل الأهواء، الداعي إلى هواهُ، بل من المُتعصِّبين في ذلك، بشهادة أقرب الناس إليه وأعرفهم به. فإذا سبق لأمثاله أنْ كذَّبُوا الصحابة في الحديث بل في نقل القرآن فليس بعيداً أنْ يكذبوا على أبي هريرة ويفتروا عليه وعلى بعض الصحابة والتابعين.

فروايته مردودة لسببين:
الأول: ضعف الإسكافي لعاملين: الأول أنه معتزلي يناصب العداء لأهل الحديث، والثاني، أنه شيعي محترق. فقد اجتمع هذان العاملان فيه، ويكفي أحدهما لردِّ روايته. وبعد هذا لا يعقل أنْ تقبل الجرح والتعديل أو الرواية من رجل مطعون في عدالته، مشكوك في روايته يعادي أهل السُنَّة، فمن البداهة رفض روايته.
الثاني: لم تذكر هذه الروايات في مصدر موثوق بسند صحيح. علماً بأنَّ الإسكافي لم يذكر لها سنداً فلن أقول إنها موضوعة، بل يكفي إنها ضعيفة لا يُحْتَجُّ بها.

ثانياً: وأما من حيث المتن - فلم يثبت أنَّ معاوية حمل أحداً على الطعن في أمير المؤمنين عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه تطوَّع في ذلك، أو أخذ أجراً مقابل وضع الحديث، والصحابة جميعاً أسمى وأرفع من أنْ ينحطُّوا إلى هذا الحضيض، ومعاذ الله أنْ يفعل هذا إنسان صاحب رسول الله وسمع حديثه وزجره عن الكذب، وإنَّ جميع ما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة، إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين
إلى أهوائهم المُتعصِّبين لمبادئهم، فتجرَّأوا على الحق، ولم يقيموا للصُحبة حرمتها، فتكلَّمُوا في خيار الصحابة واتَّهَمُوا بعضهم بالضلال والفسق، وقذفوا بعضهم بالكفر، وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم (1)، وقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، لذلك ناصبت أكثر الفرق العداء أصحاب الحديث، فاخترعوا الأباطيل وأرادوا أنْ تفقد الأُمَّة الثقة بهم، وتتبَّعُوا أحوالهم، من ذلك ما فعله المعتزلة والروافض وبعض فرق الشيعة، ومن أراد الاطلاع على بعض هذا فليراجع كتاب " قبول الأخبار " للبلخي. ولكن الله أبى إلاَّ أنْ يكشف أمر هذه الفرق، ويميط اللثام عن وجوه المتستِّرين وراءها، فكان أصحاب الحديث هو جنود الله - عَزَّ وَجَلَّ -، بيَّنُوا حقيقة هؤلاء، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث، أو خبر في صحابي، أو يُشَكِّكُ في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلاَّ بين جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علَّته.

فادِّعاء المؤلف مردود حتى يثبت زعمه بحُجَّةٍ صحيحة مقبولة. وكيف تتصوَّرُ معاوية يُحَرِّضُ الصحابة على وضع الحديث كذباً وبُهتاناً وزُوراً، ليطعنوا في أمير المؤمنين عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وقد شهد ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لمعاوية بالفضل والعقل والفقه (2) وقد ذكر ذلك البخاري في " صحيحه ". فهل للمؤلف أنْ يتَّهم حبر الأُمَّة وعالمها بالكذب، أو بالتشيُّع لمعاوية (3)؟ هذا لا يمكن، وشهادة ترجمان القرآن صحيحة، وبذلك ننفي تُهمة المؤلف الأمين!! وقد افترى الإسكافي على الصحابة الذين ذكرهم، وبَيَّن ابن العربي في " العواصم من القواصم " جانباً من أمرهم وكانتهم وورعهم، كما بَيَّنَتْ كُتُبُ التراجم سيرتهم. ثم إنَّ روايات أهل الأهواء تسرَّبتْ إلى التاريخ الإسلامي، وخاصة ما يتعلَّق بأخبار الأمويِّين.

لأنَّ كُتُبَ التاريخ كتبت بعد بني أمية فشوَّهتْ سيرتهم (1) ومع هذا لم يعدم التاريخ الرجال الأمناء المُخلصين، الذين دَوَّنُوا حوادثه بأسانيدها حتى يَتَبَيَّنَ المُطَّلِعُ الصحيحَ من الباطلِ، فليس كل خبر في كتاب يقبل ويؤخذ به، فلا بد من دراسته دراسة علميَّةٍ حسب منهج المُحَدِّثِينَ الدقيق - سنداً ومتناً.

ثم إنا نستبعد صحة هذا الخبر، فإنَّ عُروة ولد سنة (22 هـ) فكان عمره في فتنة عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (13 سَنَةً)، وعندما استشهد أمير المؤمنين عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (18 سَنَةً)، فمن يتصوَّرْ خليفة كمعاوية يحمل عروة بن الزبير ليضع أحاديث تطعن في عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -؟ ثم إنَّ عُروة نفسه كان يافعاً على عَتَبَةِ العلم لم يشتهر بعد. فكان أحرى بمعاوية - لو صَحَّ الخبر - أنْ يُغري من هو أشهر منه وأعلم من كبار الصحابة والتابعين.
وإن قال قائل إنما استعان به أيام خلافته بعد استشهاد الخليفة الراشد الرابع، فالجواب بَدَهِيٌّ في أنَّ عروة كان حين وفاة معاوية ابن (38) ثمان وثلاثين سَنَةً، فَلِمَ يستفيد منه؟ وفي الأُمَّة كبار الصحابة والتابعين. أيفيد منه ليضع له الحديث كما زعم الكاتب؟ إنَّ كلمة المسلمين اجتمعت سَنَةَ (40) عام الجماعة حين بايع الحسن معاوية بالخلافة وثبتت دعائم الحكم، فلم تبق أية ضرورة للدعاية للأمويِّين وهم الحكام وبيدهم الزمام. ولو سلَّمنا جدلاً أنَّ عروة قد قام بما ادَّعاهُ المؤلف!! فهل يسكت عنه علماء الأُمَّة أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وبينهم الأبطال الشُجعان وفيهم الأقوياء الأفذاذ؟ لقد كانت الأُمَّةُ الإسلامية واعية في ذلك العصر، عرف أبناؤها الحوادث جميعها وعاصروها واختبروها فلم تعد تخفى دقائقها على أحد، وعرف المسلمون قادتهم من صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يكن من السهل أنْ يُغيِّرَ وجه الحق بعضُ الصحابة والتابعين - كما زعم المؤلف - لإرضاء الخليفة وإشباع ميوله ورغباته. وإنَّ من يحاول إثبات صِحَّةَ هذا الخبر لَيَتَجَنَّى على الأُمَّة جميعها، ويجعل من عاصر تلك الحوادث بُلْهاً مُغَفَّلِينَ، يعمي عليهم الحق بالدعايات الكاذبة والأخبار الموضوعة، والواقع يثبت خلاف ذلك، ويثبت وضع الخبر وعدم صِحَّتِهِ.

أما الخبر الثاني وهو قدوم أبي هريرة العراق، فإن رواية الإسكافي وقد عرفناه وعرفنا منزلة أخباره، ولو سلَّمنا - جدلاً - بصحة هذه الرواية، فإنَّ أبا هريرة يدفع عن نفسه ما أشاعه بعض خصوم الأمويِّين. ثم إنَّ الحديث الذي رُوِيَ عن أبي هريرة ينفي نفياً قاطعاً صحة هذه الرواية ويُبَيِّنُ زيفها. فقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المَدِينَةُ حَرَمٌ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا صَرْفٌ» (1). فليس فيها تلك الزيادة التي اختلقتها أيدي الواضعين في ذم الإمام عَلِيٍّ لينال أبو هريرة أجره من معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً -.

والمؤلف الأمين يحذف من الرواية بعضها وهو «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَرَمًا، وَإِنَّ حَرَمِيَ بِالْمَدِينَةِ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ وَثَوْرٍ» لأنَّ هذا القسم سينقض روايته وادِّعاءه لأنَّ الثابت عن أبي هريرة أنه لم يذكر هذا بل ذكره أمير المؤمنين عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في كلمة مشهورة له كما في " صحيح مسلم " (2) إلاَّ أنَّ الإسكافي ذكرها عن أبي هريرة (3) وهذا دليل آخر على سوء نياتهم وموقفهم من أبي هريرة خاصة وبعض الصحابة عامة.

ثم إنَّ المؤلف نفسه يناقض بروايتاته ما يزعمه ويدَّعِيهِ. فقد زعم قبل قليل في الصفحة [25] من كتابه أنَّ بُسر بن أبي أرطأة وَلَّى ابا هريرة المدينة حين قدم إليها. وفي الصفحة [39] يقول: «لما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاَّهُ إمارة المدينة»!! فأيُّ الخبرين يحب المؤلف أنْ نعتمد ونأخذ به؟ أم أنَّ المؤلف يرى في الخبر الثاني توكيداً لإمارته على المدينة؟ إنَّ له ما أراد وما اختار من الروايات المتعارضة!!.

وأما ما ذكره في الهامش من صفحة [39] رواية عن الثوري فقد نقلها إلينا أبو جعفر الإسكافي وجرَّبنا عليه الكذب والطعن في الصحابة فروايته هذه غير مقبولة من طريقه، وهناك رواية عن أبي هريرة ليست فيها الزيادة وَرَدِّ الشاب عليه «فأشهد بالله لقد واليتَ ... » التي ذكرها الإسكافي، فالرواية عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه قال: دخل أبو هريرة المسجد فاجتمع إليه الناس فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»؟ قال: «إني أشهد أني سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ». رواه أبو يعلى والبزار بنحوه (1).

إنَّ هذه الرواية تثبت مكانة أبي هريرة عند أهل العراق، إذ يستشهدونه عن سماعه لحديث مكانة عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بخلاف ما ذهب إليه الكاتب، وليس فيها تلك الزيادة التي ألحقت لحاجة في نفس صانعها، وحاول أنْ يُدَلِّسَ على الناس حقيقة الحديث ... وهكذا ينكشف أمر هؤلاء الذين خاضوا في الصحابة وأعراضهم وعدالتهم ودينهم ... ولم تكن هذه الحادثة صعفة أليمة (2) من ذلك الشاب لأبي هريرة، بل كانت صفعة قاضية من الحق لأعدائه!!


http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-188






 
قديم 28-04-17, 09:03 PM   رقم المشاركة : 17
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


من الغريب أنْ يعجب الكاتب لكثرة حديث أبي هريرة، ومن العجيب أنْ يثير هذا في القرن العشرين!! فهل يعجب من قوة ذاكرة أبي هريرة أنْ تجمع (5374) حديثاً؟ أم يعجب أنْ يحمل هذه الكثرة عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلال ثلاث سنوات؟.

إذا كان يعجب من قوة حافظة أبي هريرة فليس هذا مجالاً للدهشة والطعن، لأنَّ كثيراً من العرب قد حفظوا أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة، فكثير من الصحابة حفظوا القرآن الكريم والحديث والأشعار، فماذا يقول المؤلف في هؤلاء؟ ماذا يقول في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - شعرهم؟ وماذا يقول صاحبنا في حماد الراوية الذي كان أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها؟ وماذا يقول فيه إذا علم أنه روى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات، من شعر الجاهلية دون الإسلام (1)؟ وماذا يقول في حفظ حبر الأمَّة عبد الله بن عباس؟ فحفظ أبي هريرة ليس بدعاً وليس غريباً وخاصة إذا عرفنا أنَّ تلك الأحاديث الـ (5374) مروية عنه ولم تسلم جميع طرقها. فأبو هريرة لا يتهم في حفظه وكثرة حديثه من هذا الوجه.

وإذا كان المؤلف يعجب من تحمل أبي هريرة هذه الأحاديث الكثيرة عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلال ثلاث سنوات، فقد غاب عن ذهنه أنَّ أبا هريرة صاحب الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنوات ذات شأن عظيم، جرت فيها أحداث اجتماعية وسياسية وتشريعية هامة، وفي الواقع أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تفرَّغ تلك السنوات للدعوة والتوجيه بعد أنْ هادنته قريش، ففي السنة السابعة وما بعدها انتشرت رسله في الآفاق ووفدت إليه القبائل من جميع أطراف جزيرة العرب. وأبو هريرة في هذا كله يرافق الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، ويرى بعينيه، ويسمع بأذنية، ويعي بقلبه.

ثم إنَّ ما رواه لم يكن جميعه عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل روى عن الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - ورواية الصحابة عن بعضهم مشهورة مقبولة لا مأخذ عليها، فإذا عرفنا هذا زال العجب العجاب الذي تصوره المؤلف.

ومن الخطأ الفاحش أنْ يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية. لأسباب كثيرة أهمها:
أولاً: صحيح أنَّ الصِدِّيق والفاروق وذا النورين وأبا الحسن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - سبقوا أبا هريرة في صُحبتهم وإسلامهم، ولم يرو عنهم مثل ما روى عنه. إلاَّ أنَّ هؤلاء اهتمُّوا بأمور الدولة وسياسة الحكم، وأنفذوا العلماء والقُرَّاء والقضاة إلى البلدان، فأدُّوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شؤون الأمَّة. فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قِلَّةِ حديثه عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لانشغاله بالفتوحات لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم، وهل لأحد أنْ يلوم عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أو عبد الله بن عباس لأنهما لم يحملا لواء الفتوحات؟ فكل امرئ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.

ثانياً: انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم واعتزاله السياسة، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل ذات خطأ كبير.

ثم إنَّ الباحث يطعن عليه في هذا المجال في حَسَبِهِ ونَسَبِهِ وأمِيَّتِهِ، فهل لهذه النواحي أثر في كثرة الرواية وقلَّتها؟ لم يقل بهذا أحد.

وما رَدَدْنَا به عليه بالنسبة لمقارنته بالخلفاء الراشدين، يرد بالنسبة لمقارنته بالسيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، ونضيف أنَّ السيدة عائشة كانت تُفتي للناس في دارها، وأما أبو هريرة فقد اتَّخذ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين بصفته رجلاً كثير الغدو والرواح. وأضيف إلى هذا أنَّ السيدة الجليلة كان جل هَمِّهَا موجَّهاً نحو نساء المؤمنين، وكان يتعذَّرُ دخول كل إنسان عليها. ومع هذا فإنَّ المؤلف النزيه لم يكفَّ لسانه عنها، بل رأى أنها أكثرت أيضاً!!؟ وهو في هذا يناقض نفسه.

أما أنه يرى حديث أبي هريرة أكثر من حديث السيدة عائشة وأم سلمة وحديث بقية أمهات المؤمنين والحَسَنَيْن وأمَّهُمَا مع حديث الخلفاء الأربعة، فقد سبق أنْ أجبتُ على ذلك، وأضيف أنَّ أم سلمة لم تكن مرجعاً للناس كالسيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وأما الحسنان فهما صغار الصحابة، وقد اشتغلا في الأمور السياسية، فبدهيٌّ أنْ تكون مروياتهما قليلة، ومثل هذا يقال في سيِّدة نساء العالمين أمُّهُمَا، التي توفيت بعد وفات رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بستة شهور.

فالأمر ليس مهولاً، يحتاج إلى تفكير أرباب العقول كما ادَّعَى؟؟ وهل يقصد بأرباب العقول النَظَّام والجاحظ!؟.

إنَّ نظرة مجرَّدة عن الهوى تدرك أنَّ ما رُوِيَ عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء، وأعداء السُنن، وإنَّ ما رواه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سواء سمعه منه أو من الصحابة لا يشك فيه لِقِصَرِ صُحْبته، بل إنَّ صُحبته تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -.

أما طعن المؤلف في حدين الوعاءين، وتهكُّمَهُ على أبي هريرة، واستهزاؤه بما في وعائه من العلم الذي لم ينشره، وتساؤله عن ذلك العلم، كل هذا قد طرقه العلماء قبله وبيَّنُوا أنَّ ما عنده مِمَّا لم ينشر لا يتعلق بالأحكام أو الآداب، وليس مِمَّا يقوم عليه أصل من أصول الدين، بل بعض أشراط الساعة، أو بعض ما يقع للأمَّة من الفتن (1) ويدل على ذلك حديثه الذي ذكر بعضه المؤلف الأمين!! ولم يذكر تعليق راويه الذي يبيِّنُ قصد أبي هريرة، قال أبو هريرة: «لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا فِي جَوْفِي لَرَمَيْتُمُونِي بِالْبَعْرِ». وَقَالَ الْحَسَنُ - رَوِاي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ وَيُحْرَقُ مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ!!» (2).

وأبو هريرة ليس بدعاً في قوله. فقد كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص بعض أصحابه بأشياء دون الآخرين، من هذا حديثه لمعاذ بن جبل - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا» (3). وأخبر به معاذ عند موته تأثُّماً، خوفاً من أنْ يكون قد كتم العلم. ولم يكن معاذ ولِيَ عهده ولا خليفته من بعده، فالأمر لا يحتاج إلى ولاية عهد ولا إلى وصاية، فَلِمَ ينكر الكاتب مثل هذا على أبي هريرة ولا ينكره على غيره؟ ثم ليعرف المؤلف الذي أساء كثيراً إلى أبي هريرة، وشتمه وكال له السِبَابَ كيلاً - أنَّ كتمان أبي هريرة لهذا الوعاء لم يكن لخوفه ألا يسمع الناس له لمهانته وضعفه فيرموه بالبعر وبالمزابل، بل لأنه أرأد أنْ يُحَدِّثَ على قدر عقولهم، وأنْ يخاطبهم بما يفهمون ويعرفون، وبذلك أوصى أمير المؤمنين عليٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (1).

أما قول أبي هريرة: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لاَ يَكْتُمُ، وَلاَ يَكْتُبُ»، فلا يتعارض مع حديث الوعاءين لأنَّ أبا هريرة لا يكتم العلم النافع الضروري، وما كتمه أبو هريرة لم يكن من هذا، بل كان بعض أخبار الفتن والملاحم وما سيقع للناس مِمَّا لا يتوقف عليه شيء من أصول الدين أو فروعه.

- أما استشهاد المؤلف بحديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ» وبمرويات ابن عمرو التي لا تتجاوز سبعمائة حديث - على أنَّ ابن عمرو أكثر من أبي هريرة حديثاً، وأنَّ أبا هريرة بذلك يُقِرُّ ويعترف بتقوله على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يقل - فهو استشهاد في غير موضعه، بُنِيَ على تصوُّرٍ خاطئٍ، وفهم للحديث على خلاف الواقع.

إنَّ الحديث يدل على أنَّ عبد الله بن عمرو كان أكثر أخذاً للحديث من أبي هريرة، لأنه كان يكتب وأبو هريرة لا يكتب. ويحتمل أنْ يكون قول أبي هريرة هذا في حياة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أنْ يدعو له بالحفظ، وكان يعيده في كل مناسبة تقع له. وإذا استبعدنا هذا الفرض فكل ما في الأمر أنَّ عبد الله بن عمرو حمل من الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من أبي هريرة إلاَّ أنه لم يتيسَّرْ له نشره لأسباب نُبَيِّنُهَا بعد قليل.

ولابن حجر رأي أُبَيِّنُهُ فيما يلي: قال: «قَوْله: (فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُب وَلاَ أَكْتُب)
هَذَا اِسْتِدْلاَل مِنْ أَبِي هُرَيْرَة عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَكْثَرِيَّة مَا عِنْد عَبْد اللَّه

بْن عَمْرو أَيْ: اِبْن الْعَاصِ عَلَى مَا عِنْده: وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة كَانَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحَابَة أَكْثَر حَدِيثًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ إِلاَّ عَبْد اللَّه، مَعَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَقَلّ مِنْ الْمَوْجُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَة، فَإِنْ قُلْنَا الاِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع فَلاَ إِشْكَال، إِذْ التَّقْدِير: لَكِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ عَبْد اللَّه وَهُوَ الْكِتَابَة لَمْ يَكُنْ مِنِّي، سَوَاء لَزِمَ مِنْهُ كَوْنَهُ أَكْثَر حَدِيثًا لِمَا تَقْتَضِيه الْعَادَة أَمْ لاَ. وَإِنْ قُلْنَا الاِسْتِثْنَاء مُتَّصِلٌ فَالسَّبَب فِيهِ مِنْ جِهَات:
أَحَدهَا: أَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ مُشْتَغِلاً بِالْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ اِشْتِغَاله بِالتَّعْلِيمِ فَقَلَّتْ الرِّوَايَة عَنْهُ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ أَكْثَر مُقَامُهُ بَعْد فُتُوح الأَمْصَار بِمِصْرَ أَوْ بِالطَّائِفِ وَلَمْ تَكُنْ الرِّحْلَة إِلَيْهِمَا مِمَّنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ كَالرِّحْلَةِ إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة مُتَصَدِّيًا فِيهَا لِلْفَتْوَى وَالتَّحْدِيث إِلَى أَنْ مَاتَ، وَيَظْهَر هَذَا مِنْ كَثْرَة مَنْ حَمَلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ ثَمَانمِائَةِ نَفْس مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَقَع هَذَا لِغَيْرِهِ.
ثَالِثهَا: مَا اُخْتُصَّ بِهِ أَبُو هُرَيْرَة مِنْ دَعْوَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِأَنْ لاَ يَنْسَى مَا يُحَدِّثهُ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا.
رَابِعُهَا: أَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ قَدْ ظَفِرَ فِي الشَّام بِحِمْلِ جَمَل مِنْ كُتُب أَهْل الْكِتَاب فَكَانَ يَنْظُر فِيهَا وَيُحَدِّث مِنْهَا فَتَجَنَّبَ الأَخْذَ عَنْهُ لِذَلِكَ كَثِير مِنْ أَئِمَّة التَّابِعِينَ». اهـ (1).

أضيف إلى هذا أنَّ عبد الله بن عمرو كان ينتقل بين مصر والشام والطائف، وكثيراً ما كان يتردَّدُ على الطائف ليشرف على الوهط (الكرم) الذي كان لأبيه، وقد ساومه معاوية بن أبي سفيان من أجله على مال كثير فأبى أنْ يبيعه بشيء (2). وقد عزا التنافر الذي كان بينهما إلى هذه الحادثة (3).

ولا بد هنا من أنْ أبيِّنَ أنَّ عبد الله بن عمرو لم يفسح له مجال التحديث في عهد معاوية وابنه يزيد، لأنه لم يكن على وفاق دائم مع معاوية، وربما منعه معاوية وابنه، من ذلك مارواه الإمام أحمد من طريق شهر قال: «أَتَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو عَلَى نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ: حَدِّثْ، فَإِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ الْحَدِيثِ»، قَالَ: «مَا كُنْتُ لأُحَدِّثُ وَعِنْدِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مِنْ قُرَيْشٍ» (1). وقول عبد الله بن عمرو: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ الْحَدِيثِ» لا يريد به ما يظنه أعداء السُنَّة أنَّ هذا النهي من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إنما يريد به نهي معاوية وابنه يزيد كما بَيَّنَتْهُ رواية ثانية فيها: فَجَاءَهُ رَسُولُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَنْ أَجِبْ، قَالَ: «هَذَا يَنْهَانِي أَنْ أُحَدِّثَكُمَا كَمَا كَانَ أَبُوهُ يَنْهَانِي» (2) فربما فعل ذلك يزيد أيضاً مخافة أنْ يؤلِّبَ عبد الله الناس على بني أمية. تلك أسباب هامة في قلة ما رُوِيَ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، بالنسبة لما تحمله عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنفي ما زعمه المؤلف من «أنَّ أبا هريرة إنما اعترف لعبد الله في أوائل أمره بعد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين لم يكن مفرطاً هذا الإفراط الفاحش، فإنه إنما تفاقم إفراطه وطغى فيه على عهد معاوية ... ». وإنَّ قلة مرويات عبد الله بن عمرو لم تعد تثير أي شك، أو تدخل أية شبهة على مرويات ابي هريرة الكثيرة بالرغم من تصريحه عن كثرة حديث ابن عمرو، بعد أنْ عرفنا تلك الأسباب التي كان لها أثر بعيد في قلة مروياته ..

...


http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-198






 
قديم 28-04-17, 09:07 PM   رقم المشاركة : 18
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


موقف الصحابة من أبي هريرة:

ذكر إبراهيم بن سيَّار النظَّام أبا هريرة فقال: أكذبه عمر وعثمان وعَلِيٌّ وعائشة (1) - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
وقال بشر المريسي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «أَكْذَبُ المُحَدِّثِينَ أَبُو هُرَيْرَةَ» (2).

قال الأستاذ أحمد أمين: «وقد أكثر بعض الصحابة من نقده - أبي هريرة - على الإكثار من الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشَكُّوا فيه، كما يدل على ذلك ما روى مسلم في " صحيحه " أنَّ أبا هريرة قال: " إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... " وفي حديث آخر: " يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ ... "» (3).

وقال عبد الحسين شرف الدين: «أنكر الناس على أبي هريرة واستفظعوا حديثه على عهده، وحسبك أنَّ في مُكَذِّبِيهِ عظماء الصحابة ... » (4).
ثم قال:: «وبالجملة فإنَّ إنكار الأجِلاَّء - من الصحابة والتابعين - عليه واتهامهم إياه مِمَّا لا ريب فيه ما تورع منهم عن ذلك أحد حتى مضوا لسبيلهم، وإنما تورَّع الجمهور مِمَّنْ جاء بعدهم إذ قرَّرُوا القول بعدالة الصحابة أجمعين أكتعين أبصعين، ومنعوا من النظر في شؤونهم، وجعلوا ذلك من الأصول المتَّبعة وجوباً، فاعتقلوا العقول بهذا، وسملوا العيون، وجعلوا على القلوب أكِنَّةً وعلى الأسماع وَقْراً فاذاهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (5).


حاشا ائمة أهل البيت عليهم السلام فانهم أنزلوا الصحابة حيث أنزل الصحابة أنفسهم فرأيهم في أبي هريرة لم يعد رأي عليٍّ وعمر وعثمان وعائشة وتبعهم في هذا شيعتهم كافة القدماء منهم والمتأخِّرون من عهد أمير المؤمنين إلى يومنا هذا، ولعل جُلَّ المعتزلة على هذا الرأي. قال الامام ابو جعفر الاسكافي ما هذا نصه: " وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية، (قال) ضربه عمر بالدُرَّةِ، وقال: قد اكثرت من الرواية وأحْرَ بِكَ أنْ تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... » (1).

رَأْيُ أبي رية: أورد أَبُو رِيَّة بعض الأقوال السابقة، وساق بعض استدراكات الصحابة على أبي هريرة، واستشهد بفقرات لجولدتسيهر و (شبرنجر)، وسرد أقوالاً مختصرة لبعض ما دار بين الصحابة وأبي هريرة لِيُكَوِّنَ من ذلك رأيه في أبي هريرة ويجعله أول راوية اتُّهِمَ في الإسلام (2).

مِمَّا سبق تتبيَّنُ لنا الشُبَهُ التي أوردها بعضهم على موقف الصحابة من أبي هريرة، وقد ساقوا تلك الشُبه من غير أنْ يُبَيِّنُوا لنا أسبابها، وإنْ بَيَّنَ بعضهم ذلك فإنما يحمل الحادثة على غير محملها.

لذلك سأُبَيِّنُ موقف الصحابة من أبي هريرة وحديثه، وقد اضطر إلى ذكر بعض الأحاديث والأخبار التي دارت بينهم، أو اختلفوا من أجلها، لأكشف عن حقيقة أمرهم من راوية الإسلام، ولا بد لي أنْ أشير إلى أنَّ الصحابة لم يقفوا من أبي هريرة موقفاً خاصاً كما أنهم لم ينظروا إليه من زاوية معيَّنة، أو بمنظار الشك والريبة. ولن أطيل بأكثر مِمَّا يُحدِّدُهُ المقام ويقتضيه البحث.

[أ] أبو هريرة وعمر بن الخطاب:

لم يثبت قط أنَّ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ضرب أبا هريرة بدُرَّته لأنه أكثر الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما ما ذكره أَبُو رِيَّة في صفحة [163] وما ذكره عبد الحسين في [ص 268] من ضرب عمر لأبي هريرة فهي رواية ضعيفة لأنها من طريق أبي جعفر الإسكافي وهذا غير ثقة. وأما تهديد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لأبي هريرة بالنفي وهو ما رواه السائب بن يزيد إذ قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ "، وَقَالَ لِكَعْبِ الأَحْبَارِ: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنِ الأُوَلِ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ "» (1) هذا ما جاء في " تاريخ ابن كثير "، بينما ذكر عبد الحسين وأَبُو رِيَّة أنه قال لأبي هريرة: «لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَوْ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» نقلاً عن ابن عساكر، وابن عساكر بَرَاءٌ من هذه الرواية فكل ما فيه: عن السائب بن يزيد قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ "، وَقَالَ لِكَعْبٍ: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ "» (2). فلم يحسن عبد الحسين النقل!!.

أما أَبُو رِيَّة فقد أشار إلى " البداية والنهاية " وليس فيها هذا. وَنَهْيُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم يكن خاصاً بأبي هُريرة بل ذلك كان منهاجه خوفاً من الوقوع في الخطأ.

ثم إنَّ ابن كثير بعد أنْ ذكر هذه الرواية قال: «وَهَذَا مَحْمُولٌ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي يَضَعُهَا النَّاسُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَأَنَّهُمْ يَتَّكِلُونَ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَحَادِيثِ الرُّخْصِ، أَوْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ رُبَّمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِهِ بَعْضُ الْغَلَطِ أَوِ الْخَطَأِ فَيَحْمِلُهَا النَّاسُ عَنْهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ». اهـ.
وَنُقِلَ إِلَيْنَا أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَحْدِيثِ بعد أنْ عرف ورعه وخشيته الخطأ. قاَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «بَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ فُلاَنٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ لِمَ سَأَلَتْنِي عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". قَالَ: إِمَّا إِذًا فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (1). وفي رواية قال له عمر: «حَدِّثْ الآنَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شِئْتَ» (2)، وفي رواية: «أَمَا لِي، فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (3)، ونحن نرى في كل هذا أنَّ عمر لم يطعن في أبي هريرة، ولو أنه اتَّهمه كما ادَّعى النظَّام وغيره، لكان قال له: (لتتركن الكذب على رسول الله)، ولكنه لم يقل ذلك، وكل ما صدر عن أمير المؤمنين إنما كان من باب سياسته في تطبيق منهجه في التثبُّت في السُنَّة والإقلال من الرواية.

وأبو هريرة نفسه يروي تطبيق الفاروق لمنهجه، إلاَّ أنَّ أَبَا رِيَّة وأستاذه عَبْدَ الحُسَيْن لم ينقلا النص الكامل لروايته فَبَدَتْ مُشَوَّهَةً وخاصة عند أبي رِيَّةَ ص [163] إذ يقول: «ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة إذ أصبح لا يخشى أحداً بعده»، ومن قوله في ذلك: «إِنِّي أُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثَ لَوْ حَدَّثْتُ بِهَا زَمَنَ عُمَرَ لضَرَبَنِي (4) بِالْدُرَّةِ» - وفي رواية - «لَشَجَّ رَأْسِي». وعن الزُهري عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: «مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُولَ: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ حَتَّىَ قُبِضَ عُمَرُ!» ثم يقول: «أَفَكُنْتُ مُحَدِّثُكُمْ بِهَذِهِ الأَحَادِيْثِ وَعُمَرُ حَيٌّ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِذَنْ لأَيْقَنْتُ أَنَّ الْمَخْفِقَةٍ سَتُبَاشِرُ ظَهْرِي فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: " اشْتَغَلُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ "».

لم ينقل أَبُو رِيَّة إلاَّ ما يفيده في إثباب رأيه في أبي هريرة، وترك ما ينقض كلامه ورأيه. فقد ذكر ابن كثير بعد قول أبي هريرة: «حَتَّىَ قُبِضَ عُمَرُ» رواية عن الزُهري، فيها قال: قال عمر: «أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الْلَّهِ - صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ فِيمَا يُعْمَلُ بِهِ» قال: ثم يقول أبو هريرة: «أَفَكُنْتُ مُحَدِّثُكُمْ بِهَذِهِ الأَحَادِيْثِ وَعُمَرُ حَيٌّ؟» إلخ، ثم قال: وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا لَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ
كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَدَعْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلاَ تَشْغَلْهُمْ بِالأَحَادِيثِ، وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي ذلك» (1). هذا معروف عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.

فسياسة عمر هذه لم تكن خاصة لأبي هريرة وحده بل كانت عامة. وهناك ما يثبت أنَّ عمر لم يكذبه ولم يطعن فيه، ولم يُهَدِّدْهُ بالنفي إلى جبال دوس، فقد سبق أنْ سُقْتُ رواية صحيحة للإمام أحمد وفيها أنَّ عمر سأل من كان معه في طريق مكة عن الريح عندما اشتدت فلم يجبه أحد، وعندما علم أبو هريرة بسؤال أمير المؤمنين استحثَّ راحلته حتى أدركه فقال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ ... " الحديث» (2). هذه الحادثة تنفي كل ما رُوِيَ من تكذيب عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لأبي هريرة أو الطعن في حديثه، أو تهديده بالنفي .. وذلك من وجهين:
أولاً - هل يعقل أنْ يستحثَّ أبو هريرة السير إلى عمر، ليحدِّثه لو كان قد صدر من عمر شيء مِمَّا ذكرت؟، لو كان مثل هذا قد صدر - ما حَدَّثَ أبو هريرة أمير المؤمنين، إذ يكون قد اقتنع بأنه لم يسمع منه بل سيُكذِّبُهُ. وهل يعقل من مثل أبي هريرة أنْ يُضرب بالدرة ويُكَذَّبَ وَيُهَدَّدَ بالنفي، ثم يوافق الفاروق في حجه!!؟ هذا بعيد جداً.
ثانياً - وأما بالنسبة لعمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فلا يمكن أنْ يُهَدَّدَهُ أو يُكَذَّبَهُ بعد ذلك لأنه عرف حفظه حين نسي أصحابه، أو عرف سماعه حين لم يسمع أصحابه من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ومع هذا فإنَّ تلك الأخبار محمولة على سياسة عمر العامة في التحديث. وقد رَدَّ ابن قتيبة على من ادَّعَى تكذيب الصحابة لأبي هريرة في كتابه " تأويل مختلف الحديث " وبيَّن أنَّ ذلك إنما كان من سياسة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَتَشَدُّدِهِ على من أكثر الرواية (3).

وأما ادِّعاء بشر المريسي تكذيب الفاروق لأبي هريرة فهو باطل لا أصل له
وما رواه عن عمر أنه قال: «أَكْذَبُ المُحَدِّثِينَ أَبُو هُرَيْرَةَ» لم يذكر سنده وقد تصدَّى له عثمان بن سعيد الدارمي (200 - 280 هـ) فَرَدَّ عليه رَدًّا قوياً أخمده وكشف عن جميع اتهاماته (1).

http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-205






 
قديم 28-04-17, 09:18 PM   رقم المشاركة : 19
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


[ب] أبو هريرة وعثمان بن عفان:

لم يذكر مصدر موثوق أنَّ عثمان كَذَّبَ أبا هريرة كما ادَّعَى النظَّام وغيره، كما لم يثبت أنه طعن فيه أو منعه من التحديث، وكل ما هنالك رواية ذكرها ابن خلاَّد قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عِيسَى، - يَنْزِلُ جَبَلَ رَامَهُرْمُزَ - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَظُنُّهُ ابْنَ يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ قَالَ: أَرْسَلَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: «يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ أَكْثَرْتَ، لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لأَلْحَقَنَّكَ بِجِبَالِ دَوْسٍ، وَأْتِ كَعْبًا، فَقُلْ لَهُ: «يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ؟ قَدْ مَلأْتَ الدُّنْيَا حَدِيثًا، لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لأَلْقِيَنَّكَ بِجِبَالِ الْقِرَدَةِ» (2).

إلاَّ أنَّ الخبر رُوِيَ عن عمر بن الخطاب، ولم نر إلاَّ هذه الرواية عن عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وقد كانت صلة أبي هريرة قوية بأمير المومنين عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، مِمَّا لا يتصور أنْ يهدِّدهُ بالنفي، والمعقول أنْ ينصحه بالحُسنى، ولو صحَّت هذه الرواية، فليس فيها طعن في أبي هريرة، لأنه ينهاه عن الإكثار من الرواية عندما لا تكون هناك حاجة إلاَّ الإكثار منها، وأبو هريرة نفسه لم ير في هذا مطعناً، ولم يترك كل هذا أثراً في نفسه، فنراه يوم الدار يدافع عن الخليفة الراشد الثالث - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -

[ج] أبو هريرة وعَلِيٌّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -:

لم يحمل مصدر موثوق بين دفَّتيه ما يثبت أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَذَّبَ أبا هريرة أو نهاه عن التحديث، إلاَّ أنَّ بعض أعداء أبي هريرة يستشهدون برواية عن أبي جعفر الإسكافي أنَّ عَلِيًّا لما بلغه حديث أبي هريرة قال: «أَلاَ إِنَّ أَكْذَبَ النَّاسِ - أَوْ قَالَ أَكْذَبَ الأَحْيَاءِ - رَسُولِ اللَّهِ أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ» (1). هذه رواية ضعيفة مردودة لأنها من طريق الإسكافي وهو صاحب هوى دَاعٍ إلى هواه غير ثقة.

ومنها ما أروده النَظَّام على أبي هريرة أنَّ عَلِيًّا بلغه قول أَبِي هُرَيْرَةَ: «قَالَ خَلِيلِي، وَحَدَّثَنِي خَلِيلِي» فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «مَتَى كَانَ النَبِيُّ خَلِيلُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» (2). ومن الغريب أنَّ عبد الحُسين ينقل هذا في كتابه ويعزوه إلى ابن قتيبة (3)، بينما ينقله ابن قتيبة عن النظَّام ليرُدَّ عليه، وهذا خطأ كبير، إنْ لم يكن تدليساً لا يغتفر مثله مِمَّنْ ادَّعَى البحث العلميَّ والذوق الفني.

وَرَدَّ ابن قتيبة قول النظَّام بما مُلخَّصُهُ: أنَّ الخُلَّة بمعنى المصافاة والصداقة درجتان إحداهما ألطف من الأخرى، فمن الخلة التي هي أخص قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (4).

وقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً». وأما الخلة التي تعم هي الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين فقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (5).

فَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يقصد النوع الأول فأنكر عليه قوله لأنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتَّخّ خليلاً من هذا النوع ولو اتَّخذ لاتَّخذ أبا بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وذهب أبو هريرة إلى الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين، والولاية فإنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذه الجهة خليل كل مؤمن ووَلِيُّ كل مسلم (1). وهل في هذا تكذيب لأبي هريرة!؟.

ومن أعجب ما رأيت في هذا الباب ما ادَّعاهُ النظَّام إذ قال: «وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَبْتَدِئُ بِمَيَامِنِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي اللِّبَاسِ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، فَبَدَأَ بِمَيَاسِرِهِ، وَقَالَ: لأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (2). وقد نقل هذا الخبر عبد الحُسين، ومِمَّا يؤسف له أنه عزاه إلى ابن قتيبة (3)، وابن قتيبة بريء منه إنما أورده للردِّ على النظَّام، وهكذا نعود ثانية فنكشف عن عدم الأمانة العلمية التي ثبتت على المؤلف في أكثر من موضع.

هل يقبل إنسان يحب عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ويرى فيه إمام أهل البيت وحامل راية الحق، وأمير المؤمنين الذي «مع القرآن والقرآن مع عَلِيٍّ لن يفترقا حتى يَرِدَا الحوض على رسول الله، وعَلِيٌّ مع الحق والحق مع عَلِيٍّ يدور معه كيف دار» (4). هل يقبل إنسان يؤمن بهذا أنْ يصدر عن إمامه مثل هذا الخبر؟. بل هل يُصَدِّقُ مثل تلك الرواية؟. وأغرب من هذه وتلك أنه يورد هذه القصة ليستشهد بها على طعن أمير المؤمنين عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وإنَّ عَلِيًّا بريء من هذا الحادثة، وإني لأؤكد أنَّ هذه الرواية موضوعة وقد صنعتها يد أعداء أمير المؤمنين، بل إنَّ كل من يدَّعِي صحتها نشك في حُبِّهِ لعَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وهو الذي ثبت عنه في الصحاح: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، ... فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلا أَتَوَضَّأُ لَكَ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - قُلْتُ: بَلَى، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: " فَوُضِعَ لَهُ إِنَاءٌ ... ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَدَهُ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ (1). وهذا الخبر صحيح يعارض الخبر السابق الضعيف. وإنَّ من الخطأ الذي لا يغتفر، أنْ ينساق المرء وراء ميوله وأهوائه، حتى ينتهي إلى ما يخالف به أصوله وسيرة قدوته. ويستشهد بما يطعن في مرشده ومعلمه، لقد ثبت تمسك عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يعقل أنْ يخالف سُنَّة الرسول الكريم، لأنه يسيء الظن بأبي هريرة؟ لا يقول هذا أحد قط وإنْ قاله فهو من أعداء عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لا من شيعته. فكان من الخير لعبد الحسين الذي يدَّعي أنه من أتباع المؤمنين أنْ يَعَضَّ على حجر، أو على جمرة حتى يحترق لسانه من أنْ يستشهد بما يخالف الحقيقة والتاريخ.

...

[د] أبو هريرة وعائشة:

لقد طال العهد بعائشة أم المؤمنين وبأبي هريرة، فاحتاج الناس إليهما كثيراً، فروى عنهما من الحديث ما لم يرو عن غيرهما، وقد كان أبو هريرة يُحَدِّثُ، فتستدرك عليه السيدة عائشة تارة، وتصدُّقه أخرى، كما كان يُحَدِّثُ مع غيره من الصحابة، فقد استدركت (2) على أبي بكر وعمر وعثمان وعَلِيٍّ، وعلى ابن عمر، وعلى أبي هريرة ... وكل ذلك كان من باب التفاهم والسؤال عن الحديث، أو الدليل في المسألة التي يفتي بها المسؤول، كما استدرك غيرها عليها، كما أنها كانت توجه من يسألها أحياناً إلى من هو أعرف منها في تلك المسألة، وقد ثبت أنها وجَّهت من سألها عن مسح الخف إلى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - (3)، وفي كل هذا لم يشعر الصحابة بغضاضة أو حرج، لأنَّ هدفهم واحد، وهو تطبي الشريعة، وما كان الصحابة يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً. إلاَّ أنَّ من جاء بعدهم من أهل الأهواء استغلوا ما دار بين الصحابة من النقاش العلميِّ، أو التثبت في الحديث، وجعلوا منه مادة طيبة ينفذون من خلالها إلى مآربهم، ويحقِّقُون غاياتهم. ولكنهم لم يفلحوا، لأنَّ الأمَّة لم تعدم العلماء المخلصين، والساهرين النابهين، الذي بَيَّنُوا الحق من الباطل، ووضعوا كل شيء في موضعه.

ومِمَّا أخذه النظَّام على أبي هريرة حديث: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صِيَامَ لَهُ» (1) وإليكم الحديث كما رواه مسلم قال:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ (2)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُصُّ (و) يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلاَ يَصُمْ». قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ (فَذَكَرَهُ) (3) - لأَبِيهِ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ (4)، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ: قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا: فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ.

فهل هذا ينتقص من عدالة أبي هريرة؟ إنَّ عائشة وأم سلمة لم تقولا فيه شيئاً بل رَوَتَافعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصومه.

ثم إنَّ أبا هريرة عندما بَلَّغُوهُ قول عائشة وأم سلمة، تأكد منهم «أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟»، لم يتأخَّر عن أن يقول: «هُمَا أَعْلَمُ» ويُبَيِّنُ لهم مِمَّنْ سمع ذلك. فأبو هريرة أمين في ذلك كله، إنه لم يُصَّرِّحْ في حديثه قط أنه سمع (1) ذلك من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كان يقص على الناس ويفتيهم، ومع هذا فإنَّ لقول أبي هريرة وجهات يمكن أنْ أبيِّنها.

أولاً: أنْ يكون قوله محمولاً على النسخ، وذلك أنَّ الجماع كان في أول الإسلام محرماً على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أنْ يغتسل أنْ يصوم ذلك اليوم، لارتفاع الحظر، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه (2).

ثانياً: أنْ يكون حديث أبي هريرة هذا خاصاً بمن تجنَّب من الجماع بعد طلوع الفجر فإنه يؤمر بالإمساك، ولا يعتدُّ له بصوم ذلك اليوم (1).

ثالثاً: حمل حديث أبي هريرة على كمال الصوم، وأنه إرشاد إلى الافضل وهو الاغتسال قبل الفجر، وقد تركه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك في حديث عائشة وأم سلمة، لبيان الجواز (2).

وبالرأي الأول أقول وإليه أذهب، وإني أراه أقوى الأوجه علماً بأنَّ الرأي الثالث يوفق بين الحديثين من غير أنْ يكون هناك ناسخ ومنسوخ. ذلك هو الحديث ووجهه، إلاَّ أنَّ أَبَا رِيَّة، بعد أنْ ذكر قول عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، ورجوع أبي هريرة. قال: «فلم يسعه إزاء ذلك إلاَّ الإذعان والاستحذاء!! وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما سمعته من الفضل بن العباس، فاستشهد ميتاً، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث "» (3).

نأخذ على أَبِي رِيَّة في هذا التعليق أمرين:

الأول: لم يستشهد أبو هريرة ميتاً بل ثبت أنه عزا الحديث إلى الفضل بن العباس، وإلى أسامة بن زيد (4)، في رواية. وأسامة بن زيد توفي سَنَةَ [54] وفي قول [58 أو 59] والحادثة وقعت في ولاية مروان على المدينة، وكانت قبل سنة [57]، فمن المحتمل أنْ تكون وقعت في حياة أسامة بن زيد قبل سَنَةِ [54]، وإن كانت وفاته على الرواية الثانية فإنها تؤكِّدُ لنا وقوع الحادثة في حياة أسامة، فلا يكون أبو هريرة قد استشهد ميتاً، كما قال أَبُو رِيَّة.

الثاني: أنَّ أَبَا رِيَّة عزا الرواية إلى ابن قتيبة، إلاَّ أنَّ القائل هو النَظَّام، وابن قتيبة بريء من أنْ يفتري على أبي هريرة، إنما ساق قول النَظَّام ليرد عليه: (انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 28) ومن يتهاون في نسبة الآراء إلى أصحابها على هذا النحو - هل يؤتمن في قول؟ أو يقبل قدحه في أبي هريرة؟!.

وأما قول مروان لعبد لرحمن: «عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ». فإنَّ مروان يريد أنْ ينتقم ويثأر لنفسه من أبي هريرة، الذي رَدَّ عليه رَدًّا مُفحماً، حين عارض في دفن الحسن إلى جوار جده، ولعله أراد أنْ يرده إلى الصواب والحق.

وليس في كل ما سبق ذكره أي دليل على تكذيب أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ومنها أنه روى حديثاً في النهي عن المشي بالخف الواحد فبلغ ذلك عائشة فمشت بخف واحد، وقالت: «لأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1).

فالحديث احتجَّ به النظَّام ليطعن في أبي هريرة، وَرَدَّ ابن قتيبة عليه افتراءه. وقد ذكر أبو القاسم البلخي هذا الحديث عن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أنها دخلت في خفها حسكة فمشت في خف واحد وقالت: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ... إِنَّهُ يَقُولُ لاَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلاَ خُفٍّ وَاحِدٍ» (2).

هذه الرواية تبيِّنُ سبب مشيها في الخف الواحد. وأما قولها: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» فإنه لا يتجاوز باب المزاح والمرح، الذي عُرِفَ به الصحابة.

وقد أخرج حديث (النهي عن المشي في خف أو نعل واحدة) الشيخان، كما رواه مسلم عن جابر. ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة (3).

ويُرْوَى عن عائشة من طريق مندل بن علي بن ليث بن أبي سليم: «أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ (4) نَعْلِهِ فَمَشَى فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ»، ومندل وليث ضعيفان لا حُجَّة فيما نقلا منفردين (5).

وقد رُوِيَ عنها أنها مشت في خف واحد وقالت: «لأُخُشَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1) فعائشة لم تُكَذِّبْ أبا هريرة، وإنْ صحَّ عنها ما روي من مخالفته فهو مجرد رأي، والرأي لا يعارض السُنن، ثم إنَّ أبا هريرة لم يتفرَّدْ بالحديث.

ومن هذا ما رواه ابن شهاب أنَّ عُروة بن الزبير حدَّثه أنَّ عائشة قالت: «أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ (2) فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ» (3) كأنها تنتقد أبا هريرة في سرعة إلقائه وعدم تَرَيُّثِهِ.

إنَّ إنكار عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - على أبي هريرة لم يكن مُوَجَّهاً إلى ما يُحَدِّثُ به، إنما أنكرت عليه أنْ يسرد حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويظهر هذا فيما رُوِيَ عنها: إِنَّمَا «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ» (4).
ولو أنكرت عائشة عليه غير سرده للحديث لقالت وبيَّنَتْ، وهي الجريئة الصريحة، فأبو هريرة لم يَكْذِبْ على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يخطئ أثناء تحديثه حتى تُكَذِّبَهُ عائشة، فكل ما كان منه أنه كان يسرد الحديث ويكثر منه في مجلسه، فأي شيء يضير أبا هريرة إذا كان مُتَيَقِّظاَ متنبِّهاً عارفاً لما يروي؟!.

قال أبو حاتم بن حبان: «قَوْلُ عَائِشَةَ: " لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ " أَرَادَتْ بِهِ سَرْدَ الْحَدِيثِ لاَ الحَدِيثَ نَفْسَهُ» (1). قال ابن حجر: واعتذر «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ فَكَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَهَلِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْدِيثِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أُرِيدُ أَنْ أَقْتَصِرَ فَتَتَزَاحَمُ الْقَوَافِي عَلَى فِيَّ» (2).

ومن العجيب أنَّ بعض الكُتَّابِ الذين ناصبوا أبا هريرة العداء، يستشهدون ببعض الأخبار الضعيفة أو الثابتة التي تدل على خلاف بين أبي هريرة والصحابة، ولا يتعرَّضون للروايات التي تُبَيِّنُ صدقه وأمانته وثناء الصحابة عليه، فهم دائماً ينظرون إليه من جانب واحد ويتناسون الجانب الآخر الذي يُبَيِّنُ علمه ومنزلته بين أصحابه. وجميع ما استشكله هؤلاء قد أجيب عنه إجابة علمية مقنعة، ولولا ضيق المقام، لذكرت جميع ما دار بين عائشة وأبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، فحديث «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ» حَلَّلَهُ وأجاب عنه الزركشي وبَيَّنَ الأحاديث المروية في ذلك وبَيَّنَ أنَّ أبا هريرة لم ينفرد به، بل ذكر أيضاً ما يعارضه وبَيَّنَ أنه لا مأخذ على أبي هريرة (3) كما بَيَّنَ قول أبي هريرة «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا اغْتَسَلَ وَمَنْ حَمَلَهُ تَوَضَّأَ» (4).

ولا بد لي من أنْ أُنْهِي هذه الفقرة عن موقف عائشة من أبي هريرة بمناقشة صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة " فيما قاله، قال: «ولما قالت له (لأبي هريرة) عائشة: إنك لتُحَدِّثُ حديثاً ما سمعته من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجابها بجواب لا أدب فيه، ولا وقار: إذ قال لها - كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرآة والمكحلة! وفي رواية - ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك!!! على أنه لم يلبث أنْ عاد فشهد بأنها أعلم منه وأنَّ المرآة والمكحلة لم يشغلاها» (1).

إنَّ القصة التي يشير إليها الكاتب رواها ابن سعد عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّكَ لَتُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ». فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «يَا أُمَّهْ! طَلَبْتُهَا وَشَغَلَكِ عَنْهَا الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَمَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْهَا شَيْءٌ» (2).

وروى الذهبي القصة من طريق إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ: «أَكْثَرْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ». قَالَ: «إِيْ - وَاللهِ - يَا أُمَّاهُ، مَا كَانَتْ تَشْغَلُنِي عَنْهُ المِرْآةُ وَلاَ المُكْحُلَةُ وَلاَ الدُّهْنُ». قَالَتْ: «لَعَلَّهُ» (3). وروى نحو هذا ابن عساكر وابن كثير (4).

هل خرج أبو هريرة عن حدود الأدب مع السيِّدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -!؟ إنه يدافع عن نفسه عندما استكثرت ما يُحَدِّثُ به، فبيَّن لها أنه كان يطلب الحديث وأنها شغلت عما استكثرته من أبي هريرة بحياتها المنزلية، وهو شأن كل امرأة في بيت الزوجية، عليها مسؤوليات كثيرة لا تتيح لها أنْ تسير مع زوجها في كل مكان، أو ترافقه في جميع أنواع حياته.

فلم تُكَذِّبْهُ السيِّدة أم المؤمنين، بل قالت: «لَعَلَّهُ». ونرى الروايات تعيد الضمير في قوله: (شغلك عنه) إلى كثرة الحديث ولكن أَبَا رِيَّةَ أعاده للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِيُصَوِّرَ شناعة قول أبي هريرة وكيف رأى أدبه خروجاً على الأدب والوقار؟ وهذا لا يليق بالبحث العلمي.

أما قوله بعد ذلك (أنه لم يثبت أنْ عاد فشه بأنها أعلم منه). فهذا غير صحيح ولا يقوله إلاَّ متحامل، لأنه لا يوجد أي تعارض بين الروايتين، فهذه القصة تتناول حفظ أبي هريرة وكثرة حديثه، ولم يتراجع أبو هريرة عما رواه، بل سَمِعَتْ منه عائشة دفاعه عن نفسه واقتنعت بما قال.

وهناك ما يثبت أنَّ السيِّدة عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - لم تنكر على أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كثرة ما يَرْوِي بل صَدَّقَتْهُ، فقد روى الرامهرمزي بسنده عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: «أَدْنُوهُ مِنِّي»، فَأَدْنُوهُ فَقَالَتْ: «أَذَكَّرْتَنِي شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1).

وأما القصة الثانية «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صَوْمَ عَلَيْهِ» وتراجع أبي هريرة فقد بيَّنتُ فيما سبق وجهتها، ولا شك أنَّ عائشة أعلم بهذا منه، لأنَّ هذا خاص لم يطَّلِعْ عليه أبو هريرة، فهل في دعوته عن رأيه تكذيب من عائشة له؟ ثم من تعمق في البحث يجد أنَّ أبا هريرة عاد عن فتواه التي بناها على ما أخبره به الفضل بن العباس في رواية وأسامة بن زيد في رواية أخرى. وأنَّ رجوعه هذا لم يكن رجُوعاً عن حديث حَدَّثَ به (2).

وهذه الأفضلية لأبي هريرة يشكر عليها، لأنه تمسَّك بالحق وعدل عن رأيه. ثم إنَّ السيدة عائشة لم تكن معارضة لأبي هريرة دائماً بل ناصرته في مواقف كثيرة، قالت: «صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ»، وقد مَرَّ بنا شيء من هذا في ترجمته وسَيَمُرُّ بعض ذلك فيما يلي.

http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-210






 
قديم 28-04-17, 09:25 PM   رقم المشاركة : 20
حجازية 1
عضو ماسي








حجازية 1 غير متصل

حجازية 1 is on a distinguished road


[هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر:

عَنْ عَامِرٍ بْنِ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ الله بن عُمَرَ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ المَقْصُورَةِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ الله بن عُمَرَ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ». فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أبي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصَى الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «صَدَقَ أبو هُرَيْرَةَ». فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ» (1).

وضاق أهل الأهواء ذَرْعاً بحديث أبي هريرة، وحاولوا جَرْحَهُ بكل وسيلة إلاَّ أنهم لم يفلحوا في ذلك. من هذا ما رواه أبو القاسم البلخي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ , أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ» فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ». قَالَ: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» (2).
واستشهد بهذا صاحب كتاب " أبو هريرة " (3) مُستدلاًّ به على نقد الصحابة لأبي هريرة.

وذكر الأستاذ أحمد أمين هذا الحديث في معرض كلامه عن عدم توسُّع المُحَدِّثِينَ في النقد الداخلي للأحاديث، وعدم تعرُّضهم كثيراً لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، وعدم تَعَرُّضِهِمْ كثيراً لبيئة الراوي الشخصية، وما قد يحمله منها على الوضع وهكذا ... ثم قال: ومن هذا القبيل (1) ما يروى عن ابن عمر وساق الحديث: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ انتََقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» قالوا: كان أبو هريرة يروي هذا الحديث هكذا «إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» فيزيد كلب زرع.
فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا»، وهو نقد من ابن عمر لطيف في الباعث النفسي. وهناك أشياء منثورة من هذا القبيل، ولكنها لم تبلغ من الكثرة والعناية مبلغ النقد الخارجي» (2).

لقد تسرَّع هؤلاء في الحكم على أبي هريرة وعلى حديثه، وحملوا كلام ابن عمر على أنه طعن في أبي هريرة، والواقع غير ما ذهبوا إليه، وليس في قول ابن عمر تكذيب لأبي هريرة، فكل ما في الأمر أنَّ أبا هريرة حفظ هذا الحديث لأنَّ عنده زرعاً. وهذا ما ذهب إليه النووي في شرحه للحديث.

وقال ابن عساكر: «قَوْلٍ ابْنِ عُمَرَ هَذَا (إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا) لَمْ يُرِدْ بِهِ التُّهْمَةَ لأََبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنََّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَفِظَ ذَلِكَ لأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَصَاحِبُ الحَاجَةِ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا ... أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدَ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: قَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَسُرُّهُ فِي قَوْلِهِ ولَمْ يُوَفَّقْ بِحُسْنِ الْظَّنِّ بِسِعَة، أَنَّ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا أُخْرِجَ قَولُهُ هَذَا مَخْرَجً الْطَّعَنِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ ظَنَّ بِهِ الْتَّزَيُّدَ فِي الرِّوَايَةِ لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَى حِرَاسَةٍ الزَّرْعِ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِيهِ لاَ يَذْكُرُ فِيْهِ كَلْبَ الزَّرْعِ، قَالَ أَبُوْ سُلَيْمَانَ: ... وَإِنَّمَا ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ هَذَا تَصْدِيْقاً لِقَوْلِ أَبِيْ هُرَيْرَةَ، وَتَحْقِيقاً لَهُ، وَدَلَّ بِهِ عَلَىَ صِحَّةِ رِوَايَتِهِ وَثُبُوْتِهَا، إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ صَدَقْتَ حَاجَتَهُ إِلَىَ شَيْءٍ كَبُرَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ وَكَثُرَ سُؤَالُهُ عَنْهُ، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ جَدِيْرٌ بِأَنْ يَكُوْنَ عِنْدَهُ هَذَا الْعِلْمُ وَأَنْ يَكُوْنَ قَدْ سَأَلَ رَسُوْلَ الْلَّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ. يَدُلُّ عَلَىَ صِحَّةِ ذَلِكَ فُتْيَا ابْنِ عُمَرَ بِإِبَاحَةِ اقْتِنَاءِ كَلْبِ الزَّرْعِ بَعْدَمَا تَبِعَهُ خَبَرُ أَبِي هُرَيرَةَ» (1).

وإذا أبى الباحثون هذا التفسير، فماذا يقولون في رواية ابن عمر نفسه التي ذكر فيها كلب الزرع؟؟!!
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الْحَكَمِ الْبَجَلِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا غَيْرَ كَلْبِ زَرْعٍ أَوْ ضَرْعٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» فَقُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: «إِنْ كَانَ فِي دَارٍ وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ؟ قَالَ: هُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ الَّذِي يَمْلِكُهَا» (2).
وفي رواية: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «وَكَلْبَ حَرْثٍ»؟ فَقَالَ ابْنِ عُمَرُ: «أَنَّى لأََبِِي هُرَيْرَةَ حَرْثٌ!؟» (3) فابن عمر لم يتَّهم أبا هريرة بأنه كذب على رسول الله - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنَّ عنده زرعاً، بل هذه الرواية تنفي ما ذهب إليه أحمد أمين، ومع هذا فقد ثبت عن ابن عمر قوله: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» ولكنه لم يذهب بقوله مذهب الطاعن المُكَذِبَ بل ثبت روايته برواية أبي هريرة لأنَّ أبا هريرة حفظ تلك الرواية التي تشمل بعض أحواله.

وهذا الحديث رواه الإمام مسلم من طريق الإمام مالك، ورواه أيضاً من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وفي آخره: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (يَعْنِي ابْنِ عُمَرَ): قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ» ورواه من طريق سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وفي آخره قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ»، وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ. وروى أيضاً حديث أبي هريرة من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: وفي آخره: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذُكِرَ لابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: «يَرْحَمُ اللهُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ».
فهذه الروايات تدل على أنَّ ابن عمر لم يكن ينكر على أبي هريرة روايته، وإنما كان يروي كل منهما ما سمع، بل إنَّ ابن عمر روى عن أبي هريرة الزيادة التي (جاءت) في روايته، ولم يكن هؤلاء الرجال الصادقون المخلصون يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً، بل كانت أمارتهم الصدق والأمانة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - (1).

ولم تكن هذه الزيادة نتيجة دافع نفسي أو عامل شخصي كما ظن وذهب إليه الأستاذ أحمد أمين، وما كان أبو هريرة ليكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو كان في ذلك نجاته.

...

[و] أبو هريرة وابن عباس:

ذكر عبد الحسين مؤلف كتاب " أبو هريرة " من الأحاديث التي عارض فيها الصحابة أبا هريرة، أنَّ أبا هريرة روى عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» فلم يأخذ ابن عباس بخبره وَرَدُّهُ صريحاً، قال: «لاَ يَلْزَمُنَا الوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ» (2).
وذكر نحوه أبو رِيَّةَ عن ابن مسعود (3) وقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَنْجَسُوا مِنْ مَوْتَاكُمْ» قال الإمام الزركشي: وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا اغْتَسَلَ وَمَنْ حَمَلَهُ تَوَضَّأَ» فبلغ ذَلِكَ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُا فَقَالَتْ أََوَ نَجَسٌ مَوْتَى الْمُسْلِمِيْنَ وَمَا عَلَى رَجُلٍ لَوْ حَمَلَ عُوداً». قال البيهقي في ذلك: «الروايات المرفوعة في هذا الباب من أي هريرة غير قوية، لجهالة رُواتها، وضعف بعضهم» والصحيح أنه موقوف
على أبي هريرة (1). اهـ. فإنْ صَحَّ عنه ذلك فهو رأي وليس في ذلك كذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ليس في ذلك تكذيب الصحابة له.

...

[ز] أبو هريرة والزبير:

ذكر أبو رِيَّةَ جزءاً من خبر الزبير مع أبي هريرة وهو قوله: «صَدَقَ، كَذَبَ» ولم ينقل بقية الرواية التي تكشف عن وجه الحق، لذلك أسوق ما رواه أبو القاسم البلخي الذي حاول الطعن في أبي هريرة قال: قال ابن أبي خيثمة وحَدَّثَنَا هارون بن معروف حَدَّثَنَا محمد بن سلمة حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق عن عمر - أو عثمان بن عروة عن أبيه يعني عروة بن الزبير قال: قال أبي الزبير: «يا بني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فأدنيته منه فجعل أبو هريرة يُحَدِّثُ بينما جعل الزبير يقول صدق، كذب، صدق، كذب، قال: قلت: يا أبت ما قولك صدق كذب، قال: يا بُنَيَّ ... أما أنْ يكون سمع هذه الأحاديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا شك، ولكن منها ما وضعه على مواضعه، ومنها ما لم يضعه على مواضعه» (2) هل في هذا الخبر تكذيب لأبي هريرة كما ظن البلخي وأبو رِيَّةَ؟.

والزبير لم يعترض على سماع أبي هريرة أو عدم سماعه، بل سَلَّمَ بالسماع، ولم يشك فيه، إنما قال عندما سمع أحاديث أبي هريرة الكثيرة إنه يضع بعضها على غير ما يجب أنْ يوضع، ولا ضير على أبي هريرة في ذلك، ولا سبيل للطعن في صدقه. لأنه لم يتقوَّل على رسول الله ما لم يقل، ومعنى قوله: صدق، كذب (أصاب، وأخطأ) كما سأُبَيِّنُهُ بعد قليل وليس في الخطأ كذب وخاصة في هذا المقام.

...

[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم: (1)

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ شَمَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مَرْوَانُ، فَقَالَ: «بَعْضَ حَدِيثِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ حَدِيثَكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
ثُمَّ رَجَعَ (مروان)، فَقُلْنَا: الآنَ يَقَعُ بِهِ، قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنْتَ رَزَقْتَهَا ... » الحديث. اهـ (2)، قال مروان لأبي هريرة: «بَعْضَ حَدِيثِكَ - أَوْ حَدِيثَكَ»، يريد به الإنكار على أبي هريرة في كثرة روايته.

وكان بعض الصحابة، وبعض الوُلاَّة ينكرون عليه، ثم يضطرُّون إلى علمه وحفظه، فيسألونه أو يقرُّون له بما روى، كما صنع مروان هنا، وغيره في روايات كثيرة، وما كانوا يظنون بصدقه الظنون، ولا كانوا يتَّهمونه في حفظه وأمانته - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (3).

تلك صورة حقيقية لما دار بين أبي هريرة وبعض الصحابة، وهي لا تعدو ما كان يحصل بين الصحابة من نقاش حول تحرِّي الحق، ومعرفة الصواب، إذ لم يكن الصحابة يُكَذِّبُ بعضُهُم بعضاً، بل يُبَيِّنُ بعضهم خطأ بعض، وكانوا سرعان ما يعودون إلى الحق ويدورون معه حيث دار. وإذا صدر عنهم ألفاظ (الكذب) فإنما يقصدون بها الخطأ والغلط، لا التكذيب والافتراء، وكان هذا يقع كثيراً بين الصحابة ولا يرون فيه جَرْحاً ولا إهانة، ولا يُخرجون من قيل له ذلك من العدالة والصدق، من ذلك ما قالته أسماء بنت عُميس لعمر بن الخطاب: «كَذَبْتَ يَا عُمَرُ» (1)، وكان ذلك في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يُتَصَوَّرُ من أسماء أو غيرها أنها تعني التكذيب بمعنى الافتراء؟ إنها تعني الخطأ ولا شك.

وقد بيَّن ابن قتيبة معنى إنكار الصحابة على أبي هريرة فيما ذكره من الأخبار والوقائع، فلم يكن قط بمعنى الإكذاب، ولم يقولوا له إنك تكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو تضع أو تفتري أ وتختلق، إنما خالفوه أحياناً وليس هذا من باب التجريح، ومِمَّا قاله ابن قتيبة عن الصحابة وأحوالهم: «وَأَخَافُ أَنْ يُشَبَّهَ لِي كَمَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَأُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْطِئُونَ لاَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِخِدْمَتِهِ وَشَبَعِ بَطْنِهِ، وَكَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْغَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْسُ الْوَدِيِّ وَلاَ الصَّفق بِالأَسْوَاقِ، يُعَرِّضُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي التِّجَارَاتِ وَيَلْزَمُونَ الضِّيَاعَ فِي أَكْثَرِ الأَوْقَاتِ، وَهُوَ مُلاَزِمٌ لَهُ لاَ يُفَارِقُهُ، فَعَرَفَ مَا لَمْ يَعْرِفُوا، وَحَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظُوا - أَمْسَكُوا عَنْهُ» (2).

وبعد هذا، فإنَّ عَبْدَ الحُسَيْنَ ينكر إمساك الصحابة عن أبي هريرة عندما عرفوا منزلته كما روى ابن قتيبة ويرى أنَّ دفاعه إنما كان جزافاً لا يصغى إليه (3). هذا ما يريده مؤلف كتاب " أبو هريرة " لأنَّ الحق لا يوافق هواه، ولا يعجبه إلاَّ أنْ يستشهد بروايات الإسكافي المتروكة، التي يُجَرِّحُ فيها أبا هريرة.

ويدَّعِي بعد ذلك أنَّ الإمام أبا حنيفة وأصحابه كانوا يتركون حديث أبي هريرة إذا عارض قياسهم كما فعلوا في حديثه عن المصراة وهي البقرة أو الشاة أو الناقة يجمع اللبن في ضرعها ... إذ روى أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، مَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخَطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ» فلم يأبهوا بحديثه هذا وقالوا: أبو هريرة غير فقيه وحديثه هذا مخالف للأقيسة بأسرها، فإنَّ حلب اللبن من التعدي، وضمان التعدِّي يكون بالمثل أو القيمة والصاع من التمر ليس واحداً منهما إلى آخر كلامهم (1).

وهذا ما ذكره الأستاذ أحمد أمين (2) كما استشهد أبو رِيَّةَ بنحو هذا عن الحنفية، وذكر مسألة المصراة (3).

وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة ورفض قبول ذاك الادِّعاء وأكَّدَ أنه غير مقبول وغير مرضي وقال: «فقد قدمنا ذكر من أثنى عليه ووثقه، وذكرنا من روى عنه وأصدقه» (4).

وقد ذكر الذهبي مسألة المصراة وداع فيها عن أبي هريرة، وأوجب العمل بحديثه، وَبَيَّنَ أنَّ عمل الحنفية وسائر الأئمة بخلاف هذه الرواية عن الحنفية، وَبَيَّنَ أنَّ الحنفية قدَّمُوا خبر أبي هريرة على القياس، وكذلك فعل الإمام مالك، وَبَيَّنَ أنَّ أبا حنيفة قد ترك القياس لما هو دون حديث أبي هريرة بل الدليل أقوى منه، وقد فَنَّدَ الدكتور مصطفى السباعي ما ادَّعَاهُ الأستاذ أحمد أمين من تقديم الحنفية القياس على الخبر إذا عارضه، وأنهم فعلوا هذا في أحاديث أبي هريرة، وأنهم يعدُّونه غير فقيه، وَرَدَّ على ذلك رَدًّا علمياً جليلاً كشف فيه عن الحق، ودحض هذه الرواية بالحُجَّةِ القوية والأدلة الواضحة، ولولا ضيق المقام لذكرت ذلك هنا (6).


لقد تبيَّن لنا مِمَّا عرضناه أنَّ أبا هريرة يم يكن محل تكذيب من الصحابة والتابعين، ولم يثبت قط أنَّ أحداً اتهمه بالكذب، والوضع واختلاق الأحاديث على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بخلاف ما ادَّعاه أهل الأهواء وبعض المستشرقين أمثال (جولدتسيهر) و (شبرنجر) وكل ما كان بينه وبين بعض الصحابة لم يعد باب التحقيق العلمي، ولم يتناول قط عدالته وصدقه وأمانته، وإذا رََدَّ عليه بعضهم فإنما رَدُّوا بعض ما كان يفتي به، مِمَّا علمه من حديث رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، فكان خلافهم في فهم الحديث، لا في الحديث نفسه حيث نسبته إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عدم نسبته، وكان اعتراضهم على (فتواه) لا على (حديثه) ولم يكن هذا خاصاً بأبي هريرة، بل حديث كثيراً بين الصحابة. وهناك فرق كبير بين رَدِّ (الفتوى) وَرَدِّ (الحديث)، و (الخطأ) و (التكذيب)، فشتان ما هما.

وقد ثبت أنَّ أبا هريرة أفتى في مسائل دقيقة في حضرة ابن عباس وغيره، وعمل الصحابة ومن بعدهم بحديثه في مسائل كثيرة - تخالف القياس - كما عملوا كلهم بحديثه عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ خَالَتِهَا» (1).
فلو شك أحد في صحة حديثه أو في صدقه لتركوا حديثه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل.

هذا وقد عرفت الأمَّة مكانته ومنزلته، وقبلوا حديثه، وظهر لنا ذلك واضحاً كالشمس في رابعة النهار. وقد سبق أنْ بيَّنت ثناء الصحابة والتابعين والأئمة عليه وأُكَرِّرُ هنا قول الإمام الذهبي فيه «وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَثِيقَ الحِفْظِ، مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ» (2).

إلاَّ أنَّ مؤلف كتاب " أبو هريرة " لم يأبه بكل هذا، واستنتج من تلك المناقشات العملية كذب أبي هريرة، ورأى ما دار بينه وبين بعض الصحابة

دليلاً قاطعاً على تجريحه، فقال: «وناهيك تكذيب كل من عمر وعثمان وعلي وعائشة له، وقد تقرَّر بالإجماع تقديم الجرح على التعديل في مقام التعارض، على أنه لا تعارض هنا قطعاً، فإنَّ العاطفة بمجردها لا تعارض تكذيب من كَذَّبَهُ من الأئمة.
أما أصالة العدالة في الصحابة فلا دليل عليه، والصحابة لا يعرفونها، ولو فرض صحتها فإنما يعمل على مقتضاها في مجهول الحال، لا فيمن يُكَذِّبُهُ عمر وعثمان وعلي وعائشة، ولا فيمن قامت على جرحه أدلة الوجدان، فإذا نحن من جرحه على يقين جازم» (1).

إلاَّ أنَّ زعمه هذا رددناه بالحُجج الدامغة، فانهار ما ادَّعاه أمام الصرح الشامخ الذي يحمي عدالة أبي هريرة، وتحطمت سهامه الواهية على الحصن المنيع الذي بناه أبو هريرة بصدقه وأمانته واستقامته، فلم يجد ثغرة ينفذ منها، أو ثلماً يدس في هواه، فراح يشكِّكُ الناس في مرويات أبي هريرة، ويستشهد ببعض الأحاديث التي وردت في " الصحيحين " عنه، متَّخذاً طعنه في أبي هريرة وتجريحه إياه، مطيَّّة وذريعة للتشكيك في ما ورد في " الصحيحين " عامة، يريد من قُرَّائِهِ بل من الناس جميعاً أنْ لا يثقوا بالكتب التي أجمعت الأمَّة على صحتها، وتلقَّتها بالقبول، ولم يجد إلى ذلك سبيلاً، إلاَّ أنْ يذكر بعض الأحاديث التي تتعلق بالأمور الغيبية، ويحاول أنْ يُحَكِّمَ العقل البشري فيها، يوازن بينها وبين الواقع، من ذلك حديث خلق آدم [ص 56] فَيُحَمِّلُ ألفاظه ما لا تحتمل، ويفسِّرُهُ تفسيراً لا يقبله العقل والذوق السليم، ويسوق غيره من الأحاديث التي تتناول بعض أحوال يوم القيامة، كرؤية الله تعالى [ص 64]، والنار [ص 70]، وينكر ما جاء في حديث استجابة الله تعالى الدعاء في الثلث الأخير من كل ليلة [ص 72] وَيُحَمِّلُ ألفاظه ما لا تحتمل، فالحديث (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعاً «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ... » الحديث. اهـ.
http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-222






 
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:19 AM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "