بين الرحالة الصوفي ابن بطوطة وشيخ الإسلام ابن تيمية - تعقيب على هامش للأستاذ مجد مكي
بسم الله الرحمن الرحيم
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي صبر وكابد في سبيل نشر مذهب السلف ، وتحرير الأمة من البدع والمحدثات التي رانت على قلوب أهل زمانه ، حتى كادت تطمس الحق ، مواجهًا في سبيل هذا سيلاً من التهم والأكاذيب .
وقد ابتدأت تلك الأكاذيب في حياته رحمه الله ، حيث يقول في مقدمة رسالته " التسعينية " ( 1 / 10 – 11 ) حاكيًا عن مناظرته مع علماء السوء في عصره الذين حكموا بسجنه بسبب عقيدته السلفية : ( جاءنا هذان الرسولان بورقة كتبها لهم المُحكّم من القضاة ، أبو الحسن علي بن مخلوف المالكي ، وهي طويلة ، طلبت منهم نسخها ، فلم يوافقوا ، وتأملتها فوجدتها مكذوبة عليّ إلا كلمة واحدة .. قلت : ليس هذا في كلامي ولا في خطي ) .
ولازالت الأكاذيب تلاحق الشيخ إلى زماننا هذا ؛ كما تجده في كتابات سعيد فودة وحسن السقاف وحسن فرحان وغيرهم من المعادين له رحمه الله .
ومن خلال تأملي في الأكاذيب والتهم التي أُلصقت بالشيخ ، وجدتها على صنفين :
الأول : أكاذيب وتُهم ( يتعمد ) أصحابها ترويجها عن الشيخ ؛ لتشويه سمعته وعقيدته ؛ كي لايتأثر بها المسلمون ؛ فينفضّوا عن بدعهم . منها مثلاً : كذبهم عليه بأنه يمنع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ! وهم يعلمون أنه يمنع " شد الرحل " لمجرد زيارة القبر النبوي ؛ استجابة لحديث : " لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد .. " ، فهو رحمه اللَّه لم يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا زيارة غيره من القبور إذا وقعت هذه الزيارة وفق الأدلة الشرعية . فلو قال هؤلاء الكذبة للمسلمين عقيدته الحقيقية ، وأنه يمنع شد الرحل لا الزيارة ، سيعلم المسلمون أنه موافق للنصوص الشرعية في عقيدته ، فلهذا يلجأ أصحاب الكذب إلى الافتراء عليه بأنه يمنع زيارة القبر النبوي ؛ متيقنين أن هذا سيُغضب المسلمين منه ، فيظنون به الظنون ، وينفضّون من حوله .
الصنف الثاني من الأكاذيب : هو ناتج عن قصور فهم أصحابه لكلام أوآراء الشيخ ، وقد رددت على واحدٍ من هؤلاء هنا :
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=172745
قلت : ومن جملة أكاذيب الصنف الأول : كذبة الرحالة الصوفي ابن بطوطة عليه في رحلته المشهورة ( 1 / 316 تحقيق د التازي ) ، التي ادعى فيها أنه عند زيارته لدمشق وجد ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع ، قائلاً : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة كنزولي هذا – ثم نزل درجة من درجات المنبر !!
وقد رد كثيرٌ من العلماء والباحثين على هذه الكذبة الرخيصة من هذا الصوفي القبوري ؛ كالشيخ راغب الطباخ ، والشيخ بهجة البيطار ، والعلامة كرد علي في " مجلة المجمع العلمي بدمشق " ( 2 / 274 ) ، والشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي ، والشيخ الألباني ، والدكتور التازي محقق رحلة ابن بطوطة ، والدكتور محمد الخُميّس ، والدكتور عبدالله الغصن ، والشمس الأفغاني في " جهود علماء الحنفية " ( ص 1797 ) ، والأستاذ عبدالقادر الجعيدي في رسالته المهمة " صفة النزول الإلهي ، ورد الشبهات عنها " ( ص 612 ) ، وغيرهم . بل ردها بعض خصوم ابن تيمية ؛ كأحمد الغماري ، انظر مقدمة " تشنيف الأسماع " ط2 ؛ لمحمود سعيد ممدوح ( 1 / 14 ) .
طالع – على سبيل المثال - رد الشيخ البيطار هنا :
http://www.alukah.net/sharia/0/92458/
وقد أبان الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة ( 1 / 154 ) أن هذه الكذبة قد سبق إليها قبل ابن بطوطة : الشيخُ الصوفي نصر المنبجي ، أحد ألد أعداء شيخ الإسلام في عصره ، قال : ( ذكروا أنه – أي ابن تيمية – ذكر حديث النزول ، فنزل عن المنبر درجتين ، فقال : كنزولي هذا ، فنُسب إلى التجسيم ) ! وانظر " فهرس الفهارس " للكتاني ( 1 / 277 ) .
ثم جاء الحصني المتوفى سنة 829هـ ، فادعى في كتابه " دفع شُبه من شبّه .. " ( ص 48 ) أن شيخ الإسلام قال في الكلام على حديث النزول : ( إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء ، وفي رجليه نعالان من ذهب ) !!
قلت : وقد كان من جملة الردود التي ذكرها العلماء والباحثون : أن دخول هذا الرحالة الصوفي لدمشق يُصادف وجود ابن تيمية في السجن ، وأن مضمون هذه الكذبة – وهو الأهم - مناقض لاعتقاد شيخ الإسلام ، الذي هو اعتقاد السلف ، وهو إثبات صفات الله دون تمثيل أو تعطيل ، وهو الذي يجهر به الشيخ كثيرًا في معظم كتبه .
ومن جملة المفارقات أن لشيخ الإسلام شرحًا مستقلاً لحديث النزول ، يقول فيه ( ص 459 ) مبطلاً كذب الأعداء :
( والذي يجب القطع به : أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه ، فمن وصفه بصفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعًا ؛ كمن قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار ) .
الذي دعاني إلى كتابة هذا المقال : أن الأستاذ الباحث مجد مكي – وفقه الله لما يُحب – قام حديثًا بجمع مقالات العلامة راغب الطباخ ، وأصدرها في جزءين ، وكان من ضمنها ( 1 / 223 – 227 ) المقال الذي دافع فيه الطباخ عن ابن تيمية ضد الفرية التي أطلقها عليه ابن بطوطة ، وقد أجاد فيه ، إلا أن الأستاذ مجد علّق في الهامش بنقل جزء من مقالٍ للأستاذ التازي محقق رحلة ابن بطوطة نشره في مجلة " العربي " ، العدد 553 (ديسمبر 2004) ، ذكر فيه أنه بعد البحث ثبت عنده أن ابن بطوطة دخل دمشق مرتين لا مرة واحدة ، وأنه في المرة الثانية كان ابن تيمية يتمتع بحريته ، وختم التازي قائلاً :
( إن الذي أريد أن أقوله بوضوح بعد وجود ما يثبت حضور ابن بطوطة بدمشق عام 727 هـ = 1327م, هو أن الرحالة المغربي يمسي معتبرًا مصدرًا معاصرًا من مصادر الحديث عن ابن تيمية ، وأنه لا يجوز لنا أن نهمل معلومات الرحلة, بل علينا أن نقرأها قراءة جديدة انطلاقًا مما قدمناه, وانتهاء إلى أن الهدف يبقى دائما هو البحث عن الحقيقة ، والحقيقة وحدها ) !!
قلت : هذا الكلام الذي نقله الأستاذ مجد عن التازي ، وهذه الخاتمة الغريبة ، سوف تُشوش على مقال الشيخ الطباخ ، وسيفهم منها بعض القراء أنه مادامت هناك إمكانية للقاء ابن بطوطة بابن تيمية ؛ إذن سيكون كلامه عنه ثابتًا وصحيحًا !!
لهذا ؛ كان الأولى بالأستاذ مجد عفى الله عنه أحد أمرين :
الأول : إما أن يحذف هذا الهامش بالكلية ، كي لا يشوش على رد الشيخ الطباخ ؛ لأن إضافته لا تخدم مضمون المقال ؛ بل ستُفهم بعض القراء عكسه – كما سبق - .
الثاني : أن يقول : أنا أريد إضافة فائدة للقارئ بنقلي لكلام التازي ؛ فيلزمه حينئذٍ أن يُتبع كلام التازي بقوله مثلاً : ( وسواء ثبتت لقيا ابن بطوطة بابن تيمية ؛ فإن هذا المنقول عن شيخ الإسلام يخالف عقيدته التي يذكرها في كتبه ، والتي هي عقيدة السلف ، التي هي إثبات صفات الله دون تمثيل أو تعطيل ) . ويُشير إلى بعض ما جاء في شرح حديث النزول ، بتحقيق د الخُميّس ، مثلاً .
وهو موجود هنا :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=209070
هذا المؤمّل من الأستاذ مجد أن يفعله في الطبعة القادمة ؛ ليشمله قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْض أَخِيهِ رَدَّ اللَّه عَنْ وَجْههِ النَّارَ يَوْم الْقِيَامَة" ، فكيف إذا كان المردود عنه إمامًا من أئمة المسلمين ؟ وحذرًا من قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) .
إضافة ( 1 )
قد يتساءل البعض عن سبب الكذبة السابقة من ابن بطوطة وغيره على شيخ الإسلام ، وهو – في نظري – بسبب عقيدتهم الأشعرية التي لم يفهم أصحابها من آيات وأحاديث الصفات إلا " التشبيه " ! فلهذا يصمون أتباع السلف بالمشبهة أو المجسمة ! لأنهم أثبتوا معاني الصفات كما أثبتها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع تفويض الكيفية ، ثم راحوا يشوهون سمعة أعلام أهل السنة بمثل تلك الحكايات الباردة التي يعلمون كذبها ، ولكنهم يظنونها ستصرف المسلمين عن التأثر بأهل السنة . فهؤلاء الأشاعرة في الحقيقة قد وقعوا في بدعتين ؛ شبهوا أولاً ، ثم عطلوا ثانيًا ، ثم تحيروا بين مذهبين باطلين :
الأول : التأويل ؛ وهو قول معظم متأخريهم ، حيث اجترؤا به على تحريف نصوص الصفات إلى معانٍ مُتكلّفَة ؛ ففتحوا الباب لغيرهم من المبتدعة الآخرين " كالمعتزلة والباطنية والفلاسفة " لتأويل أمور أخرى من الشريعة . انظر جنايتهم وغيرهم على الشريعة في هذه الرسالة العلمية : " جناية التأويل "
http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=30300
المذهب الثاني : تفويض ( معاني ) الصفات ؛ وينسبونه للسلف ! حيث زعموا أن الله عزو وجل خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ، والصحابة رضي الله عنهم في أشرف العلوم " صفات الخالق " بكلام لا يُفهم ! بل شبيه بالأعجمي .
وانظر لبيان بطلان هذا المذهب البدعي : هذه الرسالة المهمة : " براءة أئمة السلف من التفويض في صفات الله عز وجل " :
http://www.saaid.net/book/open.php?cat=88&book=10995
إضافة ( 2 )
وصفي لابن بطوطة بالصوفي القبوري ؛ هو بسبب أنه حشا رحلته بزيارة الأضرحة والقبور وتعظيمها ؛ فلها النصيب الأكبر من رحلته ؛ كما يعلمه من قرأ تلك الرحلة التافهة ، التي لم يأبه لها المحققون ؛ نظرًا لكثرة الأكاذيب والخرافات فيها .
قال الشمس الأفغاني - رحمه الله - في رسالته " جهود علماء الحنفية .. " ( ص 1797 ) عنها : ( الكتاب مكتظ بالخرافات القبورية ، والتبركات الشركية والبدعية ، والتنويه بالعمائر والقبب ، والمساجد على القبور في أنحاء العالم ، والثناء عليها من دون إنكار ، بل بإيمان وإقرار ) . " جهود الحنفية
وهنا مقالٌ مهم بعنوان : " البعد الصوفي في حياة ابن بطوطة من خلال رحلته " للأستاذ عبدالسلام شقور ، قال فيه : (إن ابن بطوطة لم يسلك في رحلته طريق العلماء، و هو ما جعل القدماء يعرضون عن رحلته، و لا يولونها اهتماما يذكر. ولعل مما جعل القدماء ينصرفون عن رحلة ابن بطوطة أيضا تلك المغربات التي وردت أخبارها في الرحلة، و قد اتهمه بالكذب أقوام، أضف إلى ما وقع له في رحلته من خلط في إسناد بعض المرويات) ، وقال : (ولعله اتضح لنا كيف كانت رحلة ابن بطوطة بحثا دؤوبا عن الأولياء ) .
تابع هنا :
http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/7779
إضافة ( 3 )
صادف أثناء كتابتي لهذا المقال أنني كنت أقرأ في رسالة " الأثمار الجنية في الأسماء الحنفية " ؛ للشيخ ملا قاري رحمه الله ، وقد جاء فيها ( ص 214 ) أن الإمام البخاري رحمه الله سئل عن صبيين شربا من لبن شاة أو بقرة ؛ فأفتى بثبوت الحُرمة بينهما !! فأخرجه أهل البلد منها ! وقد أجاد محقق الكتاب : الأستاذ محمد زاهد جول في الإشارة إلى من رد على هذه الكذبة المفتراة على إمام المحدثين . فليت أحد الباحثين يؤلف كتابًا بعنوان : " أكاذيب على الأعلام " مثلاً ، ويورد فيه أمثال هذه الحكايات المكذوبة ، مع تفنيدها .
إضافة ( 4 )
قام الأستاذ مجد – مشكورًا – بجمع تراجم الأعلام التي وردت في مجلة " حضارة الإسلام " السورية ، وأصدرها في مجلدين ، وقد ورد في ترجمة الشاعر الحيدر آبادي ( 1 / 451 ) قوله شعرًا :
رسول الله يحمي كلّ مرء
أصابته من الدهر الرماح
فعطفًا يارسول الله عطفًا
عليّ برحمة فيها نجاح !
وقد فات الأستاذ مجد التعليق على هذا الكلام المحرّم ، فلعله يتدارك هذا في الطبعة القادمة ، ويُعلق في الهامش بقوله مثلاً : ( هذا من الغلو غير الجائز في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالدعاء عبادة لا تجوز إلا لله عز وجل ) .
وليعلم – وفقه الله – أن مثل هذه التعليقات ، وإن كانت يسيرة ، فإنها تنشر الوعي بين المسلمين ؛ ولا تجعلهم يستمرؤون أمثال هذه المخالفات العقدية .
وللفائدة :
فالاستغاثة الشركية غير التوسل البدعي ، الذي قد يذكر البعض الخلاف فيه ، ومن الخطأ الخلط بينهما في المعنى أو في الحكم ؛ كما يظنه البعض – جهلاً - ، وكما يفعله بعض القبوريين – عمدًا - ؛ حيث يُجوزون الاستغاثة الشركية ، مستدلين عليها بأدلة التوسل البدعي ! تلبيسًا على الناس .
فالاستغاثة بالأموات ودعاؤهم من دون الله أو مع الله ؛ شرك أكبر يُخرج من ملة الإسلام, سواء كان المستغاث به نبيًا أم غير نبي ؛ كمن يدعو : يارسول الله أغثني ، أو مدد يا رسول الله ، أو ياجيلاني ارزقني .. الخ.
أما التوسل البدعي ؛ فصاحبه يستغيث بالله وحده ، ولكنه يتوسل في دعائه بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيقول مثلاً : يارب بجاه نبيك اغفر لي أو ارزقني . فهذا بدعة وليس شركًا .
وهنا بحثٌ محَكّم عن " حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم :
http://www.mahaja.com/oldlibrary/play-2314.html
وهنا عن التوسل :
http://www.minhajnobowa.net/articles/show/138
وفق الله الأستاذ مجد لما يُحب ويرضى ، ويسّر له إصدار الأعمال العلمية المميزة ، والله الهادي ..