أخذ الأعمال إلى المقامات
وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات ، وأقبلوا وأعرضوا بسببها ، فيقولون : رأينا فلاناً الرجل الصالح ، فقال لنا : اتركوا كذا ، واعملوا كذا . ويتفق هذا كثيراً للمتمرسين برسم التصوف ، وربما قال بعضهم : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقال لي كذا وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة ، وهو خطأ ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوغتها عمل بمقتضاها ، وإلا وجب تركها والإعراض عنها ، وإنما فائدتها البشارة ، أو النذرة خاصة ، وأما استفادة الأحكام فلا ، كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : ادع الله أن لا يميت قلبي ، فقال : قل كل يوم أربعين مرة يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته ، وكون الذكر يحيى القلب صحيح شرعاً ، وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير ، وهو من ناحية البشارة ، وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين ، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام .
وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله ، قال : رأيت ربي في المنام ، فقلت : كيف الطريق إليك ؟ فقال : أترك نفسك وتعال ؟ وشأن هذا الكلام من الشرع موجود فالعمل بمقتضاه صحيح ، لأنه كالتنبيه لموضع الدليل ، لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق ، والوقوف على قدم العبودية ، والآيات تدل على هذا المعنى ، كقوله تعالى : "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى*فإن الجنة هي المأوى" وما أشبه ذلك ، فلو رأى في النوم قائلاً يقول : إن فلاناً سرق فاقطعه ، أو عالم فاسأله ، أو اعمل بما يقول لك ، أو فلان زنى فحده ، وما أشبه ذلك ، لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة ، وإلا كان عاملاً بغير شريعة ، إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي .
ولا يقال : إن الرؤيا من أجزاء النبوة ، فلا ينبغي أن تهمل ، وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قد قال :
"من رآني في النوم فقد رآني حقاً ، فإن الشيطان لا يتمثل بي" وإذا كان ... فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة .
لأنا نقول : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ، بل جز من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة ، وفيها كاف .
وأيضاً فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشروط مما ينظر فيه ، فقد تتوفر ، وقد لا تتوفر .
وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم ، وهو من الشيطان ، وإلى حديث النفس ، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وترك غير الصالحة ؟
ويلزم أيضاً على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد الني ضلى الله عليه وسلم ،وهو منهي عنه بالإجماع .
يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي ، فلما رآه قال : علي بالسيف والنطع ، قال : ولم يا أمير الميؤمنين ؟ قال : رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني ، فقصصت رؤياي على من عبرها ، فقال لي : يظهر لك طاعة ويضمر معصية . فقال له شريك : والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين ؟ فاستحيى المهدي ، وقال : اخرج عني . ثم صرفه وأبعده .
وحكى الغزالي إن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن ، فروجع فيه فاستدل بأن رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها ؟ فقيل : هل دخلتها ؟ فقال : أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن ، فقام ذلك الرجل فقال : لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في فتواه ؟ فقالوا : لا ! فقال : قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة .
وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضاً ، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته ، فالحكم بما استقر ، وإن أخبر بمخالف ، فمحال ، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته ، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية ، لأن ذلك باطل بالإجماع . فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه ، وعند ذلك نقول : إن رؤياه غير صحيحة . إذ لو رآه حقاً لم يخبره بما يخالف الشرع .
لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه وسلم :
"من رآني في النوم فقد رآني" وفيه تأويلان :
احدهما : ما ذكره ابن رشيد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية ، فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ما تحكم بهذه الشهادة ؟ فإنها باطلة . فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة ، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا ، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد ، إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحي ، ومن سواهم إنما رؤياهم :
جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .
ثم قال : وليس معنى قوله :
"من رآني فقد رآني حقاً" أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة . بدليل أن الرئي قد يراه مرات على صور مختلفة ، ويراه الرائي على صفة ، وغيره على صفة أخرى . ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه وسلم ولا صفاته . وإنما معنى الحديث : "من رآني على صورتي التي خلقت عليها . فقد رآني ، إذ لا يتمثل الشيطان بي" إذ لم يقل : من رآني أنه رآني . وإنما قال : من رآني فقد رآني . وأنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها ؟ وإن ظن أنه رآه ، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها ، وهذا ما طريق لأحد إلى معرفته .
فهذا ما نقل عن ابن رشيد . وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن اعتقد الرائي أنه هو .
والتأويل الثاني يقوله علماء التعبير : إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما من معارف الرائي وغيرهم فيشير له إلى رجل آخر : هذا فلان النبي ، وهذا الملك الفلاني ، أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به . فيوقف اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم . وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع ، فيظن الرائي أنه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون كذلك ، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى .
وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفاً لكمال الأول ، حقيق بأن يكون فيه موافقاً ، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال . نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم ، لأمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة . نعم يأتي المرئي تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة ، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ، ولا يبنون عليها أصلاً ، وهو الاعتدال في أخذها ، حسبما فهم من الشرع فيها ، والله أعلم .