قال الإمام أبو عبد الله القرطبي ـ رحمه الله ـ :
في قوله تعالى :
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14) } [ فاطر]
"قوله تعالى [ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ] أي : إن تستغيثوا بهم في النوائب ، لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع . [ ولو سمعوا ما استجابوا لكم ] إذ ليس كل سامع ناطقا .
وقال قتادة : المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم ، وقيل : أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم ، لكانوا أطوع لله منكم ، ولما استجابوا لكم على الكفر. [ ويوم القيامة يكفرون بشرككم ] ، أي : يجحدون أنكم عبدتموهم ويتبرؤون منكم ، ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين ، أي : يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا وأنهم أمروكم بعبادتهم كما أخبر عن عيسى بقوله : [ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ] ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا ؛ أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة « (تفسير القرطبي) .
قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ( 38 ) .
وقال الإمام القرطبي رحمه الله عند هذه الآية :"
"قل أفرأيتم أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا : أفرأيتم إن أرادني الله بضر بشدة وبلاء هل هن كاشفات ضره يعني هذه الأصنام أو أرادني برحمة نعمة ورخاء هل هن ممسكات رحمته قال مقاتل : فسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكتوا . وقال غيره : قالوا : لا تدفع شيئا قدره الله ، ولكنها تشفع . فنزلت قل حسبي الله وترك الجواب لدلالة الكلام عليه ، يعني فسيقولون : لا ، أي : لا تكشف ولا تمسك فـ " قل " أنت حسبي الله أي : عليه توكلت أي : اعتمدت و عليه يتوكل المتوكلون يعتمد المعتمدون ".
وقال الإمام القرطبي رحمه الله:"
قوله تعالى: « والذين اتخذوا من دونه أولياء » يعني الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا: « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف « فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة » [ الأحقاف: 28 ] والزلفى القربة؛ أي ليقربونا إليه تقريبا، فوضع « زلفى » في موضع المصدر. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد « والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » وفي حرف أُبيّ ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله زلفى « ذكره النحاس. قال: والحكاية في هذا بينة. » إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون « أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق. » إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار « أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد؛ أي للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام؛ كما قال الله تعالى: » ورضيت لكم الإسلام دينا « وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم.».
قوله تعالى: « لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء » أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. « سبحانه » أي تنزيها له عن الولد « هو الله الواحد القهار » . تفسير القرطبي
وقال أبي عبد الله القرطبي المفسر في شرحه للآية 28 من سورة الروم، وهي قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يفيد أهمية النظر في علوم العقائد، أحببت أن أنقله لكم للفائدة:
قال القرطبي في تفسيره (ج14/ص23)
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى {من أنفسكم} ثم قال {من شركاء} ثم قال: {مما ملكت أيمانكم} ف((مِن)) الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أَخَذَ مَثَلًا وانتزعه من أقرب شيء منكم، وهي أنفسكم، والثانيةُ للتبعيض، والثالثة زائدةٌ لتأكيد الاستفهام.
والآية نزلت في كفار قريش؛ كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك؛ قاله سعيد بن جبير.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين، والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله؟! فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
الثانية: قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقِين؛ لافتقار بعضهم إلى بعض، ونفيها عن الله سبحانه؛ وذلك أنه لما قال - جل وعز -: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم...} الآيةَ؛ فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا؛ فيقال لهم: فكيف يتصور أن تُنَزِّهُوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي؟! فهذا حكمٌ فاسد وقلةُ نظر وعمَى قلب! فإذا بَطَلَتِ الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكًا لله تعالى في شيء من أفعاله؛ فلم يبقَ إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك؛ إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل، والقديم الأزلي منزَّهٌ عن ذلك جل وعز.
وهذه المسألةُ أفضلُ للطالب من حفظِ ديوانٍ كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب؛ فافهم ذلك"