الباب العاشر:
في استواء الله على عرشه
الاستواء في اللغة يطلق على معانٍ
تدور على الكمال والانتهاء.
وقد ورد في القرآن على ثلاثة أوجه:
مطلقاً كقوله تعالى: ( ولما بلغ أشده واستوى )
أيْ كمل،
ومُقَيَّداً بإلى كقوله تعالى: ( ثم استوى إلى السماء )
أيْ قصد بإرادة تامة،
ومقَيَّداً بعلى كقوله تعالى: ( لتستووا على ظهوره )
ومعناه حينئذٍ العلوُّ والاستقرار.
فاستواء الله على عرشه معناه علوّه واستقراره عليه،
علوًّا واستقراراً يليق بجلاله وعظمته.
وهو من صفاته الفعليةِ
التي دلّ عليها الكتاب والسنة والإجماع.
فمن أدلة الكتاب قولُه تعالى:
( الرحمن على العرش استوى ).
ومن أدلة السنة ما رواه الخلال في كتاب السنة
بإسناد صحيح على شرط البخاري
عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه )
ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص34.
وقال الشيخُ عبدُ القادر الـجَيْلانِيُّ:
( إنه مذكور في كل كتاب أنزله الله على كل نبي )
انتهى.
وقد أجمع أهل السنة على أن الله تعالى فوق عرشه.
ولم يقل أحد منهم إنه ليس على العرش.
ولا يمكن أحداً أن ينقل عنهم ذلك لا نصًّا ولا ظاهراً.
وقال رجل للإمام مالكٍ رحمه الله:
يا أبا عبد الله ( الرحمن على العرش استوى )
كيف استوى؟
فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُّحَضَاءُ - العرقُ -
ثم قال:
( الاستواء غير مجهول،
والكيف غير معقول،
والإيمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة،
وما أراك إلا مبتدعاً )
ثم أَمَرَ به أن يُخْرَج.
وقد رُوِيَ نحوُ هذا
عن ربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن شيخِ مالك.
فقوله: ( الاستواء غير مجهول )
أيْ غير مجهول المعنى في اللغة،
فإن معناه العلو والاستقرار.
وقوله: ( والكيف غير معقول )
معناه أنا لا ندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا،
وإنما طريق ذلك السمع، ولم يَرِدِ السمعُ بذكر الكيفية،
فإذا انتفى عنها الدليلان العقليُّ والسمعيُّ
كانت مجهولة يجب الكف عنها.
وقوله: ( الإيمان به واجب )
معناه أن الإيمان باستواء الله على عرشه
على الوجه اللائق واجب،
لأن الله أخبر به عن نفسه،
فوجب تصديقه والإيمان به.
وقوله: ( والسؤال عنه بدعة )
معناه أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة،
لأنه لم يكن معروفاً في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وهذا الذي ذكره الإمام مالك رحمه الله في الاستواء
ميزان عامّ لجميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه
وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن معناها معلوم لنا، وأما كيفيتها فمجهولة لنا،
لأن الله أخبرنا عنها ولم يخبر عن كيفيتها.
ولأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات،
فإذا كنا نثبت ذاتَ الله تعالى من غير تكييف لها،
فكذلك يكون إثبات صفاته من غير تكييف.