19 – إثبات علو الله على مخلوقاته
وقوله ( يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى )(85) ( بل رفعه الله إليه )(86) ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )(87) ( يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً )(88) ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير)(89)
الشرح
(يا عيسى ) خطاب من الله تبارك وتعالى لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ( إني متوفيك ) الذي عليه الأكثر أن المراد بالوفاة هنا النوم كما قال تعالى ( وهو الذي يتوفاكم بالليل )الآية (60) من سورة الأنعام وقال تعالى ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها )الآية ( 42) من سورة الزمر ( ورافعك إلى ) أي رفعه الله إليه في السماء وهو حي – وهذا محل الشاهد من الآية وهو إثبات العلو لله لأن الرفع يكون إلى أعلى .
وقوله ( بل رفعه الله إليه ) هذا رد على اليهود الذين يدعون أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم فقال تعالى ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)- إلى قوله ( وما قتلوه يقينا) الآية (157) من سورة النساء
( بل رفعه الله إليه ) أي رفع الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام إليه وهو حي لم يقتل – وهذا محل الشاهد لأن فيه إثبات علو الله على خلقه لأن الرفع يكون إلى أعلى . وقوله ( إليه يصعد ) أي إلى الله سبحانه لا إلى غيره يرتفع ( الكلم الطيب ) أي الذكر والتلاوة والدعاء ( والعمل الصالح يرفعه ) أي العمل الصالح يرفع الكلم الطيب – فإن الكلم الطيب لا يقبل إلا مع العمل الصالح فمن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه – قال إياس بن معاوية لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام . وقال الحسن وقتادة لا يقبل قول إلا بعمل . والشاهد من الآية أن فيها إثبات علو الله على خلقه لأن الصعود والرفع يكونان إلى أعلى. وقوله تعالى
( يا همان ابن لي صرحاً ) هذا من مقولة فرعون لوزيره هامان يأمره ان يبني له قصراً منيفاً عالياً ( لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات ) أي طرق السموات أو أبوابها ( فأطلع إلى إله موسى ) بنصب (فأطلع ) بأن مضمرة بعد فاء السببية – ومعنى مقالته هذه تكذيب موسى عليه السلام في أن الله أرسله أو أن له إلها في السماء ولذلك قال ( وإني لأظنه كاذبا ) أي فيما يدعيه من الرسالة أو فيما يدعيه بأن له إلها في السماء والشاهد من الآية أن فيها إثبات علو الله على خلقه . حيث أن موسى عليه السلام أخبر بذلك وحاول فرعون في تكذيبه – وقوله تعالى ( أأمنتم ) الأمن ضد الخوف ( من في السماء ) أي عقوبة من في السماء وهو الله سبحانه – ومعنى ( في السماء ) أي على السماء – كقوله تعالى ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) وهذا إن أريد بالسماء السماء المبنية – وإن أريد بالسماء مطلق العلو ففي للظريفة – أي في العلو ( أن يخسف بكم الأرض ) أي يقلعها بكم كما فعل بقارون ( فإذا هي تمور ) أي تضطرب وتتحرك ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ) أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل . وقيل سحاب فيها حجارة وقيل ريح فيها حجارة ( فتستعلمون كيف نذير ) أي إنذاري إذا عاينتم العذاب ولا ينفعكم حينذاك هذا العلم .
والشاهد من الآيتين أن فيهما إثبات علو الله على خلقه حيث صرحتا أنه سبحانه في السماء فقد دلت هذه الآيات التي ذكرها المؤلف رحمة الله عليه على إثبات العلو . كما دلت هذه الآيات التي قبلها على إثبات استواء الله على العرش – والفرق بين الاستواء والعلو
1- أن العلو من صفات الذات والاستواء من صفات الأفعال فعلو الله على خلقه وصف لازم لذاته – والاستواء فعل من أفعاله سبحانه يفعله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته إذا شاء ولذا قال فيه ( ثم استوي ) وكان ذلك بعد خلق السموات والأرض .
2- أن العلو من الصفات الثابتة بالعقل والنقل . والاستواء ثابت بالنقل لا بالعقل .
20- إثبات معينة الله لخلقه
وقوله ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعلمون بصير )(90) ( وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم )(91) وقوله ( لا تحزن إن الله معنا )(92) ( إنني معكما أسمع وأرى )(93) ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )(94) ( واصبروا إن الله مع الصابرين )(95) ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )(96).
الشرح
قوله تعالى ( هو الذي خلق السموات – إلى قوله – وما يعرج فيها ) تقدم تفسيره(97) وقوله ( وهو معكم أينما كنتم ) أي هو معكم بعلمه رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم في بر أو بحر في ليل أو نهار في البيوت أو القفار الجميع في علمه على السواء وتحت سمعه وبصره . يسمع كلامكم ويرى مكانكم – وهذا محل الشاهد من الآية الكريمة ففيه إثبات المعية العامة ( والله بما تعلمون بصير ) لا يخفى عليه شئ من أعمالكم – وقوله تعالى ( ما يكون من نجوى ثلاثة ) النجوى السر والمعنى ما يوجد من تناجي ثلاثة
( إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ) أي جاعلهم أربعة وجاعلهم ستة من حيث إنه سبحانه يشاركهم في الإطلاع على تلك النجوى وتخصيص هذين العددين بالذكر لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة – أو أن سبب النزول تناجي ثلاثة في واقعة وخمسة في واقعة أخرى , وإلا فهو سبحانه مع كل عدد قل أو كثر ولهذا قال تعالى ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم ) أي ولا أقل من العدد المذكور كالواحد والاثنين ولا أكثر منه كالستة والسبعة ( إلا هو معهم ) بعلمه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه شئ منه – قال المفسرون إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله r فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله هذه الآيات – وقوله تعالى (أينما كانوا ) معناه إحاطة علمه سبحانه بكل تناج يقع منهم في أي مكان ( ثم ينبئهم ) أي يخبرهم سبحانه ( بما عملوا يوم القيامة ) ويجازيهم على ذلك وفي هذا تهديد لهم وتوبيخ ( إن الله بكل شئ عليم ) لا يخفى عليه شئ – والشاهد من الآيه أن فيها إثبات معية الله لخلقه وهي معية عامة مقتضاها الإحاطة والعلم بجميع أعمالهم ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم – وقوله تعالى ( لا تحزن إن الله معنا ) هذا خطاب من النبي r لصاحبه أبي بكر t عنه حينما كانا في الغار وقت الهجرة وقد لحق بهما المشركون فحزن أبو بكر t خوفاً على النبي r من أذى الكفار فقال له النبي r ( لا تحزن ) أي دع الحزن ( إن الله معنا ) بنصره وعونه وتأييده . ومن كان الله معه فلن يغلب . ومن لا يغلب لا يحق له أن يحزن. والشاهد من الآية أن فيها إثبات المعية الخاصة بالمؤمنين التي مقتضاها النصر والتأييد .... وقوله تعالى لموسى وهرون عليهما السلام (إنني معكما أسمع وأرى ) أي لا تخافا من فرعون ( إنني معكما ) تعليل للنهي – أي معكما بالنصر لكما والمعونة على فرعون ( أسمع ) كلامكما وكلامه ( وأرى ) مكانكما ومكانه لا يخفى علي من أمركم شئ – والشاهد من الآية أن فيها إثبات المعية الخاصة في حق الله تعالى لأوليائه بالنصر والتأييد – كما أن فيها إثبات السمع والبصر له سبحانه وتعالى وقوله تعالى ( إن الله مع الذين اتقوا ) أي تركوا المحرمات والمعاصي على اختلاف أنواعها ( والذين هم محسنون ) بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا به فهو سبحانه مع هؤلاء بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة وهي محل الشاهد من الآية الكريمة . وقوله ( واصبروا ) هذا أمر الصبر وهو حبس النفس – والمراد به هنا الصبر على شدائد الحرب التي بين المسلمين وبين الكفار ثم علل هذا الأمر بقوله ( إن الله مع الصابرين ) فهو سبحانه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه والشاهد من الآية الكريمة أن فيها إثبات معية الله للصابرين على طاعته والمجاهدين في سبيله قال الإمام الشوكاني ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة أهـ وقوله تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ) الفئة الجماعة والقطعة منهم ( بإذن الله) أي بإرادته وقضائه ومشيئته ( والله مع الصابرين ) هذا محل الشاهد من الآية الكريمة وهو إثبات معية الله سبحانه للصابرين على الجهاد في سبيله وهي معية خاصة مقتضاها النصر والتأييد .
ما يستفاد من مجموع الآيات السابقة أفادت إثبات المعية – وأنها نوعان ـ
النوع الأول معية عامة كما في الآيتين الأوليين – ومقتضى هذه المعية إحاطته سبحانه بخلقه وعلمه بأعمالهم خيرها وشرها ومجازاتهم عليها .
النوع الثاني معية خاصة بعبادة المؤمنين ومقتضاها النصر والتأييد والحفظ – وهذا النوع تدل عليه الآيات الخمس الباقية التي أوردها المؤلف رحمه الله ومعيته سبحانه لا تنافي علوه على خلقه واستوائه على عرشه . فإن قربه سبحانه ومعيته ليست كقرب المخلوق ومعية المخلوق للمخلوق – فإنه سبحانه ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) ولأن المعية مطلق المقارنة لا تقتضي مماسة ولا محاذاة – تقول العرب مازلنا نمشي والقمر معنا مع أنه فوقهم والمسافة بينهم وبينه بعيدة – فعلو الله جل جلاله ومعيته لخلقه لا تنافي بينهما . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله .
21- إثبات الكلام لله تعالى
وقوله ( ومن أصدق من الله حديثا ) (97) ( ومن أصدق من الله قيلا ) (98) ( وإذا قال الله يا عيسى بن مريم )(99) (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا )(100) ( وكلم الله موسى تكليما )(101) ( منهم من كلم الله )(102) ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمة ربه )( 103) ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ) (104) ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين )(105) ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة )(106)( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين )(107)( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله )(108)( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )(109)(يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل )(110)
( واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته )(111)( إن هذا القرآن يقص علي بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون )(112)
الشرح
قوله تعالى ( ومن أصدق من الله ) أي لا أحد أصدق منه سبحانه فهو استفهام إنكاري ( حديثا ) أي في حديثه وخبره وأمره ووعده ووعيده وقوله . ( ومن أصدق من الله قيلا ) القيل مصدر قال كالقول – أي لا أحد أصدق قولا من الله عز وجل – والشاهد من الآيتين الكريمتين إن فيهما إثبات الحديث والقيل لله سبحانه ففيهما إثبات الكلام له سبحانه وقوله تعالى ) ( وإذا قال الله يا عيسى بن مريم ) أي اذكر ( إذ قال الله ) جمهور المفسرين ذهب إلى أن هذا القول منه سبحانه يكون يوم القيامة – وهو توبيخ للذين عبدوا المسيح وأمه من النصارى . وهي كالآيتين السابقتين فيها إثبات القول لله تعالى وأنه يقول إذا شاء وقوله ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) المراد بالكلمة كلامه سبحانه . وقوله ( صدقا ) أي في أخباره سبحانه ( وعدلا) أي في أحكامه ( وصدقا وعدلا) منصوبان على التمييز ، وفي الآية إثبات الكلام لله تعالى . وقوله ( وكلم الله موسى تكليما ) هذا تشريف لموسى عليه السلام بأن الله كلمه أي أسمعه كلامه ولهذا يقال له الكليم و ( تكليما ) مصدر مؤكد لدفع كون التكليم مجازاً . ففي الآية إثبات الكلام لله وأنه كلم موسى عليه السلام . وقوله تعالى ( ومنهم من كلم الله ) أي من الرسل عليهم الصلاة السلام ( من كلم الله ) بلا واسطة يعني موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذا أدم كما ورد به الحديث في صحيح ابن حبان ففي الآية إثبات الكلام لله تعالى وأنه كلم بعض الرسل . وقوله تعالى ( ولما جاء موسى لميقاتنا ) أي حصل مجيئه في الوقت الذي واعده الله فيه( وكلمه ربه ) أي أسمعه كلامه من غير واسطة – فالآيات فيها إثبات الكلام لله وإنه يتكلم متى شاء سبحانه وأنه كلم موسى عليه السلام بلا واسطة – وقوله تعالى ( وناديناه ) أي نادى الله تعالى موسى عليه السلام – والنداء هو الصوت المرتفع ( من جانب الطور ) الطور جبل بين مصر ومدين ( الأيمن ) أي جانب الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من النار التي رآها جذوة وليس المراد أيمن الجبل نفسه فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال . ( وقربناه ) آي أدنيناه حتى كلمناه ( نجيا ) أي مناجيا – والمناجاة ضد المناداة – وفي الآية الكريمة إثبات الكلام لله تعالى وأنه ينادي ويناجي وهما نوعان من الكلام – فالمناداة بصوت مرتفع والمناجاة بصوت غير مرتفع .
وقوله ( وإذا نادى ربك موسى ) أي واتل أو أذكر ذلك ( إذ نادى ربك موسى ) والنداء هو الدعاء ( أن ائت ) ( أن) يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية أي أذهب إلى ( القوم الظالمين ) وصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعبادهم بني إسرائيل وذبح أبنائهم ، وفي الآية الكريمة إثبات الكلام لله تعالى وأنه ينادي من شاء من عباده ويسمعه كلامه . وقوله ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) أي نادى الله تعالى آدم وحواء عليهما السلام قائلا لهما ( ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) أي عن الأكل منها – وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ حيث لم يحذرا ما حذرهما منه . وفي الآية الكريمة – إثبات الكلام لله تعالى والنداء منه لآدم وزوجه . وقوله تعالى
( ويوم يناديهم ) أي ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين يوم القيامة ( فيقول ) لهم
( ماذا أجبتم المرسلين ) أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبين لما بلغوكم رسالاتي والشاهد من الآية إثبات الكلام لله – وأنه ينادي يوم القيامة وقوله تعالى ( وإن أحد من المشركين ) الذين أمرت بقتالهم ( استجارك ) يا محمد أي طلب جوارك وحمايتك وأمانك ( فأجره ) أي كن له جارا ومؤمنا ( حتى يسمع كلام الله ) منك ويتدبره ويقف على حقيقة ما تدعو إليه .
والشاهد من الآية أن فيها إثبات الكلام لله تعالى . وأن الذي يتلى هو كلام الله وقوله ( وقد كان فريق منهم ) أي اليهود والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه ( يسمعون كلام الله ) أي التوراة ( ثم يحرفونه ) أي يتأولونه على غير تأويله ( من بعد ما عقلوه ) أي فهموه ومع هذا يخالفونه على بصيرة ( وهم يعلمون ) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله – والشاهد من الآية الكريمة أن فيها إثبات الكلام لله تعالى ، وأن التوراة من كلامه تعالى . وأن اليهود حرفوها وغيروا فيها وبدلوا .
وقوله تعالى ( يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ) ( يريدون ) أي المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم وتركوا المسير مع رسول الله - r- حين خرج عام الحديبية ( أن يبدلوا كلام الله ) أي يغيروا كلام الله الذي وعد الله به أهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر ( قل لن تتبعونا ) هذا نفي في معنى النهي أي لا تتبعونا ( كذلكم قال الله من قبل ) أي وعد الله أهل الحديبية أن غنيمة خيبر لهم خاصة .
والشاهد من الآية الكريمة أن فيها إثبات الكلام لله وإثبات القول له وإن الله سبحانه يتكلم ويقول متى شاء وأنه لا يجوز تبديل كلامه سبحانه بل يجب العمل به وإتباعه وقوله ( واتل ما أوحى إليك ) أمر الله نبيه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحي إليه والوحي هو الإعلام بسرعة وخفاء وله كيفيات مذكورة في كتب أصول التفسير ( من كتاب ربك ) بيان للذي أوحى إليه ( لا مبدل لكلماته ) أي لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل – والشاهد من الآية إثبات الكلمات لله تعالى . قوله ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ) وهم حملة التوراة والإنجيل ( أكثر الذي هم فيه يختلفون ) كاختلافهم في عيسى فاليهود افتروا في حقه والنصارى غلوا فيه . فجاء القرآن بالقول الوسط الحق أنه عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . والشاهد من الآية الكريمة أن فيها إثبات أن القرآن كلام الله تعالى لما تضمنه من الإحاطة بالكتب السابقة والحكم في الخلاف بين طوائف أهل الكتاب بالقسط وهذا لا يكون إلا من عند الله .
ويستفاد من مجموع الآيات التي ساقها المؤلف إثبات الكلام لله ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله موصوف بالكلام وكلامه سبحانه من صفاته الذاتية لقيامه به واتصافه به . ومن صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته وقدرته فيتكلم إذا شاء كيف شاء بما يشاء ولم يزل متكلما ولا يزال متكلما لأنه لم يزل ولا يزال كاملا والكلام من صفات الكمال . ولأن الله وصف به نفسه ووصفه به رسوله . وسيأتي ذكر مذهب المخالفين في هذه المسألة مع الرد عليهم إن شاء الله .
22- إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى
وقوله ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك) (113) ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله )(114) ( وإذا بدلنا آية مكان أية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )(115)
الشــــرح
لما أورد المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على إثبات الكلام لله تعالى وأن القرآن العظيم من كلامه سبحانه شرع في سياق الآيات الدالة على أن القرآن منزل من عند الله فقوله تعالى ( وهذا ) الإشارة إلى القرآن الكريم واسم الإشارة مبتدأ خبرة ( كتاب ) و ( أنزلناه مبارك ) صفتان لكتاب وقدم صفة الإنزال لأن الكفار ينكرونها – والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية – وقوله تعالى ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله ) هذا إخبار عن عظمة القرآن وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب – فإنه لو أنزل على جبل مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع مع خوف الله حذرا مع عقابه فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع . وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه – وقوله تعالى ( وإذا بدلنا أية مكان أية ) هذا شروع منه سبحانه في ذكر شبة كفرية حول مكانه وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهو نسخها بأية سواها ( قالوا ) أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ ( إنما أنت ) يا محمد ( مفتر ) أي كاذب مختلق متقول على الله حيث تزعم أنه أمرك بشئ ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله عليهم بما يفيد جهلهم فقال ( بل أكثرهم لا يعلمون ) شيئا من العلم أصلاً أولا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه فقد يكون في شرع هذا الشئ مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعملوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف . ثم رد عليهم في زعمهم أن هذا التبديل من عند محمد وأنه بذلك مفتر على الله – فقال سبحانه ( قل نزله ) أي القرآن ( روح القدس ) أي جبريل والقدس الطهر – والمعنى نزله الروح المطهر – فهو من إضافة الموصوف إلى صفته ( من ربك ) أي ابتداء تنزيله من عند الله سبحانه ( بالحق ) في محل نصب على الحال – أي متصفاً بكونه حقاً . ( ليثبت الذين آمنوا ) على الإيمان فيقولون كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا . ولأنهم إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتوا على الإيمان ( وهدى وبشرى للمسلمين ) معطوفان على محل ليثبت – ( أي تثبيتاً لهم وهداية وبشرى ) .
ثم ذكر سبحانه شبهة آخري من شبههم فقال ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ) أي ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون إنما يعلم محمدا القرآن بشر من بني آدم وليس ملكا من الملائكة – وهذا البشر الذي يعلمه كان قد درس التوراة والإنجيل والكتب الأعجمية – لأن محمداً رجل أمي لا يمكن أن يأتي بما ذكر في القرآن من أخبار القرون الأولى .
فرد الله عليهم بقوله ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ) أي لسان الذي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك يا محمد أعجمي – أي غير عربي – فهو لا يتكلم العربية ( وهذا لسان عربي مبين ) أي وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح فكيف تزعمون أن بشراً يعلمه النبي - r - من العجم وقد عجزتم أنتم عن معارضته أو معارضة سورة أو سور منه وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة .
ما يستفاد من الآيات يستفاد من هذه الآيات الكريمة إثبات أن القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه كلامه جل وعلا لا كلام غيره من الملائكة أو البشر – والرد على من زعم أنه كلام مخلوق – وفي الآيات أيضاً إثبات العلو لله سبحانه – لأن الإنزال لا يكون إلا من أعلى . والله أعلم .
23- إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وقوله ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )(116)(على الأرائك ينظرون )(117)( وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة )(118)( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد )(119) وهذا الباب في كتاب الله كثير . ومن تدبر القرآن طالبا للهدى تبين له طريق الحق .
الشــرح
قوله تعالى ( وجوه ) أي وجوه المؤمنين ( يومئذ) أي يوم القيامة ( ناضرة ) بالضاد من النضارة وهي البهاء والحسن . أي ناعمة غضة حسنة مضيئة مشرقة ( إلى ربها ) أي خالقها ( ناظرة ) أي تنظر إليه بأبصارها كما تواترت به الأحاديث الصحيحة وأجمع عليه الصحابة التابعون وسلف الأمة واتفق عليه أئمة الإسلام – فالشاهد من ا لآية الكريمة إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة – وقوله ( على الأرائك ) جمع أريكة وهي السرر ( ينظرون ) إلى الله عز وجل – وأما الكفار فقد تقدم في الآيات التي قبل هذه الآية أنهم ( عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) والشاهد من الآية إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل . وقوله تعالى ( للذين أحسنوا ) بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي ( الحسنى ) أي المثوبة الحسنى . وقيل الجنة – ( وزيادة ) هي النظر إلى وجه الله الكريم كما ثبت تفسيرها بذلك عن رسول الله - r- في صحيح مسلم وغيره وكما فسرها بذلك سلف هذه الأمة وعلى ذلك يكون الشاهد من الآية الكريمة إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ، وقوله تعالى ( لهم ما يشاءون فيها ) أي للمؤمنين في الجنة ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم من فنون النعيم وأنواع الخير ( ولدينا مزيد ) أي زيادة على ذلك وهو النظر إلى وجه الله الكريم – وهذا هو الشاهد من الآية الكريمة وهو إثبات إلى وجه الله الكريم في الجنة .
ما يستفاد من الآيات الكريمة – يستفاد منها إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة – وأنها أعظم النعيم الذي ينالونه . وهذا هو قول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين – خلافا للرافضة الجهمية والمعتزلة الذين ينفون الرؤية ويخالفون بذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الآمة وأئمتها . ويعتمدون على شبه واهية وتعليلات باطلة منها
1) قولهم إن إثبات يلزم منه إثبات أن الله في جهة ولو كان في جهة لكان جسما – والله منزه عن ذلك – والجواب عن هذه الشبهة أن نقول لفظ الجهة فيه إجمال . فإن أريد بالجهة أنه حال في شئ من مخلوقاته فهذا باطل والأدلة ترده وهذا لا يلزم من إثبات الرؤية – وإن أريد بالجهة أنه سبحانه فوق مخلوقاته فهذا ثابت لله سبحانه ونفيه باطل وهو لا يتنافى مع رؤيته سبحانه .
2) استدلوا بقوله تعالى لموسى ( لن تراني ) والجواب عن هذا الاستدلال أن الآية الكريمة واردة في نفي الرؤية في الدنيا ولا تنفي ثبوتها في الآخرة كما ثبت في الأدلة الأخرى . وحالة الناس في الآخرة تختلف عن حالتهم في الدنيا .
3) استدلوا بقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) والجواب عن هذا الاستدلال أن الآية إنما فيها نفي الإدراك وليس فيها الرؤية . والإدراك معناه الإحاطة فالله سبحانه وتعالى يراه المؤمنون ولا يحيطون به – بل نفى الإدراك يلزم منه وجود الرؤية فالآية من أدلة إثبات الرؤية والله تعالى أعلم .
وقول المؤلف رحمه الله ( وهذا الباب في كتاب الله كثير ) أي باب إثبات أسماء الله وصفاته في القرآن كثير وإنما ذكر المؤلف بعضه – فقد ورد في آيات كثيرة من كتاب الله إثبات أسماء الله وصفاته على ما يليق به ( ومن تدبر القرآن ) أي تفكر فيه وتأمل ما يدل عليه من الهدى ( تبين له طريق الحق ) أي اتضح له سبيل الصواب وتدبر القرآن هو المطلوب من تلاوته قال تعالى ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب )(120) وقال تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )(121) وقال تعالى ( أفلم يدبروا القول ) (122) .
الاستدلال على إثبات أسماء الله وصفاته من السنة
فصل
ثم في سنة رسول الله - r- فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
الشــــرح
قوله ( ثم في سنة رسول الله - r - ) هذا عطف على قوله فيما سبق ( وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص ..... الخ ) أي ودخل فيها ما وصف به الرسول - r - فيما وردت به السنة الصحيحة . لأن السنة هي الأصل الثاني الذي يجب الرجوع إليه بعد كتاب الله عز وجل قال الله تعالى ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ) الآية (59) من سورة النساء – والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه والرد إلى رسول الله - r- بعد وفاته هو الرجوع إلى سنته والسنة لغة الطريقة واصطلاحاً هي ما ورد عن رسول الله -r- من قول أو فعل أو تقرير .
مكــــــانه الســــنة
قال ( فالسنة تفسير القرآن ) أي تبين معانيه ومقاصده – فإن النبي -r- يبين للناس ما أنزل إليه قال الله تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )(الآية (44) من سورة النحل .
والسنة أيضا ( تبين القرآن ) أي توضح مجملة كالصلاة والصوم والحج والزكاة وغالب الأحكام التي تأتي مجملة في القرآن وتبينها السنة النبوية .
والسنة أيضا ( تدل على القرآن وتعبر عنه ) أي تدل على ما دل عليه القرآن وتعبر عما عبر عنه القرآن – فتكون موافقة للقرآن فيكون الحكم مما دل عليه الكتاب والسنة كأسماء الله وصفاته .
وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول الإيمان بها كذلك .
الشـــرح
قوله ( وما وصف الخ ) مبتدأ خبره قوله ( وجب الإيمان بها كذلك ) أي كما يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه في القرآن الكريم . لأن النبي - r - كما وصفه ربه عز وجل بقوله ( وما ينطلق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) (123) فالسنة التي نطق بها رسول - r- وحي من الله كما قال تعالى ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة )(124) فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة . فيجب الإيمان بما ورد في السنة لاسيما في باب الاعتقاد قال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(125) لكن لا بد في قبول الحديث والإيمان به من ثبوته عن النبي -r- ولهذا قال الشيخ رحمه الله ( من الأحاديث الصحاح ) والصحاح جمع صحيح – والحديث الصحيح هو ما نقله راو عدل تام الضبط عن مثله من غير شذوذ ولا علة – فهو ما اجتمع فيه خمسة شروط .
1) عدالة الرواة .
2) ضبطهم .
3) اتصال السند .
4) سلامته من العلة .
5) سلامته من الشذوذ .
وقوله ( تلقاها أهل المعرفة ) أي قبلها وأخذ بها أهل العلم بالحديث فلا عبرة بغيرهم ثم ذكر الشيخ أمثلة مما ورد في السنة من صفات الله عز وجل فقال
1-ثبوت النزول الإلهي إلى سماء الدنيا على ما يليق بجلال الله
فمن ذلك مثل قوله -r- ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له . من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ) متفق عليه
الشــــرح
قوله ( ينزل ربنا ) أي نزولا يليق بجلاله نؤمن به ولا نشبهه بنزول المخلوق لأنه سبحانه ( ليس كمثله شئ ) ( إلى سماء الدنيا ) أي السماء الدنيا من إضافة الموصوف إلى صفته ( حين يبقى ثلث الليل الآخر ) برفع الآخر صفة لثلث وفي هذا تعيين لوقت النزول الإلهي قوله ( فأستجيب له ) بالنصب على جواب الاستفهام وكذا قوله ( فأعطيه ) و ( أغفر له ) وقوله ( فأستجيب له ) أي أجيب دعوته والشاهد من الحديث أن فيه ثبوت النزول الإلهي – وهو من صفات الأفعال وفي الحديث أيضاً إثبات العلو لله تعالى . فإن النزول يكون من العلو وفيه الرد على من أول الحديث بأن معناه نزول رحمته أو أمره . لأن الأصل الحقيقة وعدم الحذف . ولأنه قال ( من يدعوني فأستجيب له فهل يعقل أن تقول رحمته أو أمره هذا المقال . وفي الحديث إثبات الكلام لله تعالى حيث جاء فيه ( فيقول الخ ) وفيه إثبات الإعطاء والإجابة والمغفرة لله سبحانه وهي صفات أفعال وقوله ( متفق عليه ) أي بين البخاري ومسلم .
2- إثبات أن الله يفرح ويضحك
وقوله -r- ( لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته ) الحديث متفق عليه وقوله - r- ( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ) متفق عليه
الشـــرح
(لله) اللام لام الابتداء ( أشد فرحا ) منصوب على التمييز والفرح في اللغة السرور ولذة القلب ( بتوبة عبده ) التوبة هي الإقلاع عن الذنب والرجوع إلى الطاعة ( براحلته ) الراحلة الناقة التي تصلح أن ترحل ( الحديث ) منصوب بفعل مقدر أي أقرأ بقية الحديث لأن المصنف اقتصر على الشاهد منه – وهو إثبات الفرح لله سبحانه على ما يليق بجلاله وهو صفة كمال لا يشبهه فرح أحد من خلقه بل هو كسائر صفاته . وهو فرح إحسان وبر ولطف لا فرح محتاج إلى توبة عبده ينتفع بها فإنه سبحانه لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي .
وقوله -r- ( يضحك الله إلى رجلين – الخ ) قد بين النبي - r- في آخر الحديث سبب ذلك في قوله ( يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد ) وهذا من كمال إحسان الله سبحانه وسعة رحمته فإن المسلم يقاتل في سبيل الله فيقتله الكافر فيكرم الله المسلم بالشهادة ثم يمن الله على ذلك الكافر القاتل فيهديه للإسلام فيدخلان الجنة جميعا – فهذا أمر عجيب والضحك يكون من الأمور المعجبة التي تخرج عن نظائرها – والشاهد من الحديث إثبات الضحك لله سبحانه وهو صفة من صفاته الفعلية التي نثبتها له على ما يليق بجلاله وعظمته ليس كضحك المخلوق .
3- إثبات أن الله يعجب ويضحك
وقوله ( عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب ) حديث حسن (126)
الشــرح
( عجب ربنا ) قال في المصباح التعجب يستعمل على وجهين أحدهما ما يحمده الفاعل ومعناه الاستحسان والإخبار عن رضاه به والثاني ما يكرهه ومعناه الإنكار والذم له ( من قنوط عباده ) القنوط شدة اليأس من الشئ – والمراد هنا اليأس من نزول المطر وزوال القحط ( وقرب غيره ) غيره بكسر الغين وفتح الياء أي تغييره الحال من شدة إلى رخاء ( ينظر إليكم أزلين ) الأزل بسكون الزاي الضيق . وقد أزل الرجل بأزل أزلا صار في ضيق وجدب . ( فيظل يضحك ) هذا من صفاته الفعلية التي لا يشبهه فيها شئ من مخلوقاته ففي الحديث إثبات صفتين من صفات الله الفعلية هما العجب والضحك وهما صفتان تليقان بجلاله ليستا كعجب المخلوق وضحك المخلوق وفي الحديث أيضاً إثبات النظر لله سبحانه وهو من صفاته الفعلية أيضاً فإنه ينظر إلى عباده ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء .
4- إثبات الرجل والقدم لله سبحانه
وقوله - r- ( لا تزال جهنم يلقي فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها رجله – وفي رواية عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط ) متفق عليه .
الشــــرح
قوله ( لا تزال جهنم ) جهنم اسم من أسماء النار قيل سميت بذلك لعبد قعرها – وقيل لظلمتها – من الجهومة وهي الظلمة ( يلقى فيها ) أي يطرح فيها أهلها ( وهي تقول هل من مزيد) أي تطلب الزيادة لسعتها وقد وعدها الله أن يملأها ( حتى يضع رب العزة فيها رجله ) لما كانت النار في غابة الكبر والسعة وقد وعدها الله ملئها وكان مقتضى رحمته سبحانه أن لا يعذب أحداً بغير جرم حقق وعده ووضع عليها رجله ( فينزوي بعضها إلى بعض ) أي ينضم بعضها إلى بعض ويتلاقى طرفاها ولا يبقى فيها فضل عن أهلها ( فتقول قط قط ) أي حسبي ويكفيني . والشاهد من الحديث أن فيه إثبات الرجل والقدم لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه وهو من صفات الذات كالوجه واليد – والله تعالى أعلم . وقد غلط تفسير هذا الحديث المعطلة حيث قالوا ( قدمه ) نوع من الخلق وقالوا ( رجله ) جماعة من الناس كما يقال رجل جراد – والرد على هذا أن يقال إن النبي - r- قال حتى ( يضع ) ولم يقال حتى يلقي كما قال في أول الحديث ( يلقي فيها ) وأيضاً القدم لا يصح تفسيره بالقوم لا حقيقة ولا مجازاً .
5- إثبات النداء والصوت والكلام لله تعالى
وقوله ( يقول الله تعالى يا أدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ) متفق عليه . وقوله( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان ) ( 127)
الشـــرح
قوله ( لبيك وسعديك ) لبيك أي أنا مقيم على طاعتك من ألب بالمكان إذا أقام وهو منصوب على المصدر . وثني للتأكيد وسعديك من المساعدة وهي المطاوعة أي المساعدة في طاعتك بعد مساعدة . قوله ( فينادي ) بكسر الدال والمنادي هو الله تعالى ( بصوت ) تأكيد لقوله ( ينادي ) لأن النداء لا يكون إلا بصوت وهذا كقوله تعالى ( وكلم الله موسى تكليما ) قوله ( بعثا إلى النار ) البعث هنا بمعنى المبعوث الموجه إليها – ومعنى ذلك ميز أهل النار من غيرهم.
والشاهد من الحديث أن فيه إثبات القول من الله والنداء بصوت يسمع وأن ذلك سيحصل يوم القيامة ففيه أن الله يقول وينادي متى شاء وكما يشاء وقوله
( ما منكم من أحد ) الخطاب للصحابة وهو عام لجميع المؤمنين ( إلا سيكلمه ربه ) أي بلا واسطة ( ليس بينه وبينه ترجمان ) الترجمان من يعبر بلغة عن لغة – أي ينقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى .
والشاهد من الحديث أن فيه إثبات تكليم الله سبحانه لعباده . وأنه سبحانه يتكلم إذا شاء . فكلامه من صفاته الفعلية . وأنه يكلم كل مؤمن يوم القيامة .
6- إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه
وقوله في رقية المريض ( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره .
وقوله ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) حديث صحيح (128) وقوله ( والعرش فوق ذلك والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره . وقوله للجارية ( أين الله . قالت في السماء . قال من أنا قالت أنت رسول الله . قال أعتقها فإنها مؤمنة ) رواه مسلم .
الشرح
( في رقية المريض ) أي القراءة على المريض طلبا لشفائه وهي مشروعة إذا كانت بالقرآن والأدعية المباحة – وممنوعة إذا كانت بألفاظ شركية أو أعمال شركية ( ربنا الله الذي في السماء ) أي على السماء (129) – ففي هنا – بمعنى على كقوله تعالى ( فسيحوا في الأرض ) الآية (2 سورة التوبة ) أي على الأرض ويجوز أن تكون – في – للظرفية على بابها ويكون المراد بالسماء مطلق العلو ( تقدس اسمك ) أي تقدست أسماؤك عن كل نقص فهو مفرد مضاف فيعم جميع أسماء الله . ( أمرك في السماء والأرض ) أي أمرك الكوني القدري الذي ينشأ عنه جميع المخلوقات والحوادث ومنه قوله تعالى ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ( الآية 82) من سورة يس) وأمرك الشرعي المتضمن للشرائع التي شرعها لعباده .( كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك الأرض ) هذا توسل إليه برحمته التي شملت أهل السموات كلهم أن يجعل لأهل الأرض منها نصيبا ( اغفر لنا حوبنا وخطايانا ) هذا طلب للمغفرة وهي الستر ووقاية الإثم ومنه المغفر الذي يلبس على الرأس لستره ووقايته من الضرب والحوب الإثم – والخطايا هي الذنوب ( أنت رب الطيبين ) هذا توسل آخر والطيبين جمع طيب وهم النبيون وأتباعهم – وإضافة ربوبيته لهؤلاء إضافة تشريف وتكريم وإلا فهو سبحانه رب كل شئ ومليكه ( أنزل رحمة من رحمتك ) أي الرحمة المخلوقة – فإن رحمة الله نوعان – النوع الأول رحمته التي هي صفة من صفاته كما في قوله تعالى ( ورحمتي وسعت كل شئ ) ( الآية 156) من سورة الأعراف ) – النوع الثاني رحمة تضاف إليه سبحانه من إضافة المخلوق إلى خالقه كالمذكورة في هذا الحديث – وكما في حديث ( خلق الله مائة رحمة ) الحديث (130) فطلب r من ربه إنزال هذه الرحمة على المريض لحاجته إليها ليشفيه بها – والشاهد من الحديث ان فيه إثبات العلو لله تعالى أنه في السماء والعلو صفة ذاتية كما سبق – كما أن في الحديث التوسل إلى الله تعالى بالثناء عليه بربوبيته وإلهيته وقدسيته وعلوه وعموم أمره وبرحمته ثم في الحديث طلب المغفرة من الله وشفاء المرض .
وقوله r ( ألا تأمنوني ) هذا خطاب منه r لمن اعترض عليه في بعض قسمته المال – وألا أداة استفتاح وتنبيه وتأمنوني – من الأمانة – وهي عدم المحاباة والخيانة – أي ألا تأمنوني في قسمة المال – ( وأنا أمين من في السماء ) وهو الله سبحانه قد ائتمنني على وحيه ورسالته وتبليغ شرعه وكفى بذلك شهادة على أمانته وصدقه r - والشاهد من الحديث أن فيه إثبات العلو لله سبحانه – حيث قال ( من في السماء ) وسبق شرح الجملة قريبا .
وقوله ( والعرش فوق ذلك ) تقدم تفسير العرش (131) وقوله ( فوق ذلك ) أي فوق المخلوقات التي بينها الرسول r لأصحابه في الحديث الذي ذكر فيه بعد ما بين السماء والأرض وما بين كل سماء وسماء وكثف على السماء والبحر الذي فوق السماء السابعة وما بين أسفله وأعلاه وما فوق ذلك البحر من الأوعال الثمانية العظيمة ثم فوق ذلك العرش ( والله فوق العرش ) أي مستو عليه استواء يليق بجلاله ( وهو يعلم ما أنتم عليه ) بعلمه المحيط الذي لا يخفى عليه شئ – والشاهد من الحديث إثبات علو الله على عرشه وأن عرشه فوق المخلوقات كلها وأن علم الله سبحانه محيط بأعمال العباد لا يخفى عليه منها شئ .
( وقوله للجارية ) أي أمة معاوية بن الحكم حينما غضب عليها سيدها معاوية فلطمها ثم ندم وأخبر رسول الله r وقال أفلا أعتقها فقال النبي r بلى جئني بها فأتى بها رسول الله r فقال لها ( أين الله ) فيه دليل على جواز السؤال عن الله بأين – ( قالت في السماء ) أي الله سبحانه في السماء . وتقدم تفسير هذه الكلمة (132) – ( قال ) لها النبي r أيضاً ( من أنا ) سألها عن اعتقادها فيه ( قالت أنت رسول الله ) فأقرت له بالرسالة ( قال) r لسيدها ( أعتقها فإنها مؤمنه ) فيه دليل على إن من شهد هذه الشهادة أنه مؤمن وأن العتق يشترط له الإيمان . والشاهد من الحديث أن فيه دليلا على علو الله على خلقه فوق سماواته وأنه يشار إليه في جهة العلو إشارة حسية .
7- إثبات معية الله تعالى لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشه
وقوله ( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك أينما كنت ) حديث حسن أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت – وقوله ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهة فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) متفق عليه . وقوله اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شئ فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت أخذ بناصيتها . أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ . اقض عني الدين وأغنني من الفقر ) رواه مسلم – وقوله لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر ( أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً – إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه .
الشرح
قوله ( أفضل الإيمان ) أي من أفضل خصاله وفي هذا دليل على أن الإيمان يتفاضل
( أن تعلم أن الله معك ) أي بعلمه واطلاعه ( حيثما كنت ) أي في أي مكان وجدت – فمن علم ذلك استوت علانيته وسريرته فهابه في كل مكان ( أخرجه الطبراني ) أبو القاسم سليمان اللخمي أحد الحفاظ المكثرين . وقد روى هذا الحديث في المعجم الكبير. وفي الحديث دليل على إثبات معية الله لخلقه بعلمه وإحاطته بأعمالهم وأنه يجب على العبد أن يتذكر ذلك دائما فيحسن عمله . وقوله ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة ) أي إذا شرع فيها ( فلا يبصق ) أي لا يتفل ( قبل وجهه ) أي أمامه ( قبل ) بكسر القاف وفتح الباء ( فإن الله قبل وجهه ) هذا تعليل للنهي عن البصاق في قبلة المصلى بأن الله سبحانه(قبل وجهه) أي مواجهة وهذه المواجهة كما يليق بالله سبحانه لا يلزم منها أنه سبحانه مختلط بخلقه بل هو فوق سمواته مستو على عرشه وهو قريب من خلقه محيط بهم . ( ولا عن يمينه ) أي ولا يبصق المصلي عن يمينه تشريفا لليمين ولأن الملكين عن يمينه كما في رواية للبخاري ( ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) أي ولكن ليبصق المصلى في جهة يساره أو يبصق تحت قدمه – والشاهد من الحديث أن فيه أثبات قرب الله سبحانه من عبده المصلي وإقباله عليه وهو سبحانه فوقه – وقوله r ( اللهم رب السموات السبع ) اللهم أصله يا الله – فالميم عوض عن ياء النداء – رب السموات السبع ) أي خالقها ومالكها – ( ورب العرش العظيم ) أي الكبير الذي لا يقدر قدره إلا الله فهو أعظم المخلوقات – وتقدم تفسير العرش ( ربنا ورب كل شئ ) أي خالقنا ورازقنا وخالق كل شئ ومالكه ففيه إثبات ربوبيته لكل شئ ( فالق الحب والنوى ) أي شاق حب الطعام ونوى التمر للإنبات
( منزل التوراة ) على موسى ( والإنجيل ) على عيسى ( والقرآن ) على محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام وفي ذلك دليل على فضل هذه الكتب وأنها منزلة من الله تعالى ( أعوذ ) أي التجئ واعتصم (بك) يا الله ( من شر كل دابة ) أي كل ما دب على وجه الأرض ( أنت أخذ بناصيتها ) الناصية مقدم الرأس – أي هي تحت قهرك وسلطانك تصرفها كيف تشاء- لتصرف شرها عني ( أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ ) هذه الأسماء الأربعة أسمان لأزليته وهما ( الأول والأخر ) واسمان لعلوه وقربه وهما ( الظاهر والباطن ) وهما محل الشاهد من الحديث لأن فيهما إثبات علو الله وقربه – وأنهما لا يتنافيان ولا يتناقصون فهو قريب في علوه علي في دنوه .
( اقض عني الدين ) أي أد عني حقوق الله وحقوق الخلق وفي هذا التبري من الحول والقوة
( وأغننى من الفقر ) الفقر الحاجة والفقير هو من لا يجد شيئا أو يجد بعض الكفاية – وفي الحديث أيضاً مشروعية التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائها وصفاته في قضاء الحاجة وإجابة الدعاء .
( وقوله r لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر وذلك في غزوة خيبر كما جاء في بعض طرق الحديث وأن الذكر الذي رفعوا به أصواتهم هو التكبير الله اكبر لا إله إلا الله – وقوله ( أربعوا) أي أرفقوا ( فإنكم ) تعليل للأمر بالرفق ( لا تدعون أصم ولا غائباً ) لا يسمع دعاءكم ولا يراكم فنفى الآفة المانعة من السمع والآفة المانعة من النظر وأثبت ضدهما فقال ( إنما تدعون سميعا بصيراً قريباً ) فلا داعي لرفع الصوت ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) فهو قريب ممن دعاه وذكره فلا حاجة لرفع الأصوات وهو قريب يسمعها إذا خفضت كما يسمعها إذا رفعت . والشاهد من الحديث أن فيه إثبات قرب الله سبحانه من داعيه يسمع الأصوات الخفية كما يسمع الأصوات الجهرية. فأفادت هذه الأحاديث جميعاً إثبات معية الله لخلقه وقربه منهم وسماعه لأصواتهم ورؤيته لحركاتهم – وذلك لا ينافي علوه واستواءه على عرشه وقد تقدم الكلام على المعية وأنواعها وشواهدها من القرآن الكريم مع تفسير تلك الشواهد. والله أعلم .
8- إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وقوله ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ) متفق عليه .
الشرح
قوله ( إنكم سترون ربكم ) الخطاب للمؤمنين . والسين للتنفيس ويراد بها التأكيد وقوله
( ترون ربكم ) أي تعاينونه بأبصاركم – والأحاديث الواردة بإثبات رؤية المؤمنين لربهم متواترة – قوله ( كما ترون القمر ليلة البدر ) أي ليلة كماله وهي الليلة الرابعة عشرة من الشهر – فإنه في تلك الليلة يكون قد امتلأ نورا – والمراد من هذا التشبيه تحقيق الرؤية وتأكيدها ونفي المجاز عنها – وهو تشبيه للرؤية بالرؤية لا تشبيه للمرئي بالمرئي لأنه سبحانه ( ليس كمثله شئ ). وقوله ( لا تضامون في رؤيته ) بضم التاء وتخفيف الميم أي لا يلحقكم ضيم أي ظلم بحيث يراه بعضكم دون بعض – وروى بفتح التاء وتشديد الميم – من التضام أي لا ينضم بعضكم إلى بعض لأجل رؤيته – والمعنى على هذه الرواية لا تجتمعون في مكان واحد لرؤيته فيحصل بينكم الزحام – والمعنى على الروايتين أنكم ترونه رؤية محققة كل منكم يراه وهو في مكانه – وقوله ( فإن استطعتم أن لا تغلبوا ) أي لا تصيروا مغلوبين ( على صلاة قبل طلوع الشمس ) وهي صلاة الفجر ( وصلاة قبل غروبها ) وهي صلاة العصر
( فافعلوا ) أي حافظوا على هاتين الصلاتين في الجماعة في أوقاتها وخص هاتين الصلاتين لاجتماع الملائكة فيهما فهما أفضل الصلوات فناسب أن يجازي من حافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى وجه الله تعالى . والشاهد من الحديث أن فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم عيانا يوم القيامة – وقد تقدم ذكر من خالف في ذلك مع الرد عليه – عند الكلام على تفسير الآيات التي فيها إثبات الرؤية والله أعلم .
موقف أهل السنة من هذه الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله r عن ربه بما تخبر به فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل . ومن غير تكييف ولا تمثيل .
الشرح
هذا بيان لموقف أهل السنة والجماعة من أحاديث الصفات الواردة عن الرسول الله r . أنه كموقفهم من آيات الصفات الواردة في القرآن سواء – وهو الإيمان بها واعتقاد ما دلت عليه على حقيقته. لا يصرفونها عن ظاهرها بأنواع التأويل الباطل. ولا ينفون ما دلت عليه فيعطلونها . ولا يشبهون الصفات المذكورة فيها بصفات المخلوقين لأن الله ( ليس كمثله شئ ) وهم بذلك يخالفون طريقة المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين كان موقفهم من هذه النصوص موقف المنكر لها أو المؤول لما دلت عليه وبخلاف المشبهة الذين غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه – ( تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا) .
" مكانة أهل السنة والجماعة بين فريق الأمة "
بل هم الوسط في فرق الأمة . كما أن الأمة هي الوسط في الأمم . فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة . وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم . وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم . وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية . وفي باب أصحاب رسول الله r بين الرافضة والخوارج .
الشرح
لما بين الشيخ رحمه الله موقف أهل السنة والجماعة من النصوص الواردة في الكتاب والسنة في صفات الله تعالى أراد أن يبين مكانتهم بين فرق الأمة حتى يعرف قدرهم وفضلهم بمقارنتهم بغيرهم. فإن الضد يظهر حسنه الضد . وبضدها تتبين الأشياء قال رحمه الله ( بل هم الوسط في فرق الأئمة ) قال في المصباح المنير. الوسط بالتحريك المعتدل والمراد بالوسط هنا العدل الخيار قال تعالى في الآية ( 143) من سورة البقرة ( وكذلك جعلناهم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) فأهل السنة وسط بمعنى أنهم عدول خيار. وبمعنى أنهم متوسطون بين فريقي الإفراط والتفريط فهم وسط بين الفرق المنتسبة للإسلام كما أن الأمة الإسلامية وسط بين الأمم. فهذه الأمة وسط بين الأمم التي تميل إلى الغلو والإفراط والأمم التي تميل إلى التفريط والتساهل. وأهل السنة والجماعة من هذه الأمة وسط بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفت عن الصراط المستقيم فغلا بعضها وتطرف . وتساهل بعضها وانحرف . ثم بين الشيخ رحمة الله تفصيل ذلك فقال (فهم ) أي أهل السنة والجماعة أولا ( وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة ) فالجهمية ( نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي ) هؤلاء غلوا وأفرطوا في التنزيه حتى نفوا أسماء الله وصفاته حذرا من التشبيه بزعمهم وبذلك سموا معطلة . لأنهم عطلوا الله من أسمائه وصفاته ( وأهل التمثيل المشبهة ) سموا بذلك لأنهم غلوا وأفرطوا في إثبات الصفات حتى شبهوا الله بخلقه ومثلوا صفاته بصفاتهم ( تعالى الله عما يقولون ) وأهل السنة توسطوا بين الطرفين فأثبتوا صفات الله على الوجه اللائق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل فلم يغلوا في التنزيه ولم يغلوا في الإثبات . بل نزهوا الله بلا تعطيل وأثبتوا له الأسماء والصفات بلا تمثيل .
ثانيا وأهل السنة والجماعة ( وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية ) فالجبرية ( نسبة إلى الجبر لأنهم يقولون إن العبد مجبور على فعله ) فهم غلوا في إثبات أفعال الله حتى نفوا أفعال العباد وزعموا أنهم لا يفعلون شيئا وإنما الله هو الفاعل والعبد مجبور على فعله فحركاته وأفعاله كلها اضطرارية كحركات المرتعش – وإضافة الفعل إلى العبد مجاز ( والقدرية ) نسبة إلى القدر غلوا في إثبات أفعال العبد فقالوا ان العبد يخلق فعل نفسه بدون مشيئة الله وإرادته فأفعال العباد لا يدخل تحت مشيئة الله وإرادته فالله يقدرها ولم يردها وإنما فعلوها هم استقلالا . وأهل السنة توسطوا وقالوا للعبد اختيار ومشيئة وفعل يصدر منه . ولكنه لا يفعل شيئا بدون إرادة الله ومشيئته وتقديره قال تعالى ( والله خلقكم وما تعملون )( الآية 96) من سورة الصافات . فاثبت للعباد عملا هو من خلق الله تعالى وتقديره . وقال تعالى ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) الآية (29) من سورة التكوير فأثبت للعباد مشيئة تأتي بعد مشيئة الله تعالى وسيأتي لهذا مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى في مبحث القدر .
ثالثا وأهل السنة والجماعة وسط ( في باب وعيد الله ) والوعيد التخويف والتهديد والمراد هنا النصوص التي فيها توعُّد للعصاة بالعذاب والنكال وقوله ( بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم ) المرجئة – نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير – سموا بذلك لأنهم أخروا الأعمال عن مسمى الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق وقالوا لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة فعندهم أن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان غير معرض للوعيد فهم تساهلوا في الحكم على العاصي وأفرطوا في التساهل حتى زعموا أن المعاصي لا تنقص الإيمان ولا يحكم على مرتكب الكبيرة بالفسق – وأما الوعيدية فهم الذين قالوا بانفاذ الوعيد على العاصي وشددوا في ذلك حتى قالوا إن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب فهو مخلد في النار – وحكموا بخروجه من الإيمان في الدنيا – وأهل السنة والجماعة توسطوا بين الطرفين فقالوا إن مرتكب الكبيرة أثم ومعرض للوعيد وناقص الإيمان ويحكم عليه بالفسق
( لا كما تقول المرجئة إنه كامل الإيمان وغير معرض للوعيد ) ولكنه لا يخرج من الإيمان ولا يخلد في النار إن دخلها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ( لا كما تقوله الوعيدية بخروجه من الإيمان وتخليده في النار) فالمرجئة أخذوا بنصوص الوعد . والوعيدية اخذوا بنصوص الوعيد – وأهل السنة والجماعة جمعوا بينهما .
رابعا وأهل السنة والجماعة وسط ( في باب أسماء الإيمان والدين ) أي الحكم على الإنسان بالكفر أو الإسلام أو الفسق وفي جزاء العصاة في الدنيا والآخرة . (بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية ) الحرورية هم الخوارج سموا بذلك نسبة إلى حروري قرية بالعراق اجتمعوا فيها حين خرجوا على علي رضى الله عنه . والمعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزال مجلس الحسن البصري وانحاز إليه أتباعه بسبب خلاف وقع بينهما في حكم مرتكب الكبيرة من المسلمين فقال الحسن رحمه الله عن واصل هذا إنه قد اعتزلنا – فسموا معتزلة فمذهب الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة من المسلمين مذهب متشدد حيث حكموا عليه بالخروج من الإسلام ثم قال المعتزلة إنه ليس بمسلم ولا كافر بل هو بالمنزلة بين المنزلتين وقال الخوارج إنه كافر – واتفقوا على أنه إذا مات على تلك الحال أنه خالد مخلد في النار . وقابلتهم المرجئة والجمهية فتساهلوا في حكم مرتكب الكبيرة وأفرطوا في التساهل معه فقالوا لا يضر مع الإيمان معصية لأن الإيمان عندهم هو تصديق القلب فقط أو مع نطق اللسان على خلاف بينهم ولا تدخل فيه الأعمال فلا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية – فالمعاصي لا تنقص الإيمان ولا يستحق صاحبها النار إذا لم يستحلها – وأهل السنة والجماعة توسطوا بين الفريقين فقالوا إن العاصي لا يخرج من الإيمان لمجرد المعصية – وهو تحت المشيئة إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه في النار لكنه لا يخلد فيها كما تقول الخوارج والمعتزلة – والمعاصي تنقص الإيمان ويستحق صاحبها دخول النار إلا أن يعفو الله عنه ومرتكب الكبيرة يكون فاسقاً ناقص الإيمان – لا كما تقول المرجئة إنه كامل الإيمان والله تعالى أعلم .
خامساً أهل السنة والجماعة وسط في حق ( أصحاب رسول الله r بين الرافضة والخوارج ) الصحابي هو من لقي النبي r مؤمنا به ومات على ذلك , والرافضة اسم مأخوذ من الرفض وهو الترك – سموا بذلك لأنهم قالوا لزيد بن علي بن الحسين تبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر – فأبى وقال ومعاذ الله – فرفضوه فسموا رافضة ومذهبهم في صحابة رسول الله r أنهم غلو في علي t وأهل البيت وفضلوهم على غيرهم ونصبوا العداوة لبقية الصحابة خصوصاً الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وسبوهم ولعنوهم وربما كفروهم أو كفروا بعضهم – وقابلهم الخوارج فكفروا عليا t وكفروا معه كثيرا من الصحابة وقاتلوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم – وأهل السنة والجماعة خالفوا الجميع فوالوا جميع الصحابة ولم يغلوا في أحد منهم واعترفوا بفضل جميع الصحابة وأنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها ويأتي لهذا مزيد بيان .
وجوب الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه ومعيته
لخلقه وأنه لا تنافي بينهما
فصل
قال رحمه الله
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه علي على خلقه ، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون . كما جمع بين ذلك في قوله ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعلمون بصير )(133) وليس معنى قوله ( وهو معكم أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة . وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة . وخلاف ما فطر الله عليه الخلق بل القمر أية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان ، وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته .
الشــرح
خصص المصنف رحمه الله هاتين المسألتين ( الاستواء على العرش ومعيته للخلق ) بالتنبيه ليزيل الإشكال فقد يتوهم وجود التنافي بينهما فقد يظن الظان أن ذلك مثل صفات المخلوقين وأنه مختلط بهم فكيف يكون فوق خلقه مستويا على عرشه ويكون مع خلقه قريباً منهم بدون مخالطة والجواب عن هذه الشبهة – كما وضحه الشيخ رحمه الله – من وجوه
الوجه الأول أن هذا لا توجبه لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم – فإن كلمة ( مع ) في اللغة المصاحبة لا تفيد اختلاطاً وامتزاجاً ولا مجاورة ولا مماسة – فإنك تقول زوجتي معي وأنت في مكان وهي في مكان آخر – وتقول مازلنا نسير والقمر معنا – وهو في السماء ويكون مع المسافر وغير المسافر أينما كان – وإذا صح أن يقال هذا في حق القمر وهو مخلوق صغير- فكيف لا يقال في حق الخالق الذي هو أعظم من كل شئ .
الوجه الثاني أن هذا القول خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ( وهم القرون المفضلة ) الذين هم القدوة فقد أجمعوا على أن الله مستمر على عرشه عال على خلقه بائن منهم وأجمعوا على أنه مع خلقه بعلمه سبحانه وتعالى كما فسروا قوله تعالى ( وهو معكم ) بذلك ,
الوجه الثالث أن هذا خلاف ما فطر الله عليه الخلق أي ركزه في فطرهم – فإن الخلق فطروا على الإقرار بعلو الله سبحانه على خلقه فإن الخلق يتجهون إلى الله عند الشدائد والنوازل نحو العلو لا تلتفت يمنة لا يسرة يرشدهم إلى ذلك أحد وإنما ذلك بموجب الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
الوجه الرابع أن هذا خلاف ما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله من أنه سبحانه وتعالى على عرشه علي على خلقه وهو معهم أينما كانوا ( والمتواتر من النصوص هو ما رواه جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء ) والآيات والأحاديث في هذا كثيرة منها الآية التي ذكرها المصنف رحمه الله والله أعلم وقول المصنف رحمه الله ( وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم ) تقرير وتأكيد لما سبق من ذكر علوه على عرشه وكونه مع خلقه بذكر اسمين من أسمائه سبحانه وهما ( الرقيب والمهيمن ) قال الله تعالى ( إن الله كان عليكم رقيبا) (134) والرقيب هو المراقب لأحوال عباده وفي ذلك دلالة على قربه منهم – وقال تعالى ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن )(135) والمهيمن هو الشاهد على خلقه المطلع على أعمالهم الرقيب عليهم ( إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ) أي أن مقتضى ربوبيته سبحانه أن يكون فوق خلقه بذاته ويطلع على أعمالهم ويكون قريباً منهم بعلمه وإحاطته يصرف شئونهم ويحصى أعمالهم ويجازيهم عليها .
ما يجب اعتقاده في علوه ومعيته سبحانه ومعنى كونه سبحانه ( في السماء ) وأدلة ذلك
وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان فإن الله قد ( وسع كرسيه السموات والأرض ) (136) وهو الذي ( يمسك السموات والأرض أن تزولا)(137) (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه )(138) ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره )(139)
الشرح
يبين الشيخ رحمه الله ما يجب اعتقاده بالنسبة لما أخبر الله به عن نفسه من كونه فوق العرش وهو معنا – أنه يجب الإيمان به كما أخبر الله ولا يجوز تأويله وصرفه عن ظاهره كما يفعله المعطلة من الجهمية والمعتزلة وأشباههم فيزعمون أن ذلك ليس حقيقة وإنما هو مجاز فيئولون الاستواء على العرش بالاستيلاء على الملك وعلو الله على خلقه بعلو قدره وقهره ونحو ذلك من التأويلات الباطلة التي هي تحريف لكلام الله عن مواضعه . ومنهم من يقول إن معنى كونه معنا أنه حال في كل مكان كما تقوله حلولية الجمهية وغيرهم تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا . وقوله ( ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تقله أو تظله ) تقله أي تحمله وتظله أي تستره والظلة الشئ الذي يظلك من فوقك – وليس هذان المعنيان مرادين في كونه سبحانه في السماء . ومن ظن ذلك فقد أخطأ غاية الخطأ وذلك لأمرين
الأمر الأول أن هذا خلاف ما أجمع عليه أهل العلم والإيمان فقد أجمعوا على أنه سبحانه فوق عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شئ من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شئ من ذاته وقد تقدم الكلام في تفسير قوله تعالى (( أأمنتم في السماء )) وأنه إن أريد بالسماء السماء المبنية ( ففي ) بمعنى ( على ) أي على السماء كقوله ( لأصلبنكم في جذوع النخل ) أي على جذوع النخل – وإن أريد بالسماء العلو كان المعنى ( في السماء ) أي في العلو والله أعلم .
الأمر الثاني أن هذا الظن مخالف ومصادم لأدلة القرآن الدالة على عظمة الله وغناه عن خلقه وحاجة خلقه إليه كما في قوله تعالى ( وسع كرسيه السموات والأرض ) والكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش وهو أعظم من السموات والأرض والعرش أعظم منه – فإذا كانت السموات والأرض أصغر من الكرسي والكرسي أصغر من العرش – والله أعظم من كل شئ فكيف تحويه السماء أو تقله أو تظله .
وكذلك قوله تعالى ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) ( ويسمك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه )( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) فهذه الآيات تدل على أن السموات والأرض بحاجة إليه فهو الذي يمسكها أن تزول أو تقع ويكون قيامها بأمره وحده – فلا يعقل مع هذا أن يكون سبحانه بحاجة إليها لتقله أو تظله تعالى الله عن هذا الظن الباطل علوا كبيرا .
" وجوب الإيمان بقربه من خلقه وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته "
قال رحمه الله فصل
وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب كما جمع بين ذلك في قوله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(140) وقوله r ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته . وهو عليٌّ في دنوه قريب في علوه .
الشرح
لما قرر المصنف وجوب الإيمان بعلو الله سبحانه على خلقه واستواه على عرشه نبه في هذا الفصل إلى أنه يجب مع ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه وقوله ( وقد دخل في ذلك ) أي في الإيمان بالله ( الإيمان بأنه قريب ) أي من خلقه ( مجيب ) لدعائهم ( كما جمع بين ذلك ) أي بين القرب والإجابة في قوله ( وإذا سألك عبادي عني ) ورد في سبب نزول هذه الآية . أن رجلا جاء إلى النبي r فقال يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنادته فسكت النبي r فنزلت هذه الآية (141) ( فإني قريب ) من الداعي ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) وهذا يدل على الإرشاد إلى المناجاة في الدعاء بدون رفع صوت كما في قوله r ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) سبق شرحه – وفي هذه الآية وهذا الحديث دلالة على قرب الله تعالى من الداعي بإجابته وهذا القرب لا يناقض علوه ولهذا قال المصنف ( وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته ) لأن الكل حق والحق لا يتناقض ولأن الله تعالى ( ليس كمثله شئ في جميع نعوته ) أي صفاته فلا يقال إذا كان فوق خلقه فكيف يكون معهم لأن هذا السؤال ناشئ عن تصور خاطئ هو قياسه سبحانه بخلقه وهذا قياس باطل لأن الله سبحانه ( ليس كمثله شئ ) فالقرب والعلو يجتمعان في حقه لعظمته وكبريائه وإحاطته وأن السموات السبع في يده كخردله في يد العبد فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف يشاء وهو على العرش . ( وهو عليٌّ في دنوه قريب في علوه ) سبحانه وتعالى كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الملة وهو من خصائصه سبحانه ( علي في دنوه ) أي في حال قربه من خلقه ( قريب في علوه ) أي قريب من خلقه في حال علوه على عرشه .
"وجوب الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة "
قال رحمه الله فصـل
ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة. وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد r هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره . ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة. بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة. فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا. وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني . ولا المعاني دون الحروف .
الشرح
من أصول الإيمان الإيمان بالله والإيمان بكتبه – كما سبق ويدخل في هذين الأصلين الإيمان بأن القرآن كلام الله . فالإيمان بالله عز وجل يتضمن الإيمان بصفاته . وكلامه من صفاته فإن الله تعالى موصوف بأنه يتكلم بما شاء إذا شاء لم يزل ولا يزال يتكلم وكلامه لا ينفد ونوع الكلام في حقه أزلي أبدى ومفرداته لا تزال تقع شيئا فشيئا حسب حكمته تعالى . ومن كلامه القرآن العظيم الذي هو أعظم كتبه – فهو داخل في الإيمان بكتبه دخولا أوليا وهو منزل منه سبحانه فهو تكلم به وأنزله على رسوله r وسلم فهو ( منزل غير مخلوق ) لأنه صفة من صفاته أضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها وصفاته غير فكلامه غير مخلوق . وقد خالف في هذا طوائف ذكر الشيخ رحمه الله هنا مقالة بعضهم فذكر
1- مقالة الجمهية حيث يقولون إن الله لا يتكلم وإنما خلق كلاما في غيره وجعله يعبر عنه فإضافة الكلام عندهم إلى الله مجاز لا حقيقة لأنه خلق الكلام فهو متكلم بمعنى خالق الكلام في في غيره – وهذا القول باطل مخالف للأدلة السمعية والعقلية ومخالف لقول السلف وأئمة المسلمين فإنه لا يعقل أن يسمى متكلما إلا من قام به الكلام حقيقة فكيف يقال – قال الله والقائل غيره وكيف يقال كلام الله هو كلام غيره .
وقول المصنف ( منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد r هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ) قصده بهذا الرد على الجمهية الذين يقولون إن القرآن بدا من غيره وأن الله لم يتكلم به حقيقة بل مجازا وهو كلام غيره أضيف إليه لأنه خالقه . ومعنى قوله
( منه بدا ) أن القرآن بدا وخرج من الله تعالى وتكلم به (من) لابتداء الغاية وقوله ( إليه يعود ) أي أن القرآن يرجع إلى الله تعالى لأنه يرفع في آخر الزمان فلا يبقى منه شيء في الصدور ولا في المصاحف وذلك من علامات الساعة أو معنى ذلك أنه ينسب إليه .
2- ثم ذكر الشيخ رحمه الله هنا مقالة الكلابية ( أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب ) في القرآن أنه حكاية عن كلام الله لأن كلام الله عندهم هو المعنى القائم في نفسه لازم لذاته كلزوم الحياة والعلم لا يتعلق بمشيئته وإرادته وهذا المعنى القائم في نفسه غير مخلوق وهذه الألفاظ المكونة من حروف وأصوات مخلوقه وهي حكاية لكلام الله وليست هي كلامه .
3- وذكر مقالة الأشاعرة ( أتباع أبي الحسن الأشعري ) أن القرآن عبارة عن كلام الله – لأن كلام الله عندهم معنى قائم في نفسه وهذا المعنى غير مخلوق أما هذه الألفاظ المقروءة فهي عبارة عن ذلك المعنى القائم بالنفس وهي مخلوقه ولا يقال إنها حكاية عنه .
وبعض العلماء يقول إن الخلاف بين الكلابية والأشاعرة خلاف لفظي لا طائل تحته فالأشاعرة والكلابية يقولون القرآن نوعان ألفاظ ومعان – فالألفاظ مخلوقة وهي هذه الألفاظ الموجودة والمعاني قديمة قائمة بالنفس و هي معنى واحد لا تبعض فيه ولا تعدد . وعلى كل حال فالقولان إن لم يكونا متفقين فهما متقاربان .
وقد أشار الشيخ رحمه الله إلى بطلان هذين القولين بقوله ( ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله ) أي كما تقول الكلابية ( أو عبارة عنه ) كما تقول الأشاعرة ( بل إذا قرآه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج عن أن يكون كلام الله حقيقة ) أي أن القرآن العظيم كلام الله ألفاظه ومعاينه أين وجد سواء حفظ في الصدور أو تلي بالألسنة أو كتب في المصاحف لا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة – ثم ذكر الشيخ رحمه الله دليل ذلك فقال ( فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا ) فإن المبلغ المؤدي إنما يسمى واسطة فقط قال تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ )(الآية (6) من سورة التوبة . والسماع المذكور في هذه الآية إنما يكون بواسطة المبلغ وسمي المسموع كلام الله فدل على أن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا .
4- ثم ذكر الشيخ رحمه الله مقالة المعتزلة – حيث يقولون إن كلام الله الحروف دون المعاني فيقولون إن مسمي القول والكلام عند الإطلاق اسم للفظ فقط والمعنى ليس جزء مسماه بل هو مدلول مسماه.
ثم ذكر رحمه الله المذهب المقابل لذلك فقال ( ولا المعاني دون الحروف ) كما هو مذهب الكلابية والأشاعرة وكما سبق شرحه . والمذهب الحق أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه كما هو قول أهل السنة والجماعة وهو الذي قامت عليه الأدلة من الكتاب والسنة والحمد لله رب العالمين.
" وجوب الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية "
قال رحمه الله فصل ( وقد دخل أيضا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه القيامة عيانا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب. وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته. يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة . ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله .
الشرح
وجه دخول الإيمان بالرؤية في الإيمان بالله وبكتبه وبرسله أن الله سبحانه أخبر بها في كتابه وأخبر بها رسوله r ، فمن لم يؤمن بها كان مكذبا لله ولكتبه ولرسله فإن الذي يؤمن بالله وكتبه ورسله يؤمن بكل ما أخبروا به وقوله ( عيانا ) بكسر العين أي رؤية محققة لا خفاء فيها فليست مجازاً كما تقوله المعطلة
( كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته ) أي رؤية حقيقية لا مشقة فيها كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث التي سبق شرحها . وقوله ( يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ثم يرونه بعد دخول الجنة ) هذا بيان للمواضع التي تحصل فيها الرؤية وذلك في موضعين الموضع الأول في عرصات القيامة والعرصات جمع عرصة وهي الموضع الواسع الذي لا بناء فيه الأول وعرصات القيامة مواقف الحساب – وهل يختص المؤمنون برؤيته في هذا الموضع في المسألة ثلاثة أقوال – قبل يراه في عرصات القيامة المؤمنون والمنافقون والكفار – وقيل يراه المؤمنون والمنافقون فقط دون الكفار . وقيل يراه المؤمنون فقط – والله أعلم .
الموضع الثاني يراه المؤمنون بعد دخولهم الجنة كما ثبت ذلك في الأدلة من الكتاب والسنة وسبق ذكر بعض تلك الأدلة مشروحة . وسبق ذكر شبه من نفي الرؤية مع الرد عليها ، والجنة في اللغة البستان والمراد بها هنا الدار التي أعدها الله لأوليائه وهي دار النعيم المطلق الكامل . وقول الشيخ ( كما يشاء الله ) أي من غير إحاطة . ولا تكييف لرؤيته .
" ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر "
1 – ما يكون في القبر
قال رحمه الله فصل ( ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه . فأما الفتنة فان الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل من ربك وما دينك ومن نبيك . فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . فيقول المؤمن ربي الله والإسلام ديني ومحمد صلي الله عليه وسلم نبيي . وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته . فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق . ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلي أن تقوم القيامة الكبرى .
الشرح
اليوم الآخر هو يوم القيامة والإيمان به أحد أركان الإيمان وقد دل عليه العقل والفطرة وصرحت به جميع الكتب السماوية ونادي به جميع الأنبياء والمرسلون وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا ـ وقد ذكر الشيخ رحمه الله هنا ضابطا شاملا لمعني الإيمان باليوم الآخر بأنه الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيدخل فيه الإيمان بكل ما دلت عليه النصوص من حالة الاحتضار وحالة الميت في القبر والبعث من القبور وما يحصل بعده ثم أشار الشيخ رحمه الله إلي أشياء من ذلك .
منها ما يكون في القبر فقال ( فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه ) فذكر أمرين
الأمر الأول فتنة القبر ـ والفتنة لغة الامتحان والاختبار والمراد بها هنا سؤال الملكين للميت ولهذا قال ( فأما الفتنة فان الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل ) أي الميت سواء كان رجلا أو امرأة ـ ولعل ذكر الرجل من باب التغليب ـ ثم ذكر الأسئلة التي توجه إلي الميت وما يجيب به المؤمن وما يجيب به غير المؤمن وما يكون بعد هذه الإجابة من نعيم أو عذاب ـ والإيمان بسؤال الملكين واجب لثبوته عن النبي صلي الله عليه وسلم في أحاديث يبلغ مجموعها حد التواتر . ويدل علي ذلك القرآن الكريم في قوله تعالي {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} سورة إبراهيم الآية (27) فقد أخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم قال في قوله تعالي ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) نزلت في عذاب القبر ـ زاد مسلم ( يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد فذلك قوله ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) ـ والقول الثابت هو كلمة التوحيد التي ثبتت في قلب المؤمن بالحجة والبرهان ـ وتثبيت المؤمنين بها في الدنيا أنهم يتمسكون بها ولو نالهم في سبيلها ما نالهم من الأذى والتعذيب. وتثبيتهم بها في الآخرة توفيقهم للجواب عند سؤال الملكين. وقوله
( وأما المرتاب) أي الشاك ( فيقول ) إذا سئل ( هاه هاه ) كلمة تردد وتوجع ( لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) لأنه غير مؤمن بما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فيستعجم عليه الجواب ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم كما قال تعالي ( ويضل الله الظالمين )
( فيضرب بمرزبة من حديد ) وهي المطرقة الكبيرة ( فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ) ثم بين الحكمة من عدم سماع الإنسان لها بقوله ( ولو سمعها الإنسان لصعق ) أي خر ميتا أو غشي عليه ومن حكمة الله أيضا أن ما يجري علي الميت في قبره لا يحس به الأحياء لأن الله تعالي جعله من الغيب ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة وهي الإيمان بالغيب .
الأمر الثاني مما يجري علي الميت في قبره ما أشار إليه الشيخ بقوله ( ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلي أن تقوم القيامة الكبرى ) هذا فيه إثبات عذاب القبر أو نعيمه ومذهب أهل السنة والجماعة أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه كما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فيجب الإيمان به ولا يتكلم في كيفيته وصفته لأن ذلك لا تدركه العقول لأنه من أمور الآخرة وأمور الآخرة لا يعلمها إلا الله ومن أطلعهم الله علي شيء منه وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. وأنكر عذاب القبر المعتزلة وشبهتهم في ذلك أنهم لا يدر كونه ولا يرون الميت يعذب ولا يسأل . والجواب عن ذلك أن عدم إدراكنا ورؤيتنا للشيء لا يدل علي عدم وجوده ووقوعه فكم من أشياء لا نراها وهي موجودة ومن ذلك عذاب القبر أو نعيمه. وأن الله تعالي جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك العقول في هذه الدار ليتميز الذين يؤمنون بالغيب من غيرهم. وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا ـ والله أعلم . وعذاب القبر علي نوعين ـ النوع الأول عذاب دائم وهو عذاب الكافر ـ كما قال تعالي (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ) سورة غافر الآية (46) النوع الثاني يكون إلي مدة ثم ينقطع عنه العذاب بسبب دعاء أو صدقة أو استغفار .
2 – القيامة الكبرى وما يجري فيها
إلي أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلي الأجساد. وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلي لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا .
الشرح
أشار الشيخ رحمه الله في هذا وما بعده إلي ما يكون في الدار الآخرة وهي التي تبدأ بالقيامة الكبرى ـ فان الدور ثلاث دار الدنيا. ودار البرزخ. والدار الآخرة ـ وكل دار من هذه الدور الثلاث لها أحكام تخصها. وحوادث تجري فيها وقد تكلم الشيخ علي ما يكون في دار البرزخ ـ وهنا أخذ يتكلم علي ما يكون في الدار الآخرة فيقول ( ثم تقوم القيامة الكبرى) القيامة قيامتان ـ قيامة صغري وهي الموت وهذه القيامة تقوم علي كل إنسان في خاصته من خروج روحه وانقطاع سعيه ـ وقيامة كبري وهذه تقوم علي كل الناس جميعا وتأخذهم أخذة واحدة ـ وسميت قيامة لقيام الناس من قبورهم لرب العالمين ولهذا قال ( فتعاد الأرواح إلي الأجساد ) وذلك عندما ينفخ إسرافيل في الصور قال تعالي (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) الآيتان (51-52) من سورة يس وقال تعالي (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) الآية (68) من سورة الزمر والأرواح جمع روح وهي ما يحيا به الإنسان وغيره من ذوات الأرواح ولا يعلم حقيقتها إلا الله. قال تعالي (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية (85) الإسراء وقوله ( وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابة وعلي لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون ) إشارة إلي أدلة البعث وأنه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل والفطر السليمة . فقد أخبر الله عنه في كتابه وأقام الدليل عليه ورد علي المنكرين للبعث في غالب سور القرآن. ولما كان نبينا محمد صلي الله عليه وسلم خاتم النبيين بين تفاصيل الآخرة بيانا لا يوجد في كثير من كتب الأنبياء. والجزاء علي الأعمال ثابت بالعقل وواقع في الشرع فان الله نبه العقول إلي ذلك في مواضع كثيرة من القرآن حيث ذكرها أنه لا يليق بحكمته وحمده أن يترك الناس سدي أو يخلقهم عبثا لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون. وأن يكون المحسن كالمسيء أو يجعل المسلمين كالمجرمين. فإن بعض المحسنين يموت قبل أن يجزي علي إحسانه. وبعض المجرمين يموت قبل أن يجازي علي إجرامه. فلابد أن هناك داراً يجازي فيها كل منهما. ومنكر البعث كافر ـ كما قال تعالي (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا) الآية (7) التغابن وقوله ( فيقوم الناس من قبورهم حفاة ) جمع حاف وهو الذي ليس علي رجله نعل ولا خف (عراة) جمع عار وهو الذي ليس عليه لباس (غرلا) جمع أغرل وهو الأقلف الذي لم يختن ـ وهذه الصفات الثلاث يكونون عليها حين قيامهم من قبورهم وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال إنكم تحشرون إلي الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا) الحديث.