التصريح بالبراءة من مظاهر الشرك
ومن لوازم الدعوة إلى الإسلام الصحيح المصفى أو الحنيفية السمحة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعلان البراءة من مظاهر الشرك الأكبر والأصغر التي طغت على البشرية عامة والتي وقع فيها أهل القبلة خاصة ، ثم البراءة من كل من قامت عليه الحجة من الناس وأصر على اتباع ملة الشرك ، وهذا من أصول الإسلام، وأهل السنة هم المتمسكون به في كل زمان ومكان، وإنما يختلفون في درجة التركيز على هذا الشطر الأخير والمجاهرة به بحسب الحال قوة وضعفا وبحسب ما يقتضيه ميزان المصلحة والمفسدة، والذي نجده في كلام الشيخ ابن باديس رحمه الله في كل موضع الإعلان بعقيدة التوحيد وبالبراءة من مظاهر الشرك الجلي والخفي، وهو يجهر بذلك في كل مناسبة وكل مكان كما هو معلوم من سيرته وكما هو واضح في كتاباته، ومن المواضع التي تؤكد ما ذكرناه قوله في موضع :« فأصل عقيدة الشرك عند عرب الجاهلية أنهم يعلمون أن الله تعالى هو خالقهم وهو يرزقهم وهو المالك لجميع مخلوقاته ولكنهم يجعلون توجههم وتقربهم وتضرعهم لآلهتهم على اعتقاد أنها تقربهم إلى الله، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تتوجه لبعض الأموات وتتضرع وتناديهم على اعتقاد أنها تقربهم إلى الله ويتوسطون بها إليه، ويزيدون أنهم ينصرفون لها بقضاء الحوائج وجلب الرغائب ودفع المصائب.
ومن أعمال المشركين في الجاهلية أنهم يسوقون الأنعام لطواغيتهم فينحرونها عندها طالبين رضاها ومعونتها، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تسوق الأنعام إلى الأضرحة والمقامات تنحرها عندها إرضاء لها وطلبا لمعونتها أو جزاء على تصرفها وما جلبت من نفع أو دفعت من ضر. ومن أقوال المشركين في الجاهلية حلفهم بطواغيتهم وتعظيمهم لها، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة يحلفون بالله فيكذبون ويحلفون بمن يعظمون من الأحياء أو الأموات فلا يكذبون. فهذه الطوائف الكثيرة قد لحقت بالمشركين وصدق رسول الله r في قوله ( لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين
وقال رحمه الله في موضع آخر مؤكدا على أن هذا الأمر من أصول الإسلام التي لا يجوز السكوت عنها بحال من الأحوال :» والسكوت عن هذا أو نحوه أدى بالعامة إلى الغلو في الأولياء رضي الله تعالى عنهم غلوا أنطقهم بألفاظ الشرك ، وصدع منهم عقيدة التوحيد التي هي أساس الإيمان ، فإذا دعوا قالوا يا رب يا فلان ، وإذا أصابتهم نعمة من الله قالوا هذا من الله ومن فلان ، وإذا حلف أحدهم فإنه يحلف بالله وبفلان ، بل بلغوا إلى ما هو أشنع وأبشع ، يأبون من الحلف كذبا بشيوخهم ويكذبون في الحلف بالله والنهي عن الحلف بغير الله تعالى معلوم مشهور«
ولما كان أظهر الأعمال الشركية التي فشت في الأمة هي دعاء غير الله تعالى من أهل القبور وغيرهم فقد كان الشيخ رحمه الله لا يضيع أي فرصة تتاح لتبيين هذا الأمر وتعليم الناس أن الدعاء من العبادات التي ينبغي أن يفرد بها المولى عز وجل وننقل من كلامه هذا المقطع الذي يناقش فيه من التبس عليه وظن أن عدم اعتقاده بأن الدعاء عبادة يشفع له أو يغير من الحقيقة الشرعية شيئا فقال رحمه الله :» فتطابق الأثر والنظر على أن الدعاء عبادة فمن دعا غير الله فقد عبده وإذا كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة فالحقيقة لا ترتفع بعد تسميته لها بغير اسمها والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها من الحديثين المتقدمين لا بتسميته« ، ثم قال في السياق نفسه :» من دعا غير الله فقد عبده لما ثبت أن الدعاء عبادة فالداعي عابد والمدعو معبود والمعبود إله فمن عبد شيئا فقد اتخذه إلهه لأنه فعل له ما لا يفعل إلا للإله ، فهو وإن لم يسمه إلها بقوله فقد سماه بفعله « رحمه الله رحمة واسعة وكل دعاة التوحيد بحق في كل زمان ومكان.
وقال رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن قضية بناء المساجد على القبور بعد أن بين تحريم ذلك :» هذه هي حالتنا اليوم -معشر مسلمي الجزائر- وأحسب غيرنا مثلنا ، تجد أكثر أو كثيرا من مساجدنا مبنية على القبور المنسوب أصحابها إلى الصلاح ، ومنهم من كانوا معروفين بذلك ومنهم المجهولون ، فإن قيل : إنما بنيت المساجد على تلك القبور للتبرك بأصحابها لا لعبادتهم ، قلنا : إن النهي جاء عاما لبناء المسجد على القبر ، بقطع النظر عن قصد صاحبه ، ولو كانت صورة البناء للتبرك غير مرادة بالنهي على العموم ، ذلك لأنها وإن لم تؤد إلى عبادة المخلوق في الحال فإنها مظنة أن تؤدي إلى ذلك في المآل وذرائع الفساد تسد لا سيما ذريعة الشرك ودعاء غير الله التي تهدم صروح التوحيد ، وانظر إلى ما جاء في حديث ابن عباس في أصنام قوم نوح وكيف كان أصل وضعها ، وكيف كان مآلها ، وتعال إلى الواقع المشاهد نتحاكم إليه ، فإننا نشاهد جماهير العوام يتوجهون لأصحاب القبور ويسألونهم وينذرون لهم ، ويتمسحون بتوابيتهم ، وقد يطوفون بها ، ويحصل لهم من الخشوع والابتهال والتضرع ما لا يشاهد منهم إذا كانوا في بيوت الله التي لا مقابر فيها ، فهذا هو الذي حذر منه الشرع قد أدت إليه كله ، وهبها لم تؤد إلى شيء منه أصلا ، فكفانا عموم النهي وصراحته ثم دعا الناس إلى تبليغ الأحاديث التي تنص على تحريم هذا العمل وتحذر منه وكتب رحمه الله في هذه القضية وحدها في ستة أعداد من الشهاب.