وبعد ان تعرضنا في هذه المقدمة الى النقاط الاساسية التي تعين من يريد الوصول الى الحقيقة في طريقه اليها ولا نقول انا ذكرناها جميعا فلكل انسان رأيه فيما يكون له سبيلا للهداية خاص به وحده فعلينا الان ان نعود الى السؤال المطروح حاليا على طاولة النقاش وسوف نتناول ذلك في البحوث التالية:
المبحث الاول:مصادر التشريع الاسلامي:
ان مصدر التشريع الاسلامي وغير الاسلامي من الديانات السماوية الاخرى هو الله تعالى فلا مصدر سواه ،فهو خالق الخلق وله الحق في سن القوانين والانظمة التي تنظم حياة الناس دون سواه وبلا منازع ، فمنه جل في علاه المصدر الحقيقي لكل حكم وعبادة ومعاملة {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }القصص70 .
لذلك فان حكم الله واحد لا مبدل له ولا يتدخل سواه في تشريع الاحكام من نبي او بشر او ملائكة ..فهو العليم الحكيم الذي يعلم بكل خافية عن سواه ولا يتصرف دون حكمة في كل صغيرة او كبيرة ، اما عن دور الانبياء فهو تبليغ الناس بما جاء عن الله تعالى من احكام وتشريع {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً }الكهف56 ، وهذا واضح من السياق القرآني ومن الآيات التي بينت المهام الملقاة على عاتق الرسل والأنبياء جميعا فهم منذرون ومبشرون يتلون على الناس أحكام الله تعالى وتشريعه ويدعون إلى توحيده وعبادته ، وهم بذلك لا يخالفون ربهم ولا يقولون بغير ما انزل الله تعالى ولا ياتون باحكام لم يرسلها الله تعالى للبشرية وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ{44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ{45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{46}.
وقد قسم العلماء وفقهاء المذاهب الاسلامية مصادر التشريع كل حسب مذهبه فقالو ان مصادر التشريع هي القران والسنة وهذا متفق عليه اما ما اختلفوا فيه فلن اذكره اختصارا للوقت والجهد ، ولقد سلكت في تقسيمي لمصادر التشريع منحا اخر فقلت ان مصدر التشريع هو الله تعالى وهذا هو الاقرب الى الحق فالكتاب من الله والسنة من الله ولا اعتقد ان غير هذين القسمين المتضمنيين لتشريع وحكم الله ينبغي الاخذ به وان كان ما كان فالحكم لله لا لسواه وان الله تعالى لم يترك امرا يهم الناس وضروري لدنياهم ومعادهم الا وبينه في هذين القسمين المشتملين على حكم وشرع الله تعالى اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }المائدة3 {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }النحل89 فالكتاب والسنة من الله تعالى والسنة كما ذكرنا في المقدمة ما جاء عن رسول الله تعالى من افعال واقوال ومنع واقرار {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى }النجم فالرسول صلى الله عليه واله وسلم لم يات بشيء من عنده بل كل من عند الله ولا يوجد نقص في تشريع الله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا)المائدة3 وان جعل الانسان مصدرا من مصادر الشريعة الاسلامية لمن الامور التي هي موضع نظر فان العقل البشري مهما وصل فانه لن يكون قادرا على تشريع الاحكام التي تتناسب ومصلحته في هذه الحياة فلولا كتاب الله والسنة النبوية لما عرفنا الله تعالى ولما عبدناه ولما عرفنا كيفية العبادة ، وان لو كان عقل الانسان قادرا على الوصول الى بعض الامور الغيبية لما عبد الانسان النار والشجر والاصنام والحيوانات ولعبد الله منذ بدايته.
ثانيا سبب الاختلاف بين المذاهب ومشروعية الاختلاف
لقد كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يعيش بين اصحابه منذ ان بعثه الله الى حين اشتشهاده وكان القران ينزل بين ايديهم وانهم كانوا حسب الروايات ملازمين لرسول الله في مجالسه وحله وترحاله وانه كان يعلمهم الاحكام والحرام والحلال ويعلمهم طرق العبادة ويصلي امامهم ويتوضا بالقرب منهم،وقد امر الله تعالى المسلمين بطاعة الرسول صلى الله عليه واله وسلم وبين ان عدم طاعته كفر {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }آل عمران32 كما ان طاعة الرسول صلى الله عليه واله توجب الرحمة {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }آل عمران132وان عصيانه صلى الله عليه واله وسلم تؤدي الى بطلان الاعمال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }محمد33 والكثير من الايات التي توجهت بالامر الى المسلمين كافة بطاعة الرسول ولم تحدد وقتا او مكانا معينا لطاعته بل النص مطلق والمطلق يؤخذ على اطلاقه ما لم يرد التقييد كما ان الله تعالى قد حرص على وحدة المسلمين في حياتهم والعبادة كما هو معلوم خير مصداق ظاهري للوحدة فاذا اختلفت العبادة من حيث الشكل او الجوهر او اختلفت الاحكام والحل والحرام تفرقت الامة واختلفت ولا يمكن القول بانهم امة واحدة ولكل فرقة كما نرى عبادتهم التي تختلف عن الاخرى قال تعالى{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103 .وبذلك نستطيع القول ان الصحابة في معاملاتهم وعباداتهم كانوا يقلدون الرسول في كل شيء فوضوئهم واحد متطابق وصلاتهم وسائر العبادات وكذلك الاحكام ..و لايوجد اختلاف بينهم في ذلك ،وان الصحابة قد كان عددهم بالمئات او الآلاف ...لذا فان للسائل ان يسال بعد ان يرى الاختلافات الواضحة والكبيرة بين المسلمين من النواحي المذكورة عن سبب الاختلاف ووقته وسنبين ذلك في نقطتين:
· ان الدين الاسلامي هو دين الناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }سبأ28{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }التوبة33 وطبقا لهذا المبدا فانه من المفترض ان يكون كل الناس على وجه الكرة الارضية في هذا الوقت يدينون بالاسلام فوعد الله حق وكلامه لا يقبل العكس ،وليس المقصود بان الله ارسل رسوله للناس كافة ان يبلغهم بصورة شخصية كافة فهذا الامر لا يمكن له اذ انه لم يتسنى له ذلك بعد استشهاده صلى الله عليه واله وسلم وان التبليغ آنذاك لم يصل الى كل العالم، بل المقصود من هذه الاية ان الدين الاسلامي للناس كافة،فالرسالة الاسلامية قدر لها ان تصل الى الجميع دون استثناء ،هذا هو الاصل اما ما نراه الان فهو خلاف الاصل المفترض ،فالاسلام واحد له مبادئه واحكامه المتطابقة الموحدة ،كما لايمكن لنا ان نقول ان المبلغين والمرشدين في الوقت الحاضر وما قد سلف يمثل المبدا المفترض بان الدين الاسلامي للناس كافة وان هذا مصداق للاية الشريفة والمبدا المفترض ،فالان الكل يدعو الى الاسلام ويبلغ العالم بذلك ولكن بصورة طائفية مذهبية فالكل يدعو الى الاسلام حسب مذهبه وحزبه وحسب قناعته بمذهبه ،فقد يتفق ان يدعى الكافر الغربي الى الاسلام اكثر من دعوة فالشيعي يقول له ان الاسلام الحق مايمثله مذهبه والسني يدعو بمثل ذلك هذا ان لم يدع الى اكثر من جهة في المذهب الواحد ،وله الحق اذا لم يدخل في هذا الدين المشتت وله الحق ان يقول ايكم ايها القوم من يدعو الى الدين الاسلامي الحقيقي او الصحيح ،،،ومن الامور المضحكة اني كنت اسمع من الناس ان افضل دهينية وهي عبارة عن نوع من الطعام هي دهينة ابو علي وهذا بدوره يبيع الدهينية في النجف الاشرف وقد اتفق ان بحثت عن المدعو ابو علي بعد زيارتي للمراقد المقدسة في النجف الاشرف وما ان وصلت الى المكان المطلوب حتى وجدت اكثر من محل لبيع الدهينية وقد كتب على اعلى هذه المحال لافته واضحة (دهينية ابو علي الشهير)،فاصابتني الدهشة من ذلك وسالت نفسي أي هؤلاء صاحب الدهينية المشهورة فالكل يدعي انه ابو علي فتقدمت نحو احدهم وقلت له: ايكم المعروف بابو على صاحب الدهينية المشهورة فقال انا فاشتريت منه واني على ثقة تامة ان الكل لو سالته سيرد بنفس الاجابة ويقول انه ابو علي ولكنني فضلت ان انهي المسالة ولا ابحث عن أبو علي الحقيقي لاني لست مضطرا لشراء الدهينية منه بل يكفيني أي نوع منها ولا ابالي بجودتها ،وهذا مثال لتقريب الفكرة والامثلة الواردة في الحياة كثيرة لا تحصى.
وكما ذكرنا سلفا ان المسلمين لم يختلفوا بامر من امور دينهم او حياتهم على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لانه موجود وحاضر للحكم في أي اختلاف يقع بينهم {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }النحل64، فهو القاعدة التشريعية الوحيدة ولا قاعدة اخرى فهو مبلغ عن طريق الوحي من قبل الله تعالى ليحكم بين الناس بالعدل والقسط ويبين لهم الحلال من الحرام وطرق العبادة وشكلها ،وان الامة ليس لها ان تختلف اذا تحققت فيها شروط الوحدة وهي القيادة المنفردة والوحيدة والطاعة لهذه القيادة ،فالاختلاف يحدث بسبب اختلاف وجهات النظر وتعدد الرموز والقيادات او في حالة وجود قيادة بالشكل المذكور الا انها لاتطاع وتعصى ،وقد امر الله المسلمين بطاعة الرسول واخذ احكامهم منه لا سواه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }النساء59 كما ان الله تعالى قد جعل طاعة الرسول اصلا للايمان ومعصية الرسول اصلا للكفر وحبط وابطال الاعمال وقد مرت بنا الايات الشريفة التي تدعو الى ذلك ،فالاختلاف لم يكن موجودا فالله تعالى واحد والقران واحد والرسول واحد يبلغ ما انزله ربه عليه ليحكم بين الناس ويعلمهم{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }الجمعة.2
اما الاختلاف والتفرق بين المسلمين فقد بين الله تعالى مصدره وسببه ونحن سبين ذلك من كتاب الله ولا حاجة لنا بالامور التاريخية التي سببت الاختلاف في هذه النقطة قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة213وقال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ }آل عمران وقال تعالى:{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }الشورى14
وقال تعالى:{وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }الجاثية 17
بين الله تعالى سبب الاختلاف بين الأمم هو البغي بينهم والبغي هوالظلم والحسد والمعنى معروف لا يحتاج الى التوسع في الاراء حول معنى البغي.
فالظلم والحسد سبب الاختلاف بين الناس الذين يدينون بدين الله بل ان الحسد والظلم سبب لاختلاف الناس في كل مكان وزمان {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً }النساء54،والحسد قد يدفع الانسان الى الكفر والشرك والاصرار على الخطا وعدم الايمان والتصديق فمشركوا مكة حسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ان اصطفاه الله تعالى ليبلغ رسالته وتمنوا ان يكون احدهم رسولا{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }الزخرف31 والغريب ان الاختلاف قد حصل بعد ان اتوا العلم والبينات أي بعد المعرفة التامة وبعد ان كانوا على علم بكل ما جاء بشريعة الله ولم يكن اختلافهم ناشئ عن جهل أو عدم معرفة..وقد يقول قائل ان هذه الايات نزلت في اهل الكتاب الذين هم اليهود والنصارى وليس المسلمين ،وهذا القول مرفوض ولا يمكن قبوله باي وجه من الوجوه فالايات القرانية على الاغلب لا تتعلق بزمان او مكان اللهم الا ما جاء بمناسبة خاصة من جهة ومن جهة اخرى ان رسول الله صلى الله عليه واله قدبين ان المسلمين سيتبعون سنن الاولين من اهل الكتاب في كل شي في الارتداد والكفر والاختلاف والتشتت وكل شي جرى للاولين سيحصل في ديننا الاسلامي فقد جاء في صحيح بخاري كتاب الانبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل حدثنا سعيد بن أبي مريم: حدثنا أبو غسان قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه). قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟.فهذا صريح ولا يحتاج الى ان نجهد انفسنا في فهمه الا ان ما يجب لفت الانتباه اليه ان اتباع سنن من قبلنا سيكون بعد خلو الساحة من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اما بوجوده فهذا غير ممكن لانه يبين للمسلمين كل ما يحتاجون اليه ولن يختلفوا بوجوده.
وقد يقول قائل ان الاختلاف رحمة من الله تعالى لعباده وهو يستند بذلك الى الرواية التي تقول ان اختلاف امتي رحمة وهذا المبدا لا يمكن الاخذ به مطلقا ،فالاختلاف والتنافر لا يمكن ان يكون رحمة لهذه الامة لانه يؤدي الى البغضاء والحسد وقد يؤدي الى القتال كنتيجة لذلك ،فكيف يصح ان يكون الاختلاف رحمة من الله تعالى لهذه الامة على الرغم من مساوئه وعيوبه ؟.
وان الاخذ بهذا الراي لهو الفهم الخاطئ لهذه الرواية لان الاختلاف في اللغة له اكثر من معنى والمعنى المراد في هذه الرواية هو القدوم الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فعندما تقول اختلف القوم الى فلان فهذا معناه انهم قدموا اليه وخرجوا منه بصورة متكررة فهذا معنى الاختلاف المقصود لانه رحمة فمن يختلف الى الرسول الكريم يحصل على الرحمة فهو يعلمه صلى الله عليه واله وسلم الكتاب والحكمة والعبادة وغير ذلك ..ومن جهة اخرى فان الاختلاف الذي يقصد به التنازع والتنافر منهي عنه في كتاب الله تعالى في الكثير من المواضع قال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103 فالله يؤمر المسلمين بالوحدة في الراي والكلمة والعبادة والاحكام وكل شيء ويبين لهم ان هذا نعمة من الله تعالى عليهم ويذم الاختلاف ويذكرهم باختلافهم في الجاهلية وانهم كانوا اعداءا بسبب الاختلاف .وان رحمة الله ونعمته وسعتهم فأصبحوا إخوانا يجمعهم دين واحد لااختلاف فيه ،كما ان التنازع والاختلاف له اثار سيئة فهو يؤدي الى الفشل وذهاب القوة وحلول الضعف في كيان الامة{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال46 والكثير من الايات القرانية الشريفة التي جاءت لتبين ان الاختلاف مذموم ولم يشأ الله تعالى لهذه الامة الاختلاف ولم يخلقهم لذلك بل انه خلقهم للوحدة وعدم التنازع وبين ان ذلك من مظاهر رحمته وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119}فمن رحمهم الله تعالى من الناس فإنهم لا يختلفون في توحيد الله وما جاءت به الرسل من عند الله, وقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أنه خَلَقهم مختلفين: فريق شقيٌّ وفريق سعيد, ولذلك خلق الله الناس للوحدة والاعتصام بحبله لا للتنازع والاختلاف،فالوحدة والصف الواحد رحمة من الله تعالى اما الشقاق والاختلاف فهو من الناس .
فالقرآن الكريم واضح في هذا الشان ولا يمكن لنا ان نترك القران على جانب ونتمسك برواية ان صحت عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ونفهمها فهما خاطئا فنقول ان الاختلاف رحمة ،وان الواقع الانساني الذي نعيشه الان خير مصداق على ان الاختلاف بين الناس بالفهم الخاطئ لهذه الرواية ادى الى الحروب واراقة الدماء والقتال والحقد وغيره من المساوئ فاين الرحمة في ذلك؟. وهل قتل المسلم للمسلم بسبب الاختلاف رحمة؟
فمن هذا المنطلق نجد ان المعنى الصحيح للاختلاف الوارد في الرواية يقصد به الدخول والخروج باستمرارية فلو اختلف الناس في وقتنا الحاضر الى المسجد لكان ذلك رحمة لانهم يتعلمون امور دينهم الذي هو رحمة للناس وهذا هو المعنى الحقيقي للاختلاف المقصود في الرواية المذكورة .
· اما عن وقت الاختلاف بين الناس فان اول اختلاف وتنازع قد حدث في الامة الاسلامية هو ما وقع بين الصحابة ورسول الله صلى الله عليه واله وسلم ساعة احتضاره وقبيل استشهاده صلى الله عليه واله وسلم بقليل حين طلب من اهل بيته ان يقربوا له لوحا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده ابدا فثارت ثائرة البعض منهم ولم يقبل بذلك وعلى راسهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي منع الرسول من كتابة هذا الكتاب فقد ورد في صحيح بخاري كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عني : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن معمروحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عنعبيد الله بن عبد الله عن إبن عباس (ر) قال لما حضر رسول الله (ص) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (ص) هلم أكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده فقال عمر إن النبي (ص) قد غلب عليه الوجعوعندكم القرآن حسبنا كتاب اللهفاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقولقربوا يكتب لكم النبي (ص) كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمرفلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (ص) قال رسول الله (ص) قوموا قال عبيد الله فكان إبن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .وقد وردت هذه الرواية في الكثير من الصحاح والاسانيد منها صحيح مسلم والترمذي والنسائي في السنن الكبرى واحمد وغيره ..فهذا الاختلاف هو اول اختلاف بين الرسول والصحابة ، وثاني اختلاف ما حدث في سقيفة بني ساعد حول الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والاختلاف الاخر عندما طالبت فاطمة الزهراء عليها السلام بارثها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فدك فرفض ذلك الخليفة الاول ابو بكر،وبعدها حدث ولا حرج عن الاختلاف الذي دب في هذه الامة وعلى كل الاصعدة .
اما عن مشروعية الاختلاف والتنافر بين الامة الاسلامية الذي حدث بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فان القران الكريم قد بين الناحية الشرعية لذلك في اكثر من موضع قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }البقرة176{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }آل عمران105{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }يونس19 {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ }مريم37 {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }الزخرف65 والكثير من الايات الشريفة التي بينت للناس ان الاختلاف مذموم وان الله تعالى ينهى عنه لانه مدعاة الى التفرقة ،وان ما يجدر بنا الاشارة اليه هو ان الاختلاف المقصود هو الاختلاف في العقيدة وليس الاختلاف في الافكار البسيطة الدنيوية التي اهميتها ضئيلة مقارنة بالعقيدة ، فالله تعالى لا يحاسب الناس اذا اختلفوا في تاريخ ولادة شاعر او نسب شخص ما او لون سيارة او موديلها فهذه الاختلافات واردة ولا اشكال فيها مالم يقترن بها محرم كالكذب والتدليس واخفاء الحقيقة واليمين الكاذبة او كان القصد من ورائها الغيبة والبهتان فالاختلاف هنا لا اشكال فيه لذاته،كما ان الاختلاف المذموم والموجب للعقاب هو الذي يكون بعد العلم بالحقيقة لا الجهل والايات الكريمة صريحة في ذلك فالجاهل بالشيء لا اشكال عليه ولكن الجهل عذر وقتي لا دائمي فعلى الانسان ان يجتهد ويسعى للوصول الى الحقيقة